الأشباه والنظائر في النحو - ج ٣

جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي

الأشباه والنظائر في النحو - ج ٣

المؤلف:

جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي


المحقق: غريد الشيخ
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٢٦٤

٥٥٢ ـ ثلاثة تشرق الدّنيا ببهجتها

شمس الضّحى وأبو إسحاق والقمر

وهذا ما ذكره السّلف الذين أعربوا «سبحان الله» مبتدأ ، ولم يرتضه من وجّه سمعه من أهل عصرنا بمثل ما أسمعتك ، وأستغفر الله من شغلي سمعك بمثله ، ولو لا ما فيه من كون محطّ الفائدة فيه يكون باعتبار وصف الخبر كما أسلفته في الجواب لكان أولى من جعل «كلمتان» مبتدأ ، وعسى أن يكون رجوعي عنه أولى ، لأنّ مراعاة مثل هذه النكتة البلاغية هو الظاهر من تقديم الخبر حينئذ ، فلا يعدل عنه بعد ظهور بطلان انحصار محطّ الفائدة في «سبحان الله» ، وبهذا تمّ ما يتعلّق بالحديث ، بقي أنّه وقع لي نفي كون «سبحان الله» إذا أريد لفظه معرفة ، لأنّ المعارف أنواعها محصورة ، وليس هو منها كما هو مسطور في أصل جوابي ، فارجع إليه.

ثم قلت : فإن ادّعي أنّه يكون من قبيل العلم بناء على أنّ كل لفظ وضع ليدل على نفسه كما وضع ليدل على غيره ، فليعلم أنّه على تقدير صحّة هذه الدعوى لم يعط لهذا الوضع حكم الوضع لغيره ، ولذا صرّح بأنّه لا يصير كل لفظ مشتركا وهو لازم من وضع كل لفظ ليدل على نفسه ووضع ليدل على غيره ، فاعترض ذلك الأخ بأنّه من قبيل العلم ، قال الرضي : «وهو عندهم من قبيل المنقول لأنّه نقل من مدلول هو معنى إلى مدلول هو اللفظ» ، ولا يخفى عليك أنّ حاصل هذا الاعتراض لم يزد على نسبة ما ذكرت أنّه ممّا يقال ، ولم أرضه إلى بعض النحاة أنّه قال ، وخفي عليه أنّي أنقله عن خلق ، غير أنّ لي فيه بحثا مكتتبا من نحو عشرين سنة مع القائلين به فبناء عليه ذكرت ما ذكرت.

وحاصل ذكر البحث كتبته عند نقل المحققين قول ابن الحاجب في (المنتهى) : «أكثر ما يطلق اللفظ على مدلول مغاير ، وقد يطلق والمراد اللفظ ، نحو : زيد مبتدأ وزي دلأنهم لو وضعوا له أدّى إلى التسلسل ، ولو سلم فنفسه أولى ، يعني لو سلم أن لا يلزم لو وضعوا له ، فإذا أمكن أن يطلق ويراد به نفسه كان أولى» انتهى.

وذكر هنا أنّه موضوع فخلق لي فيه هذا ، وهو أنّ الحاجة هنا ليست إلّا إلى مجرد التعبير عن اللفظ وقد حصل بنفسه ، فإذا أمكن بطريق المجاز كان أولى ، لأنّه بطريق الوضع يثبت به معنى الاشتراك ، والمجاز خير منه ، ويتأنس هذا بأنّا إذا قلنا : زيد كذا وكذا فقيل ذلك الخبر يتبادر إرادة معنى غير لفظ إلى أن يذكر المسند فيرى غير صالح إلّا للفظ فيحكم به حينئذ للقرينة الملازمة للمسند ، فتبادر معنى

__________________

٥٥٢ ـ الشاهد لمحمد بن وهيب في الأغاني (١٩ / ٧٩) ، وبلا نسبة في تاج العروس (شرق).

٢٤١

على التعيين من مجرد الإطلاق ظاهر في عدم تعدد الوضع للمعاني المتعددة لأنّه لازم ذلك بحسب الأصل ، والغالب التردّد والتوقّف ، وقد أمكن جعله مجازا علاقته الاشتراك في الصورة ، فيكون كإطلاق لفظ الفرس على المثال المنقوش في حائط.

فبناء على بحثي هذا معهم قلت في أصل جوابي : فليعلم أنّه على تقدير صحة هذه الدعوى يعني لو تنزلنا عن هذا وقلنا : إنه وضع لنفسه لا يوصف باعتبار هذا الوضع بكونه معرفة لا نكرة ، بل الألقاب الاصطلاحية إنما يوصف بها اللفظ باعتبار الوضع للمعنى المغاير لأنّ ذلك الوضع هو القصدي ، وأما هذا الوضع فقد صرّح من قال به من المحققين بأنّه ليس بوضع قصديّ ، ولذا صرح بأنّه لا يكون اللفظ به مشتركا ، فلمّا تعدّد الوضع للمعاني المحتملة ولم يكن مشتركا علم أنّه لم يعتبر في إطلاق الألقاب الاصطلاحية إلا الوضع القصدي ، ثم هذا لا ينفي تعيّن المعنى والعلم به لأنّ المنفيّ الاصطلاحيّ وهو لا يقتضي عدم تعيّن المعنى ، أرأيت لو لم يسمّ كل نوع باسم خاص أصلا كما كان عند العرب قبل حدوث الاصطلاح أما كان يصح مبتدأ؟ وكذا جعلنا «سبحان الله» مراد مجرد لفظة مبتدأ مع نفي الحكم بأنه معرفة ولا نكرة كما ذكرنا ، لأن صحة الابتدائية والحديث محدث عنه إنّما يقتضي تعيّن معناه كليا كان ذلك المفهوم أو جزئيا لا تسميته ، وكم نكرة يتعين معناها في الاستعمال فتصير كمعنى المعرفة لا يتفاوتان إلا في أصل الوضع ، والله سبحانه وتعالى أعلم.

بحث في النفي والإثبات عند تعارضهما

وقع سؤال في مجلس السلطان الملك الأشرف برسباي في مجلس قراءة البخاري في شعبان سنة ثمان وثلاثين وثمانمائة ، سئل عنه الإمام العلّامة كمال الدين بن الهمام ، وصورة السؤال من قواعد السادة الحنفية على رأي المحققين منهم أنّ النفي والإثبات إذا تعارضا وكان المنفي ممّا يعلم بدليله ، وهو أن يكون صريحا في ردّ دعوى المثبت فإنّه يقضي على المثبت كالحكم في دعوى امرأة على زوجها أنّه طلّقها ثلاثا ، وقالت : حصلت الفرقة بيني وبينه ، وقال الزوج استثنيت استثناء متصلا بلفظ الطلاق ، فأتت المرأة بشاهدين فشهدا على الزوج أنّه طلّقها ثلاثا ، قالوا : ما سمعناه استثنى ، قالوا : شهادتهم لا تعارض دعوى الزوج الاستثناء لأنه يجوز أن تقول : قال زيد كلاما ولم أسمعه ، فلا يكون صريحا في ردّ دعوى الزوج الاستثناء ، ولو قال الشهود : طلقها وما استثنى فشهادتهم صريحة في ردّ دعوى الزوج ، أشكل على هذا الأصل نفيهم الجهر بالبسملة استدلالا بحديث أنس رضي الله عنه في

٢٤٢

رواية أنّه صلّى خلف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال : فلم أسمعه يقرأ ببسم الله الرحمن الرحيم (١) ، فأجاب الشيخ كمال الدين بما نصّه :

