الكشف والبيان - ج ١٠

أبو إسحاق أحمد [ الثّعلبي ]

الكشف والبيان - ج ١٠

المؤلف:

أبو إسحاق أحمد [ الثّعلبي ]


المحقق: أبي محمّد بن عاشور
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٤٤

فيه ، عكرمة : وما جمع فيه منّ دوابه وعقاربه وحيّاته وظلمته ، ضحاك ومقاتل : وما ساق من ظلمه فإذا كان الليل ذهب كل شيء إلى مأواه ، وقال الأستاذ أبو القاسم بن حبيب : شيبه أن يكون على هذا القول من المقلوب ، لأن أصل ساق يسوق ، عثمان : حمل من الظلمة ، أبو حيان : أقبل من ظلمة أو كوكب ، سعيد بن جبير : وما عمل فيه ، وروى ابن أبي مليكة وابن جبير عن ابن عباس : وما جمع قال : ألم تسمع قول الشاعر :

أن لنا قلائصا (١) حقائقا

مستوسقات لو يجدن سائقا (٢)

(الْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ) أي أجتمع واستوى وتمّ نوره ، قتادة : إذا استدار وقيل : سار ، مرّة الهمداني : أرتفع وهو في الأيام البيض ، ويقال : اتسق الشيء إذا تتابع ، واستوسق من الإبل إذا اجتمعت وانضمت وهو أفتعل من الوسق.

(لَتَرْكَبُنَ) قرأ أهل مكة والكوفة إلّا عاصما بفتح التاء ، وهي قراءة عمر بن الخطاب وابن مسعود وأصحابه وابن عباس وأبي العالية ، وقالوا : يعني لتركبن يا محمد سماء بعد سماء ودرجة بعد درجة ورتبة بعد رتبة ، وقيل : أراد به السماء تتغير لون بعد لون فتصير تارة (كَالدِّهانِ) وتارة (كَالْمُهْلِ) وتشقق (بِالْغَمامِ) مرّة ويطوي (٣) أخرى (٤) ، وقرأ الآخرون بضمّة وأختاره أبو عبيد قال :لأنّ المعنى بالناس أشبه منه بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنّما ذكر قبل الآية من يؤتى منهم كتابة بيمينه وشماله ثم قال : بعدّها (فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) وذكر ركوبهم طبقا بعد طبق بينهما.

واختلف المفسرون في معنى الآية فقال أكثرهم : حالا بعد حال وأمرا بعد أمر في مواقف القيامة عن محمد بن مروان عن الكلبي ، حيان عنه : مرّة يعرفون ومرة يجهلون ، مقاتل : يعني الموت ثم الحياة ثم الموت ثم الحياة ، عطا : مرّة فقرأ ومرة غنى ، عمرو بن دينار عن ابن عباس : الشدائد والأهوال الموت ثم البعث ثم العرض ، والعرب تقول لمن وقع في أمر شديد : وقع في بنات طبق وفي أخرى بنات طبق ، أبو عبيدة : لتركبن سنن من كان قبلكم وأحوالكم ، عكرمة : حالا بعد حال ، رضيع ثم فطيم ثم غلام ثم شاب ثم شيخ ، قالت الحكماء : يشتمل الإنسان من كونه نطفة الى أن يهرم ويموت على سبعة وثلاثين حالا من سبعة وثلاثين اسما : نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم خلقا آخر ثم جنينا ثم وليدا ثم رضيعا ثم فطيما ثم يافعا ثم ناشئا ثم مترعرعا ثم حزورا (٥) ثم مراهقا ثم محتلما ثم بالغا ثم أمرد ثم طاردا ثم طارا ثم باقلا ثم مسيطرا ثم مطرخما ثم مختطا ثم صملا ثم ملتحيا ثم مستويا ثم مصعدا ثم مجتمعا ـ والشاب

__________________

(١) في لسان العرب : إبلا نقانقا.

(٢) تفسير جامع البيان للطبري : ٣٠ / ١٥٠ ، وتفسير القرطبي : ١٩ / ٢٧٧ ، ولسان العرب : ١٠ / ٣٨٠.

(٣) في الطبري : وتحمر.

(٤) راجع تفسير الطبري : ٣٠ / ١٥٥.

(٥) هو الغلام إذا اشتد وقوي وخدم ، راجع لسان العرب : ٤ / ١٨٧.

١٦١

يجمع ذلك كلّه ثم ملهوزا ثم كهلا ثم أشمط ثم شيخا ثم أشيب ثم حوقلا ثم صفتانا ثم هرما ثم ميتا ، فهذا معنى قوله سبحانه وتعالى : (لَتَرْكَبُنَ).

(طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ) والطبق في اللغة الحال ، قال الأقرع بن حابس :

إني امرؤ قد حلبت الدهر أشطره

وساقني طبق منه الى طبق (١)

فلست أصبو الى خل يفارقني

ولا تقبض أحشائي من الفرق

وأنشدني أبو القاسم عبد الله بن محمد البابي قال : أنشدني أبو سعيد عثمان بن جعفر بن نصره الموصلي قال : أنشدنا أبو يعلي أحمد بن علي المثنى :

الصبر أجمل (٢) والدنيا مفجعة

من ذا الذي لم يذق من عيشه رنقا

إذا صفا لك من مسرورها طبق

أهدى لك الدهر من مكروهها طبقا (٣)

وقال مكحول في هذه الآية : في كل عشرين عاما يحدثون أمرا لم يكونوا عليه ، وهذا أدلّ دليل على حدث العالم وإثبات الصانع ، قالت الحكماء : من كان اليوم على حالة وغدا أخرى فليعلم أن يدبيره الى سواه ، وقيل لأبي بكر الوراق : ما الدليل على أنّ لهذا العالم صانع فقال : تحويل الحالات وعجز القوة وضعف الأركان وقهر المنّة وفسخ العزيمة. سمعت أبا القاسم المفسّر يقول : سمعت أبا الفضل أحمد بن محمد بن حمدون النّسوي يقول : سمعت أبا عبد الرحمن الأرزياني يقول : دخل أبو الفم علي بن محمد بن زيد العلوي بطبرستان عائدا فأنشأ يقول :

إني اعتللت ولا كانت بك العلل

وهكذا الدّهر فيه الصاب (٤) والعسل

إنّ الذي لا تحل الحادثات به

ولا يغير فيه الله لا الرجل

(فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ) لا يخضعون ولا يستكينون له ، وقال الكلبي ومقاتل : لا يصلّون.

أخبرنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن يوسف بقراءتي عليه قال : أخبرنا مكّي قراءة عليه سنة تسع عشر وثلاثمائة قال : حدّثني محمد بن يحيى قال : وفيها قرأ علي بن عبد الله بن نافع المدنيّ وحدّثني مطرف بن عبد الله عن مالك بن أنس عن عبد الله بن زيد مولى الأسود بن سفيان عن

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١٩ / ٢٨٠.

(٢) في المصدر : أحمد.

(٣) الرنق الكدر ، واليتان في مجمع البيان : ١٠ / ٣٠٣.

(٤) الصاب : العلقم وهو شجر مرّ.

١٦٢

أبي سلمة بن عبد الرحمن بن أحمد أنّ أبا هريرة قرأ (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) (١) فسجد فيها ، فلما انصرف أخبرهم أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سجد فيها.

