مصباح الفقيه - ج ١٣

الشيخ آقا رضا الهمداني

مصباح الفقيه - ج ١٣

المؤلف:

الشيخ آقا رضا الهمداني


الموضوع : الفقه
الناشر: المؤسسة الجعفريّة لإحياء التراث
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٢٥

السويّ عليه بعد ورود تفسيرهما ـ في رواية زرارة المتقدّمة (١) ـ بمن يقدر على أن يكفّ نفسه عنها ، ودلالة صحيحة معاوية وخبر هارون على إناطة نفي الجواز بكونه غنيّا ، لا بكونه ذي مرّة ، فالعبرة بذلك ، لا بصدق اللفظين ، كي يكون صدقهما عليه ـ بعد الاعتراف باندراجه في موضوع ما دلّ على جواز الأخذ لمن لا يقدر في الحال على أن يكفّ نفسه عنها ـ منشأ للإشكال.

فالأقوى : ما قوّاه في ذيل كلامه من جواز الدفع إلى كلّ محتاج في آن حاجته.

وانعقاد الإجماع على خلافه غير معلوم ، بل ولا مظنون ، بل قد يغلب على الظنّ عدم إرادة المشهور القائلين بعدم جواز الدفع إلى من يقدر على كسب كاف بمئونته إلّا المنع عنه في حال قدرته ، فهذا ممّا لا ينبغي الاستشكال فيه.

وإنّما الإشكال في من يقدر على كسب لائق بحاله واف بمئونته ، ولكنّه لم يتعوّد على الاكتساب ، ككثير من البطّالين وأهل السؤال وأشباههم ممّن لهم قدرة وقوّة على كثير من الصنائع والحرف اللائقة بحالهم ، ولكنّهم تعوّدوا على التعيّش بأخذ الصدقات والصبر على الفقر والفاقة ، وتحمّل ذلّ السؤال ، وتناول وجوه الخيرات والصدقات وترك الاكتساب ، فإنّه يصدق عليهم عرفا اسم الفقير ، ولكنّه هو في الواقع غنيّ ، أي قادر على أن يكفّ نفسه عنها.

وقد أشرنا آنفا إلى أنّ هذا المعنى هو المراد بالغنيّ في هذا الباب في مقابل المحتاج الذي هو معنى الفقير.

__________________

(١) تقدمت في ص ٤٩٨.

٥٠١

فالقول بعدم الجواز ـ كما نسب إلى المشهور (١) ـ هو الأقوى.

وما في الجواهر من دعوى السيرة على دفعها على مثل هذه الأشخاص (٢) ، محلّ نظر ، بل منع ، والله العالم.

تنبيه صرّح غير واحد بأنّه يجوز للقادر على الاكتساب ترك الكسب والأخذ من الزكاة للاشتغال بأمر واجب ولو كفاية كالتفقّه في الدين.

قال شيخنا المرتضى ـ رحمه‌الله ـ : ويحتمل تعين الواجب الكفائي على من لا يحتاج إلى الكسب ، لأنّ المحتاج إليه مشغول الذمّة بواجب عيني.

ثمّ أشار إلى ما ذهب إليه جملة منهم من جوازه ، للاشتغال بطلب العلم المستحبّ ، للأمر به المستلزم لطلب ترك الاكتساب المستلزم لجواز.

أخذ الزكاة.

وردّه : بأنه بعد عمومات تحريم الزكاة على القادر على التكسّب يصير التكسّب واجبا لأجل حفظ نفسه وعياله ، فلا يزاحمه استحباب ذلك ، لأنّ المستحبّ لا يزاحم الواجب إجماعا.

ثمّ قال : ودعوى أنّ تسليم حرمة الأخذ المستلزم لوجوب التكسّب مبنيّ على تقديم أدلّتها على أدلّة ذلك المستحبّ ، لم لا يجوز العكس؟مدفوعة إجمالا بأنّ المقرر في محلّه أنّ استحباب المستحبّ لعموم دليله لا يزاحم عموم وجوب الواجبات (٣). انتهى.

أقول : لا يخفى عليك أنّ حفظ النفس لا يتوقّف على خصوص

__________________

(١) الناسب هو : العاملي في مدارك الأحكام ٥ : ١٩٦.

(٢) جواهر الكلام ١٥ : ٣١٤.

(٣) كتاب الزكاة للشيخ الأنصاري : ٤٩٧.

٥٠٢

الاكتساب ، فضلا عن كونه بمقدار يخرجه عن حد الفقر ، فإنّه يكفي في حفظ النفس تحصيل قوت يسدّ به رمقه لدى احتياجه إليه بنحو من الأنحاء ، سواء كان بالاكتساب ، أو بالاستدانة ، أو الاستعطاء من أصدقائه وأقاربه ، أو سائر المسلمين ، أو الالتقاط من حشيش الأرض ، أو ببيع داره أو شي‌ء من مستثنيات الدين ، أو غير ذلك من طرق التحصيل.

وقد حقّقنا لدى التكلّم في حرمة إراقة الماء قبل الوقت أو بعده في مبحث التيمّم من كتاب الطهارة أنّه لا يتنجز التكليف بشي‌ء من المقدمات الوجوديّة للواجبات المطلقة أو المشروطة إلّا بعد إحراز توقّف الواجب على خصوص هذا الشي‌ء ، وأنّه لو أخلّ به ، يتعذّر عليه الخروج عن عهدة ذلك التكليف ، فلا يتنجّز عليه التكليف بالاكتساب مقدمة لحفظ نفسه ، إلّا إذا علم بكون الإخلال به موجبا لتلفها ، ولا أقلّ من الظنّ بذلك ، ومتى أحرز ذلك ، لم يجز له الاشتغال عنه بالواجبات العينيّة أيضا ، فضلا عن الكفائيّة.