أمّا قوله : «إنّ المنفي إذا كان ممّا يعرف بدليله يقدّم على الإثبات «فغير صحيح ، بل الثابت عندهم أنه يعارضه حتى إن لم يوجد مرجّح من خارج تساقطا ، وأمّا قوله في تفسير هذا المنفي : إنه الذي يكون صريحا في ردّ دعوى المثبت تمييزا له عن قسيمه من النفي الآخر» فمخالف لتفسيرهم له ، وكلمتهم في تفسيره إنما هي دائرة على أنّ المراد به كون النفي ممّا يصح بناؤه على استصحاب عدم متقرّر الثبوت معلوم ، بل أن يكون ثابتا البتّة بدليل دلّ على طروئه وأفادوا أن ليس المراد بالنافي ما فيه صورة النفي بل ما كان مبقيا للأصل يعنون الحالة المقررة المعلوم ثبوتها وأنّ المثبت هو الذي يثبت الأمر العارض على تلك الحالة وإن لم يكن في أحد الدليلين صورة نفي أصلا ، وعلى هذا حكموا بأنّ رواية إعتاق بريرة وزوجها عبد نافية لأنّها مبقية للحالة المعلوم ثبوتها ، ورواية عتقها وهو حرّ مثبتة لإفادتها وقوع العارض على ذلك الأصل ، فقدّموا هذه تقديما للإثبات ، وإنما حكموا بأنّ رواية تزوّجه عليه السّلام ميمونة وهو حلال مثبتة ، ورواية تزوجه وهو محرم نافية ، للاتفاق على أن ليس المراد بالحلّ الذي تزوجها فيه على تلك الرواية الحل الأصلي ، بل الحل الطارئ على الإحرام ، بمعنى أنّه تزوّجها بعد ما حلّ من إحرامه ، فكان إحرامه عليه الصلاة والسّلام أصلا بالنسبة إليه للعلم بوقوعه وتقرّره ، فكان المفيد له مفيدا للأصل فهو ناف ، والمفيد للحل مفيد للعارض فكان مثبتا ، فحكموا بمعارضته للنفي ثم رجحوها بالراوي وهو ابن عباس على يزيد بن الأصمّ ، وما ذكره السائل ليس موافقهم فيما ذكروه ، بل لا يبعد أنّه لا معنى في هذا المقام ، وأمّا ما ذكره من فرع الشهادة في الطلاق فظاهره أنّهم أوردوه تفريعا على الأصل المذكور ، وهو تقديم النفي على ما زعم حيث قدم قول الشهود : «لم يستثن» على قول الزوج : استثنيت ، وليس كذلك ، بل إنما أوردوه شاهدا على معارضة هذا النفي للإثبات ، وكلام فخر الإسلام البزدوي صريح فيه ، وقبول الشهادة ووقوع الحرمة بالشهادة بهذا النفي بناء على أنّه ممّا يعارض الإثبات لأنّه لو لم يكن يعارضه لم تقبل الشهادة به أصلا ، كما هو المشهور على الألسنة من أنّ الشهادة على النفي باطلة ، فلمّا كان بحيث يعارضه ويساويه تفرع قبول الشهادة عليه إذ لا خفاء في أنّ كلّ ما قامت به البيّنة وهو ممّا تصحّ به

__________________

(١) انظر صحيح مسلم (١ / ٢٩٩).

٢٤٣

الشهادة يقدّم على دعوى المشهود عليه الضد أو النقيض ، فظهر أنّ تقديم النفي هنا فرع المعارضة لمرجع الشهادة لا للنفي ، وكلام الناس غير خفي في هذا.

وأمّا قوله : أشكل على هذا الأصل نفيهم الجهر بالبسملة فإن أراد بالأصل ما مهّده من أنّ ذلك النوع من النفي مقدّم على الإثبات فلا إشكال ، لأنّه قد قدّم النفي على ذلك التقدير عند معارضة الإثبات ، وإنما الكلام في تحقيق المعارضة ، ولا شك أنّ رجلا لو واظب الصلاة خلف رجل في الجهريّة سنة كاملة ، وهو مع ذلك حريص على استعلام أحواله في الصلاة ، ثم يقول بعد عدم شكه في سماعه جهره فيما جهر به في القراءة : لم أسمعه قرأ كذا ، مع فرض أنّ ذلك الذي ذكر أنه لم يسمعه ليس ممّا يقرأ أحيانا ويترك غالبا بل مما هو مواظب عليه في كل جهريّة بادر إلى كل عاقل سمعه أنّ ذلك المصلي لم يجهر بذلك ، وكان أقل الأمر أنّه كقوله : لم يجهر بكذا ، وكل احتمال يروّجه الوهم مع هذه الحالة المفروضة من الراوي مما يثبته العلم العادي فكيف يقرب مع العقل مع مواظبة أنس رضي الله عنه عشر سنين على الوجه المذكور مع مواظبة النبي صلّى الله عليه وسلّم على الجهر بالبسملة كونه لم يتفق مرة من ألف مرة أن يسمعه؟ هذا محال عادة ، فكان قوله : لم أسمع كقوله : لم يجهر فعارض رواية الجهر.

وإن أراد أنه يرد على شقي مسألة الشهادة في الطلاق وهي ما إذا قال الشهود : لم نسمعه استثنى وقال هو : استثنيت حيث قدم دعوى الإثبات على قولهم ، غير أنّ في عبارة المورد قصورا عن إفادة مرامه ، فليس بشيء ، فإنّ قبول قولهم لعدم المعارضة بين قوله : استثنيت وقولهم : لم نسمع لجواز الاستثناء مع عدم سماعه بأن يستثني خفيا بحيث يسمع نفسه ومن توجه لاستعلام حاله ، فإذا كانا مما يجتمعان أعني الاستثناء وعدم السماع لم تكن شهادتهما تعارض دعواه ، وأين هذا من قول القائل : جهر مع قول المصغي إليه في عمره : لم أسمع ، قد بيّنّا ثبوت المعارضة فيه بما لم يبق بعده إلّا الشغب المحرم.

وإنما كان الإشكال يرد على مسألة الشهادة لو كان الزوج قد قال : جهرت بالاستثناء فقال المتوجهون إليه للشهادة لم نسمعه ، وحكمها على هذا التقدير غير مذكور ، ولنا أن نقول على هذا التقدير : تقدم الشهادة ويحكم بالفرقة.

وإذ قد ظهر أنّ ما وقع في هذا السؤال من تمهيد الأصل وإيراد التفريغ عليه ثم إيراد الإشكال كله خطأ مع نسبتي ذلك إلى الكتابة لا إلى المورد ، فإني لم أعلم أنّ الكتابة كتابته ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

٢٤٤

فوائد نحويّة من معجم الأدباء لياقوت الحموي

في معجم الأدباء لياقوت الحموي : قال أبو سعيد الضرير : سألني أبو دلف عن بيت امرئ القيس : [الطويل]

٥٥٣ ـ كبكر المقاناة البياض بصفرة

[غذاها نمير الماء غير المحلّل]

قال : أخبرني عن البكر ، المقاناة أم غيرها؟ قلت : هي هي ، قال : أفيضاف الشيء إلى صفته؟ قلت : نعم ، قال : فأين؟ قلت : قال الله تعالى : (وَلَدارُ الْآخِرَةِ) [يوسف : ١٠٩ ، النحل : ٣٠] ، فأضاف الدار إلى الآخرة ، وهي هي بعينها ، والدليل على ذلك أنّه قال في سورة أخرى : (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ) [القصص : ٨٣] ، قال : أريد أشهر من هذا ، فأنشدته لجرير : [الكامل]

٥٥٤ ـ يا ضبّ إنّ هوى القيون أضلّكم

كضلال شيعة أعور الدّجّال

وفيه قال (٣) : قرأت بخطّ عبد السّلام البصريّ في كتاب محمد بن أبي الأزهر ، قال : حدثني وهب بن إبراهيم خال عبيد الله بن سليمان بن وهب ، قال : كنّا يوما بنيسابور في مجلس أبي سعيد أحمد بن خالد الضرير ، وكان أبو سعيد عالما باللغة إذ هجم علينا مجنون من أهل قمّ ، فسقط على جماعة من أهل المجلس ، فاضطرب الناس لسقطته ووثب أبو سعيد لا يشكّ أنّ آفة قد لحقتنا من سقوط جدار أو شرود بهيمة فلمّا رآه المجنون على تلك الحال قال : الحمد لله رب العالمين ، على رسلك يا شيخ لا ترع ، آذاني هؤلاء الصبيان ، وأخرجوني عن طبعي إلى ما لا أستحسنه من غيري ، فقال أبو سعيد : امنعوا عنه عافاكم الله ، فوثبنا فشرّدنا من كان ورجعنا ، فسكت ساعة لا يتكلم إلى أن عدنا إلى ما كنّا فيه من المذاكرة ، وابتدأ بعضنا يقرأ قصيدة من شعر نهشل بن جرير التميمي حتى بلغ قوله : [الطويل]

٥٥٥ ـ غلامان خاضا الموت من كلّ جانب

فآبا ولم تعقد وراءهما يد

متى يلقيا قرنا فلا بدّ أنّه

سيلقاه مكروه من الموت أسود

فما استتمّ هذا البيت حتى قال : قف يا أيها القارئ ، تتجاوز المعنى ولا تسأل عنه؟ ما معنى قوله : ولم تعقد وراءهما يد؟ فأمسك من حضر عن القول ، فقال : قل يا شيخ ، فإنّك المنظور إليه والمقتدى به ، فقال أبو سعيد : يقول إنهما رميا بأنفسهما في الحرب أقصى مراميها ورجعا موفورين لم يؤسرا فتعقد أيديهما كتفا ، فقال :

__________________

٥٥٣ ـ الشاهد لامرئ القيس في ديوانه (ص ١٦) ، وشرح المفصّل (٦ / ٩١) ، ولسان العرب (نمر) و (حلل) و (قنا) ، وتاج العروس (حلل) و (قني).

