الكشف والبيان - ج ١٠

أبو إسحاق أحمد [ الثّعلبي ]

الكشف والبيان - ج ١٠

المؤلف:

أبو إسحاق أحمد [ الثّعلبي ]


المحقق: أبي محمّد بن عاشور
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٤٤

وأنّ الفقر والغنى من تقديري وقضائي. فلا أكرم من أكرمته بالغنى وكثرة الدنيا ، ولا أهين من أهنته بالفقر وقلّة الدنيا ، ولكني إنّما أكرم من أكرمته بطاعتي ، وأهين من أهنته بمعصيتي ، وقال الفراء : معنى كلا لم ينبغ (١) له أن يكون هذا ولكن ينبغي أن يحمده على الأمرين على الغنى والفقر.

ثم قال : (بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ) يعني أهنت من أهنت من أجل أنّه لا يكرم اليتيم.

واختلف القرّاء في هذه الآية فقرأ أهل البصرة يكرمون وما بعده كلّه بالياء ، وقرأها الآخرون بالتاء (وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ) قرأ أبو جعفر وأهل الكوفة (تَحَاضُّونَ) بالألف وفتح التاء ، وروى الشذري عن الكسائي (تُحَاضُّونَ) بضم التاء ، غيرهم (تحضّون) بغير الألف. (وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ) الميراث (أَكْلاً لَمًّا) شديدا ، قال الحسن : يأكل نصيبه ونصيب غيره. بكر بن عبد الله : اللّمّ الاعتداء في الميراث يأكل ميراثه وميراث غيره. ابن زيد : الأكل اللمّ الذي يأكل كلّ شيء يجده ولا يسأل عنه أحلال أم حرام ، ويأكل الذي له والذي لغيره ، وذلك أنّهم كانوا لا يورثون النساء ولا الصبيان ، وقرأ (يَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَ) الآية قال أبو عبيدة يقال : لممت ما على الخوان إذا أتيت على ما عليه وأكلته كلّه أجمع.

(وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا) كثيرا يقال جمّ الماء في الحوض إذا كثر واجتمع. (كَلَّا) ما هكذا ينبغي أن يكون الأمر ثمّ أخبر ممن تلهّفهم على ما سلف منهم حين لا ينفعهم فقال عزّ من قائل : (إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا) مرّة بعد مرّة فيكسر كلّ شيء على ظهرها.

(وَجاءَ رَبُّكَ) قال الحسن : أمره وقضاؤه ، وقال أهل الإشارة : ظهر قدرة ربّك وقد استوت الأمور وأنّ الحقّ لا يوصف يتحوّل من مكان إلى مكان وأنّى له التجوّل والتنقّل ولا مكان له ولا أوان ولا تجري عليه وقت وزمان ؛ لأنّ في حرمان الوقت على الشيء فوت الأوقات ، ومن فاته شيء فهو عاجز ، والحقّ ينزّه أن تحوي صفاته الطبائع أو تحيط به الصدور.

(وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا * وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ) أخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن ماجة قال : حدّثنا يعقوب بن يوسف القروي قال : حدّثنا القاسم بن الحكم قال : حدّثنا عبيد الله بن الوليد قال : حدّثنا عطية عن أبي سعيد قال : لمّا نزلت هذه الآية (وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ) تغيّر لون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعرق في وجهه حتى اشتدّ على أصحابه ما رأوا من حاله فانطلق بعضهم إلى عليّ رضي‌الله‌عنه فقالوا : يا علي لقد حدث أمر قد رأيناه في نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فجاء عليّ فاحتضنه من خلفه ثمّ قبّل بين عاتقيه ثمّ قال : يا نبي الله بأبي أنت وأمّي ما الذي حدث اليوم وما الذي غيّرك؟ قال : «جاء جبريل عليه‌السلام فأقرأني هذه الآية : (كَلَّا إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا * وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا * وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ) قلت : فكيف يجاء بها؟

__________________

(١) في المخطوط : ينبغي.

٢٠١

قال : «يجيء بها سبعون ألف ملك يقودونها بسبعين ألف زمام فتشرد شردة لو تركت لأحرقت أهل الجمع ، ثمّ تعرض لي جهنّم فتقول : ما لي وما لك يا محمّد فقد حرّم الله لحمك ودمك عليّ ، فلا يبقى أحد إلّا قال : نفسي نفسي وأنّ محمّدا يقول : أمّتي أمّتي ، فيقول الله سبحانه إلى الملائكة : ألا ترون الناس يقولون : ربّ نفسي نفسي وأنّ محمّد يقول : أمّتي أمّتي؟» [١٤٥] (١).

وقال عبد الله بن مسعود ومقاتل في هذه الآية : تقاد جهنّم بسبعين ألف زمان كلّ زمام بيد سبعين ألف ملك ، لها تغيّظ وزفير حتّى تنصب على يسار العرش.

(يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى * يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ) في حياتي (لِحَياتِي) في الآخرة (فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ * وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ) قرأ العامّة بكسر الذال والثاء على معنى لا يعذّب أحد في الدنيا كعذاب الله يومئذ.

قال الفراء وقيل : إنّه رجل مسمّى بعينه وهو أميّة بن خلف الجمحي : يعني لا يعذّب كعذاب هذا الكافر أحد ولا يوثق كوثاقه أحد ، واختار أبو عبيد وأبو حاتم هذه القراءة لما أخبرنا محمد بن نعيم قال : أخبرنا الحسين بن أيّوب قال : أخبرنا علي بن عبد العزيز قال : أخبرنا القاسم بن سلام قال : حدّثنا هيثم وعناد بن عباد عن خالد الحذّاء عن أبي قلابة عمّن أقرأه النبيّ ـ صلّى الله عليه ـ (فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذَّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ * وَلا يُوثَقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ) يعني بنصب الذال والثاء.

ويروى أنّ أبا عمرو رجع في آخر عمره إلى قراءة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

معنى الآية لا يبلغ أحد من الخلق كبلاغ الله في العذاب والوثاق ، وهو الإشارة في السلاسل والأغلال.

أخبرنا ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن مالك قال : حدّثنا ابن حنبل قال : حدّثني أبي قال : حدّثنا محمد بن جعفر قال : حدّثنا شعبة عن خالد الحذّاء عن أبي قلابة عمّن سمع النبيّ ـ صلّى الله عليه ـ يقرأ (فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ * وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ) يعني يفعل به.

(يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ) إلى ما وعد الله المصدّقة بما قال.

مجاهد : المنيبة المخبتة التي قد أيقنت أنّ الله سبحانه ربّنا ، وضربت لأمره جأشا.

المسيّيب : سمعت الكلبي وأبا روق يقولان : هي التي يبيّض الله وجهها ويعطيها كتابها بيمينها فعند ذلك تطمئن. الحسن : المؤمنة الموقنة. عطية : الراضية بقضاء الله. حيّان عن

__________________

(١) تفسير القرطبي : ٢٠ / ٥٦.

٢٠٢

الكلبي : الآمنة من عذاب الله تعالى (١).

أخبرني عقيل أنّ أبا الفرج أخبرهم عن ابن جرير قال : حدّثنا خلّاد بن أسلم قال : أخبرنا النضر عن هارون القارئ قال : حدّثني هلال عن أبي شيخ الهنائي قال : في قراءة أبي يا أيّتها النفس الآمنة المطمئنة.