وأما من لم يحرز ذلك بأن كان عنده في هذا اليوم بمقدار ما يسدّ به رمقه في يومه وليلته ، واحتمل أن يرزقه الله تعالى في الغد أيضا مثل ما رزقه في هذا اليوم من حيث لا يحتسب ، جاز له ترك التكسّب والاشتغال بالأعمال المباحة ، فضلا عن المستحبة ، ولا سيما مثل تحصيل العلوم الدينيّة ، فلا مجال للارتياب في عدم اختصاص وجوب التفقه أو استحبابه بخصوص الأغنياء أو الفقراء العاجزين عن الاكتساب ، الذين يحلّ لهم الصدقات ، بل هو عامّ لسائر المكلّفين.

فإذا ترك القادر على الاكتساب كسبه ، وقنع بأقلّ قوت يقيم صلبه من حشيش ونحوه ، وصبر على الفقر والفاقة ، واشتغل بتهذيب أخلاقه

٥٠٣

بالرياضات والمجاهدات ، وتحصيل العلوم الدينيّة ، والعمل بالآداب الشرعيّة ، فقد زهد في دنياه وفاز في آخرته فوزا عظيما ، فهذا ممّا لا مجال للارتياب في رجحانه ، فضلا عن جوازه.

ولكن لا ملازمة بينه وبين جواز أخذ الزكاة له ، إذ بعد فرض دلالة الدليل على عدم حليّة الصدقة لمن يقدر على اكتساب بمئونته على الإطلاق ، نلتزم بحرمتها عليه وإن استحبّ له الاشتغال بطلب العلم وسائر الأعمال المستحبة المستلزمة لترك التكسّب.

وحيث لا يجب عليه فعل المستحبّات لا عقلا ولا شرعا لا ينفي ذلك قدرته على الاكتساب ، كي يحلّ له أخذ الصدقة ، فيصير حاله في تعيّشه في الدنيا كحال كثير من الفقراء المشغولين بطلب العلم ، الذين لا يعطيهم أحد من الزكاة وسائر وجوه الصدقات شيئا ، ولا يموت أحد منهم من الجوع.

ولكن لمانع أن يمنع إطلاق مانعيّة القدرة على التكسّب عن أخذ الزكاة على وجه يتناول مثل المقام ، فإنّ عمدة ما يصحّ الاستدلال به لذلك : قوله ـ عليه‌السلام ـ في رواية زرارة المتقدمة (١) ، الواردة في تفسير الخبر النافي لحلّ الصدقة على المحترف والقويّ وذي مرّة سوي : «لا يحل له أن يأخذها وهو يقدر على أن يكفّ نفسه عنها».

وهذا وإن كان بظاهره موهما لذلك ، ولكنّ الظاهر عدم إرادة مطلق القدرة منه ، بل كونه بالفعل لدى العرف متمكّنا من القيام بنفقته ونفقة من يعوله ، بحيث يراه العرف بحكم صاحب المال في كفايته بمئونته ، كما يفصح عن ذلك : صحيحة معاوية ورواية هارون بن حمزة المتقدمتان (٢)

__________________

(١) تقدمت في ص ٤٩٨.

(٢) تقدّمتا في ص ٤٩١ و ٤٩٢.

٥٠٤

الدالّتان على إناطة نفي الحلّية بالغنى بالتقريب المتقدّم.

فمثل طلبة العلم الذين جعلوا شغلهم التحصيل إذا قصر مالهم عن مؤونتهم غير مندرج في موضوع تلك القضيّة عرفا ، وقدرتهم على أن يكفّوا أنفسهم عن الزكاة باشتغالهم بالكسب بعد أن اتّخذوا تحصيل العلم حرفة لهم كقدرة أرباب الحرف والصنائع ـ الذين يقصر ربحهم عن مؤونتهم ـ على كسب آخر واف بمؤونتهم ، غير ملحوظة لدى العرف في ما هو ملاك الفقر والغنى ، وليس للشارع اصطلاح خاصّ في هذا الباب.

والروايات النافية لحلّ الصدقة على المحترف وذي مرة سويّ مسوقة ـ على الظاهر ـ لبيان عدم الفرق في الغنى المانع عن حلّية الصدقة بين كونه بالفعل أو بالقوّة القريبة منه ، مثل أرباب الصنائع الذين وظيفتهم التعيش بكسبهم ، لا مثل طلبة العلم الذين لا يراهم العرف كذلك ، فالأشبه جواز أخذ الزكاة لهم ، والله العالم.

(ولو قصرت) الحرفة أو الصنعة اللائقة بحاله (عن كفايته ، جاز له أن يتناولها) بلا خلاف فيه على الظاهر ، بل عن التذكرة أنّه موضع وفاق بين العلماء (١).

(و) إنّما الخلاف في تقدير الأخذ للقاصر ، فـ (قيل : يعطى ما يتمّ كفايته) لا أزيد.

(و) قيل : (ليس ذلك شرطا) بل يجوز أن يعطى ما يغنيه ويزيد على غناه.

وقد نسب هذا القول إلى المشهور (٢).

__________________

(١) حكاه العاملي في مدارك الأحكام ٥ : ١٩٧ ، وراجع : تذكرة الفقهاء ٥ : ٢٨٧ ، المسألة ١٨٩.

(٢) المناسب هو : صاحب الجواهر فيها ١٥ : ٣١٥ ـ ٣١٦.

٥٠٥

ومستنده : إطلاق الروايات الآمرة بالاغناء ، كصحيحة سعيد بن غزوان عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : سألته كم يعطى الرجل الواحد من الزكاة؟ قال : «أعطه حتّى تغنيه» (١).

وموثّقة عمّار الساباطي عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، أنّه سئل كم يعطى الرجل من الزكاة؟ فقال : «قال أبو جعفر ـ عليه‌السلام ـ : إذا أعطبت فأغنه» (٢).