٥٥٤ ـ الشاهد في ديوانه (ص ٩٦٢).

(١) انظر معجم الأدباء (٣ / ١٨).

٢٤٥

يا شيخ أترضى لنفسك بهذا الجواب؟ فأنكرنا ذلك على المجنون ، فنظر بعضنا إلى بعض ، فقال له أبو سعيد : هذا الذي عندنا ، فما عندك؟ فقال : المعنى يا شيخ : آبا ولم تعقد يد بمثل فعلها بعدهما ، لأنهما فعلا ما لم يفعله أحد ، كما قال الشاعر : [السريع]

٥٥٦ ـ فتى إذا عدّت تميم معا

ساداتها عدّوه بالخنصر

ألبسه الله ثياب النّدى

فلم تطل عنه ولم تقصر

أي : خلقت له ، وقريب من الأول قوله : [السريع]

٥٥٧ ـ قومي بنو مذحج من خير الأمم

لا يصعدون قدما على قدم

يعني أنّهم يتقدّمون الناس ولا يطؤون على عقب أحد ، وهذان فعلا ما لم يفعله أحد ، فلقد رأيت أبا سعيد وقد احمرّ وجهه واستحيى من أصحابه ، ثم غطّى المجنون رأسه وخرج وهو يقول : يتصدّرون فيغرّون الناس من أنفسهم ، فقال أبو سعيد بعد خروجه : اطلبوه ، فإنّي أظنّه إبليس ، فطلبناه فلم نظفر به. وفيه أيضا :

قال (١) : وحدّث محمد بن إسحاق النّديم ، قال : لمّا أراد المتوكّل أن يتخذ المؤدّبين لولده جعل ذلك إلى إيتاخ كاتبه أن يتولى ذلك ، فبعث إلى الطّوال والأحمر وابن قادم وأبي عصيدة وغيرهم من أدباء ذلك العصر ، فأحضرهم مجلسه ، وجاء أبو عصيدة فقعد في آخر الناس ، فقال له من قرب منه : لو ارتفعت فقال : بل أجلس حيث انتهى بي المجلس ، فلمّا اجتمعوا قال لهم الكاتب : لو تذاكرتم وقفنا على موضعكم من العلم واخترنا فألقوا بينهم بيت ابن عنقاء الفزاريّ : [الوافر]

٥٥٨ ـ ذريني إنّما خطئي وصوبي

عليّ وإنّ ما أنفقت مال

فقالوا : ارتفع مال بإنّما إذ كانت بمعنى الذي ، ثم سكتوا فقال لهم أبو عصيدة من آخر الناس : هذا الإعراب فما المعنى؟ فأحجم النّاس عن القول ، فقيل : فما المعنى قال : أراد ما لومك إيّاي وإنّ ما أنفقت مال ولم أنفق عرضا؟ فالمال لا ألام على إنفاقه ، فجاءه خادم صدر المجلس فأخذ بيده حتى تخطّى به إلى أعلاه ، وقال له : ليس هذا موضعك ، فقال : لأن أكون في مجلس أرفع منه إلا أعلاه أحبّ إليّ من أن أكون في مجلس أحطّ عنه ، فاختبر هو وابن قادم. وفيه أيضا (٣) :

__________________

(١) انظر معجم الأدباء (١ / ٤٦٦) ، ومجلس العلماء (ص ٦١) ، والدرر (٢ / ٦٩).

٥٥٨ ـ الشاهد لأوس بن غلفاء في إنباه الرواة (١ / ١٢٠) ، وخزانة الأدب (٨ / ٣١٣) ، والدرر (٥ / ٥٦) ، والشعر والشعراء (٢ / ٦٤٠) ، ولسان العرب (صوب) ، والمقاصد النحوية (٤ / ٢٤٩) ، ونوادر أبي زيد (ص ٤٦) ، وبلا نسبة في جمهرة اللغة (ص ٣٥١).

(٢) انظر معجم الأدباء (٢ / ٩٨).

٢٤٦

حدّث ابن عساكر في تاريخه بإسناد رفعه إلى إبراهيم بن أبي محمد اليزيدي عن أبيه ، قال : كنت مع أبي عمرو بن العلاء في مجلس إبراهيم بن عبد الله بن حسن ابن حسن بن عليّ بن أبي طالب ، فسأل عن رجل من أصحابه فقده ، فقال لبعض من حضره ، اذهب فسل عنه ، فرجع فقال : تركته يريد أن يموت ، فضحك بعض القوم وقال : في الدنيا إنسان يريد أن يموت؟ فقال إبراهيم : لقد ضحكتم منها غريبة ، إنّ «يريد» هاهنا في معنى «يكاد» ، قال الله تعالى : (جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَ) [الكهف : ٧٧] أي : يكاد ، قال : فقال أبو عمرو بن العلاء : لا نزال بخير ما دام فينا مثلك.

وفيه (١) : قال ثعلب : الذي لا ينسب إليه لأنّه لا يتم إلّا بصلة ، والعرب لا تنسب إلا إلى اسم تامّ ، والذي وما بعده حكاية ، والحكاية لا ينسب إليها لئلّا تتغيّر ، قال : وسئل ابن قادم عنها وأنا غائب بفارس ، فقال : اللّذويّ ، فلمّا قدمت سئلت عنها فقلت : لا ينسب إليه ، وأتيت بهذه العلة فبلغته ، فلمّا اجتمعنا تجاذبنا ثم رجع إلى قولي.

وفيه (٢) : قال ثعلب : كنت أصير إلى الرّياشي لأسمع منه ، فقال لي يوما وقد قرئ عليه : [الرجز]

٥٥٩ ـ ما تنقم الحرب العوان منّي

بازل عامين حديث سنّي

لمثل هذا ولدتني أمّي

كيف تقول : بازل أو بازل؟ فقلت : أتقول لي هذا في العربية؟ إنّما أقصدك لغير هذا ، يروى بازل وبازل وبازل ، الرفع على الاستئناف والخفض على الإتباع والنصب على الحال ، فاستحيى وأمسك.

وفيه (٤) : قال ثعلب : بعث إليّ عبيد الله ابن أخت أبي الوزير رقعة فيها خطّ المبرد : «ضربته بلا سيف» قال : أيجوز هذا؟ فوجّهت إليه لا والله ما سمعت بهذا ، هذا خطأ البتّة لأنّ لا التبرئة لا يقع عليها خافض ولا غيره ، لأنّها أداة وما تقع أداة على أداة.

__________________

(١) انظر معجم الأدباء (٥ / ١١٠).

(٢) انظر معجم الأدباء (٥ / ١١٠).

٥٥٩ ـ الرجز لأبي جهل في مجمع الأمثال (ص ٤٤) ، وأمالي ابن الشجري (١ / ٢٧٦) ، واللسان (عون) ، ولعلي بن أبي طالب في اللسان (نقم) ، وبلا نسبة في الكامل (٣ / ٨٥) ، والمقتضب (١ / ٢١٨).