وأخبرني أبو محمّد الحسين بن أحمد الشعبي قال : حدّثني أبي قال : حدّثنا محمد بن إسحاق السراج قال : حدّثنا سوار بن عبد الله قال : حدّثنا المعمر بن سليمان عن إبراهيم بن إسماعيل عن ابن أبي نجاح عن مجاهد (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ) قال : الراضية بقضاء الله التي قد علمت أنّ ما أصابها لم يكن ليخطئها وأنّ ما أخطأها لم يكن ليصيبها ، وقال ابن كيسان : المخلصة. ابن عطاء : هي العارفة بالله سبحانه التي لا تصبر عنه طرفة عين ، وقيل : المطمئنة بذكر الله. بيانه : (وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ) ، وقيل : هي المتوكّلة على الله تعالى الواثقة بما ضمن لها من الرزق (٢).

(ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ) اختلف العلماء في تأويل هذه الآية ، ووقت هذه المقالة فقال قوم : يقال ذلك لها عند الموت : (ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ) وهو الله عزوجل.

أخبرني الحسين قال : حدّثنا عبيد الله بن عبد الله بن أبي سمرة البغوي قال : حدّثنا محمّد ابن سهل العسكري قال : حدّثنا العطاردي قال : حدّثنا أبي قال : حدّثنا قيس بن الربيع عن إسماعيل عن أبي صالح في قوله سبحانه : (ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً) قال : هذا عند خروجها من الدنيا ، فإذا كان يوم القيامة قيل : (فَادْخُلِي فِي عِبادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي).

وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن شنبه قال : حدّثنا الفراتي قال : حدّثنا أحمد بن خالد قال : حدّثنا روح بن عبادة قال : حدّثنا زهير بن محمد قال : حدّثنا زيد ابن أسلم عن عبد الرحمن بن السليماني عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : إذا توفّي العبد المؤمن أرسل الله سبحانه ملكين وأرسل إليه تحفة من الجنّة فيقال لها : اخرجي (أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ) ، اخرجي إلى روح وريحان وربّ عنك راض ، فتخرج كأطيب ريح مسك وجده أحد في نفسه قط ، والملائكة على أرجاء السماء.

فيقولون : قد جاء من الأرض روح طيّبة ونسمة طيّبة ، فلا يمرّ بباب إلّا فتح له ولا ملك إلّا صلّى عليه ، حتّى يؤتي به الرحمن ، ثمّ تسجد الملائكة ثمّ يقولون : ربّنا هذا عبدك فلأن توفيته كان يعبدك لا يشرك بك شيئا فيقول : مروه فليسجد ، وتسجد النسمة ، ثمّ يدعى ميكائيل فيقول : اذهب بهذه فاجعلها مع أنفس المؤمنين حتّى أسألك عنها يوم القيامة ، ثمّ يؤمر فيوسع عليه قبره

__________________

(١) تفسير الطبري : ٣٠ / ٢٣٨.

(٢) راجع تفسير القرطبي : ٢٠ / ٥٧.

٢٠٣

سبعون ذراعا عرضه وسبعون ذراعا طوله وينبت له فيه الريحان. إن كان معه شيء من القرآن كفاه نوره ، وإن لم يكن معه جعل له مثل الشمس في قبره ، ويكون مثله كمثل العروس ، ينام فلا يوقظه إلّا أحبّ أهله إليه ، فيقوم من نومته كأنّه لم يشبع منها ، وإذا توفّي الكافر أرسل الله سبحانه وتعالى ملكين وأرسل قطعة من سجّاد أنتن وأخشن من كلّ خشن ، فيقال : أيّها النفس الخبيثة اخرجي إلى حميم وعذاب أليم وربّ عليك غضبان.

وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن حمدان قال : حدّثنا المسوحي قال : حدّثنا عمرو بن العلاء الحنفي قال : حدّثنا ابن يمان عن أشعث عن جعفر عن سعيد قال : قرأ رجل عند النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ) قال أبو بكر : ما أحسن هذا! فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أمّا أنّ الملك سيقولها لك [عند الموت]» [١٤٦] (١).

حدّثنا أحمد بن محمد بن يعقوب القصري بها قال : أخبرنا إسماعيل بن محمد بن إسماعيل ببغداد قال : حدّثنا الحسن بن عرفة قال : أخبرني مروان بن شجاع الجزري ، وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن شنبه قال : حدّثنا محمد بن علي بن سالم قال : حدّثنا أحمد بن منبع قال : حدّثنا مروان عن سالم الأفطس عن سعيد بن جبير قال : مات ابن عبّاس بالطائف فجاء طائر لم ير على خلقه ، فدخل نعشه ثمّ لم ير خارجا منه فلمّا دفن تليت هذه الآية على شفير القبر لا يرى من تلاها : (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي) وقال آخرون : انّما يقال ذلك لها عند البعث : (ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ) ، أي صاحبك وجسدك فيأمر الله سبحانه الأرواح أن ترجع إلى الأجساد ، وإلى هذا القول ذهب عكرمة وعطاء والضحّاك وهي رواية العوفي عن ابن عبّاس.

ودليل هذا التأويل ما أخبرنا محمد بن نعيم قال : أخبرنا الحسين بن أيّوب قال : أخبرنا علي بن عبد العزيز قال : حدّثنا القاسم بن سلام قال : حدّثنا حجّاج عن هارون عن أبان بن أبي عيّاش عن سليمان بن قته عن ابن عبّاس أنّه قراها فادخلي في عبدي على التوحيد.

وقال الحسن : معناه (ارْجِعِي إِلى) ثواب (رَبِّكِ) وكرامته. ابن كيسان : (ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ) أي أمثالك من عباد ربّك الصالحين.

وقال بعض أهل الإشارة (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ) إلى الدنيا (ارْجِعِي) إلى الله بتركها والرجوع إلى الله هو سلوك سبيل الآخرة. (راضِيَةً) عن الله بما أعدّ لها (مَرْضِيَّةً) رضي عنها ربّها. (فَادْخُلِي فِي عِبادِي) قال بعضهم : يعني مع عبادي جنّتي في معنى الآية تقديم وتأخير ، وإليه ذهب مقاتل والقرظي وأبو عبيدة. (وَادْخُلِي) (بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ) يعني مع أنبيائنا في الجنّة ، وقال الأخفش : أي في حزبي ، وقال أمر الأرواح بعودها إلى أجسادها والله

__________________

(١) كنز العمال : ١٢ / ٤٨٥ ح ٣٥٥٩١ وما بين معكوفين منه.

٢٠٤

أعلم.

وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا موسى بن محمد قال : حدّثنا ابن علوية قال : حدّثنا إسماعيل قال : حدّثنا المسيّب قال : حدّثنا إبراهيم عن صالح بن حيان عن ابن بريدة في هذه الآية (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ) قال : نفس حمزة بن عبد المطّلب نزلت فيه يوم استشهد يوم أحد ، بل نزلت نفسه عند ربّ العالمين ، مكرمة مشرفة على من عنده حتّى يردها الله سبحانه إلى حمزة في دعة ، وسكون وكرامة.