وأخبرنا أبو سعيد عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الله بن نوح قرأه عليه سنة ست وثمانين وثلاثمائة قال : أخبرنا أبو العباس السراج قال : حدثنا قتيبة عن الليث عن بكر عن نعيم بن عبد الله بن محمد قال : صليت مع أبي هريرة فوق هذا المسجد فقرأ (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) فسجد فيها وقال : رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سجد فيها.

(بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ) قال مجاهد : يكتمون ، قتادة : (يُوعُونَ) في صدورهم ، ابن زيد يجمعون من الأعمال الصالحة والسيئة. (فَبَشِّرْهُمْ) أخبرهم (بِعَذابٍ أَلِيمٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ). غير منقوص ولا مقطوع.

__________________

(١) سورة الإنشقاق : ١.

١٦٣

سورة البروج

مكية ، هي اثنان وعشرون آية ، كلمها مائة

وتسع كلمه ، وحروفها أربع مائة وثمانية وخمسون حرفا

أخبرني محمد بن القاسم قال : حدّثنا إسماعيل بن بخير قال : حدّثنا محمد بن إبراهيم بن سعيد قال : حدّثنا سعيد بن حفص قال : قرأت على معقل بن عبد الله عن عكرمة بن خالد عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن أبي بن كعب قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ (وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ) أعطاه الله عزوجل من الأجر بعدد كل يوم جمعة وكلّ يوم عرفة يكون في دار الدنيا عشر حسنات» [١١٧] (١).

وعن ابن الأنباري أنه قال : روي أن من قرأها أعطاه الله سبحانه وتعالى بعدد كل جمعة وعرفة ما سأل في الدنيا ويكونان مائة مائة حسنة ومائة درجة ويشفع يوم القيامة في عدد أهل منى حتّى يدخلهم الجنّة وله بعدد فرعون وعاد وثمود الذين كفروا منهم واللوح المحفوظ بعدد كل واحد منهم عتق رقبة مع ماله من المزيد.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ (١) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (٢) وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (٣) وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ * وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ * وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ) : أخبرنا أبو محمد عبد الله بن الطيّب قال : أخبرنا أبو سعيد عمرو بن منصور قال : أخبرنا أبو بكر محمّد بن سليمان بن الحسن قال : حدّثنا عبد الله بن موسى.

وأخبرنا ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن حمدان قال : حدّثنا إبراهيم بن بهلويه قال : حدّثنا محمّد بن الصباح قال : أخبرنا مروان بن معاوية قال (٢) : أخبرنا موسى بن عبيدة عن أيوب بن خالد الأنصاري عن عبد الله بن رافع عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اليوم الموعود

__________________

(١) تفسير مجمع البيان : ١٠ / ٣١٠.

(٢) في المخطوط : قالا.

١٦٤

يوم القيامة ، والمشهود يوم عرفة ، والشاهد يوم الجمعة ، ما طلعت الشمس ولا غربت على يوم أفضل من يوم الجمعة فيه ساعة لا يوافقها عبد مؤمن يدعو الله فيها بخير إلّا استجاب له ولا يستعيذه من سوء إلا أعاذه منه» [١١٨] (١).

وأخبرنا أبو العباس سهل بن محمد بن سعيد قال : حدّثنا أبو محمد الحسن بن محمد بن حليم قال : أخبرنا أبو الموحة قال : أخبرنا عيدان قال : حدّثنا عبد الوارث عن علي بن زيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس قال : الشاهد محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمشهود يوم القيامة ، ثم تلا هذه الآية : (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً) (٢) ثم قال : (ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ).

وأخبرني الحسين قال : حدّثنا محمد بن الحسن القطيني قال : أخبرنا أحمد بن عبد الله بن يزيد العقيلي قال : حدّثنا صفوان بن صالح قال : حدّثنا الوليد بن مسلم قال : حدّثني سعيد بن بشير عن قتادة عن الحسن عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «شاهد يوم الجمعة ومشهود يوم عرفة» [١١٩] (٣).

وأخبرنا الحسين قال : حدّثنا الكندي قال : حدثنا محمد بن عبد الله بن النعمان قال : حدثنا أبو طاهر سهل بن عبد الله قال : حدّثنا عمرو بن سواد بن الأسود قال : حدّثنا ابن وهب عن عمرو بن الحرث عن سعيد بن أبي الهلال عن زيد بن أيمن عن عبادة بن نسيء عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أكثروا الصلاة عليّ يوم الجمعة فإنّه يوم مشهود تشهده الملائكة ، وإنّ أحدا لا يصلّي عليّ إلّا عرضت عليّ صلاته حتى يفرغ منها».

قال : قلت : وبعد الموت قال : «إنّ الله سبحانه حرّم على الأرض أن يأكل أجساد الأنبياء فنبيّ الله حيّ يرزق» [١٢٠] (٤).

وأخبرني الحسين قال : حدّثنا ابن حمدان قال : حدّثنا إبراهيم بن سهلويه قال : حدّثنا أحمد بن إبراهيم النورقي قال : حدّثنا أبو غسان مالك بن ضيغم الراسبي قال : حدّثنا أبو سهل المنذراني عن خبّاب عن رجل قال : دخلت مسجد المدينة فإذا أنا برجل يحدّث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والناس حوله فقلت : أخبرني عن (شاهِدٍ وَمَشْهُودٍ) قال : نعم أمّا الشاهد فيوم الجمعة وأما المشهود فيوم عرفة ، فجزته الى آخر يحدث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقلت : أخبرني عن (شاهِدٍ وَمَشْهُودٍ). قال : الشاهد يوم الجمعة والمشهود يوم النحر ، فجزتهما الى غلام كأنّ وجهه الدينار

__________________

(١) السنن الكبرى للبيهقي : ٣ / ١٧٠.

(٢) سورة النساء : ٤١.

(٣) كتاب المسند : ٦٠.

(٤) البداية والنهاية : ٥ / ٢٩٧ ، تفسير ابن كثير : ٣ / ٥٢٢.

١٦٥

وهو يحدّث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقلت : أخبرني عن (شاهِدٍ وَمَشْهُودٍ) قال : نعم أما الشاهد فمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأمّا المشهود فيوم القيامة أما سمعته يقول : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً) (١) وقال عزوجل : (ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ) (٢) فسألت عن الأول فقالوا : ابن عباس ، وسألت عن الثاني فقالوا : ابن عمر ، وسألت الثالث فقالوا : الحسن بن علي (٣).

وأخبرنا أبو القاسم عبد الله بن محمد بن علي الدورقي بقراءتي عليه فأقرّ به قال : أخبرنا عبد الله بن محمد بن الحسن الشرقي قال : حدّثنا عبد الرحمن بن بشر العبدي قال : حدّثنا يزيد ابن هارون قال : أخبرنا عبد الملك بن أبي سليمان عن ابن أبي نجح عن مجاهد في قوله سبحانه (وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ) قال : الشاهد آدم والمشهود يوم القيامة. ليث عنه : الشاهد ابن آدم والمشهود يوم القيامة.

وقال الوالي عن ابن عباس : الشاهد الله والمشهود يوم القيامة ، عكرمة : الشاهد الإنسان والمشهود يوم القيامة وعنه أيضا : الشاهد الملك يشهد على آدم والمشهود يوم القيامة وتلا هاتين الآيتين (وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ) و (ذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ) (٤) ، جابر بن عبد الله : الشاهد يوم القيامة والمشهود الناس.