(٣) انظر معجم الأدباء (٥ / ١١٤).

٢٤٧

وفيه : قال العجوزيّ صرت إلى المبرد مع القاسم والحسن ابني عبيد الله بن سليمان بن وهب فقال لي القاسم : سله عن شيء من الشعر ، فقلت : ما تقول أعزّك الله في قول أوس : [الطويل]

٥٦٠ ـ وغيّرها عن وصلها الشّيب إنّه

شفيع إلى بعض الخدود مدرّب

فقال بعد ما تمكّث وتمهّل وتمطّق : يريد أنّ النساء أنسن به فصرن لا يستترن منه ، ثم صرنا إلى ثعلب ، فلمّا غصّ المجلس سألته عن البيت فقال : قال لنا ابن الأعرابي :

إنّ الهاء في «إنّه» للشباب وإن لم يجر له ذكر لأنّه علم ، والتفتّ إلى الحسن والقاسم فقلت : أين صاحبنا من صاحبكم؟

وفيه (٢) : حدّث محمد بن رستم الطّبريّ قال : أخبرنا أبو عثمان المازني ، قال : كنت عند سعيد بن مسعدة الأخفش أنا وأبو الفضل الرّياشي ، فقال الأخفش : إن «منذ» إذا رفع بها فهي اسم مبتدأ وما بعدها خبرها ، كقولك : ما رأيته منذ يومان ، فإذا خفض بها فهي حرف معنى ليس باسم ، كقولك : ما رأيته منذ اليوم ، فقال له الرّياشي : فلم لا تكون في الموضعين اسما؟ فقد نرى الأسماء تنصب وتخفض ، كقولك : هذا ضارب زيدا غدا وضارب زيد أمس ، فلم لا تكون بهذه المنزلة؟ فلم يأت الأخفش بمقنع ، قال أبو عثمان : فقلت له : لا تشبه «منذ» ما ذكرت لأنّا لم نر الأسماء هكذا تلزم موضعا إلّا إذا ضارعت حروف المعاني ، نحو : أين وكيف ، فكذلك «منذ» هي مضارعة لحروف المعاني فلزمت موضعا واحدا ، قال الطّبريّ : فقال ابن أبي زرعة للمازني : أفرأيت حروف المعاني تعمل عملين مختلفين متضادين؟ قال : نعم ، كقولك : قام القوم حاشا زيد ، وحاشا زيدا ، وعلى زيد ثوب ، وعلا زيد الفرس ، فتكون مرة حرفا ومرة فعلا بلفظ واحد.

قال ياقوت (٣) : نقلت من خطّ الشيخ أبي سعيد البستي في كتاب ألّفه ، قال : قال الأستاذ أبو العلاء الحسين بن محمد بن سهلويه (٤) في كتابه الذي سمّاه (أجناس الجواهر) : كنت بمدينة السّلام أختلف إلى أبي علي الفارسي النحوي ، وكان السلطان رسم له أن ينتصب في كل أسبوع يومين لتصحيح كتاب (التذكرة لخزانة

__________________

٥٦٠ ـ الشاهد لأوس بن حجر في ديوانه (ص ٥).

(١) انظر معجم الأدباء (٧ / ١٢٣).

(٢) انظر معجم الأدباء (٧ / ٢٤٢).

(٣) في معجم الأدباء (بن مهرويه).

٢٤٨

كافي الكفاة) ، فكنّا إذا قرأنا أوراقا منه تجارينا في فنون الأدب ، واجتنينا من فوائده ثمار الألباب ، ورتعنا في رياض ألفاظه ومعانيه ، والتقطنا الدّرّ المنثور من سقاط فيه ، فأجرى يوما بعض الحاضرين ذكر الأصمعي وأسرف في الثّناء عليه ، وفضّله على أعيان العلماء في أيّامه ، فرأيت ـ رحمه الله ـ كالمنكر لما كان يورده ، وكان فيما ذكر من محاسنه ونشر من فضائله أن قال : من ذا الذي يجسر أن يخطّئ الفحول من الشعراء غيره؟ فقال أبو علي : وما الذي ردّ عليهم؟ فقال الرجل : أنكر على ذي الرّمّة مع إحاطته بلغة العرب ومعانيها ، وفضل معرفته باغراضها ومراميها ، وأنّه سلك نهج الأوائل في وصف المفاوز إذا لعب السراب فيها ، ورقص الآل في نواحيها ، ونعت الحرباء وقد سنح على جذله ، والظّليم وكيف ينفر من ظلّه ، وذكر الرّكب وقد مالت طلاهم من غلبة المنام حتى كأنّهم صرعتهم كؤوس المدام ، فطبّق مفصل الإصابة في كلّ باب ، وساوى الصّدر الأوّل من أرباب الفصاحة ، وجارى القروم البزّل من أصحاب البلاغة ، فقال له أبو علي : وما الذي أنكر على ذي الرّمّة؟ فقال : قوله : [الطويل]

٥٦١ ـ وقفنا فقلنا إيه عن أمّ سالم

[وكيف بتكليم الديار البلاقع]

لأنه كان يجب أن ينوّنه ، فقال : أمّا هذا فالأصمعي مخطئ فيه وذو الرّمّة مصيب ، والعجب أنّ يعقوب بن السّكّيت قد وقع عليه هذا السّهو في بعض ما أنشده ، فقلت : إن رأى الشيخ أن يصدع لنا بجليّة هذا الخطأ تفضّل به ، فأملى علينا : أنشد ابن السكيت لأعرابيّ من بني أسد : [الوافر]

٥٦٢ ـ وقائلة أسيت فقلت : جير

أسيّ إنّني من ذاك إنّه

أصابهم الحمى وهم عواف

وكنّ عليهم نحسا لعنّه

فجئت قبورهم بدأ ولمّا

فناديت القبور ولم يجبنه

وكيف تجيب أصداء وهام

وأبدان بدرن وما نخرنه

__________________

٥٦١ ـ الشاهد لذي الرمة في ديوانه (ص ٧٧٨) ، وإصلاح المنطق (ص ٢٩١). وتذكرة النحاة (ص ٦٥٨) ، وخزانة الأدب (٦ / ٢٠٨) ، ورصف المباني (ص ٣٤٤) ، وسرّ صناعة الإعراب (٢ / ٤٩٤) ، وشرح المفصّل (٤ / ٣١) ، ولسان العرب (أيه) ، وتاج العروس (أيه) ، وما ينصرف وما لا ينصرف (ص ١٠٩) ، ومجالس ثعلب (ص ٢٧٥) ، وكتاب العين (٤ / ١٠٤) ، وبلا نسبة في خزانة الأدب (٦ / ٢٣٧) ، والمقتضب (٣ / ١٧٩) ، والمخصّص (١٤ / ٨١).

٥٦٢ ـ البيت الأول بلا نسبة في اللسان (أس) ، والجنى الداني (ص ٤٣٥) ، وهمع الهوامع (٢ / ٧٢) ، والدرر (٢ / ٨٩) ، والبيت الثالث بلا نسبة في المغني (ص ٣١٠) ، والأبيات الأربعة في الدرر (٢ / ٥٢) ، بلا نسبة.

٢٤٩

قال يعقوب : قوله : جير أي : حقّا ، وهي مخفوضة غير منونة فاحتاج إلى التنوين ، قال أبو علي : هذا سهو منه لأنّ هذا يجري منه مجرى الأصوات ، وباب الأصوات كلّها والمبنيّات بأسرها لا ينوّن إلّا ما خصّ منها بعلة الفرقان فيها بين نكرتها ومعرفتها ، فما كان منها معرفة جاء بغير تنوين ، فإذا نكّرته نوّنته من ذلك أنّك تقول في الأمر : صه ومه تريد السكوت فإذا نكّرت قلت : صه ومه تريد سكوتا ، وكذلك قال الغراب : غاق ، أي : الصّوت المعروف من صوته ، وقال الغراب : غاق أي صوتا ، وكذلك : إيه يا رجل ، تريد الحديث ، وإيه تريد حديثا ، وزعم الأصمعي أنّ ذا الرّمّة أخطأ في قوله : [الطويل]

وقفنا فقلنا إيه عن أمّ سالم

 ...