وقد نزلت في حبيب بن عدي الذي صلبه أهل مكّة وجعلوا وجهه إلى المدينة ، فقال : اللهمّ إن كان لي عندك خير فحوّل وجهي نحو قبلتك. فحوّل الله سبحانه وجهه نحو القبلة من غير أن يحوّله أحد ، فلم يستطيع أحد أن يحوّله وحكمها عام لجميع المؤمنين المطمئنين.

٢٠٥

سورة البلد

مكية ، وهي ثلاثمائة وعشرون حرفا ،

واثنتان وثمانون كلمة ، وعشرون آية.

أخبرنا نافل بن ارضم بن عبد الجبّار قال : أخبرنا عبد الله بن أحمد بن محمد الصفّار قال : حدّثنا عمرو بن محمد قال : حدّثنا سباط بن اليسع قال : حدّثنا يحيى بن عبد الله السلمي قال : حدّثنا أبو عصمة نوح بن أبي مريم عن عليّ بن زيد عن زرّ عن أبي بن كعب قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قرأ (لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ) أعطاه الله الأمن من غضبه يوم القيامة» [١٤٧] (١).

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ (١) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ (٢) وَوالِدٍ وَما وَلَدَ (٣) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ (٤) أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (٥) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً (٦) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (٧) أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (٨) وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ (٩) وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ (١٠))

(لا أُقْسِمُ) يعني أقسم (بِهذَا الْبَلَدِ) يعني مكّة (وَأَنْتَ) يا محمّد (حِلٌ) حلال (بِهذَا الْبَلَدِ) تصنع ما تريد من القتل والأسر ، وذلك أنّ الله سبحانه أحلّ لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم مكّة يوم الفتح حتّى قاتل وقتل ، وأحلّ ما شاء وحرم ما شاء ، وقتل ابن خطل وهو متعلّق بأستار الكعبة ، ومقيّس بن صبابة وغيرهما ثمّ قال : «من دخل دار أبي سفيان فهو آمن» (٢) فأحلّ دم ابن خطل وأصحابه وحرّم دار أبي سفيان ، ثمّ قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ الله حرّم مكّة (يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) ، فهي حرام إلى أن تقوم الساعة ، لم تحلّ لأحد قبلي ولا يحلّ لأحد بعدي ولم يحلّ لي إلّا ساعة من نهار ، فلا يعضد شجرها ولا نختلي خلالها ولا نفر صيدها ولا يحلّ لقطتها إلّا المنشد».

فقال العبّاس : يا رسول الله إلّا الإذخر فإنّه لقيوننا وقتورنا وبيوتنا ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إلّا الإذخر» [١٤٨] (٣).

__________________

(١) تفسير مجمع البيان : ١٠ / ٣٥٧.

(٢) مسند أحمد : ٢ / ٥٣٨.

(٣) مسند أحمد : ١ / ٢٥٣ بتفاوت.

٢٠٦

وقال شرحبيل بن سعد : معنى قوله : (وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ) قال : يحرّمون أن تقتلوا بها صيدا أو يعضدوا بها شجرة ، ويستحلّون إخراجك وقتلك. (وَوالِدٍ وَما وَلَدَ) قال عكرمة وسعيد ابن جبير : (الوالد) الذي يولد له (وَما وَلَدَ) العاقر الذي لا يولد له ، وروياه عن ابن عبّاس وعلي ، هذا القول تكون ما بقيا ، وهو يعبد (١) ولا تصحّ إلّا بإضمار. عطية عنه : الوالد وولده.

مجاهد وقتادة والضحّاك وأبو صالح : (وَوالِدٍ) آدم (وَما وَلَدَ) ولده.

وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا برهان بن علي قال : حدّثنا عبد الله بن الوليد العكبري قال : حدّثنا محمد بن موسى الحرشي قال : حدّثنا جعفر بن سلميان قال : سمعت أبا عمران الخولي قرأ (وَوالِدٍ وَما وَلَدَ) قال إبراهيم وما ولد. (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ) أي نصّب.

عن الوالبي عن ابن عبّاس الحسن : يكابد مصايب الدنيا وشدائد الآخرة. قتادة : في مشقّة فلا يلقاه إلّا يكابد أمر الدنيا والآخرة. سعيد بن جبير : في شدّة ، وعن الحسن أيضا : يكابد الشكر على السراء ، والصبر على الضرّاء فلا يخلو منهما. عطية عن ابن عبّاس : في شدّة خلق حمله وولادته ورضاعه وفصاله ومعاشه وحياته وموته. عمرو بن دينار عنه : نبات أسنانه. يمان : لم يخلق الله خلقا يكابد ما يكابد ابن آدم وهو مع ذلك أضعف الخلق ، وعن سعيد بن جبير أيضا في ضيق معيشته. ابن كيسان : المكابدة مقاساة الأمر وركوب معظمه ، وأصله الشدّة وهو من الكبد. قال لبيد :

عين هلا بكيت اربد

إذ قمنا وقام الخصوم في كبد (٢)

وقال مجاهد وإبراهيم وعكرمة وعبد الله بن شدّاد وعطية والضحّاك : يعني منتصبا قائما معتدل القامة ، وهي رواية مقسم عن ابن عبّاس قال : خلق كلّ شيء يمشي على الأرض على أربعة إلّا الإنسان ، فإنّه خلق منتصبا قائما على رجلين. مقاتل : في قوّة نزلت في ابن الاسدين واسمه أسيد بن كلده بن أسيد بن خلف ، وكان شديدا قويّا يضع الأدم العكاظي تحت قدميه ، فيقول : من أزالني عنه فله كذا وكذا ، فلا يطاق أن تنزع من تحت قدميه إلّا قطعا ويبقى موضع قدمه ، ويقال : هو شدّة الأمر والنهي والثواب والعقاب ، وقال ابن زيد : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ) يعني آدم في كبد أي وسط السماء وذلك حين رفع إلى الجنّة. أبو بكر الوراق : يعني لا يدرك هواه ولا يبلغ مناه. خصيف في معناه ومقاساة وانتقال أحوال نطفة ثمّ علقة إلى آخر تمام الخلق. ابن كيسان : منتصبا رأسه فإذا أذن الله سبحانه في إخراجه انقلب رأسه إلى رجلي أمّه ، وقيل : جريء القلب غليظ الكبد مع ضعف خلقته ومهانة مادّته. جعفر : أي في بلاء ومحنة. ابن عطاء : في ظلمة وجهل.

__________________

(١) كذا في المخطوط.

(٢) لسان العرب : ٣ / ٣٧٦.

٢٠٧

محمد بن علي الترمذي : مضيّعا لما يعنيه مشتغلا بما لا يعنيه.

(أَيَحْسَبُ) يعني بالأشدين من قوّته. (أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ) يعني الله سبحانه وتعالى ، وقيل : هو الوليد بن المغيرة. أخبرني أبو الضحى عن ابن عبّاس. (يَقُولُ أَهْلَكْتُ) أنفقت (مالاً لُبَداً) بعضه على بعض ، وهو من التلبّد في عداوة محمّد.

وقال مقاتل : نزلت في الحرث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف ، وذلك أنّه أذنب ذنبا فاستفتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأمره أن يكفّر وقال : لقد ذهب مالي في الكفّارات والنفقات منذ دخلت في دين محمّد.