محمد بن كعب : الشاهد أنت والمشهود هو الله ، عطاء بن يسار : الشاهد آدم وذريته والمشهود يوم القيامة ، الحسن : الشاهد الجمعة والمشهود يوم القيامة يشهده الأولون والآخرون ، أبو ملك : الشاهد عيسى والمشهود أمّته ، بيانه قوله سبحانه : (وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ) (٥) عبد العزيز بن يحيى : الشاهد محمّد والمشهود أمّته ، بيانه قوله سبحانه : (وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً) (٦). الحسين بن الفضل : الشاهد هذه الأمة والمشهود سائر الأمم ، بيانه قوله : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) (٧). سعيد بن المسيب : الشاهد يوم التروية والمشهود يوم عرفة ، وقال سالم بن عبد الله : سألت سعيد بن حسن عن قوله سبحانه (وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ) ، فقال : الشاهد هو الله والمشهود محمد بيانه قوله سبحانه : (وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) (٨) ، وقوله سبحانه : (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ)

__________________

(١) سورة الأحزاب : ٤٥.

(٢) سورة هود : ١٠٣.

(٣) تفسير مجمع البيان : ١٠ / ٣١٥.

(٤) سورة ق : ٢١.

(٥) سورة المائدة : ١١٧.

(٦) سورة النساء : ٤١.

(٧) سورة البقرة : ١٤٣.

(٨) سورة النساء : ٧٩.

١٦٦

(١) ، وقيل : الشاهد أعضاء ابن آدم والمشهود ابن آدم بيانه قوله سبحانه : (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ) (٢) الآية ، وسمعت أبا القاسم الحبيبي يقول : سمعت أبا بكر محمد بن أحمد بن نحيد القطان البلخي يقول : الشاهد الحجر الأسود والمشهود الحجاج ، وقيل : الشاهد الليالي والأيام والمشهود بنو آدم ، دليله الخبر المروي : «ما من يوم إلّا وينادي إني يوم جديد وإنّي على ما تفعل منّي شهيد فاغتنمني فلو غابت شمسي لم تدركني إلى يوم القيامة» [١٢١].

وسمعت أبا القاسم الحبيبي يقول : سمعت أبا محمد عبد الله بن أحمد بن الصديق يقول : سمعت أبا وائلة عبد الرحمن الحسيني المزني يقول : سمعت مطرفا يقول : سمعت مالك بن أنس يقول : خبّرت عن الحسن بن علي إنّه قال :

مضى أمسك الماضي شهيدا معدلا

وأصبحت في يوم عليك شهيد

فإن كنت بالأمس اقترفت إساءة

فثنّ بإحسان وأنت حميد

ولا ترج فعل الخير يوما إلى غد

لعل غدا يأتي وأنت فقيد

فيومك إن أعتبته عاد نفعه

عليك وماضي الأمس ليس يعود (٣)

محمد بن علي الترمذي : الشاهد الحفظة والمشهود بني آدم ، أنشدنا أبو القاسم الحبيبي قال : أنشدني أبي ، قال : أنشدنا أبو بكر بن الأنباري ببغداد في كتاب الزاهر :

إنّ من يركب الفواحش سرا

حين يخلو بذنبه غير خالي

كيف يخلوا وعنده كاتباه

حافظاه وربه ذو المحال

وقيل : الشاهد الأنبياء والمشهود محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيانه قوله سبحانه : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ) (٤) إلى قوله : (فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) (٥) ، وقيل : الشاهد الله عزوجل (وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ) والمشهود (لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) (٦) بيان قوله سبحانه (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) (٧) ، وقيل : الشاهد الخلق والمشهود الحق وفيه يقول الشاعر :

أيا عجبا كيف يعصى الإله

أم كيف يجحده الجاحد

ولله في كل تحريكة

وفي كل تسكينة شاهد

__________________

(١) سورة الأنعام : ١٨.

(٢) سورة النور : ٢٤.

(٣) اقتضاء العلم والعمل للخطيب البغدادي : ١١١.

(٤) سورة آل عمران : ٨١.

(٥) سورة آل عمران : ٨١.

(٦) سورة الصافّات : ٣٥.

(٧) سورة آل عمران : ١٨.

١٦٧

وفي كل شيء له آية

تدل على أنّه واحد (١)

وقيل : الشاهد يوم الإثنين والمشهود يوم الجمعة ، وقيل : الشاهد الحق والمشهود الخلق ، وقيل : الشاهد أفعال العبد والمشهود العبد.

(قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ (٤) النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ (٥) إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ (٦) وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (٧) وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (٨) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٩) إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ (١٠) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (١١) إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (١٢) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (١٣) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (١٤) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (١٥) فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (١٦) هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (١٧) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (١٨) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (١٩) وَاللهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ (٢٠) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (٢١) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (٢٢))

(قُتِلَ) لعن ، قال ابن عباس : كل شيء في القرآن قتل فهو لعن.

(أَصْحابُ الْأُخْدُودِ) : الشق واختلفوا فيهم فأخبرنا أبو القاسم الحسن بن محمد بن الحسن بن جعفر قال : حدّثنا الحاكم أبو محمد يحيى بن منصور وأبو القاسم منصور بن العباس بنو شنج وأبو الحسن محمد بن محمود بن عبيد الله بمرو وأبو بكر أحمد بن محمد بن عبيد الله الطاهري [....] (٢) واللفظ له قالوا : حدّثنا الحسن بن شيبان بن عامر الشيباني أن هدية بن خالد القيسي حدثهم قال : حدّثنا حماد بن سلمة ، وحدثت عن محمد بن جرير قال : حدّثني محمد بن معمر قال : حدّثني حرمي بن عمارة قال : حدّثنا حماد بن سلمة قال : حدّثنا ثابت بن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن صهيب إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «كان ملك فيمن كان قبلكم وكان له ساحر فلما كبر الساحر قال للملك إني قد كبرت فابعث إليّ غلاما أعلمه السحر فبعث إليه غلاما يعلمه فكان في طريقه راهب فقعد إليه الغلام وسمع كلامه فأعجبه فكان إذا أتي الساحر ضربه وإذا رجع من عند الساحر قعد إلى الراهب فسمع كلامه فإذا أتى أهله ضربوه ، فشكى ذلك إلى الراهب فقال : إذا احتبست على الساحر فقل : حبسني أهلي ، وإذا احتبست على أهلك فقل : حبسني الساحر ، فبينما هو كذلك إذ أتى على دابة عظيمة قد حبست الناس فقال : اليوم أعلم الساحر خير أم الراهب ، فأخذ حجرا ثم قال : اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر فاقتل هذا الدابة حتى يمضي الناس ، فرمى بها فقتلها ومضى الناس فأتى الراهب فأخبره فقال الراهب : أي بني أنت اليوم أفضل مني قد بلغ من أمرك ما قد أرى وإنك ستبتلى فإذا ابتليت

__________________

(١) تفسير مجمع البيان : ١٠ / ٣١٦.

(٢) كلمة غير مقروءة في المخطوط.

