الكشف والبيان - ج ١٠

أبو إسحاق أحمد [ الثّعلبي ]

الكشف والبيان - ج ١٠

المؤلف:

أبو إسحاق أحمد [ الثّعلبي ]


المحقق: أبي محمّد بن عاشور
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٤٤

(يَتْلُوا) يقرأ (صُحُفاً) كتبا (مُطَهَّرَةً) من الباطل (فِيها كُتُبٌ) من الله (قَيِّمَةٌ) مستقيمة عادلة (وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) في أمر محمد عليه‌السلام فكذّبوه (إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ) البيان في كتبهم أنه نبيّ مرسل.

قال العلماء : من أول السورة إلى قوله : (فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ) حكمها في من آمن من أهل الكتاب والمشركين ، (وَما تَفَرَّقَ) حكمه في من لم يؤمن من أهل الكتاب بعد قيام الحجج عليها.

قال بعض أئمّة أهل اللغة قوله : (مُنْفَكِّينَ) أي هالكين من قوله انفك صلا المرأة عند الولادة وهو أن تنفصل ولا يلتئم فهلك ، ومعنى الآية : لم يكونوا هالكين أي معذّبين إلّا بعد قيام الحجّة عليهم بإرسال الرسول وإنزال الكتب.

وقرأ الأعمش (والمشركون) رفعا ، وفي مصحف عبد الله (لم يكن المشركون وأهل الكتاب منفكّين) وفي حرف أبيّ (ما كان الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكّين حتى تأتيهم البيّنة رسولا من الله) بالنصب على القطع والحال.

(وَما أُمِرُوا) يعني هؤلاء الكفار (إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ) يعني إلّا أن يعبدوا الله مخلصين (لَهُ الدِّينَ) التوحيد والطاعة (حُنَفاءَ) مائلين عن الأديان كلها إلى دين الإسلام.

وقال ابن عباس : حجاجا ، وقال قتادة : الحنيفية هي الختان وتحريم الأمّهات والبنات والأخوات والعمّات والخالات ، وإقامة المناسك.

وقال سعيد بن حمزة : لا تسمي العرب حنيفا إلّا من حجّ واختتن (وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ) الذي ذكرت (دِينُ الْقَيِّمَةِ) المستقيمة فأضاف الدين إلى القيّمة وهو أمر فيه اختلاف اللفظين وأنّث القيّمة لأنّه رجع بها إلى الملّة والشريعة ، وقيل : الهاء فيه للمبالغة.

سمعت أبا القاسم الحنبلي يقول : سمعت أبا سهل محمد بن محمد بن الأشعث الطالقاني يقول : إن القيّمة هاهنا الكتب التي جرى ذكرها ، والدين مضاف إليها على معنى : (وَذلِكَ دِينُ) الكتب (الْقَيِّمَةِ) فيما يدعو إليه ويأمر به ، نظيرها قوله سبحانه : (وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ) (١).

وقال النضر بن شميل : سألت الخليل بن أحمد عن قوله سبحانه : (وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) فقال : القيّمة جمع القيّم ، والقيّم [والقائم] واحد ومجاز الآية : وذلك دين القائمين لك بالتوحيد (٢).

__________________

(١) سورة البقرة : ٢١٣.

(٢) تفسير مجمع البيان : ١٠ / ٤١٤.

٢٦١

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ) الخليقة ، قرأ نافع البرئة بالهمزة في الحرفين ومثله روى ابن ذكوان عن أهل الشام على الأصل لأنه من قولهم : برأ الله الخلق يبرؤهم برءا ، قال الله سبحانه : (مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها) ، وقرأ الآخرون بالتشديد من غير همزة ، ولها وجهان : أحدهما أنه ترك الهمزة وأدخل الشبه به عوضا منه.

والآخر أن يكون (فعيلة) من البراء وهو التراب ، تقول العرب : بفيك البراء فمجازه : المخلوقون من التراب.

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ * جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ).

قال الصادق رضي‌الله‌عنه : بما كان سبق لهم من العناية والتوفيق ، ورضوا عنه بما منّ عليهم بمتابعتهم لرسوله ، وقبولهم ما جاءهم به ، أي أن بيان رضا الخلق عن الله رضاهم بما يرد عليهم من أحكامه ورضاه عنهم أن يوفّقهم للرضا عنه» [٢٢٣].