وموثّقة إسحاق بن عمّار قال : قلت لأبي الحسن موسى ـ عليه‌السلام ـ :اعطي الرجل من الزكاة ثمانين درهما؟ قال : «نعم وزده» قلت : أعطيه مائة؟ قال : «نعم وأغنه إن قدرت على أن تغنيه» (٣).

وموثّقته الأخرى قال : قلت لأبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ : اعطي الرجل من الزكاة مائة درهم؟ قال : «نعم» قلت : مائتين؟ قال : «نعم» قلت : ثلاثمائة؟ قال : «نعم» قلت : أربعمائة؟ قال : نعم قلت : خمسمائة؟ قال : «نعم حتّى تغنيه» (٤).

وما رواه الكليني بإسناده عن عاصم بن حميد عن أبي بصير ، قال :قلت لأبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ : إنّ شيخا من أصحابنا يقال له : عمر ، سأل عيسى بن أعين وهو محتاج ، فقال له عيسى بن أعين : أما إنّ

__________________

(١) الكافي ٣ : ٥٤٨ / ٤ ، التهذيب ٤ : ٦٣ / ١٧٠ ، الوسائل ، الباب ٢٤ من أبواب المستحقين للزكاة ، الحديث ١ و ٥.

(٢) الكافي ٣ : ٥٤٨ / ٣ ، التهذيب ٤ : ٦٤ / ١٧٤ ، الوسائل ، الباب ٢٤ من أبواب المستحقين للزكاة ، الحديث ٤.

(٣) الكافي ٣ : ٥٤٨ / ٢ ، التهذيب ٤ : ٦٤ / ١٧٣ ، الوسائل ، الباب ٢٤ من أبواب المستحقين للزكاة ، الحديث ٣.

(٤) التهذيب ٤ : ٦٣ / ١٧٢ ، الوسائل ، الباب ٢٤ من أبواب المستحقين للزكاة ، الحديث ٧.

٥٠٦

عندي من الزكاة ولكن لا أعطيك منها ، فقال له : ولم؟ فقال : لأنّي رأيتك اشتريت لحما وتمرا ، فقال : إنّما ربحت درهما فاشتريت بدانقين لحما وبدانقين تمرا ، ثم رجعت بدانقين لحاجة ، قال : فوضع أبو عبد الله ـ عليه‌السلام ـ يده على جبهته ساعة ثمّ رفع رأسه ، ثمّ قال : «إنّ الله تبارك وتعالى نظر في أموال الأغنياء ثم نظر في الفقراء ، فجعل في أموال الأغنياء ما يكتفون به ، ولو لم يكفهم لزادهم ، بل يعطيه ما يأكل ويشرب ويكتسي ويتزوّج ويتصدّق ويحجّ» (١) إلى غير ذلك من النصوص المرخّصة في الإغناء.

وأمّا القول الآخر : فعمدة ما يصحّ الاستناد إليه هي أنّ الزكاة شرعت لسدّ فاقة الفقراء ورفع حاجتهم ، وهذا لا يقتضي استحقاق الفقير منها أزيد من مقدار كفايته بل يقتضي عدمه.

كما يؤيّد ذلك بل يشهد له ما دلّ على أنّ الله فرض للفقراء في أموال الأغنياء ما يكتفون به ، ولو علم أنّ الذي فرض لهم لا يكفيهم ، لزادهم (٢) ، فإنّه يستفاد من مثل هذه الأخبار أنّ الله تعالى لم يجعل لهم أزيد من مقدار حاجتهم.

ويؤيّده أيضا الروايات الواردة في ذي الكسب القاصر ، مثل قوله ـ عليه‌السلام ـ في صحيحة معاوية بن وهب : «ويأخذ البقيّة من الزكاة» (٣).

وخبر هارون بن حمزة ، قال ـ عليه‌السلام ـ : «فلينظر ما يفضل منها

__________________

(١) الكافي ٣ : ٥٥٦ / ٢ ، الوسائل ، الباب ٤١ من أبواب المستحقين للزكاة ، الحديث ٢.

(٢) الكافي ٣ : ٤٩٦ / ١ ، الفقيه ٢ : ٢ / ١ ، التهذيب ٤ : ٤٩ / ١٢٨ ، الوسائل ، الباب ١ من أبواب المستحقين للزكاة ، الحديث ١.

(٣) الكافي ٣ : ٥٦١ / ٦ ، الوسائل ، الباب ١٢ من أبواب المستحقين للزكاة ، الحديث ١.

٥٠٧

فيأكل. هو ومن يسعه ذلك ، وليأخذ لمن لم يسعه من عياله» (١).

وكذا قوله ـ عليه‌السلام ـ في موثّقة سماعة : «إذا كان صاحب السبعمائة له عيال كثير فلو قسّمها بينهم لم تكفه فليعفّ عنها نفسه وليأخذها لعياله» (٢) فإنّه يستشعر من مثل هذه الأخبار ، بل قد يستظهر منها قصر الرخصة على أخذ البقيّة خاصّة.

ويؤيّده أيضا ما دلّ على أنّ الفقير الذي عنده قوت شهر أو شهرين له أن يأخذ قوت سنته ، معلّلا ذلك : بأنّها من سنة إلى سنة ـ (٣) ، فإنّه يفهم من التعليل المزبور نفي استحقاق ما زاد عن سنة.

ويتوجّه على جميع ما ذكر أنّه لا ينبغي الالتفات إلى شي‌ء من مثل هذه الإشعارات الغير البالغة مرتبة الدلالة في مقابل المعتبرة المستفيضة المتقدمة.

ولو سلمت دلالتها على المدّعى فغايتها الظهور الغير الناهض لمكافئة تلك الأخبار التي كادت تكون صريحة في جواز دفع الزائد عن مئونته ، كما ستعرف.