واختلف القرّاء في قوله (لُبَداً) فقرأ أبو جعفر بتشديد الباء على جمع لابد وراكع ، وقرأ مجاهد بضمّ اللام والباء مخفّفا كقولك : أمر بكر ورجل جنب ، وقرأ الباقون بضمّ اللام وفتح الباء مخفّفين ، ولها وجهان : أحدهما جمع لبدة ، والثاني على الواحد ، مثل قثم وحطم وليس بمعدول.

(أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ) يعني الله سبحانه وقيل : محمّد عليه‌السلام فيعلم مقدار نفقته ، وكان كاذبا لم ينفق جميع ما قال ، وقال سعيد بن جبير وقتادة : أيظنّ (أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ) فيسأله عن هذا المال من أين اكتسبه وأين أنفقه؟

أخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا عمر بن أحمد بن القاسم النهاوندي قال : حدّثني الهيثم بن خلف الدوري قال : حدّثني محمد بن يزيد بن سليمان مولى بني هاشم قال : حدّثنا حسين بن الحسين يعني الأشقر قال : حدّثنا هشام بن شبر عن أبي هاشم عن مخالد عن ابن عبّاس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تزول قدما العبد يوم القيامة حتّى يسئل عن أربع : عن عمره فيما أفناه ، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه ، وعن علمه ماذا عمل فيه وعن حبّنا أهل البيت» [١٤٩] (١).

قال ابن خرجة : ما سمعت هذا الحديث إلّا من الهيثم.

وأخبرنا الحسين قال : أخبرنا أبو الحسن علي بن هارون بن محمد قال : حدّثنا موسى بن هارون بن عبد الله قال : حدّثنا أبو الربيع الزهراني قال : حدّثنا نعيم بن ميسرة ، قال : أخبرني عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز قال : أخبرني رجل من بني عامر عن أبيه قال : صلّيت خلف النبيّ صلّى الله عليه فسمعته يقول : أَيَحْسِبُ (أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ) أَيَحْسِبُ (أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ) يعني بكسر السين.

(أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ) قال قتادة : نعم والله متظاهرة لقهرك بها كتما لشكر.

__________________

(١) كنز العمال : ١٤ / ٣٧٩ ح ٣٩٠١٢ ، ح ٣٩٠١٣.

٢٠٨

وأخبرنا عبد الله بن حامد قال : أخبرنا أبو القاسم عبد الله بن عامر السمرقندي قال : حدّثنا عمر بن يحيى قال : حدّثنا جيغويه قال : حدّثنا صالح بن محمد قال : حدّثنا عبد الحميد المدني عن أبي حازم قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ابن آدم إن نازعك لسانك فيما حرّمت عليك فقد أعنتك عليه بطبقين فأطبق ، وإن نازعك بصرك إلى بعض ما حرّمت عليك فقد أعنتك عليه بطبقين فأطبق ، وإن نازعك فرجك إلى ما حرّمت عليك فقد أعنتك عليه بطبقين فأطبق» [١٥٠] (١).

(وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) قال أكثر المفسّرين : يعني بيّنا له طريق الخير والشرّ والحقّ والباطل والهدى والضلالة كقوله : (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) (٢).

ودليل هذا التأويل ما أخبرني عبد الله بن حامد ـ إجازة ـ قال : أخبرني أحمد بن يحيى قال : حدّثنا محمّد بن يحيى قال : حدّثنا عبد الرحمن بن مهدي عن قرّة بن خالد عن الحسن قال : قال رسول الله صلّى الله عليه : «إنّما هما نجدان نجد الخير ونجد الشرّ ، فما يجعل نجد الشرّ أحبّ إليكم من نجد الخير» [١٥١] (٣).

وأخبرنا محمّد بن عبد الله بن حمدون قال : أخبرنا مكّي قال : حدّثنا عبد الرحمن بن بشر قال : حدّثنا عبد الرزاق قال : حدّثنا أبي عن عمرو بن أبي بكر القرشي عن محمّد بن كعب عن ابن عبّاس في قوله سبحانه : (وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) قال : الثديين ، وإليه ذهب سعيد بن المسيب والضحّاك ، والنجد الطريق في ارتفاع. قال الشاعر :

غداة غدوا فسألك بطن نخلة

وآخر منهم جازع نجد كبكب (٤)

(فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (١١) وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ (١٢) فَكُّ رَقَبَةٍ (١٣) أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (١٤) يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ (١٥) أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ (١٦) ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (١٧) أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (١٨) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ (١٩) عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ (٢٠))

(فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ) يعني فلم يجاوز بهذا الإنسان العقبة فيأمر. قال الفراء أفرد قوله : (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ) بذكر لا مرّة واحدة ، والعرب لا تكاد تفرد لا مع الفعل الماضي ، وفي مثل هذا الموضع حتّى يعيدوها عليه في كلام آخر ، كما قال : (فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى) (٥) (وَلا خَوْفٌ

__________________

(١) تفسير القرطبي : ٢٠ / ٦٥ ، وفي كنز العمال بتفاوت : ١٥ / ٨٥٦ ح ٤٣٤٠٧.

(٢) سورة الإنسان : ٣.

(٣) مجمع الزوائد : ١٠ / ٢٥٦.

(٤) الصحاح : ٢ / ٥٤٢.

(٥) سورة القيامة : ٣١.

٢٠٩

عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (١) ، وانّما فعل ذلك كذلك في هذا الموضع استغناء بدلالة آخر الكلام على معناه من إعادتها مرّة واحدة ، وذلك أنّه فسّر اقتحام العقبة بأشياء فقال : (فَكُّ رَقَبَةٍ) الآية ، فكأنه قال في أوّل الكلام فلا فعل ذا ولا ذا ولا ذا.

وقال بعضهم : معنى الكلام الاستفهام ، تقديره أفلا اقتحم العقبة ، وإليه ذهب ابن زيد وجماعة من المفسّرين ، يقول : فهلّا أنفق ماله في فك الرقاب وإطعام السغبان ليتجاوز بها العقبة ويكون خيرا له من إنفاقه على عداوة محمّد ، ويقال : إنّه شبّه عظم الذنب وثقلها على مرتكبها بعقبة ، فإذا أعتق رقبة وعمل صالحا كان مثله مثل من اقتحم تلك العقبة ، وهي الذنوب حتّى تذهب وتذوب ، كمن يقتحم عقبة فيستوي عليها ونحوها.

وذكر عن ابن عمران : أنّ هذه العقبة جبل في جهنّم ، وقال كعب : هي سبعون دركة في جهنّم ، وقال الحسن وقتادة : هي عقبة شديدة في النار دون الجسر فاقتحموها بطاعة الله سبحانه ، وقال مجاهد والضحّاك والكلبي : هي الصراط يضرب على جهنّم كحدّ السيف مسيرة ثلاثة آلاف سهلا وصعودا وهبوطا ، وأنّ لجنبتيه كلاليب وخطاطيف كأنّها شوك السعدان ، فناج مسلم وناج مخدوس ومكردس في النار منكوس ، فمن الناس من يمرّ عليه كالبرق الخاطف ، ومنهم من يمرّ عليه كالريح العاصف ، ومنهم من يمرّ عليه كالفارس ، ومنهم من يمرّ عليه كالرجل يسير ، ومنهم من يزحف زحفا ، ومنهم الزالّون والزالّات ، ومنهم من يكردس في النار ، واقتحامه على المؤمن كما بين صلاة العصر إلى العشاء.