١٦٨

فلا تدل علي ، وكان الغلام يبري الأكمه والأبرص ويداوي الناس من سائر الأدواء ، فسمع جليس للملك قد كان عمي فأتاه بهدايا كثيرة فقال : لك هذا إن أنت شفيتني فقال : إني لا أشفي أحدا إنما يشفي الله عزوجل ، فإن آمنت بالله دعوت الله عزوجل فشفاك ، فآمن بالله تعالى فشفاه الله فأتى الملك يمشي فجلس إليه كما كان يجلس ، فقال له الملك : وسأله بما شفيت قال : بدعاء الغلام ، فأرسل إلى الغلام فقال له الملك : أي بني قد بلغ من سحرك ما يبرئ الأكمه والأبرص وتفعل وتفعل ، فلم يزل يعذبه حتى دلّ على الراهب فجيء بالراهب فقيل له : ارجع عن دينك فأبى فدعا بالمنشار فوضع المنشار في مفرق رأسه فشقه حتى وقع شقاه ثم جيء بالغلام فقيل له ارجع عن دينك فأبي فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال لهم اذهبوا به إلى جبل كذا وكذا فاصعدوا به فإذا بلغ ذروته فإن رجع عن دينه وإلّا فاطرحوه ، فذهبوا به فصعدوا به الجبل فقال : اللهم اكفنيهم كيف شئت فرجف بهم الجبل فسقطوا ، وجاء يمشي إلى الملك فقال له : ما فعل أصحابك؟ فقال : أكفانيهم الله عزوجل فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال احملوه في قرقور فتوسطوا به البحر فلجوا به فإن رجع عن دينه وإلّا فاقذفوه فيه.

فذهبوا به فقال : اللهم اكفنيهم بما شئت فانكفأت بهم السفينة فغرقوا به ، فجاء يمشي الى الملك فقال له الملك : ما فعل أصحابك؟ قال : أكفانيهم الله عزوجل ، فقال للملك : إنّك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به ، قال : ما هو؟ قل : تجمع الناس في صعيد واحد وتصلبني على جذع ثم خذ سهما من كنانتي ثم تضع السهم في كبد القوس ثم قل : بسم الله رب الغلام ، ثم ارمني فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني ، فجمع الناس في صعيد واحد وصلبه على جذع ثم أخذ سهما من كنانته ثم وضع السهم في صدغه فوضع الغلام يده في موضع السهم فمات ، فقال الناس : آمنا برب الغلام آمنا برب الغلام ثلاثا ثلاثا ، فأتي الملك فقيل له : أريت ما كنت تحذره قد والله نزل بك حذرك ، قد آمن الناس كلهم. فأمر [بحفر] الأخدود بأفواه السكك وأضرم النيران وقال : من لم يرجع عن دينه فاقذفوه فيها ، أو قيل له اقتحم ، ففعلوا ذلك حتى جاءت امرأة ومعها صبي لها فتقاعست أن تقع فيها فقال الغلام : يا أمّه اصبري فإنك على حق» [١٢٢] (١).

محمد بن يحيى قال : حدّثنا مسلم بن قتيبة قال : حدّثنا جرير بن حازم عن أيوب عن عكرمة في قول الله سبحانه : (قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ) قال : كانوا من قومك من النبط ، وقال الكلبي : هم نصارى أهل نجران وذلك ان ملك نجران أخذ بها قوما مؤمنين فخدّ لهم في الأرض سبعة أخاديد طول كل واحد أربعون ذراعا وعرضه اثنتا عشرة ذراعا ثم طرح فيها [النفط] (٢) والحطب ثم عرضهم عليها فمن أبى قذفوه في النار ، فبدأ برجل يقال له عمرو بن زيد فسأله

__________________

(١) الآحاد والمثاني للضحاك : ١ / ٢١٩ ـ ٢٢١ ح ١٨٧ ، وصحيح مسلم : ٨ / ٢٣١.

(٢) كذا في المخطوط.

١٦٩

ملكهم ، فقال : من علمك هذا ـ يعني التوحيد ـ فأبى أن يخبره فأتى الملك الذي علمه التوحيد فقال : أيّها الملك أنا علمته ، واسمه عبد الله بن شمر فقذفه في النار ، ثم عرض على النار واحدا واحدا حتى إذا أراد أن يتبع بقيّة المؤمنين فصنع ملكهم صنما من ذهب ثم أمر على كل عشرة من المؤمنين رجلا يقول لهم إذا سمعتم صوت المزامير فاسجدوا للصنم فمن لم يسجد ألقوه في النار ، فلما سمعت النصارى بذلك سجدوا للصنم ، وأما المؤمنون فأبوا فخدّ لهم وألقاهم فيها [فارتفعت] (١) النار فوقهم اثني عشرة ذراعا.

قال مقاتل : كانت [الأخاديد] (٢) ثلاثة : واحدة بنجران باليمن ، والاخرى بالشام ، والاخرى بفارس ، حرّقوا بالنار أمّا التي بالشام فهو أنطياخوس بن ميسر الرومي ، أمّا التي بفارس فهو بخت نصر ، وأما التي بأرض العرب فهو يوسف بن ذي نواس ، فأما التي بفارس والشام فلم ينزل الله سبحانه فيهما قرآنا وأنزل في التي كانت بنجران ، وذلك أن رجلين مسلمين ممّن يقرءون الإنجيل أحدهما بأرض تهامة والآخر بنجران اليمن فأجّر أحدهما نفسه في عمل يعمله وجعل يقرأ الإنجيل ، فرأت بنت المستأجر النور يضيء في قراءة الإنجيل فذكرت ذلك لأبيها فرمقه حتى رآه ، فسأله فلم يخبره فلم يزل به حتى أخبره بالدين والإسلام فتابعه هو وسبعة وثمانون إنسانا بين رجل وامرأة وهذا بعد ما رفع عيسى إلى السماء ، فسمع ذلك يوسف بن ذي نواس بن شراحيل بن تبع بن اليسوح الحميري فخدّ لهم في الأرض فأوقد فيها فعرضهم على الكفر فمن أبى منهم أن يكفر قذفه في النار ومن رجع عن دين عيسى لم يقذف في النار ، وإن امرأة جاءت ومعها ولد لها صغير لا يتكلم فلما قامت على شفير الخندق نظرت إلى ابنها فرجعت عن النار فضربت حتى تقدمت فلم تزل كذلك ثلاث مرات فلما كانت في الثالثة ذهبت ترجع فقال لها ابنها : يا أماه إني أرى أمامك نارا لا تطفأ فلما سمعت ابنها يقول ذلك قذفا جميعا أنفسهما في النار فجعلها الله وابنها في الجنة فقذف في النار في يوم واحد سبع وسبعون إنسانا.

قال ابن عباس : من أبى أن يقع في النار ضرب بالسياط ، فأدخلت أرواحهم في الجنة قبل أن تصل أجسامهم إلى النار ، وذكر محمد بن إسحاق بن يسار ، عن وهب بن منبّه : إنّ رجلا كان بقي على دين عيسى فوقع إلى نجران فدعاهم فأجابوه فسار إليه ذو نواس اليهودي بجنود من حمير وخيّرهم بين النار واليهودية فأبوا عليه فخدّ الأخاديد وأحرق اثني عشر ألفا ، وقال الكلبي : كان (أَصْحابُ الْأُخْدُودِ) سبعين ألفا ، قال وهب : لما علت أرباط على اليمن خرج ذو نواس هاربا فاقتحم البحر بفرسه فغرق وفيه يقول عمرو بن معدي كرب :

__________________

(١) في المخطوط : فارتفع.

(٢) في المخطوط : الأخدود.