وقد يجاب عمّا ذكر بأنّه لا منافاة بين هذه الروايات الظاهرة أو المشعرة بعدم جواز أخذ ما يزيد عن الكفاية ، وبين الروايات المتقدمة التي جعل فيها الإغناء غاية للرخصة ، بل هي أيضا مؤيّدة للمطلوب ، إذ الغنى يتحقّق بدفع ما يكفي لمئونته ، ولذا لا يجوز دفع ما زاد على هذا المقدار ثانيا بعد أن دفع إليه أوّلا بمقدار كفايته ، فما زاد على هذا المقدار

__________________

(١) التهذيب ٤ : ٥١ / ١٣٠ ، الوسائل ، الباب ١٢ من أبواب المستحقين للزكاة ، الحديث ٤.

(٢) الكافي ٣ : ٥٦١ / ٩ ، الوسائل ، الباب ١٢ من أبواب المستحقين للزكاة ، الحديث ٢.

(٣) علل الشرائع : ٣٧١ ـ ٣٧٢ ، الباب ٩٧ ، الحديث ١ ، الوسائل ، الباب ٨ من أبواب المستحقين للزكاة ، الحديث ٧.

٥٠٨

زائد عن حدّ الإغناء ، فلا تدلّ الروايات المزبورة على جوازه ، بل تدلّ على عدمه ، لزيادته عن الحدّ المرخوص فيه.

ويدفعه أنّ المنساق من الإغناء المأمور به في تلك الأخبار ، هو :الإغناء العرفي الرافع لحاجته عن تناول الصدقات ، مثل أن يعطيه ضيعة أو عقارا أو مقدارا من المال الذي يتمكّن معه من شراء مثل ذلك أو الاكتساب به على وجه يعدّ في العرف من الأغنياء الغير المحتاجين في مؤونتهم إلى الغير ، لا الغنى المقابل للاحتياج الفعلي المانع عن أخذ الصدقات المقصور مدته على ما قبل أن يصرف شيئا من المال الموجب لغناه في نفقته ، إذ لا غنى بمثل هذا الغنى ـ الذي هو في معرض الزوال بمضيّ يوم أو يومين أو شهر أو شهرين ـ عن الاحتياج إلى تناول الزكاة ، فلو سلم صحّة إطلاق اسم الغني عليه في العرف فهو خارج عن منصرف إطلاقه جزما.

مع أنّ بعض الأخبار المزبورة كرواية أبي بصير (١) نصّ في جواز أخذ الفقير من الزكاة زائدا عمّا يحتاج إليه في أكله وشربه وكسوته بمقدار ما يتمكن من التزويج والصدقة والحج ، وذكر هذه الأمور في الرواية جار مجرى التمثيل ، أريد به بيان جواز تناول الفقير من الزكاة زائدا عن ضروريات معاشه بمقدار ما يتمكن معه من القيام بمثل هذه المصارف العظيمة من غير ضرورة عرفيّة ملجئة إليها.

وكذا موثّقة إسحاق ، المرخّصة في إعطاء الأربعمائة والخمسمائة (٢) ، فإنها تدلّ على أنّ المراد بالإغناء هو الإغناء العرفي الذي لا يتحقّق عادة

__________________

(١) تقدّمت في ص ٥٠٦.

(٢) تقدمت في ص ٥٠٦.

٥٠٩

بإعطاء الخمسمائة ، لا مقدار الكفاية لمئونة سنة الذي كان الغالب حصوله في تلك الأعصار بأقلّ من ذلك ، خصوصا بالنسبة إلى ذي الكسب القاصر أو الواجد لبعض مئونته.

هذا ، مع أنّ إطلاق الرخصة في إعطاء الخمسمائة لرجل من غير استفصال عن زيادتها عن مئونته بنفسه كاف في إفادة المدّعى ، فلا ينبغي الاستشكال فيه ، خصوصا بعد اعتضاد ظواهر النصوص المزبورة بفهم المشهور وفتواهم.

بل ربّما يظهر من كلماتهم عدم الخلاف في جواز إعطاء الزائد عن كفاية سنة بالنسبة إلى الفقير الذي ليس له حرفة أو صنعة لائقة بحاله.

وإنّما الخلاف في ذي الكسب القاصر ، كما يشعر به عبارة المتن وغيره.

وقد حكي عن الشهيد في البيان : أنّه استحسن القول بالاقتصار على ما يتمّ كفايته.

ثم قال : وما ورد في الحديث من الإغناء بالصدقة ، محمول على غير المكتسب (١).

وأورد عليه في المدارك : بأنّ هذا الحمل ممكن إلّا أنّه يتوقّف على وجود المعارض ، ولم نقف على نصّ يقتضيه.

نعم ربما أشعر به مفهوم قوله ـ عليه‌السلام ـ في صحيحة معاوية بن وهب : «ويأخذ البقيّة من الزكاة» لكنّها غير صريحة في المنع من الزائد (٢). انتهى.

__________________

(١) حكاه العاملي في مدارك الأحكام ٥ : ١٩٨ ، وراجع : البيان : ١٩٣.

(٢) مدارك الأحكام ٥ : ١٩٨.

٥١٠

أقول : بل ولا ظاهرة فيه أيضا ، وإنّما هو مجرّد إشعار غير بالغ حدّ الدلالة ، وكذا رواية هارون بن حمزة المتقدّمة (١) ، كما تقدمت الإشارة إليه ، فلا تنهضان شاهدا لارتكاب التقييد أو التخصيص في أخبار الإغناء ، مع ما فيها من قوّة الدلالة على العموم بملاحظة ما فيها من ترك الاستفصال ، بل الظاهر كون خبر أبي بصير واردا في ذي الكسب القاصر ، فإنّ قوله : إنّما ربحت درهما ، مشعر بكونه من أهل الكسب.