وقال قتادة : هذا مثل ضربه الله سبحانه يقول : إنّ المعتق والمطعم تقاحم نفسه وشيطانه مثل من يتكلّف صعود العقبة ، وقال ابن زيد يقول : فهلّا سلك الطريق التي فيها النجاة والخير ثمّ بيّن ما هي فقال : (وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ) قال سفيان بن عينية : كلّ شيء قال : (وَما أَدْراكَ) فإنّه أخبره به ، وما قال : (وما يدريك) فإنّه لم يخبر به.

(فَكُّ رَقَبَةٍ) فمن أعتق رقبة كان فداه من النار ، قرأ أبو رجاء والحسن وابن كثير وأبو عمرو والكسائي بنصب الكاف والميم على الفعل كقوله : (ثُمَّ كانَ) ، وقرأ غيرهم بالإضافة على الاسم واختاره أبو عبيدة وأبو حاتم لأنّه تفسير لقوله (وَما أَدْراكَ) ، ثم أخبر ما هي فقال : (فَكُّ رَقَبَةٍ). (أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ) مجاعة.

وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا عبيد الله بن أبي سمرة قال : حدّثنا محمّد بن عبد الله المستعيني قال : حدّثنا علي بن الحسين البصري قال : حدّثنا حجّاج قال : حدّثنا جرير بن حازم

__________________

(١) سورة البقرة : ٣٨.

٢١٠

قال : سمعت الحسن وأبا رجاء يقرآن : (فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ) قد لصق بالتراب من الفقر فليس له مأوى إلّا التراب.

وسمعت أبا القاسم الحلبي يقول : سمعت أبا حامد الخازرجي يقول : المتربة هاهنا من التربة وهي شدّة الحال ، وأنشد الهذلي :

وكنّا إذا ما الضيف حلّ بأرضنا

سفكنا دماء البدن في تربة المال (١)

أخبرني الحسن قال : حدّثنا عمر بن أحمد بن القاسم النهاوندي قال : حدّثنا موسى بن إسحاق الأنصاري قال : حدّثنا عبد الحميد بن صالح قال : حدّثنا عيسى بن عبد الرحمن عن طلحة بن مصرف عن عبد الرحمن بن عوسجة عن البراء بن عازب قال : جاء أعرابي إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله علّمني عملا يدخلني الجنّة فقال : «لئن أقصرت الخطبة لقد أعرضت المسألة أعتق النسمة وفكّ الرقبة» ، قال : أوليسا واحدا!؟

قال : «لا ، عتق النسمة أن تفرد بعتقها ، وفكّ الرقبة أن تعين في ثمنها ، والمنحة الوكوف والفيء على ذي الرحم الظالم ، فإن لم تطق ذاك فاطعم الجائع واسق الظمآن ، وأمر بالمعروف وانه عن المنكر ، فإن لم تطق ذاك فكفّ لسانك إلّا من خير» [١٥٢] (٢).

(ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) قيل : ثمّ بمعنى الواو (وَتَواصَوْا) أوصى بعضهم بعضا (بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ) برحمة الناس. (أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ * عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ) قرأ أبو عمرو وعيسى وحمزة ويعقوب بالهمزة هاهنا ، وفي سورة الهمزة وغيرهم بلا همزة ، وهما لغتان. المطبقة ، قال الفراء وأبو عبيدة يقال : أصدت وأوصدت إذا أطبقت وقيل : معنى الهمزة المطبقة وغير الهمزة المغلقة ، ومنه قيل للباب : وصيد.

__________________

(١) لسان العرب : ١١ / ١٩١.

(٢) كنز العمال : ٦ / ٤٣٧ ح ١٦٤٢٩.

٢١١

سورة الشمس

مكية ، وهي مائتان وسبعة وأربعون حرفا

وأربع وخمسون كلمة وخمس عشرة آية

أخبرني أبو الحسن محمد بن القاسم الفارسي قال : أخبرنا أبو محمد بن أبي حامد قال : حدّثنا أبو جعفر محمد بن الحسن الأصبهاني قال : حدّثنا المؤمل بن إسماعيل قال : حدّثنا سفيان الثوري قال : حدّثنا أسلم المنقري عن عبد الله بن عبد الرحمن بن ايزي عن أبيه عن أبيّ بن كعب قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ سورة (وَالشَّمْسِ) فكأنّما تصدّق بكلّ شيء طلعت عليه الشمس والقمر» [١٥٣] (١).

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالشَّمْسِ وَضُحاها (١) وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها (٢) وَالنَّهارِ إِذا جَلاَّها (٣) وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها (٤) وَالسَّماءِ وَما بَناها (٥) وَالْأَرْضِ وَما طَحاها (٦) وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها (٧) فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها (٨) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها (٩) وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها (١٠))

(وَالشَّمْسِ وَضُحاها) قال مجاهد : ضوؤها. قتادة : هو النهار كلّه. مقاتل : حرّها كقوله سبحانه في طه : (وَلا تَضْحى) (٢) يعني ولا يؤذيك الحرّ.

(وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها) تبعها فأخذ من ضوئها وسار خلفها ، وذلك في النصف الأوّل من الشهر إذا أغربت الشمس تلاها القمر طالعا.

(وَالنَّهارِ إِذا جَلَّاها) جلّى الشمس وكشفها بإضاءتها ، وقال الفراء وجماعة من العلماء : يعني والنهار إذا جلى الظلمة ، فجازت الكناية عن الظلمة ولم [تذكر في أوله] ؛ لأنّ معناها معروف وهو ألا ترى أنّك تقول : أصبحت باردة وأمست عرية وهبّت شمالا فكنّي عن مؤنثات لم يجر لهن ذكر ؛ لأنّ معناهنّ معروف.

__________________

(١) تفسير مجمع البيان : ١٠ / ٣٦٧.

(٢) سورة طه : ١١٩.

٢١٢

(وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها) أي يخشى الشمس حتّى تغيب فتظلم الآفاق (١).

(وَالسَّماءِ وَما بَناها) أي ومن خلقها ، وهو الله سبحانه وتعالى ، كقوله : (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ) و (لا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ) (٢) ، وقيل : هو ما المصدر أي وبنائها كقوله : (بِما غَفَرَ لِي رَبِّي) (٣). (وَالْأَرْضِ وَما طَحاها) خلق ما فيها ، عن عطية عن ابن عبّاس والوالبي عنه : قسمها. غيره بسطها. (وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها) عدل خلقها (فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) قال ابن عبّاس برواية الوالبي : يبيّن لها الخير والشرّ.

وقال العوفي عنه : علّمها الطاعة والمعصية. الكلبي : أعلمها ما يأتي وما ينبغي ، وقال ابن زيد وابن الفضل : جعل فيها ذلك يعني بتوفيقه إيّاها للتقوى وخذلانه إيّاها للفجور.