١٧٠

أتوعدني كأنك ذو رعين

بأنعم عيشه أو ذو نواس (١)

وكائن كان قبلك من نعيم

وملك ثابت في الناس راس

قديم عهده من عهده عاد

عظيم قاهر الجبروت قاس

أزال الدّهر ملكهم فأضحى

ينقّل في أناس من أناس

قال الكلبي : وذو نواس هو الذي قتل عبد الله بن التامر وقد مضت القصّة في الحديث المرفوع إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومما يزيده وضوحا ما روى عطاء عن ابن عباس إنّه قال : كان بنجران ملك من ملوك حمير يقال له يوسف ذو نواس بن شراحبيل بن شراحيل في الفترة قبل مولد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتسعين سنة.

عبد الله بن يوسف قال : حدّثنا عمر بن محمد بن بحير قال : حدّثنا عبد الحميد بن حميد الكشي ، عن الحسن بن موسى قال : حدّثنا يعقوب بن عبد الله القمي قال : حدّثنا جعفر بن أبي المغيرة عن ابن [ابزي] قال : لما هزم المسلمون أهل أسفندهان انصرفوا فجاءهم ـ يعني عمر ـ فاجتمعوا ، فقالوا : أي شيء تجري على المجوس من الأحكام فأنهم ليسوا بأهل كتاب وليسوا من مشركي العرب ، فقال : علي بن أبي طالب : بل هم أهل الكتاب وكانوا متمسكين بكتابهم وكانت الخمر قد أحلّت لهم فتناولها ملك من ملوكهم فغلبته على عقله فتناول أخته فوقع عليها فلما ذهب عنه السكر ندم وقال لها : ويحك ما هذا الذي أتيت وما المخرج منه؟.

قالت : المخرج منه أن تخطب الناس ، فتقول : يا أيّها الناس إنّ الله أحل نكاح الأخوات فإذا ذهب [هذا] (٢) في الناس وتناسوه خطبتهم فحرمته ، فقام خطيبا ، فقال : يا أيّها الناس إنّ الله أحلّ نكاح الأخوات فقال الناس جماعتهم : معاذ الله أن نؤمن بهذا أو نقرّ به ما جاءنا به نبي ولا أنزل علينا في كتاب فرجع إلى صاحبته فقال : ويحك إنّ الناس قد أبوا عليّ قالت : إذا أبّوا عليك فأبسط فيهم السوط قال : فبسط فيهم السوط ، فأبى الناس أن يقرّوا فرجع إليها فقال : قد بسطت فيهم السوط فأبوا أن يقرّوا قالت : فجرّد فيهم السيف ، قال : فجرّد فيهم السيف فأبوا أن يقرّوا ، وقال لها : ويحك إنّ الناس قد أبوا أن يقرّوا ، قالت : خدّ لهم أخدودا ثم أوقد فيها النيران ثم اعرض عليها أهل مملكتك فمن تابعك فخلّ عنه ومن أبى فأقذفه في النار ، فخدّ لهم أخدودا فأوقد فيها النيران وعرض أهل مملكته على ذلك فمن أبى قذف في النار ومن أجاب خلّى سبيله ، فأنزل سبحانه فيهم : (قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ * النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ) إلى قوله :(عَذابُ الْحَرِيقِ) (٣).

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١٩ / ٢٩٢.

(٢) في المخطوط : ذا.

(٣) تفسير الطبري بتفاوت بسيط : ٣٠ / ١٦٦.

١٧١

وقال الضحاك : (أَصْحابُ الْأُخْدُودِ) من بني إسرائيل أخذوا رجالا ونساء فخدّ لهم أخدودا ثم أوقد فيها النيران فأقاموا المؤمنين عليها ، فقال تكفرون أو نقذفكم في النار ، ويزعمون أنه دانيال وأصحابه ، وهذه رواية العوفي عن ابن عباس.

وأخبرنا عبد الله بن حامد قال : حدّثنا محمد بن عبد الله بن يوسف ، قال : حدّثنا عمر بن محمد بن بحير ، قال : حدّثنا عبد بن حميد ، عن يونس ، عن شيبان عن قتادة في قوله سبحانه : (قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ) قال : حدّثنا أنّ علي بن أبي طالب كان يقول : هم أناس كانوا بمدراع اليمن اقتتل مؤمنوهم وكفارهم فظهر مؤمنوهم على كفارهم ثم اقتتلوا الثانية فظهر مؤمنوهم على كفارهم ثم أخذ بعضهم على بعض عهودا ومواثيق لا يغدر بعضهم ببعض ، فغدر بهم كفارهم فأخذوهم ثمّ أنّ رجلا من المؤمنين قال لهم : هل لكم إلى [خير] توقدون نارا ثم تعرضوننا عليه ، فمن تابعكم على دينكم فذلك الذي تشتهون ومن لا اقتحم النار فاسترحتم منه قال : فأججوا نارا وعرضوهم عليها فجعلوا يقتحمونها حتى بقيت عجوز فكأنها تلكأت ، فقال لها طفل في حجرها : أمضي ولا تنافقي (١) فقص الله عليهم نبأهم وحديثهم (٢).

وأخبرنا عبد الله بن حامد قال : أخبرنا أبو محمد المزني قال : حدّثنا مطين قال : حدّثنا عثمان قال : حدّثنا معاوية بن هشام ، عن شريك عن جابر عن أبي طفيل ، عن علي قال : كان (أَصْحابُ الْأُخْدُودِ) نبيهم حبشي ، قال علي : بعث نبي من الحبشة إلى قومه ، ثم قرأ عليّ : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ) (٣) ، فدعاهم النبي فتابعه أناس فقاتلهم فقتل أصحابه وأخذ فأوثق فأفلت منهم ، فخدّ أخدودا فملأها نارا فمن تبع النبي رمي فيها ومن تابعهم تركوه فجاءوا بامرأة معها صبي رضيع فجزعت فقال : يا أماه مرّي ولا تنافقي (٤).

وبه عن مطين قال : حدّثنا أبو موسى وقال : وكان في بلاده غلام يقال له عبد الله بن تامر وكان أبوه سلّمه إلى معلم يعلّمه السحر فكره الغلام ذلك ولم يجد بدّا من طاعة أبيه فجعل يختلف إلى المعلم ، وكان في طريقه راهب حسن القراءة حسن الصوت فأعجبه ذلك وكان يأتي المعلم آخر الغلمان ويضربه المعلم ويقول : من الذي حبسك وإذا انقلب إلى أبيه دخل على الراهب فضربه أبوه ويقول : لما أبطأت ، فشكى الغلام ذلك إلى الراهب فقال له الراهب : إذا أتيت المعلم فقل حبسني أبي وإذا أتيت أباك فقل : حبسني المعلم ، وكان في تلك البلاد حيّة

__________________

(١) في المصدر : ولا تقاعسي.

(٢) تفسير الدر المنثور : ٦ / ٣٣٢ ، وتفسير القرطبي : ١٩ / ٢٨٩.

(٣) سورة غافر : ٧٨.

(٤) المصدر السابق وفيه : امضي ولا تجرعي.