وكيف كان ، فالأظهر ما هو المشهور من عدم لزوم الاقتصار على التتمّة ، ولكن الاحتياط ممّا لا ينبغي تركه ، كما أنّ الأحوط ـ إن لم يكن أقوى ـ ترك الإفراط في الإغناء بأن يعطى لواحد مالا خطيرا زائدا عمّا يحتاج إليه عادة في تعيّشه ، فإنّه خارج عن منصرف النصوص والفتاوى ، بل مناف لحكمة شرع الزكاة ، والله العالم.

(ومن) فروع (هذا الباب) أنّه قد (تحلّ) الزكاة (لصاحب الثلاثمائة) بل السبعمائة بل الثمانمائة ، بل الأزيد من ذلك إذا كان أصلها أو ربحها لا يقوم بمئونته.

(وتحرم على صاحب الخمسين) فما دون إذا كان قادرا على الاكتساب بها بمقدار كفايته (اعتبارا بعجز الأوّل عن تحصيل الكفاية وتمكّن الثاني) كما وقع التصريح بذلك في أخبار الباب ، كموثّقة سماعة (٢) وغيرها (٣) من الروايات المتقدمة.

(ويعطى الفقير) من الزكاة (ولو كان له دار يسكنها أو خادم

__________________

(١) تقدمت في ص ٤٩٢.

(٢) تقدمت في ص ٤٩٧.

(٣) كرواية محمد بن مسلم ، التي تقدمت في ص ٤٩٧.

٥١١

يخدمه إذا كان لا غنى به عنهما) بلا خلاف فيه على الظاهر ، بل الظاهر أنّ ذكر الدار والخادم في المتن وغيره جار مجرى التمثيل لكلّ ما يحتاج إليه كأثاث البيت وثياب التجمّل وفرس الركوب ، وكتب العلم ، وغير ذلك ممّا تمسّ الحاجة إليه ، ولا يخرج بملكه عرفا عن حد الفقر إلى الغني ، كما نصّ عليه في الجواهر (١) وغيره (٢).

ويدلّ عليه خبر عبد العزيز المتقدم (٣) في أوائل المبحث لدى شرح حال الفقير والمسكين الذي وقع فيه التصريح بحلّ الزكاة للعبّاس بن الوليد الذي كان له دار تسوي أربعة آلاف درهم ، وجارية وغلام يستقي على الجمل كلّ يوم ما بين الدرهمين إلى الأربعة ، فلاحظ.

ويشهد له ما رواه الكليني ـ في الصحيح ـ عن عمر بن أذينة عن غير واحد عن أبي جعفر وأبي عبد الله ـ عليهما‌السلام ـ أنّهما سئلا عن الرجل له دار أو خادم أو عبد أيقبل الزكاة؟ قال : «نعم ، إنّ الدار والخادم ليسا بمال» (٤) إلى غير ذلك من الروايات الدالّة عليه.

مضافا إلى ما أشرنا إليه من عدم الخروج بملك هذه الأشياء ـ لدى احتياجه إليها ـ عن حدّ الفقر ما لم يكن زائدا عن مقدار حاجته ولو بملاحظة عزّه وشرفه ، كما أشير إليه في خبر عبد العزيز المتقدم (٥).

هذا ، وفي المدارك قال : لو كانت دار السكنى تزيد عن حاجته بحيث تكفيه قيمة الزيادة حولا ، وأمكنه بيعها منفردة ، فالأظهر خروجه

__________________

(١) جواهر الكلام ١٥ : ٣١٩.

(٢) مدارك الأحكام ٥ : ٢٠٠.

(٣) تقدم في ص ٤٩٣.

(٤) الكافي ٣ : ٥٦١ / ٧ ، الوسائل ، الباب ٩ من أبواب المستحقين للزكاة ، الحديث ٢.

(٥) تقدم في ص ٤٩٣.

٥١٢

بذلك عن حدّ الفقر.

أمّا لو كانت حاجته تندفع بأقلّ منها قيمة ، فالأظهر أنّه لا يكلّف بيعها وشراء الأدون ، لإطلاق النصّ ، ولما في التكليف به من العسر والمشقّة ، وبه قطع العلّامة في التذكرة ، ثمّ قال : وكذا الكلام في العبد والفرس.

ولو فقدت هذه المذكورات ، استثني له أثمانها مع الحاجة إليها ، ولا يبعد إلحاق ما يحتاج إليه في التزويج بذلك مع حاجته إليه (١). انتهى.

وهو جيّد ، ولكن ما ذكره في صورة زيادة دار سكناه عن حاجته ، إنّما يتّجه في ما إذا كان الزائد عن حاجته بحكم مال مستقلّ خارج عن محلّ سكناه ، وإلّا فالغالب عدم احتياج صاحب الدار إلى مساكنها وبيوتاتها ، وتمكّنه من الاقتصار في تعيّشه على نصف هذه الدار وبيع نصفها الآخر ، ولكن العرف يرى مجموعها دار سكناه التي لا غنى به عنها ، ودلّت النصوص والفتاوى على استثنائها.

كما أنّ ما ذكره من استثناء أثمان الدار وغيرها ممّا يحتاج إليه ، إنّما يتّجه في ما إذا لم ترتفع حاجته إلّا بالشراء ، وإلّا فلو قدر على الاستئجار ، مثلا ـ ولم يكن ذلك منافيا لعزّة وشرفه ، وكان واجدا لما يفي بمئونة سنته واجرة ما يحتاج إليه من المسكن والخادم ونحوهما ، فهو غنيّ لا يحلّ له الصدقة.

وقياس ثمن الدار ـ التي لا ينحصر رفع الحاجة في شرائها ـ على دار سكناه ـ التي هي بالفعل محلّ حاجته ـ قياس مع الفارق ، كما يعرف

__________________

(١) مدارك الأحكام ٥ : ٢٠١ ، وراجع : تذكرة الفقهاء ٥ : ٢٧٥.