وكان يجب أن ينوّنه ويقول : إيه ، وهذا من أوابد الأصمعي التي يقدم عليها من غير علم ، فقوله : جير بغير تنوين في موضع قوله : فقلت الحقّ ، وتجعله نكرة في موضع آخر فتنوّنه ، فيكون معناه : قلت حقا ، ولا مدخل للضرورة في ذلك ، إنما التنوين للمعنى المذكور ، وتنوين هذا الشاعر على هذا التقدير ، وبالله التوفيق.

قال يعقوب : قوله أصابهم الحمى يريد : الحمام ، وقوله : بدرن أي : طعنّ في بوادرهم بالموت ، والبادرة : النحر ، وقوله : بدأ أي : سيّدا ، ولمّا أي : لم أكن سيّدا إلا حين ماتوا فإني سدت بعدهم.

قال ياقوت (١) : حدّثني شيخنا الإمام علم الدين القاسم بن أحمد الأندلسي ، قال : حدثني شيخنا تاج الدين أبو اليمن زيد بن الحسن الكنديّ قال : بلغني أنّ أبا سعيد السّيرافيّ دخل على ابن دريد وهوو يقول : أوّل من أقوى في الشعر أبونا آدم عليه السّلام في قوله : [الوافر]

٥٦٣ ـ تغيّرت البلاد ومن عليها

فوجه الأرض مغبر قبيح

تغيّر كلّ ذي طعم ولون

وقلّ بشاشة الوجه المليح

فقال أبو سعيد : يمكن إنشاده على وجه لا يكون فيه إقواء ، فقال : وكيف ذلك؟

__________________

(١) انظر معجم البلدان (٨ / ١٨٦).

٥٦٣ ـ البيتان منسوبان إلى سيدنا آدم عليه السّلام في خزانة الأدب (١١ / ٣٧٧) ، والدرر (٦ / ٢١٤) ، وبلا نسبة في الإنصاف (٢ / ٦٦٢) ، وهمع الهوامع (٢ / ١٥٦).

٢٥٠

قال : بأن تنصب بشاشة على التمييز وترفع الوجه المليح بقلّ ويكون قد حذف التنوين لالتقاء الساكنين كما حذف في قوله (١) : [المتقارب]

فألفيته غير مستعتب

ولا ذاكر الله إلّا قليلا

قال : فرفعني حتى أقعدني بجانبه.

قال ياقوت (٢) : قرأت في كتاب (الموضّح في العروض) من تصنيف أبي القاسم عبيد الله بن محمد بن جرو الأسديّ (٣) أخبارا أوردها عن نفسه فيه ومناظرات جرت له مع الشيوخ في العروض منها : قرأت على شيخنا أبي سعيد السيرافي (كتاب الوقف والابتداء) عن الفراء روايته عن أبي بكر بن مجاهد عن ابن الجهم عنه فمرّ فيه ببيت أنشده الفراء : [الطويل]

٥٦٤ ـ بأبي امرؤ والشّام بيني وبينه

أتتني ببشرى برده ورسائله

فقلت : هذا البيت لا يستقيم ، فقال أبو سعيد : أنشده ابن مجاهد عن الفراء ، وهو كما قال قد أنشدناه غير واحد من شيوخنا عن أبي بكر وعن ابن بكير عن ابن الجهم ، وعن ابن الأنباري عن أحمد بن يحيى عن سلمة عن الفراء هكذا ، فقال أبو سعيد : ما عندك فيه؟ فقلت : رأيت هذا البيت بخط أبي سهل النحوي في هذا الكتاب : يأبوي امرؤ ، وقال : ردّ الأب إلى أصله لأنّه في الأصل عند الكوفيين أبو على فعل ، مثل : نحر وغزو ، فقال لي أبو سعيد : لا ينبغي أن تلتفت إلى هذا ، لأنّ الرّواة والناقلين أجمعوا على أنّه مكتوب بأبي ، وكذلك لفظوا به ، ولكنّ اصطلاحه أن يكون بأبي امرؤ ، فيكون بأبيم فعولن ، وسكّن كسرة الباء من أبي لأنّه قدّره تقدير فخذ ، وهذا لعمري تشبيه حسن ، لأنّهم قد أجروا هذا في المنفصل مجرى المتّصل ، فقالوا : اشتر لنا (٥) ، جعلوا ترل بمنزلة فخذ ، وأشدّ من هذا قراءة حمزة : (وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا) [فاطر : ٤٣] ، جعل سيئا بمنزلة فخذ ثم أسكن كما يقال : فخذ ، والحركة في السّيّئ حركة إعراب ، وفي هذا ضربان من التجوّز : جعله المنفصل بمنزلة المتصل ، وتشبيهه حركة الإعراب بحركة البناء. انتهى.

__________________

(١) مرّ الشاهد رقم (١٥٩).

(٢) انظر معجم الأدباء (١٢ / ٦٣).

(٣) عبيد الله بن محمد بن جرو الأسديّ أبو القاسم : العروضي النحوي المعتزليّ ، من أهل الموصل ، كان عارفا بالقراءات والعربية ، صنّف : تفسير القرآن ، والموضح في العروض ، والمفصح في القوافي وغيرها (ت ٣٨٧ ه‍). ترجمته في بغية الوعاة (٢ / ١٢٧).

٥٦٤ ـ الشاهد لجرير في ديوان المعاني (١ / ٦٦) ، وهو ليس في ديوانه.

(٤) انظر الشاهد رقم (٢١).

٢٥١

قال ياقوت (١) : حدّث أبو جعفر الجرجاني قال : قال لنا أبو الحسين المهلّبيّ النحوي : وقع بيني وبين المتنبي في قول العدانيّ : [البسيط]

٥٦٥ ـ يا عمرو إلّا تدع شتمي ومنقصتي

أضربك حتّى تقول الهامة اسقوني

وذلك أنّ المتنبي قال : إنّ الناس يخلطون في هذا البيت ، والصواب : اشقوني من شقأت رأسه بالمشقاء وهو المشط ، قال المهلّبي : فقلت له : أخطأت من وجوه ، أحدها : أنّه لم يرو كذلك ، والآخر : أنّه يقال : شقأت بالهمز ، وأيضا فإني أظنّك لا تعرف الخبر فيه وما كانت العرب تقوله في الهامة ، إنّها إذا لم يثأر بصاحبها لا تزال تقول : اسقوني اسقوني ، فإذا ثأروا به سكن كأنّه شرب ذلك الدّم.

قال ياقوت : قال أبو عمر الخلال : أنفذني الصّيدلانيّ أبو عبد الرحمن المعتزليّ غلام أبي عليّ الجبّائيّ إلى أبي الحسن الرّامهرمزيّ وقال لي : قل له : إنّي قرأت البارحة في كتاب شيخنا أبي عليّ في تفسير القرآن في قوله تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا) [الأنعام : ١١٢] ، أي : بيّنّا لكلّ نبيّ عدوّه ، فجعل بمعنى بيّن ، ولست أعرف هذا في اللغة ، واحفظ جوابه وجئني به ، فجئت إلى أبي الحسن فأخبرته بذلك فقال : نعم ، هذا معروف في لغة العرب ، وقد قال العديني العنسي بالنون : [الطويل]

٥٦٦ ـ جعلنا لهم نهج الطّريق فأصبحوا

على ثبت من أمرهم حيث يمّموا

فعدت إلى أبي عبد الرحمن فعرّفته ذلك.

قال ياقوت (٣) : حدّث المرزبانيّ عن الأحمر النّحويّ قال : دخل أبو يوسف القاضي أو محمد بن الحسن علي الرشيد وعنده الكسائيّ يحدّثه ، فقال : يا أمير المؤمنين قد سعد بك هذا الكوفيّ وشغلك ، فقال الرشيد : النحو يستفزعني لأنّي أستدلّ به على القرآن والشعر ، فقال : إنّ علم النحو إذا بلغ فيه الرجل الغاية صار معلّما ، والفقه إذا عرف فيه الرجل جملة أو صدرا صار قاضيا ، فقال الكسائيّ : أنا أفضل منك لأنّي أحسن ما تحسن وأحسن ما لا تحسن ، ثم التفت إلى الرشيد وقال : إن رأى أمير المؤمنين أن يأذن له في جوابي عن مسألة من الفقه ، فضحك الرشيد

__________________

(١) انظر معجم الأدباء (١٢ / ٢٢٥).