١٧٢

عظيمة قطعت الطريق على الناس فمر بها الغلام فرماها فقتلها فأحس الراهب بذلك فازداد به عجبا وقال أنت قتلتها قال : نعم قال : إنّ لك لشأنا ، وكان للملك ابن مكفوف البصر ، فسمع بالغلام وقتله الحيّة فجاءه مع قائد فقال : أنت قتلت الحيّة؟ قال : لا ، قال : ومن قتلها؟ قال : الله ، قال : من الله؟ قال : ربّ السموات والأرض وما بينهما وربّ الشمس والقمر والليل والنهار والدنيا والآخرة ، قال : فان كنت صادقا فادع ربّك حتى يرد عليّ بصري ، قال : الغلام أرأيت إن ردّ الله سبحانه عليك بصرك أتؤمن به؟

قال : نعم ، قال : اللهم إن كان صادقا فاردد عليه بصره ، فردّ الله تعالى عليه بصره فرجع إلى منزله بلا قائد ، ثم دخل على الملك فلما رآه تعجب منه فقال : من صنع هذا ، قال : الله ، قال : ومن الله؟

قال : ربّ السموات والأرض وما بينهما وربّ المشرق والمغرب وربّ الشمس والقمر والليل والنهار والدنيا والآخرة ، فقال له الملك : أخبرني من علّمك هذا ، ودلّه على الغلام فدعاه فكلّمه فإذا غلام عاقل ، فسأله عن دينه فأخبره بالإسلام ومن آمن معه ، فهمّ الملك بقتلهم مخافة أن يبدل دينه فأرسل بهم إلى ذروة جبل وقال : ألقوهم من رأس الجبل ، فذهبوا بالغلام إلى أطول جبل فدعا الغلام ربّه فأهلكهم الله سبحانه ، فغاظ الملك ذلك ، ثم أرسل معهم رجالا إلى البحر فقال : غرّقوهم فدعا الغلام ربّه فأغرقهم ونجا هو وأصحابه ، فدخل على الملك فقال : ما فعل أصحابك الذين أرسلتهم معك؟

فقال : أهلكهم الله ونجّاني فقال : اقتلوه بالسيف فنبا السيف عنه ، وفشا خبره بأرض اليمن وعرفه الناس فعظّموه وعلموا إنه وأصحابه على الحق فقال الغلام للملك : إنّك لا تقدر على قتلي إلّا أن تفعل ما أقول ، قال : فكيف أقتلك ، قال : تجمع أهل مملكتك وأنت على سريرك فترميني بسهم باسم إلهي ، ففعل الملك ذلك ثم رماه باسم إله الغلام فأصابه فقتله ، فقال الناس : لا إله إلّا إله عبد الله بن ثامر ولا دين إلّا دينه ، فغضب الملك وأغلق الباب وأخذ أفواه السكك وخدّ أخدودا وملأه نارا ثم عرضهم رجلا رجلا فمن رجع عن الإسلام تركه ومن قال ديني دين عبد الله ألقاه في الأخدود فأحرقه ، وكان في مملكته امرأة أسلمت فيمن أسلم ولها أولاد ثلاثة أحدهم رضيع ، فقال لها الملك : ارجعي عن دينك وإلّا ألقيك في النار وأولادك معك ، فأبت فأخذ ابنها الأكبر فألقاه في النار ثم قال لها : ارجعي إلى دينك فأبت فألقى الثاني في النار ثم قال لها : ارجعي عن دينك فأبت فأخذوا الصبي منها ليلقوه في النار فهمّت المرأة بالرجوع فقال الصبي : يا أماه لا ترجعي عن الإسلام فأنك على الحق ولا بأس عليك فألقي الصبي في النار وألقيت أمه على أثره فذلك قوله سبحانه (قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ) (١).

__________________

(١) بتفاوت في تفسير القرطبي : ١٩ / ٢٨٩.

١٧٣

وقال الضحاك : أحرق بخت نصر قوما من المسلمين.

والأخدود : الحفرة والشق المستطيل في الأرض كالنهر وجمعه أخاديد وهو أفعول من الخد يقال خددت في الأرض خدّا أي شققت وحفرت.

(النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ) قراءة العامة بفتح الواو وهو الخطب ، وقرأ أبو رجاء العطاردي بضم الواو على المصدر وقراءة العامة (النَّارِ ذاتِ) بالكسر فهما على نعت (الْأُخْدُودِ) ، وقرأ أشهب العقيلي بالرفع فيهما على معنى أحرقتهم النَّارُ ذاتُ الْوَقُودِ.

قال الربيع بن أنس : كان (أَصْحابُ الْأُخْدُودِ) قوما مؤمنين اعتزلوا الناس في الفترة ، وأن جبّارا من عبدة الأوثان أرسل إليهم فعرض عليهم الدخول في دينه فأبوا فخدّ أخدودا وأوقد فيه نارا ثم خيّرهم بين الدخول في دينه وبين إلقائهم في النار فاختاروا إلقاءهم في النار على الرجوع عن دينهم فألقوا في النار ، فنجّى الله المؤمنين الذين ألقوا في النار بأن قبض أرواحهم قبل أن تمسّهم النار وخرجت النار إلى من على شفير الأخدود من الكفار فأحرقتهم.

(إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ * وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ) : حضور ، وقال مقاتل : يعني يشهدون إنّ المؤمنين حين تركوا عبادة الصنم (وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ) : أي وما علموا فيهم عيبا ولا وجدوا لهم جرما ولا رأوا منهم سوءا. (إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا) : يعني إلّا لأن ومن أجل أن آمنوا (بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ).

(إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا) : عذّبوا وأحرقوا (الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) نظيره قوله سبحانه وتعالى : (يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ) (١) ، (ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ) في الآخرة (وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ) في الدنيا وذلك إنّ الله سبحانه أحرقهم بتلك النار التي أحرقوا بها المؤمنين ، هذا قول ربيع وأصحابه ، وقال الآخرون : هما واحد.

أخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا علي بن محمد بن لؤلؤ الوراق قال : حدّثنا أبو عبيد محمد ابن أحمد بن المؤمل الصيرفي قال : حدّثنا أبو جعفر محمد بن جعفر الأحول المعروف باللقوق قال : حدّثنا منصور بن عمّار قال : حدّثنا سعيد بن أبي توبة عن عبد الرحمن بن الجهم يبلغ به حذيفة بن اليمان قال : أسرّ إليّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حديثا في النار فقال : «يا حذيفة إن في جهنم لسباعا من نار وكلابا من نار وكلاليب من نار وسيوفا من نار وأنه يبعث ملائكة يعلّقون أهل النار بتلك الكلاليب بإحناكهم ويقطعونهم بتلك السيوف عضوا عضوا ويلقونها إلى تلك الكلاب والسباع كلما قطعوا عضوا عاد مكانه عضوا جديد» [١٢٣] (٢).

__________________

(١) سورة الذاريات : ١٣.

(٢) الدر المنثور : ٢ / ١٧٤.

١٧٤

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ) واختلف العلماء في جواب القسم فقال بعضهم : جوابه (قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ) وفيه إضمار يعني لقد قتل ، وقيل : فيه تقديم وتأخير تقديره : (قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ) (وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ).

وقال قتادة : جوابه قوله : (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ) أي أخذه بالعذاب والانتقام.

(إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ) : يعني الخلق عن أكثر العلماء ، وروى عطية العوفي عن ابن عباس : (يُبْدِئُ) العذاب في الدنيا للكفار ثم (يُعِيدُ) عليهم العذاب في الآخرة.

(وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ) : قال ابن عباس : التودد إلى أوليائه بالمغفرة. علي عنه : الحبيب ، مجاهد : الواد ، ابن زيد : الرحيم ، وقيل : بمعنى المودود كالحلوب والركوب ، وقيل : معناه يغفر ويودّ أن يغفر.

(ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ) : السرير العظيم وقال : ابن عباس وقتادة : الكريم ، واختلف القرّاء فيه فقرأ يحيى وحمزة والكسائي وخلف بجر الدال على نعت العرش. غيرهم بالرفع على صفة الغفور.

(فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ ، هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ) ، خبر الجموع الهالكة ثم بين من هم فقال : (فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا) ، من قومك يا محمد. (فِي تَكْذِيبٍ) : [واستجاب للتعذيب] (١) كدأب من قبلهم ، (وَاللهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ) عالم بهم لا يخفى عليه شيء من أحوالهم (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ) كريم شريف كثير الخير وليس كما زعم المشركون ، وقال عبد العزيز بن يحيى : مجيد يعني غير مخلوق ، وقرأ ابن السميقع : بَلْ هُوَ قُرْآنُ مَجِيدٍ بالإضافة ، أي قرآن ربّ مجيد.

(فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ).

قرأ يحيى بن يعمر : فِي لُوحٍ بضم اللام ، أي إنّه بلوح وهو ذو نور وعلو وشرف.

وقرأ الآخرون : بفتح اللام (لَوْحٍ مَحْفُوظٍ). قرأ نافع وابن مخيضر : بضم الظاء على نعت القرآن ، وقرأ الباقون : بالكسر على نعت اللوح.

أخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا مخلد قال : حدّثنا ابن خلويه قال : حدّثنا إسماعيل قال : حدّثنا إسحاق بن بشر ، قال : أخبرني مقاتل وابن جريج عن مجاهد عن ابن عباس قال : إن في صدر اللوح لا إله إلّا الله وحده ، ودينه الإسلام ومحمد عبده ورسوله ، فمن آمن بالله عزوجل وصدق بوعده واتبع رسله أدخله الجنة. قال : فاللوح لوح من درة بيضاء طويلة طوله ما بين

__________________

(١) كذا في المخطوط.

١٧٥

السماء والأرض وعرضه ما بين المشرق إلى المغرب ، وحافتاه الدر والياقوت ، ودفتاه ياقوتة حمراء ، وقلمه نور ، وكلامه بر معقود بالعرش ، وأصله في حجر ملك يقال له ماطريون محفوظ من الشياطين ، فذلك قوله (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) لله عزوجل فيه في كلّ يوم ثلاث مائة وستون لحظة يحيي ويميت ويعزّ ويذل و (يَفْعَلُ ما يَشاءُ).

أخبرني عقيل إنّ المعافي أخبرهم عن محمد بن جرير قال : حدّثنا عمرو بن علي قال : سمعت قرّة بن سليمان قال : حدّثنا حرب بن سريح قال : حدّثنا عبد العزيز بن صهّيب عن أنس بن مالك : في قوله (هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ). قال : إن اللوح المحفوظ الذي ذكره الله في جبهة إسرافيل. وقال مقاتل : اللوح المحفوظ عن يمين العرش.

١٧٦

سورة الطارق

مكيّة ، وهي سبع عشرة آية ، واحدي

وستون كلمة ، ومائتان وتسع وثلاثون حرفا.

أخبرني أبو عثمان بن أبي بكر المقرئ قال : أخبرنا أبو عمرو بن أبي الفضل الشروطي قال : حدّثنا إبراهيم بن شريك الأسدي قال : حدّثنا أبو عبد الله بن يونس قال : حدّثنا سلام بن سليم قال : حدّثنا هارون بن كثير عن زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي أمامة عن أبيّ بن كعب قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ سورة الطارق أعطاه الله من الأجر بعدد كلّ نجم في السماء عشر حسنات» [١٢٤] (١).

وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن نصرويه قال : حدّثنا أبو العباس إسحاق بن الفضل الزيات قال : حدّثنا يوسف بن موسى القطان قال : حدّثنا الضحّاك بن مخلد عن عبد الله بن عبد الرحمن بن يعلي بن كعب عن عبد الرحمن بن خالد بن جبلة أو ابن أبي جبلة ـ شك أبو عاصم (٢) ـ عن أبيه قال : رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم متوكئا على قوس في مشرقة ثقيف فقرأ : (وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ) حتى ختمها ، فحفظتها في الجاهلية ، قال : فمررت في مجلس ثقيف وفيهم قوم من قريش فمنهم عتبة وشيبة وأبناء ربيعة فاستقرءوني فقرأتها عليهم فقال الثقفيون : ما نرى هذا إلّا حقا ، فقال القرشيون : نحن أعلم بصاحبنا لو علمنا أنه حق لتبعناه.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ (١) وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ (٢) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (٣) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ (٤))

(وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ).

نزلت في أبي طالب وذلك لأنه أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأتحفه بخبز ولبن فبينما هو جالس يأكل إذا بخط نجم فامتلأ ماء ثمّ نارا ففزع أبو طالب وقال : أي شيء هذا ، فقال رسول الله عليه‌السلام «هذا نجم رمي به وهو آية من آيات الله تعالى» [١٢٥] (٣).

__________________

(١) تفسير مجمع البيان : ١٠ / ٣٢٠.

(٢) كذا في المخطوط.

(٣) أسباب نزول الآيات : ٢٩٩.

١٧٧

فعجب أبو طالب ، فأنزل الله سبحانه وتعالى (وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ) ، والمعنى : يعني النجم يظهر ليلا ويخفى نهارا ، أو كل ما جاء ليلا فقد طرق.

ومنه حديث نهي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يطرق الرجل أهله وقال : «تستعد المغيبة وتمتشط الشعثة» [١٢٦] (١) ، وقالت هند بنت عتبة يوم أحد :

نحن بنات طارق

نمشي على النمارق

تريد أن أبانا نجم في شرفه وعلوه.

وأنشدنا أبو القاسم المفسّر قال : أنشدني أبو الحسن محمد بن محمد بن الحسن قال :أنشدني أبو عبد الله محمد بن الرومي قال :

يا راقد الليل مسرورا بأوّله

إنّ الحوادث قد يطرقن أسحارا

لا تفرحن بليل طاب أوّله

فرب آخر ليل أجج النارا (٢)

(وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ) ثم فسره فقال عزّ من قائل : (النَّجْمُ الثَّاقِبُ) أي المضيء المنير ، يقول العرب : أثقب نارك أي أضئها. مجاهد : المتوهج ، عطا : الثاقب الذي يرمي به الشياطين فيثقبهم : قال ابن زيد : كانت العرب تسمّي الثريا النجم ، وقيل : هو زحل سمي بذلك لارتفاعه ، وتقول العرب للطائر إذا لحق ببطن السماء ارتفاعا : قد ثقب.

وروى أبو الحوراء عن ابن عباس قال : الطارق : نجم في السماء السابعة لا يسكنها غيره من النجوم ، فإذا أخذت النجوم أمكنتها من السماء هبط فكان معها ثم رجع إلى مكانه من السماء السابعة ، وهو زحل فهو طارق حين ينزل وطارق حين يصعد.