٥١٣

ذلك بالالتفات إلى ما ذكروه في باب الاستطاعة من الحجّ ، فلاحظ.

(ولو ادّعى الفقر فإن عرف صدقه أو كذبه ، عومل بما عرف منه) كما هو واضح.

(ولو جهل الأمران اعطي من غير يمين ، سواء كان قويّا أو ضعيفا) على المشهور ، بل في الجواهر : بلا خلاف معتدّ به أجده (١). بل في المدارك : هو المعروف من مذهب الأصحاب (٢). بل عن ظاهر المصنّف في المعتبر والعلّامة في كتبه الثلاثة : أنّه موضع وفاق (٣).

ولكن حكي عن الشيخ في المبسوط أنّه قال : لو ادّعى القوي الحاجة إلى الصدقة لأجل عياله ، ففيه قولان : أحدهما : يقبل قوله بلا بيّنة ، والثاني : لا يقبل إلّا ببيّنة ، لأنّه لا يتعذّر ، وهذا هو الأحوط (٤).

قال العلامة في محكي المختلف : الظاهر أنّ مراد الشيخ بالقائل من الجمهور (٥).

وكيف كان فقد استدلّ المصنّف ـ رحمه‌الله ـ لقبول قوله في المعتبر ـ على ما حكي عنه (٦) ـ بأنّه مسلم ادّعى أمرا ممكنا ، ولم يظهر ما ينافي دعواه ، فكان قوله مقبولا.

ومرجع هذا الدليل إلى دعوى حجّية قول المدّعي بلا معارض ، وهو

__________________

(١) جواهر الكلام ١٥ : ٣٢٠.

(٢) مدارك الأحكام ٥ : ٢٠١.

(٣) حكاه العاملي في مدارك الأحكام ٥ : ٢٠١ ، وراجع : المعتبر : ٢ : ٥٦٨ ، والقواعد ١ : ٥٧ ، وتحرير الأحكام ١ : ٦٩ ، ونهاية الأحكام ٢ : ٣٨١.

(٤) حكاه العاملي في مدارك الأحكام ٥ : ٢٠٢ ، وراجع : المبسوط ١ : ٢٤٧.

(٥) حكاه العاملي في مدارك الأحكام ٥ : ٢٠٢ ، وراجع : المختلف : ٣ : ٩٨ ، المسألة ٧٢.

(٦) الحاكي هو العاملي في مدارك الأحكام ٥ : ٢٠١ ، وراجع : المعتبر ٢ : ٥٦٨.

٥١٤

على إطلاقه ـ بحيث يتناول مثل المقام ونظائره من الأمانات التي هي بالفعل في يد من هو مكلّف بإيصاله إلى صاحبه ـ محلّ نظر ، بل منع.

ومن هنا يظهر ضعف الاستشهاد للمدّعى : بخبر منصور بن حازم عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : قلت : عشرة كانوا جلوسا وفي وسطهم كيس فيه ألف درهم ، فسأل بعضهم بعضا ، ألكم هذا الكيس؟ فقالوا كلهم : لا ، وقال واحد : هو لي ، فلمن هو؟ قال : «للذي ادّعاه» (١) إذ لا يقاس ما نحن فيه بمسألة الكيس الذي لا يد لأحد عليه بالفعل ، ولا هو مضمون على أحد.

وعن العلّامة في المنتهى : أنّه استدلّ عليه بأنّه ادّعى ما يوافق الأصل وهو عدم المال ، وبأنّ الأصل عدالة المسلم ، فكان قوله مقبولا (٢).

وفيه : أنّ كون ما يدّعيه موافقا للأصل ، مع أنّه غير مطّرد ، إنّما يجدي في مقام الترافع ، لا في حجّية قوله بحيث يصحّ الاعتماد عليه في الخروج عن عهدة حقّ الفقير الذي هو ملتزم بإيصاله إليه.

وأمّا ما قيل : من أنّ الأصل عدالة المسلم ، ففيه ما لا يخفى بعد ما تقرّر في محلّه من أنّ العدالة صفة وجوديّة تحتاج إلى سبب ، ولا يكفي في تحقّقها مجرّد ظهور الإسلام مع عدم تبيّن الفسق.

نعم ، لو ادّعي أنّ الأصل قبول قول المسلم ، وأريد منه القاعدة المستفادة من بعض الروايات الآمرة بحمل فعل المسلم على أحسنه ، وعدم

__________________

(١) الكافي ٧ : ٤٢٢ / ٥ ، التهذيب ٦ : ٢٩٢ / ٨١٠ ، الوسائل ، الباب ١٧ من أبواب كيفية الحكم ، الحديث ١.

(٢) حكاه العاملي في مدارك الأحكام ٥ : ٢٠١ ـ ٢٠٢ ، وراجع : منتهى المطلب ١ : ٥٢٦.

٥١٥

اتّهامه بسوء ، وتصديقه في ما يقول (١) ، فله وجه ، وإن كان الأوجه قصور مثل هذه الأخبار عن إفادة المدّعى ، كما تقرّر في الأصول.

وعمدة ما يصحّ الاعتماد عليه في إثبات المدعى هي أنّ إخبار الشخص بفقره أو غناه كإخباره بسائر حالاته من الصحّة والمرض ، معتبر عرفا وشرعا ، وإلّا فلا طريق لتعرّف حاجة المحتاجين في الغالب سوى إخبارهم ، فلو لم يقبل دعوى الفقر من أهله ، لتعذّر عليه غالبا إقامة البيّنة عليه ، أو إثباته بطريق آخر غيرها ، إذ الاطّلاع على فقر الغير وعدم كونه مالكا لما يفي بمئونته من غير استكشافه من ظاهر حال مدّعيه أو مقاله في الغالب من قبيل علم الغيب الذي لا يعلمه إلّا الله.