٥٦٥ ـ الشاهد لذي الإصبع العدواني في ديوانه (ص ٩٢) ، ولسان العرب (هوم) ، وتهذيب اللغة (٦ / ٤٧) ، والمخصص (١٣ / ١٨٣) ، وتاج العروس (هيم) ، وجمهرة اللغة (ص ١١٠٠) ، والمعاني الكبير (ص ٩٧٧) ، والشعر والشعراء (ص ٧١٢) ، وسمط اللآلي (ص ٢٨٩) ، والكامل (ص ٤٨١) ، والمؤتلف والمختلف (ص ١١٨).

(٢) انظر معجم الأدباء (١٣ / ١٧٥).

٢٥٢

وقال : أبلغت يا كسائي إلى هذا؟ ثم قال لأبي يوسف : أجبه ، فقال الكسائي : ما تقول لرجل قال لامرأته : «أنت طالق إن دخلت الدار»؟ فقال أبو يوسف : إذا دخلت الدار طلقت ، فقال الكسائي : خطأ ، إذا فتحت أن فقد وجب الأمر ، وإذا كسرت فإنه لم يقع بعد فنظر أبو يوسف بعد ذلك في النحو.

وحدّث أيضا عمّن سمع الكسائي يقول : اجتمعت أنا وأبو يوسف القاضي عند هارون الرشيد ، فجعل أبو يوسف يذمّ النحو ويقول : ما النحو؟ فقلت وأردت أن أعلّمه فضل النحو : ما تقول في رجل قال لرجل : أنا قاتل غلامك؟ وقال له آخر : أنا قاتل غلامك ، أيّهما كنت تأخذ به؟ قال : آخذهما جميعا ، فقال له هارون : أخطأت ، وكان له علم بالعربية ، فاستحيى وقال : كيف ذلك؟ فقال : الذي يؤخذ بقتل الغلام هو الذي قال : أنا قاتل غلامك ، بلا إضافة فإنّه لا يؤخذ لأنّه مستقبل لم يكن بعد ، كما قال الله تعالى : (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً ، إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) [الكهف : ٢٤] ، فلولا أنّ التنوين مستقبل ما جاز فيه غدا ، فكان أبو يوسف بعد ذلك يمدح العربية والنحو.

قال أبو عبد الله بن مقلة (١) : حدثني أبو العباس أحمد بن يحيى قال : اجتمع الكسائي والأصمعي عند الرشيد ، وكانا معه يقيمان بمقامه ويظعنان بظعنه ، فأنشد الكسائي : [البسيط]

٥٦٧ ـ أم كيف ينفع ما تعطي العلوق به

رئمان أنف إذا ما ضنّ باللّبن

فقال الأصمعي : رئمان بالرفع ، فقال له الكسائي : اسكت ، ما أنت وهذا؟ يجوز رئمان ورئمان ورئمان ، ول يكن الأصمعي صاحب عربيّة ، فسألت أبا العباس كيف جاز ذلك؟ فقال : إذا رفع رفع ب ينفع ، أي : أم كيف ينفع رئمان أنف ، وإذا نصب نصب بتعطي ، وإذا جرّ جرّ بردّه على الهاء في به ، قال : والمعنى : وما ينفعني إذا وعدتني بلسانك ثم لم تصدّقه بفعلك؟ يقال ذلك للّذي يبرّ ولا يكون منه نفع كهذه الناقة تشمّ بأنفها مع تمنّع درّتها ، والعلوق : التي علق عليها ولدها ، وذلك أنّه

__________________

(١) انظر معجم الأدباء (١٣ / ١٧٣) ، وأمالي ابن الشجري (١ / ٣٧).

٥٦٧ ـ الشاهد لأفنون التغلبي في خزانة الأدب (١١ / ١٣٩) ، والدرر (٦ / ١١١) ، وشرح اختيارات المفضّل (ص ١١٦٤) ، وشرح شواهد المغني (١ / ١٤٤) ، ولسان العرب (علق) ، وبلا نسبة في الاشتقاق (ص ٢٥٩) ، وجمهرة اللغة (ص ٣٢٢) ، وخزانة الأدب (١١ / ٢٨٨) ، والخصائص (٢ / ١٨٤) ، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي (ص ٤١٨) ، وشرح المفصل (٤ / ١٨) ، ولسان العرب (رأم) ، والمحتسب (١ / ٢٣٥) ، مغني اللبيب (١ / ٤٥) ، وهمع الهوامع (٢ / ١٣٣).

٢٥٣

نحر عنها ، ثم حشي جلده تبنا أو حشيشا وجعل بين يديها حتى تشمّه وتدرّ عليه ، فهي تسكن إليه مرّة ثم تنفر عنه ثانية ، تشمّه بأنفها ثم تأباه بقلبها ، فيقول : فما ينفع من هذا البوّ إذا تشمّمته ثم منعت درّتها؟.

وحدّث المرزبانيّ عن إبراهيم بن إسماعيل الكاتب قال : سأل اليزيدي الكسائي بحضرة الرشيد فقال : انظر ، في هذا الشعر عيب وأنشده : [مجزوء الرمل]

٥٦٨ ـ ما رأينا خربا نق

قر عنه البيض صقر

لا يكون العير مهرا

لا يكون المهر مهر

فقال الكسائي : قد أقوى الشاعر ، فقال له اليزيدي : انظر فيه ، فقال : أقوى ، لا بدّ أن ينصب المهر الثاني على أنّه خبر (كان) ، فضرب اليزيدي بقلنسوته الأرض وقال : أنا أبو محمد ، الشعر صواب ، إنّما ابتدأ فقال : المهر مهر ، فقال له يحيى بن خالد : أتتكنّى بحضرة أمير المؤمنين وتكشف رأسك؟ والله لخطأ الكسائي مع أدبه أحبّ إلينا من صوابك مع سوء فعلك ، فقال : لذّة الغلبة أنستني من هذا ما أحسن. انتهى.

وفي (طبقات الكمال) لابن الأنباري (٢) : قال الدّوريّ : كان أبو يوسف يقع في الكسائي ويقول : أيّ شيء يحسن؟ إنما يحسن شيئا من كلام العرب ، فبلغ ذلك الكسائي ، فالتقيا عند الرشيد ، وكان الرشيد يعظّم الكسائي لتأديبه إيّاه ، فقال لأبي يوسف : أيش تقول في رجل قال لامرأته : أنت طالق طالق طالق؟ قال : واحدة ، قال : فإن قال لها : «أنت طالق أو طالق أو طالق» ، قال : واحدة ، قال فإن قال لها : أنت طالق ثم طالق ثم طالق؟ قال : واحدة ، قال فإن قال لها : أنت طالق وطالق وطالق؟ قال واحدة ، قال الكسائي : يا أمير المؤمنين أخطأ يعقوب في اثنتين وأصاب في اثنتين ، أمّا قوله : أنت طالق طالق طالق فواحدة ، لأنّ الثّنتين الباقيتين تأكيد ، كما تقول : أنت قائم قائم قائم ، وأنت كريم كريم كريم ، وأمّا قوله : أنت طالق أو طالق أو طالق فهذا شك ، وقعت الأولى التي تتيقّنّ ، وأما قوله : أنت طالق ثم طالق ثم طالق فثلاث لأنه نسق ، وكذلك قوله : أنت طالق وطالق وطالق.

وقال ياقوت (٣) : قرأت بخط أبي سعيد عبد الرحمن بن علي اليزدادي اللغويّ

__________________

٥٦٨ ـ انظر مجالس العلماء (ص ٢٥٥) ، والغيث المسجم (٢ / ١٤٣) ، معجم الأدباء (٤ / ٩٢).

(١) انظر نزهة الألباء (ص ٧٣).

(٢) انظر معجم الأدباء (١٣ / ١٩٤).