أخبرني الحسن قال : حدّثنا موسى قال : حدّثنا عبد الله بن محمد بن سنان قال : حدّثنا مسلم بن إبراهيم قال : حدّثنا عزرة بن ثابت الأنصاري قال : حدّثنا يحيى بن عقيل عن يحيى بن يعمر عن أبي الأسود الدؤلي قال بـ قال لي عمران بن حصين : أرأيت ما يعمل فيه الناس ويتكادحون فيه؟ أشيء قضى عليهم ومضى عليهم من قدر سبق أو فيما يستقبلون ممّا آتاهم به نبيّهم ـ صلّى الله عليه ـ وأكّدت عليهم الحجّة؟ قلت : كلّ شيء قد قضى عليهم. قال : فهل يكون ذلك ظلما؟ قال : ففزعت منه فزعا شديدا وقلت : إنّه ليس شيء إلّا وهو خلقه وملك يده (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ) (٤). فقال لي : سدّدك الله ، أرأيت ما يعمل الناس فيه ويتكادحون فيه؟ أشيء قضى عليهم من قدر سبق أو فيما يستقبلون ممّا آتاهم به نبيّهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأكّدت به عليهم الحجّة؟

فقال : في شيء قد قضى عليهم. قال : فقلت فيتمّ العمل إذا قال من كان الله سبحانه خلقه لإحدى المنزلتين يهيئه الله لها وتصديق ذلك في كتاب الله عزوجل : (وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها).

(قَدْ أَفْلَحَ) سعد وفاز ، وهاهنا موضع القسم. (مَنْ زَكَّاها) أي أفلحت نفس زكّاها الله أي أصلحها وطهّرها من الذنوب ووفّقها للتقوى ، (وَقَدْ خابَ) خسرت نفس (مَنْ دَسَّاها) دسسها الله فأهملها وخذلها ووضع منها وأخفى محلّها حين عمل بالفجور وركب المعاصي ، والعرب تفعل هذا كثير فيبدّل في الحرف المشدّد بعض حروفه ياء أو واو كالتقضي والتظنّي وبابهما.

__________________

(١) راجع لسان العرب : ١٤ / ١٥٣ لفظة أجلى.

(٢) سورة النساء : ٣.

(٣) سورة يس : ٢٧.

(٤) سورة الأنبياء : ٢٣.

٢١٣

أخبرنا أبو بكر بن عيلوس قال : أخبرنا أبو الحسن المحفوظي قال : حدّثنا عبد الله بن هاشم قال : حدّثنا عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان عن خصيف عن سعيد بن جبير ومجاهد : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها) قال : أحدها أصلحها ، وقال الآخر : طهّرها.

(وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها) قال أحدهما : أغواها ، وقال الآخر : أضلّها ، وقال قتادة : دسّها آثمها وأفجرها ، وقال ابن عبّاس : أبطلها وأهلكها ، وأخبرنا عبد الله بن حامد قال : أخبرنا أبو محمد المزني قال : حدّثنا الحضرمي قال : حدّثنا عثمان قال : حدّثنا أبو الأحوص عن محمد بن السائب عن أبي صالح : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها * وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها) قد أفلحت نفس زكّاها الله ، وخابت نفس أفسدها الله عزوجل.

وقال الحسن : معناه قد أفلح من زكّى نفسه فأصلحها وحملها على طاعة الله عزوجل ، (وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها) قال : من أهلكها وأضلّها وحملها على معصية الله عزوجل ، فجعل الفعل للنفس.

أخبرني الحسين قال : حدّثنا اليقطيني قال : أخبرنا أحمد بن عبد الله بن يزيد العقيلي قال : حدّثنا صفوان بن صالح قال : حدّثنا الوليد بن مسلم قال : حدّثنا ابن لهيعة عن خالد بن يزيد عن سعيد بن أبي هلال أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا قرأ هذه الآية : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها) وقف ثمّ قال : «اللهمّ آت نفسي تقواها أنت وليّها ومولاها وزكّها أنت خير من زكّاها» [١٥٤] (١).

(كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها (١١) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها (١٢) فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ ناقَةَ اللهِ وَسُقْياها (١٣) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها (١٤) وَلا يَخافُ عُقْباها (١٥))

(كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها) بطغيانها وعداوتها.

وروى عطاء الخراساني عن ابن عبّاس قال : اسم العذاب الذي جاءهم الطغوى ، فقال : كذّبت ثمود بعذابها (٢).

وقرأه العامّة بفتح الطاء ، وقرأ الحسن وحمّاد بن سلمة بِطُغْواها بضمّ الطاء ، وهي لغة كالفتوى والفتوى والفتيا (إِذِ انْبَعَثَ) قام (أَشْقاها) وهو قدار بن سالف عاقر الناقة وكان رجلا أشقر أزرق قصيرا ملتزق الخلق واسم أمّه قديرة.

أخبرنا محمد بن حمدون قال : أخبرنا مكّي قال : حدّثنا عبد الرحمن قال : حدّثنا سفيان قال : حدّثنا هشام بن عروة عن أبيه عن عبد الله بن زمعة قال : ذكر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عاقر الناقة

__________________

(١) مسند أحمد : ٦ / ٢٠٩.

(٢) تفسير الطبري : ٣٠ / ٢٦٨.

٢١٤

وقال : «انتدب لها رجل ذو عزّ ومنعة في قومه كأبي زمعة» وذكر الحديث [١٥٥] (١).

(فَقالَ [لَهُمْ] رَسُولُ اللهِ ناقَةَ اللهِ) إغراء وتحذير ، أي احذروا عقر ناقة الله ، كقولك : الأسد الأسد.

(وَسُقْياها) شربها وسقيها من الماء ، فلا تزاحموها فيه ، كما قال الله سبحانه : (لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ).

(فَكَذَّبُوهُ) يعني صالحا عليه‌السلام ، (فَعَقَرُوها) يعني الناقة (فَدَمْدَمَ) دمّر (عَلَيْهِمْ) وأهلكهم (رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ) بتكذيبهم رسوله وعقرهم ناقته.

(فَسَوَّاها) فسوّى الدمدمة عليهم جميعا ، عمّهم بها ، فلم يفلت منهم أحد. وقال المروج : الدمدمة : إهلاك باستئصال ، وقال بعض أهل اللغة : الدمدمة : الإدامة. تقول العرب : ناقة مدمومة أي سمينة مملوءة ، وقرأ عبد الله بن الزبير (فدهدم عليهم) بالهاء ، وهما لغتان ، كقولك امتقع لونه واهتقع إذا تغير.

(وَلا يَخافُ) قرأ أهل الحجاز والشام فلا بالفاء وكذلك هو في مصاحفهم ، الباقون بالواو ، وهكذا في مصاحفهم (عُقْباها) عاقبتها.

واختلف العلماء في معنى ذلك ، فقال الحسن : يعني ولا يخاف الله من أحد تبعة في إهلاكهم ، وهي رواية علي بن أبي طلحة عن ابن عباس ، وقال الضحّاك والسدي والكلبي : هو راجع إلى العاقر ، وفي الكلام تقديم وتأخير معناه : (إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها) و (لا يَخافُ عُقْباها).

__________________

(١) كنز العمال : ٢ / ٤٧ ، ومسند الحميدي : ١ / ٢٥٨.

٢١٥

سورة والليل

مكية ، وهي ثلاثمائة وعشرة أحرف ،

وإحدى وسبعون كلمة ، وإحدى وعشرون آية

أخبرني [محمد بن القاسم] بن أحمد قال : حدّثنا عبد الله بن أحمد بن جعفر قال : أخبرنا أبو عمرو وأبو عثمان البصري قال : حدّثنا محمد بن عبد الوهاب العبدي قال : حدّثنا أحمد بن عبد الله بن يونس قال : حدّثنا سلام بن سليم قال : حدّثنا هارون بن كثير عن زيد بن أسلم ، عن أبيه ، عن أبي أمامه ، عن أبي بن كعب قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قرأ سورة (وَاللَّيْلِ) أعطاه الله حتى يرضى ، وعافاه الله سبحانه من العسر ويسّر له اليسر» (١) [١٥٦].