فلو بني على الاقتصار في صرف الزكاة وسائر الحقوق التي جعلها الله للفقراء على من ثبت فقره بطريق علمي أو ما قام مقامه من بينة وشبهها ، لبقي جلّ الفقراء والمساكين الذين شرّع لهم الزكاة محرومين عن حقوقهم ، وهو مناف لما هو المقصود من شرعها ، بل لا ينسبق عرفا من الأمر بصرف المال إلى الفقراء في باب الأوقاف والنذور ونظائرها إلّا إرادة صرفه في من يظهر من حاله أو مقاله دعوى الفقر ، كأرباب السؤال ونظائرهم ، لا على أن يكون لدعوى الفقر من حيث هي اعتبار في أصل الاستحقاق ، بحيث لو كانت مخالفة للواقع ، لكان المال حلالا له ، بل من حيث الطريقيّة ، ولذا استقرّت السيرة خلفا عن سلف على صرف الصدقات في من يدّعي الاستحقاق من غير مطالبته بالبيّنة.

وكفاك شاهدا على ذلك : الآثار الحاكية للقضايا الصادرة عن الأئمّة ـ عليهم‌السلام ـ في صدقاتهم ، مثل خبر عبد الرحمن العزرمي ، المروي عن

__________________

(١) راجع : الكافي ٢ : ٣٦٢ / ٣ ، ثواب الأعمال وعقاب الأعمال : ٢٤٧.

٥١٦

الكافي عن أبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ ، قال : جاء رجل إلى الحسن والحسين ـ عليهما‌السلام ـ ، وهما جالسان على الصفا ، فسألهما ، فقالا : «إنّ الصدقة لا تحلّ إلّا في دين موجع أو غرم مفظع أو فقر مدقع (١) ، ففيك شي‌ء من هذا؟» قال : نعم ، فأعطياه ، وقد كان الرجل سأل عبد الله بن عمر وعبد الرحمن بن أبي بكر ، فأعطياه ولم يسألا عن شي‌ء ، فرجع إليهما ، فقال لهما : ما بالكما لم تسألاني عن حالي كما سألني الحسن والحسين ـ عليهما‌السلام ـ؟ وأخبرهما بما قالا ، فقالا : إنّهما غذّيا بالعلم غذاء (٢).

والمستفيضة الواردة في من أهدى جاريته للبيت حيث ورد فيها : أنّها تباع ويؤخذ ثمنها وينادى على الحجر : ألا هل من منقطع ومن نفدت نفقته أو قطع عليه فليأت فلانا ، وأمره أن يعطي أوّلا فأوّلا حتّى ينفد ثمن الجارية (٣).

وما في بعضها من الأمر بالسؤال عنهم بعد أن أتوه (٤) ، لعلّه لتحقيق أنّهم من الزوّار دون المجاورين والخدمة الذين دلّت الرواية على عدم استحقاقهم منها شيئا ، إلى غير ذلك من الروايات التي يقف عليها المتتبع ، فهذا ممّا لا ينبغي الارتياب فيه.

فما في المدارك ، من الاستشكال فيه ، فقال ما لفظه : والمسألة محل إشكال من اتّفاق الأصحاب ظاهرا على جواز الدفع إلى مدّعي الفقر إذا

__________________

(١) أي : شديد يفضي بصاحبه إلى الدقعاء (التراب) النهاية لابن الأثير ٢ : ١٢٧.

(٢) الكافي ٤ : ٤٧ / ٧ ، الوسائل ، الباب ١ من أبواب المستحقين للزكاة ، الحديث ٦ وفيه الى قوله : قال : نعم ، فأعطياه.

(٣) الكافي ٤ : ٢٤٢ / ٢ ، التهذيب ٥ : ٤٤٠ / ١٥٢٩ و ٤٨٣ / ١٧١٩ و ٩ : ٢١٤ / ٨٤٣ ، الوسائل ، الباب ٦٠ من كتاب الوصايا ، الحديث ١.

(٤) الكافي ٤ : ٢٤١ / ١ ، التهذيب ٩ : ٢١٢ / ٨٤١.

٥١٧

لم يعلم له أصل مال من غير تكليف له ببيّنة ولا يمين ، وورود بعض الأخبار بذلك وإن ضعف سندها ، وكون الدعوى موافقة للأصل (١) ، واستلزام التكليف بإقامة البيّنة على الفقر (٢) الحرج والعسر في أكثر الموارد ، مع خلوّ الأخبار من ذلك ، بل ورود الأمر بإعطاء السائل ولو كان على ظهر فرس (٣).

ومن أنّ الشرط اتصاف المدفوع إليه بأحد الأوصاف الثمانية ، فلا بد من تحقّق الشرط ، كما في نظائره ، والاحتياط يقتضي عدم الاكتفاء بمجرّد الدعوى إلّا مع عدالة المدّعي أو الظنّ بصدقه (٤). انتهى ، لعلّه في غير محلّه ، وإلّا فعدالة المدّعي أو الظنّ بصدقه لا يجدي في تصديقه ، إذ لا شاهد عليه ، كما في غيره من الموارد.

(وكذا لو كان له أصل مال) وادّعى تلفه (٥) ، اعطي من غير يمين ـ كما هو المعروف أيضا بين الأصحاب على ما اعترف به في الجواهر (٦) ـ لما عرفته في غيره.

(وقيل : بل يحلف على تلفه) لأصالة بقائه ، وهذا القول منقول عن الشيخ (٧).

وهو ضعيف ، إذ لم يثبت اعتبار اليمين في غير الموارد التي يتوقّف عليها

__________________

(١) في النسخة والمطبوع : وكون موافقة الدعوى للأصل. وما أثبتناه من المدارك.