٢٥٤

الكاتب في كتاب جلاء المعرفة من تصنيفه : قيل : اجتمع إبراهيم النظّام وضرار بن يدي الرشيد ، فتناظرا في القدر حتى دقّت مناظرتهما فلم يفهمها ، فقال لبعض الخدم : اذهب بهذين إلى الكسائي حتى يتناظرا بين يديه ثم يخبرك لمن الفلج منهما ، فلما صارا إلى بعض الطريق قال إبراهيم : أنت تعلم أنّ الكسائي لا يحسن شيئا من النّظر ، وإنما معوّله على النحو والحساب ، ولكن تهيّئ له مسألة نحو ، وأهيّئ له مسألة حساب ، فنشغله بهما ، لأنّا لا نأمن أن يسمع منّا ما لم يسمعه ولم يبلغه فهمه أن ينسبنا إلى الزندقة فلمّا صارا إليه سلّما عليه ، ثم بدأ ضرار فقال : أسألك ـ أصلحك الله ـ عن مسألة النحو؟ قال : هاتها ، قال : ما حدّ الفاعل والمفعول به؟ فقال الكسائي : حدّ الفاعل الرّفع أبدا وحدّ المفعول به النصب أبدا ، قال : فكيف تقول : ضرب زيد ، قال : ضرب زيد ، قال : فلم رفعت زيدا وقد شرطت أنّ المفعول به منصوب أبدا؟ قال : لأنه لم يسمّ فاعله ، قال : فقد أخطأت في العبارة إذ لم تقل : إنّ من المفعولين ما إذا لم يسمّ فاعله كان مرفوعا ، ومن جعل لك الحكم بأن تجعل الرفع لمن لم يسمّ فاعله؟ قال : لأنّا إذا لم نذكر الفاعل أقمنا المفعول به مكانه ، لأنّ الفعل الواقع عليه غير مستحكم النقص وعدم النقص مطابق للرفع ، فإذا ذكرنا من فعل به وأفصحنا بذلك نصبناه قال له : فإن كان النقص مطابقا للنصب فمن لم يسمّ فاعله أولى به لأنّا إذا قلنا : ضرب زيد فقد يمكن أن يكون ضربه مائة رجل ، وإذا قلنا : ضرب عبد الله زيدا فلم يضربه إلّا رجل واحد ، فالذي أمكن أن يضربه مائة رجل أولى بالنصب والنقص ممّن لم يضربه إلّا واحد ، فوقف الكسائي لم يدر ما يقول ، ثم قال له إبراهيم : أسألك ـ أصلحك الله ـ عن مسألة من الحساب؟ قال : قل ، قال : كم جذر عشرة؟ قال : أجمع الحسّاب على أنّه لا جذر لعشرة ، قال : فهل علم الله جذرها؟ قال : الله تعالى عالم كل شيء ، قال : فما أنكرت أن يكون الله تعالى إذ علم جذرها ألقاه إلى نبيّ من أنبيائه ، ثم ألقاه ذلك النبي إلى صفيّ من أصفيائه ، ثم لم يزل ذلك العلم ينمي حتى صار علم جذر عشر عندي ، وأكون أنا أعلم جذرها؟ قال : الله عالم ، ولا تعلمه أنت وتكون مخطئا فيما قلت.

قال ياقوت (١) : وحدّث ابن بشكوال في الصّلة قال : قال عليّ بن عيسى الرّبعيّ : كان عبد الله بن حمّود الزبيدي الأندلسي قد قرأ يوما على أبي عليّ الفارسيّ في نوادر الأصمعي : أكأت الرجل إذا رددته عنك ، فقال أبو علي : ألحق هذه الكلمة بباب أجأ فإني لم أجد لها نظيرا غيرها ، فسارع من حوله إلى كتابتها ، قال الرّبعيّ :

__________________

(١) انظر معجم الأدباء (١٤ / ٨١).

٢٥٥

فقلت : أيّها الشيخ ليس أكأت من أجأ في شيء ، قال : وكيف ذلك؟ قلت لأنّ إسحاق بن إبراهيم الموصليّ وقطربا النحويّ حكيا أنه يقال : أجأ الرجل إذا جبن ، فخجل الشيخ وقال : إذا كان كذا فليس منه ، فضرب كلّ واحد منهم على ما كتب.

قال ياقوت (١) : حدثّ المرزبانيّ في أخبار الكسائي ممّا أسنده إلى المغيرة بن محمد عن أبيه قال : لمّا دخل الكسائي البصرة أوّل دخلة جلس في حلقة يونس ينتظر خروجه ، فسأله ابن أبي عيينة : عن أولق هل ينصرف أو لا ينصرف؟ فقال : أفعل لا ينصرف ، فقال ابن أبي عيينة : خطأ والله ، وخرج يونس ، فسئل عن أولق فقال : هو فوعل وليس بأفعل لأنّ الهمزة فاء الفعل ، لأنك تقول : ألق الرجل فهو مألوق ، فثبتت الهمزة ، وكذلك أرنب مصروف لأنّه فعلل لأنّك تقول : أرض مؤرنبة فتثبت الهمزة ، قال : والمألوق المجنون. انتهى.

قال ياقوت : حدّث أبو محمد اليزيديّ قال : كان يجيئني رجل فيسألني عن آيات من القرآن مشكلات فكنت أتبيّن العنت في سؤاله ، وكنت إذا أجبته أرى لونه يربدّ ويسودّ ، فقال لي يوما : أيجوز في كلام العرب أن تقول : أدخلت القوم الدّار ثم أخرجتهم رجلا؟ فقلت لا يجوز ذلك حتى تقول : أخرجتهم رجلا رجلا ، فيدلّ على تفصيل الجنس ، قال : فكيف قال الله عزّ وجل : (ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً) [غافر : ٦٧]؟ قلت : ليس هذا من ذلك لأن الطفل مصدر في الأصل يقع على الواحد والاثنين والجمع بلفظ واحد فتقول : هذا طفل وهذان طفل وهؤلاء طفل ، كما قال تعالى : (أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ) [النور : ٣١] ، فطفل في الآية موضع أطفال ، فكأنّه قال : ثم يخرجكم أطفالا ، قال : فأخبرني عن قوله عزّ وجلّ : (يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ) [النساء : ٤٢] ، من أين لهم هذه الأرض هناك؟ فقلت له : وهمت ، أما سمعت قوله تعالى : (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ) [إبراهيم : ٤٨] ، فودّوا أنّ تلك الأرض تسوّى بهم ، فسكت.

قال ياقوت في معجم الأدباء : حدّثني الإمام صدر الأفاضل قاسم بن حسين الخوارزميّ قال : دخل أفضل القضاة يعقوب بن شيرين الجندي على جار الله الزمخشري فقال له : لقد أنشأت البارحة شيئا وأنشده : [الكامل]

ما تابع لم يتّبع متبوعه

في لفظه ومحلّه يا ذا الثّبت

__________________

(١) انظر مجالس العلماء (ص ٢٥٤).

٢٥٦

ما ذا بعلم غير علم نافع

ألغزت في إتقانه حتّى ثبت

ألغز فيهما على نحو قولهم : «ما زيد بشيء إلّا شيء لا يعبأ به» ، فإنّه لا يجوز في قولهم : «إلّا شيء» سوى الرفع ، وهو بدل من قولهم : «ما ذا بعلم غير علم نافع» برفع غير ، فلمّا سمع جار الله منه البيتين قال له : لقد جئت شيئا إدّا.

قال ياقوت (١) : حدّثني صدر الأفاضل قال : كتب إليّ الصوفيّ المعروف الصّوّاب يسألني عن قول حسان رضي الله عنه : [الوافر]

٥٦٩ ـ فمن يهجو رسول الله منكم

ويمدحه وينصره سواء

وقولهم : إن فيه ثلاثة عشر مرفوعا ، فأجبته : [البسيط]

أفدي إماما وميض البرق منصرع

من خلف خاطره الوقّاد حين خطا

يبغي الصّواب لدينا من مباحثه

وما درى أنّ ما يعدو الصّواب خطا

الذي يحضرني في هذا البيت من المرفوعات اثنا عشر ، فمنها قوله : فمن يهجو ، فيها ثلاثة مرفوعات ، المبتدأ أو الفعل المضارع والضمير المستكن ، ومنها المبتدأ المقدّر في قوله : ويمدحه ، والمعنى : ومن يمدحه فيكون هنا على حسب المثال الأول ثلاثة مرفوعات أيضا ، ومنها المرفوعان في قوله : وينصره ، أحدهما : الفعل المضارع والثاني : الضمير المستكن فيه ، ومنها المرفوعات الأربعة في قوله : سواء ، اثنان من حيث إنّه في مقام الخبرين للمبتدأين واثنان آخران من حيث إنّ في كلّ واحد ضميرا راجعا إلى المبتدأ ، فهذا يا سيّدي جهد المقلّ وغير مرجوّ قطع المدى من الكلّ. انتهى.