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى (١) وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى (٢) وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٣) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (٤) فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى (٥) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى (٦) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى (٧) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى (٨) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى (٩) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى (١٠) وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى (١١) إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى (١٢) وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى (١٣))

(وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى) النهار فيذهب بضوءه (وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى * وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) يعني ومن خلق.

أخبرنا محمد بن نعيم قال : أخبرنا الحسين بن أيوب قال : حدّثنا علي بن عبد العزيز قال : أخبرنا أبو عبيد قال : حدّثنا حجاج ، عن هارون ، عن إسماعيل ، عن الحسن : أنه كان يقرأ : (وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) ، فيقول : والذي خلق ، قال هارون قال أبو عمر وأهل مكة : يقول للرعد : سبحان ما سبّحت له. وقيل : وخلق الذكر والأنثى ، وذكر أنّها في قراءة ابن مسعود وأبي الدرداء : والذكر والأنثى.

أخبرنا عبد الله بن حامد قال : أخبرنا مكي قال : أخبرنا عبد الله بن هاشم قال : حدّثنا أبو معونة ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن علقمة قال : قدمنا الشام ، فأتانا أبو الدرداء ، فقال : أمنكم أحد يقرأ عليّ قراءة عبد الله؟ قال : فأشاروا إليّ ، فقلت : نعم أنا ، فقال : فكيف سمعت

__________________

(١) تفسير مجمع البيان : ١٠ / ٣٧٣.

٢١٦

عبد الله يقرأ هذه الآية ، (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى)؟ قال : قلت : سمعته يقرأها (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى) والذكر والأنثى).

قال لنا : والله هكذا سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرؤها وهؤلاء يريدونني أن أقرأ (وَما خَلَقَ) فلا أتابعهم (١).

(إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى) إنّ عملكم لمختلف [وقال عكرمة وسائر المفسرين : السعي : العمل] ، فساع في فكاك نفسه ، وساع في عطبها ، يدل عليه قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «والناس غاديان فمبتاع نفسه فمعتقها ، وبائع نفسه فموبقها» [١٥٧] (٢).

(فَأَمَّا مَنْ أَعْطى) ماله في سبيل الله (وَاتَّقى) ربّه واجتنب محارمه (وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى) اي بالخلف أيقن بأن الله سبحانه سيخلف هذه ، وهذه رواية عكرمة وشهر بن حوشب ، عن ابن عباس ، يدلّ عليه ما أخبرني عقيل أن أبا الفرج أخبرهم ، عن محمد بن جرير قال : حدّثني الحسن بن أبي سلمة بن أبي كبشة قال : حدّثنا عبد الملك بن عمرو قال : حدّثنا عباد بن راشد ، عن قتادة قال : حدّثنا خليل العصري ، عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما من يوم غربت شمسه إلّا وبعث بجنبتها ملكان يناديان ، يسمعهما خلق الله تعالى كلهم إلّا الثقلين ، اللهم أعط منفقا خلفا وأعط ممسكا تلفا ، فأنزل في ذلك القرآن ، (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى) ـ الى قوله ـ (لِلْعُسْرى)» [١٥٨] (٣).

وقال أبو عبد الرحمن السلمي والضحّاك : (وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى) ، بـ (لا إله إلّا الله). وهي رواية عطية ، عن ابن عباس. وقال مجاهد : بالجنة ، ودليله قوله سبحانه (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) (٤) ، وقال قتادة ومقاتل والكلبي : بموعود الله الذي وعده أن يثيبه.

(فَسَنُيَسِّرُهُ) فسنهيّئه في الدنيا ، تقول العرب : يسّرت غنم فلان إذا ولدت أو تهيّأت للولادة ، قال الشاعر :

هما سيدانا يزعمان وإنما

يسوداننا إن يسّرت غنماهما (٥)

(لِلْيُسْرى) للخلّة اليسرى ، وهي العمل بما يرضاه الله سبحانه ، وقيل : نزلت هذه الآية في أبي بكر الصديق رضي‌الله‌عنه.

__________________

(١) وهو في صحيح مسلم : ٢ / ٢٠٦ ط. دار الفكر ، وقال ابن العربي في أحكام القرآن : هذا مما لا يلتفت إليه بشر إنما المعول عليه ما في المصحف فلا تجور مخالفته ـ عن هامش تفسير القرطبي : ٢٠ / ٨١.

(٢) مسند أحمد : ٣ / ٣٢١ ، والمستدرك : ٤ / ٤٢٢.

(٣) تفسير القرطبي : ٢٠ / ٨٣.

(٤) سورة يونس : ٢٦.

(٥) جامع البيان للطبري : ٢٩ / ٧٠.

٢١٧

(وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ) بالنفقة في الخير (وَاسْتَغْنى) عن ربّه فلم يرغب في ثوابه (وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى) أي للعمل بما لا يرضى الله حتى يستوجب به النار ، فكأنه قال : نخذله ونؤذيه إلى الأمرّ العسير ، وهو العذاب. وقيل : سندخله جهنم ، والعسرى اسم لها.

فإن قيل : فأي تيسير في العسرى؟ قيل : إذا جمع بين كلامين أحدهما ذكر الخير والآخر ذكر الشر جاز ذلك ، كقوله : (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ).

أخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن حمدان قال : حدّثنا ابن ماهان محمد بن صي قال : حدّثنا شعبة ، عن الأعمش ، عن سعد بن عبيدة ، عن أبي عبد الرحمن السلمي ، عن علي بن أبي طالب : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان في جنازة فأخذ عودا فجعل ينكث في الأرض ، فقال : «ما منكم من أحد إلّا قد كتب مقعده من الجنة ومقعده من النار» ، فقال رجل : يا رسول الله ، أفلا نتّكل؟ فقال «اعملوا فكلّ ميسّر» ، ثم قرأ (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى) الآيات (١).

(وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى) قال مجاهد : مات ، وقال قتادة وأبو صالح : هو لحد في جهنم ، قال الكلبي : نزلت في أبي سفيان بن حرب.

(إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى) أي بيان الحق من الباطل ، وقال الفرّاء : يعني من سلك الهدى فعلى الله سبيله ، كقوله سبحانه : (وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ) ، يقول : من أراد الله فهو على السبيل القاصد. وقيل : معناه : (إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى) والإضلال ، كقوله : (بِيَدِكَ الْخَيْرُ) و (سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ).

(وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى) فمن طلبها من غير مالكهما فقد أخطأ الطريق.

(فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى (١٤) لا يَصْلاها إِلاَّ الْأَشْقَى (١٥) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (١٦) وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (١٧) الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى (١٨) وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى (١٩) إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى (٢٠) وَلَسَوْفَ يَرْضى (٢١))

(فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى) تتوقد وتتوهج ، وقرأ عبيد بن عمير (تتلظى) على الأصل ، وغيره على الحذف (لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى * الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى) قرأ أبو هريرة : ليدخلنّ الجنة إلّا من يأبى ، قالوا : يا أبا هريرة ، ومن يأبى أن يدخل الجنة؟ فقرأ قوله سبحانه : (الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى).

أخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا برهان بن علي الصوفي قال : حدّثنا أبو خليفة قال : حدّثنا القعنبي قال : حدّثنا مالك قال : صلّى بنا عمر بن عبد العزيز المغرب ، فقرأ فيها (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى)

__________________

(١) مسند أحمد : ١ / ١٣٢. صحيح البخاري : ٦ / ٨٤.

٢١٨

، فلمّا أتى على هذه الآية (فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى) وقع عليه البكاء فلم يقدر أن [يتعدّاها] من البكاء ، وقرأ سورة أخرى (١).

(وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى) قال أهل المعاني : أراد الشقي والتقي ، كقول طرفة :

تمنى رجال أن أموت ، فإن أمت

فتلك سبيل لست فيها بأوحد (٢)

أي بواحد.

أخبرني الحسين قال : حدّثنا أبو حذيفة أحمد بن محمد بن علي قال : حدّثنا عبد الرحمن ابن محمد بن عبد الله المقري قال : حدّثنا جدّي قال : حدّثنا سفيان ، عن هشام بن عروة ، عن سالم.

وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن يوسف قال : حدّثنا ابن عمران قال : حدّثنا أبو عبيد الله المخزومي قال : حدّثنا سفيان ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه أنّ أبا بكر رضي‌الله‌عنه أعتق من كان يعذّب في الله : بلال وعامر بن فهيرة والنهدية وبنتها وزنيرة وأم عميس وأمة بني المؤمّل.

فأما زنيرة فكانت رومية وكانت لبني عبد الدار ، فلمّا أسلمت عميت ، فقالوا : أعمتها اللات والعزى.

فقالت : هي تكفر باللات والعزى ، فردّ الله إليها بصرها ، ومرّ أبو بكر بها وهي تطحن وسيّدتها تقول : والله لا أعتقك حتى يعتقك صباتك ، فقال أبو بكر فحلى إذا يا أم فلان فبكم هي إذا؟ قالت : بكذا وكذا أوقية ، قال : قد أخذتها ، قومي ، قالت : حتى أفرغ من طحني.

وأما بلال فاشتراه ، وهو مدفون بالحجارة ، فقالوا : لو أبيت إلّا أوقية واحدة لبعناك ، فقال أبو بكر : لو أبيتم إلّا مائة أوقية لأخذته ، وفيه نزلت يعني أبا بكر ، (وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى) إلى آخرها ، وأسلم وله أربعون ألفا فأنفقها كلّها ، يعني أبا بكر.

وأنبأني عبد الله بن حامد قال : أخبرني أبو سعيد الحسن بن أحمد بن جعفر اليزدي قال : أخبرنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن أبي عبد الرحمن المقري قال : حدّثنا سفيان ، عن عتبة قال : حدّثني من سمع ابن الزبير على المنبر وهو يقول : كان أبو بكر يبتاع الضعفة فيعتقهم ، فقال له أبوه : يا بني لو كنت تبتاع من يمنع ظهرك ، قال : [إنما أريد ما أريد] (٣) فنزلت فيه (وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى) إلى آخر السورة (٤) ، وكان اسمه عبد الله بن عثمان.

__________________

(١) تفسير القرطبي : ٢٠ / ٨٧ مورد الآية.

(٢) تاج العروس : ٢ / ٥٢٧ ، ونسبه إلى الإمام الشافعي. وكذا فعل ابن كثير في تفسيره : ٣ / ١٨٧.

(٣) عن تفسير القرطبي : ٢٠ / ٨٣ وفي المخطوط تشويش.

(٤) الآحاد والمثاني : ١ / ٢٠٣ ، وأسباب النزول للواحدي : ٣٠١ وفيه : ما منع ظهري أريد.

٢١٩

عن عطاء ، عن ابن عباس ، في هذه الآية أن بلالا لما أسلم ذهب إلى الأصنام فسلح عليها ، وكان المشركون وكلوا امراة تحفظ الأصنام ، فأخبرتهم المرأة ، وكان بلال عبدا لعبد الله ابن جدعان ، فشكوا إليه ، فوهبه لهم ومائة من الإبل ينحرونها لآلهتهم ، فأخذوه وجعلوا يعذبونه في الرمضاء ، وهو يقول : أحدا أحد ، فمرّ به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : ينجيك أحد أحد ، ثم أخبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبا بكر أن بلالا يعذّب في الله ، فحمل أبو بكر رطلا من ذهب فابتاعه به (١).

وقال سعيد بن المسيب : بلغني أن أمية بن خلف قال لأبي بكر حين قال له أبو بكر : أتبيعه؟ قال : نعم أبيعه بنسطاس ، وكان نسطاس عبدا لأبي بكر صاحب عشرة آلاف دينار وغلمان وجواري ومواشي ، وكان مشركا [وحمله] أبو بكر على الإسلام على أن يكون [له] ماله ، فأبى فأبغضه أبو بكر ، فلمّا قال له أمية : أتبيعه بغلامك نسطاس؟ اغتنمه أبو بكر وباعه به ، فقال المشركون : ما فعل أبو بكر ذلك لبلال إلّا ليد كانت لبلال عنده ، فأنزل الله سبحانه (وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ) من أولئك الذين أعتقهم (مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى) يد نكافئه عليها (إِلَّا) لكن (ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى وَلَسَوْفَ يَرْضى) بثواب الله في العقبى عوضا مما فعل في الدنيا.

وأخبرنا أبو القاسم يعقوب بن أحمد بن السري العروضي في درب الحاجب قال : أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله العماني الحفيد قال : حدّثنا أحمد بن نصر بن خفيف القلانسي الرقّاء قال : حدّثنا محمد بن جعفر بن سوّار بن سنان في سنة خمس وثمانين ومائتين قال : حدّثنا علي ابن حجر ، عن إسحاق بن نجح ، عن عطاء قال : كان لرجل من الأنصار نخلة ، وكان له جار ، فكان يسقط من بلحها في دار جاره ، فكان صبيانه يتناولون ، فشكا ذلك الى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال له النبي عليه‌السلام «بعنيها بنخلة في الجنة» [١٥٩] ، فأبى قال : فخرج ، فلقيه أبو الدحداح ، فقال : هل لك أن تبيعها بجبس (٢)؟ يعني حائطا له ، فقال : هي لك ، قال : فأتى النبي عليه‌السلام ، فقال : يا رسول الله اشترها منّي بنخلة في الجنة ، قال : نعم ، قال : هي لك ، فدعا النبي عليه‌السلام جار الأنصاري ، فأخذها ، فأنزل الله سبحانه وتعالى (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى) إلى قوله : (إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى) أبو الدحداح والأنصاري صاحب النخلة.

(فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى) أبو الدحداح (وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى) يعني الثواب (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى) يعني الجنة.

(وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى) يعني الأنصاري (وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى) يعني الثواب (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى) يعني النار ، (وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى) يعني به إذا مات كما في قوله : (فَأَنْذَرْتُكُمْ

__________________

(١) أسباب النزول للواحدي : ٣٠١.

(٢) في تفسير القرطبي : بحسن.

٢٢٠