(إِنْ كُلُّ نَفْسٍ) جواب القسم (لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ) قرأ الحسن وأبو جعفر وابن عامر وعاصم وحمزة (لَمَّا) بتشديد الميم ، يعنون ما كل نفس إلّا عليها حافظ ، وهي لغة هذيل يقولون : يسديك الله لما قمت ، يعنون : إلّا قمت ، وقرأ الآخرون : بالتخفيف جعلوا (ما) صلة مجازه : إنّ كل نفس لعليها حافظ.

أخبرنا محمد بن نعيم قال : أخبرنا الحسن بن أيوب قال : أخبرنا علي بن عبد العزيز قال : حدّثنا أبو عبيد قال : حدّثنا معاذ عن ابن عون قال : قرأت عند ابن سيرين : (إنّ كلّ نفس لما) فأنكره وقال : سبحان الله سبحان الله فتأويل الآية كلّ نفس عليها حافظ من ربّها يحفظ عملها ويحصي عليها ما يكتسب من خير وشر.

__________________

(١) مسند أحمد : ٣ / ٢٩٨.

(٢) تفسير القرطبي : ٢٠ / ٢ مورد الآية.

١٧٨

قال ابن عباس : هم الحفظة من الملائكة ، وقال قتادة : هم حفظة يحفظون عملك ورزقك وأجلك إذا توفيته يا ابن آدم قبضت إلى ربّك ، وقال الكلبي [وحصين] : حافظ من الله يحفظ قولها وفعلها ويحفظ حتى يدفعها ويسلمها إلى المقادير ثم تخلى عنها (١).

أخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا عمر بن الحطاب قال : حدّثنا عبد الله بن الفضل قال : حدّثنا سلمة بن شبيب قال : حدّثنا يحيى بن صالح قال : حدّثنا عمر بن معدان عن سلم بن عامر عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «وكّل بالمؤمن ستون ومائة ملك يذبّون عنه ما لم يقدر عليه من ذلك للبصر سبعة أملاك يذبّون عنه كما يذبّ عن قصعة العسل الذباب [في اليوم الصائف وما لو بدا لكم لرأيتمونه على جبل وسهل كلهم باسط يديه فاغرفاه وما] (٢) لو وكلّ العبد إلى نفسه طرفة عين لاختطفته الشياطين» [١٢٧] (٣).

(فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ (٥) خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ (٦) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ (٧) إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ (٨) يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ (٩) فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ (١٠) وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ (١١) وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ (١٢) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (١٣) وَما هُوَ بِالْهَزْلِ (١٤) إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً (١٥) وَأَكِيدُ كَيْداً (١٦) فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً (١٧))

(فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ) أي من أي شيء خلقه ربّه ، ثم بيّن جل ثناؤه فقال سبحانه وتعالى : (خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ) أي مدفوق مصبوب في الرحم وهو المني ، فاعل بمعنى مفعول كقولهم سرّ كاتم ، وليل نائم ، وهمّ ناصب ، و (عِيشَةٍ راضِيَةٍ) ، قال الفراء : أعان على ذلك أنها رؤوس الآيات التي معهنّ.

والدفق : الصب ، تقول العرب للموج إذا علا وانحط : تدفق واندفق وأراد من مائين : ماء الرجل وماء المرأة ؛ لأن الولد مخلوق منهما ، ولكنه جعله ماء واحدا لامتزاجهما.

(يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ) يعني صلب الرجل وترائب المرأة ، واختلفوا في الترائب ، فقال ابن عباس : موضع القلادة ، الوالي عنه : بين ثدي المرأة ، وعن العوفي عنه : يعني بالترائب اليدين والرجلين والعينين ، وبه الضحاك ، وعن ابن عليّة عن أبي رجاء قال : سئل عكرمة عن (التَّرائِبِ) فقال : هذه ـ ووضع يده على صدره بين ثدييه ـ. سعيد بن جبير : الجيد. ابن زيد : الصدر. مجاهد : ما بين المنكبين والصدر. سفيان : فوق الثديين. يمان : أسفل من التراقي.

قتادة : النحر. جعفر بن سعيد : الأضلاع التي أسفل الصلب. ليث عن معمر بن أبي حبيبة المدني قال : عصارة القلب ، ومنه يكون الولد ، والمشهور من كلام العرب أنهما عظام النحر والصدر ، وواحدتها تربية. قال الشاعر :

__________________

(١) تفسير القرطبي : ٣٢٠ بتفاوت.

(٢) زيادة عن المصدر.

(٣) مجمع الزوائد : ٧ / ٢٠٩.

١٧٩

وبدت كان ترائبا نحرها

جمر الغضا في ساعة يتوقّد

وقال آخر :

والزعفران على ترائبها

شرق به اللّبات والصدر (١)

وقال المثقب العبدي :

ومن ذهب يسن على تريب

كلون العاج ليس بذي غضون (٢)

(إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ) قال قتادة : إنّ الله سبحانه على بعث الإنسان وإعادته بعد الموت قادر ، وقال عكرمة : إن الله سبحانه على ردّ الماء إلى الصلب الذي خرج منه لقادر ، وعن مجاهد : على ردّ النطفة في الإحليل ، وعن الضحاك : إنه على ردّ الإنسان ماء كما كان قبل لقادر ، مقاتل بن حيان عنه : يقول : إنّ شئت رددته من الكبر إلى الشباب ومن الشباب إلى الصبى ، ومن الصبى إلى النطفة ، وعن ابن زيد : أنه على حبس ذلك الماء لقادر حتى لا يخرج.

وأولى الأقاويل : بالصواب تأويل قتادة لقوله تعالى : (يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ) أي تظهر الخفايا ، وقال قتادة ومقاتل وسعيد بن جبير عن عطاء بن أبي رياح : السرائر : فرائض الأعمال كالصّوم والصلاة والوضوء وغسل الجنابة ، ولو شاء العبد أن يقول قد صمت وليس بصائم وقد صلّيت ولم يصلّ وقد اغتسلت ولم يغتسل لفعل.

أخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا طلحة وابن البواب قال : حدّثنا أبو بكر بن مجاهد قال : حدّثنا إسماعيل عن عبد الله بن إسماعيل عن ابن زيد (يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ) قال : السرائر : الصلاة والصيام وغسل الجنابة ، ودليل هذا التأويل ما أخبرنا الحسين قال : حدّثنا أحمد بن محمد بن إسحاق قال : أخبرني عروبة قال : حدّثنا هاشم بن القاسم الحراني قال : حدّثنا عبد الله بن وهب عن يحيى بن عبد الله عن أبي عبد الرحمن الجبلي عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ثلاث من حافظ عليها فهو وليّ الله حقا ، ومن اختانهن فهو عدو الله حقا ، الصلاة والصوم والغسل من الجنابة» [١٢٨] (٣).

(فَما لَهُ) : يعني الإنسان الكافر (مِنْ قُوَّةٍ) تمنعه (وَلا ناصِرٍ) : ينصره (وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ) أي ترجع بالغيث وأرزاق العباد كلّ عام ، لولا ذلك لهلكوا وهلكت معايشهم ، وقال ابن عباس : هو السحاب فيه المطر.

وأخبرنا ابن عبدوس قال : أخبرنا ابن محفوظ قال : حدّثنا عبد الله بن هاشم قال : حدّثنا

__________________

(١) تفسير القرطبي : ٢٠ / ٥ ، وفيه : والنحر بدل : الصدر.

(٢) المصدر السابق.

(٣) تفسير القرطبي : ٢٠ / ٩.

١٨٠