قال الصّفديّ بعد حكايته : بل المرفوعات ثلاثة عشر ، والباقي المبتدأ المحذوف المعطوف على قوله : «من» في الأول من قوله : فمن يهجو ، أي : ومن يمدحه ومن ينصره لأنّه قد قرّر أنّ في «يهجو» ثلاثة مرفوعات ، وكذا في «ويمدحه» وتحكّم في قوله : إنّ في «ينصره» مرفوعين ، والصورة واحدة في الثلاث. انتهى.

مناظرات ذكرها أبو بكر الزبيدي في (طبقات النحاة)

قال أبو بكر الزبيدي في طبقات النحويين (٣) : قال المازنيّ : كنت بحضرة

__________________

(١) انظر معجم الأدباء (١٦ / ٢٤٥).

٥٦٩ ـ الشاهد لحسان بن ثابت في ديوانه (ص ٧٦) ، وتذكرة النحاة (ص ٧٠) ، والدرر (١ / ٢٩٦) ، ومغني اللبيب (ص ٦٢٥) ، والمقتضب (٢ / ١٣٧) ، وبلا نسبة في شرح الأشموني (ص ٨٢) ، وهمع الهوامع (١ / ٨٨).

(٢) انظر طبقات النحويين واللغويين (ص ٨٨).

٢٥٧

الواثق يوما ، فقلت لابن قادم : كيف تقول : نفقتك دينارا أصلح من درهم؟ فقال : دينار بالرفع ، قلت : فكيف تقول : ضربك زيدا خير لك؟ فنصب زيدا ، فطالبته بالفرق بينهما فانقطع ، وكان ابن السكيت حاضرا ، فقال الواثق سله عن مسألة ، فقلت له : ما وزن نكتل من الفعل؟ فقال : نفعل ، فقال الواثق : غلطت ، ثم قال لي : فسّرّه ، فقلت : نكتل تقديره : نفتعل ، وأصله : نكتيل ، فانقلبت الياء ألفا لفتحة ما قبلها ، فصار لفظها نكتال ، فأسكنت اللام للجزم لأنه جواب الأمر ، فحذفت الألف لالتقاء السّاكنين ، فقال الواثق : هذا الجواب لا جوابك يا يعقوب ، فلمّا خرجنا قال لي ابن السكيت : ما حملك على هذا وبيني وبينك المودّة الخالصة؟ فقلت والله ما أردت تخطئتك ولم أظنّ أنّه يعزب عنك.

قال : وقال المازني : حضرت يوما عند الواثق فقال : يا مازنيّ هات مسألة ، وكان عنده نحاة الكوفة ، فقلت : ما تقولون في قوله تعالى : (وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا) [مريم : ٢٨] ، لم لم يقل بغيّة ، وهي صفة لمؤنث؟ فأجابوا بجوابات غير مرضيّة ، فقال الواثق : هات ما عندك ، فقلت : لو كانت بغيّ على تقدير فعيل بمعنى فاعلة لحقتها الهاء ، مثل : كريمة وظريفة ، وإنّما تحذف الهاء إذا كانت في معنى مفعول ، نحو : امرأة قتيل وكفّ خضيب ، وبغيّ هاهنا ليس بفعيل إنّما هو فعول ، وفعول لا تلحقه الهاء في وصف التأنيث ، نحو : امرأة شكور وبئر شطون إذا كانت بعيدة الرّشاء ، وتقدير بغيّ بغوي ، قلبت الواو ياء ثم أدغمت في الياء ، فصارت ياء ثقيلة نحو : عيّد وميّت ، فاستحسن الجواب.

ما ذكره أبو الطيب اللغوي في مراتب النحويين من مسائل

وقال أبو الطيب اللغوي في مراتب النحويين : أخبرنا عليّ بن محمد الخداشي قال : بلغنا أنّ مغنّية غنّت بحضرة الواثق بالله : [الكامل]

٥٧٠ ـ أظليم إنّ مصابكم رجلا

أهدى السّلام تحيّة ظلم

فردّ عليها الواثق وقال : إنّ مصابكم رجل ، فأعادت رجلا ، فأعاد الرّدّ عليها ،

__________________

٥٧٠ ـ الشاهد للحارث بن خالد المخزومي في ديوانه (ص ٩١) ، والاشتقاق (ص ٩٩) ، والأغاني (٩ / ٢٢٥) ، ومعجم ما استعجم (ص ٥٠٤) ، وللعرجي في ديوانه (ص ١٩٣) ، ومغني اللبيب (٢ / ٥٣٨) ، وللحارث أو للعرجي في إنباه الرواة (١ / ٢٨٤) ، وشرح التصريح (٢ / ٦٤) ، وشرح شواهد المغني (٢ / ٨٩٢) ، والمقاصد النحوية (٣ / ٥٠٢) ، ولأبي دهبل الجمحي في ديوانه (ص ٦٦) ، وبلا نسبة في أوضح المسالك (٣ / ٢١٠) ، وشرح الأشموني (٢ / ٣٣٦) ، وشرح شذور الذهب (ص ٥٢٧) ، وهمع الهوامع (٢ / ٩٤).

٢٥٨

فقالت : لقّنني هذا أعلم أهل زمانه ، قال : ومن هو؟ قالت : المازني ، فقال : عليّ به ، فأشخص إليها ، فلمّا مثل بين يديه قال : ما اسمك يا مازني؟ قال : بكر ، يا أمير المؤمنين ، قال : أحسنت ، كيف تروي : أظليم .. البيت؟ فقال : إنّ مصابكم رجلا ، قال : فأين خبر (إنّ)؟ قال : قوله : ظلم ، ومعنى مصابكم إصابتكم ، قال : صدقت.

قال أبو الطيب : وقد شجر بين محمد بن عبد الملك الزيات وأحمد بن أبي دؤاد ، في هذا البيت الذي غلط فيه الواثق ، فقال محمد : إنّ مصابكم رجلا وقال أحمد : رجل ، فسألا عنه يعقوب ابن السكيت فحكم لأحمد بن أبي دؤاد عصبيّة لا جهلا.

فأخبرونا عن ثعلب قال : لقيت يعقوب فعاتبته في هذا عتابا ممضّا فقال لي : اسمع عذري ، جاءني رسول ابن أبي دؤاد فمضيت إليه فلمّا رآني بشّ بي وقرّبني ورفعني وأحفى في المسألة عن أخباري ، ثم قال لي : يا أبا يوسف مالي أرى الكسوة ناقصة؟ يا غلام دستا كاملا من كسوتي فأحضر ، فقال : كيسا فيه مائتا دينار ، ثم قال لي : أراكب قلت : لا ، بل راجل ، فقال : حماري الفلاني بسرجه ولجامه ، فأحضر ، وقال : يسلّم الجميع إلى غلام أبي يوسف ، فشكرت له ذلك ، ثم قال لي : يا أبا يوسف ، أنشدت هذا البيت : أظلوم إنّ مصابكم رجل ، فقال الوزير : إنما هو «رجلا» بالنصب ، وقد تراضينا بك ، فقلت : القول ما قلت ، فخرجت من عنده فإذا رسول محمد بن عبد الملك ، فقال : أجب الوزير ، فلمّا دخلت إليه بدرني وأنا واقف ، فقال : يا يعقوب أليس الرّواية : أظليم إنّ مصابكم رجلا؟ فقلت : لا بل رجل ، فقال : اغرب ، قال يعقوب : فكيف كنت ترى لي أن أقول؟

انتهى الجزء الثالث ويليه الجزء الرابع

وأوله (في المسائل) لابن السيّد البطليوسي

٢٥٩
٢٦٠