(٢) في النسخة والمطبوع : الفقير. وما أثبتناه من المدارك.

(٣) الكافي ٤ : ١٥ / ٢ ، التهذيب ٤ : ١١٠ / ٣٢١ ، الوسائل ، الباب ٢٢ من أبواب الصدقات ، الحديث ١.

(٤) مدارك الأحكام ٥ : ٢٠٢.

(٥) جملة : «وادّعى تلفه» وردت في بعض نسخ الشرائع.

(٦) جواهر الكلام ١٥ : ٣٢٤.

(٧) كما في مدارك الأحكام ٥ : ٢٠٣ ، وجواهر الكلام ١٥ : ٣٢٤.

٥١٨

قطع الخصومات.

وعن المصنّف في المعتبر أنّه حكى عن الشيخ أنّه لم يكتف باليمين ، بل قال : إنّه يكلّف بالبيّنة (١).

وفيه ما عرفت من استلزامه حرمان جلّ المستحقّين ، وغير ذلك ممّا عرفت.

(ولا يجب إعلام الفقير أنّ المدفوع إليه زكاة) لحصول إطاعة الأمر بالزكاة بإيصالها إلى مستحقّها سواء عرف المستحقّ وجهه أم لا.

(فلو كان ممّن يترفّع عنها) ويستحيي من قبولها باسم الزكاة (وهو مستحقّ ، جاز صرفها إليه على وجه الصلة) ظاهرا والزكاة واقعا بلا خلاف فيه على الظاهر ، بل عن ظاهر التذكرة الإجماع عليه (٢).

ويشهد له ـ مضافا إلى الأصل ـ خبر أبي بصير ، المروي عن الكافي ، قال : قلت لأبي جعفر ـ عليه‌السلام ـ : الرجل من أصحابنا يستحيي أن يأخذ من الزكاة ، فأعطيه من الزكاة ولا اسمّي له أنّها من الزكاة ، فقال : «أعطه ولا تسمّ ولا تذلّ المؤمن» (٣).

ولكن قد ينافيه : وما ـ في الصحيح أو الحسن ـ عن محمّد بن مسلم ، قال : قلت لأبي جعفر ـ عليه‌السلام ـ : الرجل يكون محتاجا فنبعث إليه بالصدقة فلا يقبلها على وجه الصدقة ، يأخذه من ذلك ذمام (٤) واستحياء

__________________

(١) حكاه العاملي في مدارك الأحكام ٥ : ٢٠٣ ، وراجع : المعتبر ٢ : ٥٦٨ ، والمبسوط ١ : ٢٤٧.

(٢) كما في جواهر الكلام ١٥ : ٣٢٤ ـ ٣٢٥ ، وحكاه عنه العاملي في مدارك الأحكام ٥ : ٢٠٤ ، وراجع : تذكرة الفقهاء ٥ : ٢٨٧ ، المسألة ٢٠٣.

(٣) الكافي ٣ : ٥٦٣ ـ ٥٦٤ / ٣ ، الفقيه ٢ : ٨ / ٢٥ ، التهذيب ٤ : ١٠٣ / ٢٩٤ ، الوسائل ، الباب ٥٨ من أبواب المستحقّين للزكاة ، الحديث ١.

(٤) الذمام : حفظ الحرمة. لسان العرب ١٢ : ٢٢١.

٥١٩

وانقباض ، أفنعطيها إيّاه على غير ذلك الوجه وهي منّا صدقة؟ فقال : «لا ، إذا كانت زكاة فله أن يقبلها ، فإن لم يقبلها على وجه الزكاة فلا تعطها إيّاه ، وما ينبغي له أن يستحيي ممّا فرض الله عزوجل ، إنّما هي فريضة الله فلا يستحيي منها» (١).

وقد حمل صاحب المدارك (٢) وغيره (٣) هذه الرواية على الكراهة.

واعترف في الجواهر بعدم وجدان عامل به بظاهره (٤).

أقول : هذه الرواية بظاهرها واردة في من يترفّع ويستنكف عن قبول الصدقة ، ويردّها إذا علم بكونها صدقة ، وحيث إنّ له الخيار في قبول الصدقة وعدمه وهو يردّها ولا يرضى بقبولها ، أشكل الالتزام بصحّة الصدقة وحصول الإجزاء بإيصالها إليه بوجه آخر على سبيل التلبيس ، مع عدم طيب نفسه بقبولها على ما هي عليه ، فيمكن إبقاء النهي حينئذ على حقيقته ، والجمع بينها وبين رواية أبي بصير : بصرف تلك الرواية إلى غير هذه الصورة لو لم نقل بانصرافها في حدّ ذاتها عنها ، كما أنّ كلمات الأصحاب المصرحين باستحباب إيصالها بصورة الصلة إلى المستحيي من أخذها بصورة الزكاة أيضا كذلك.

نعم ، إن قلنا بعدم كون الكراهة التقديريّة الحاصلة في مثل المقام مانعة عن صيرورتها بالفعل ملكا له بقبضها والاستيلاء عليها على جهة الملكيّة جهلا بحقيقتها ، اتجه حمل النهي على الكراهة ، والإرشاد إلى أولويّة إعطائها لمن تطيب نفسه بقبولها ، ويشكر الله على ما فرضه له في

__________________

(١) الكافي ٣ : ٥٦٤ / ٤ ، الوسائل ، الباب ٥٨ من أبواب المستحقّين للزكاة ، الحديث ٢.

(٢) مدارك الأحكام ٥ : ٢٠٤.

(٣) كالسبزواري في ذخيرة المعاد : ٤٦٣ ، والشيخ الأنصاري في كتاب الزكاة : ٤٩٩.

(٤) جواهر الكلام ١٥ : ٣٢٥.

٥٢٠