محمد بن الفضيل : الرّوح والراحة في الرضا واليقين ، والرضا باب الله الأعظم ومستراح العابدين. محمد بن حقيق : الرضا ينقسم قسمين : رضا به ورضا عنه ، فالرضا به ربّا ومدبّرا ، والرضا عنه فيما يقضي ويقدّر.

وقيل : الرضا رفع الاختيار. ذي النون : الرضا : سرور القلب لمرّ القضاء. حارث : الرضا سكون القلب تحت جريان الحكم. أبو عمرو الدمشقي : الرضا نهاية الصبر. أبو بكر بن طاهر : الرضا خروج الكراهية من القلب حتى لا يكون إلّا فرح وسرور. الواسطي : هو النظر إلى الأشياء يعني الرضا حتى لا يسخطك شيء إلّا ما يسخط مولاك. ابن عطاء : هو النظر إلى قديم إحسان الله للعبد فيترك السخط عليه.

سمعت محمد بن الحسين بن محمد يقول : سمعت محمد بن أحمد بن إبراهيم يقول : سمعت محمد بن الحسين يقول : سمعت علي بن عبد الحميد يقول : سمعت السهمي يقول : إذا كنت لا ترضى عن الله فكيف تسأله الرضا عنك؟.

٢٦٢

سورة الزلزلة

مكّيّة ، وهي مائة وتسعة وأربعون حرفا ،

وخمس وثلاثون كلمة ، وثماني آيات

أخبرنا يعقوب بن أحمد بن السهمي العروضي في درب الحاجب قال : أخبرنا محمد بن عبد الله العثماني قال : حدّثنا أبا القاسم الطائي قال : حدّثني أبي قال : حدّثني علي بن موسى الرضا قال : حدّثني أبي موسى بن جعفر قال : حدّثني أبي جعفر بن محمد قال : حدّثني أبي محمد بن علي قال : حدّثني أبي علي بن الحسين قال : حدّثني أبي الحسين بن علي قال : حدّثني أبي علي بن أبي طالب قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ (إِذا زُلْزِلَتِ) أربع مرّات كان كمن قرأ القرآن كلّه» [٢٢٤] (١).

وأخبرني محمد بن القاسم قال : حدّثني أبو بكر محمد بن عبد الله قال : حدّثنا الحسن بن سفيان قال : حدّثنا علي بن حجر قال : حدّثنا يزيد بن هارون قال : حدّثنا اليمان بن المغيرة عن عطاء عن ابن عباس قال : قال رسول الله عليه‌السلام : «(إِذا زُلْزِلَتِ) تعدل نصف القرآن ، و (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) (٢) تعدل ثلث القرآن و (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) (٣) تعدل ربع القرآن» [٢٢٥] (٤).

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها (١) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها (٢) وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها (٣) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها (٤) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها (٥) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ (٦))

(إِذا زُلْزِلَتِ) حرّكت (الْأَرْضُ) حركة شديدة لقيام الساعة (زِلْزالَها) تحركها وقراءة العامّة بكسر الزاي.

__________________

(١) تفسير القرطبي : ٢٠ / ١٤٦.

(٢) سورة الإخلاص : ١.

(٣) سورة الكافرون : ١.

(٤) كنز العمال : ١ / ٥٨٤.

٢٦٣

وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا [الباقرجي] قال : حدّثنا عبد الله بن محمد بن ياسين البغدادي قال : حدّثنا جميل بن الحسن قال : حدّثنا أحمد بن موسى صاحب اللؤلؤ قال : سمعت عاصم الجحدري يقرأ : إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زَلْزالَها الزاي مفتوحة وهو مصدر أيضا كالوسواس والقلقال والجرجار ، وقيل : الكسر المصدر والفتح الاسم.

(وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها) موتاها وكنوزها فيقلبها على ظهرها (وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها) وقيل : في الآية تقديم وتأخير تقديره (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها) فيقول (الْإِنْسانُ : ما لَها).

قال المفسّرون : تخبر الأرض بما عمل عليها من خير أو شرّ فتقول للمؤمن يوم القيامة : جدّ عليّ وصام وصلّى واجتهد وأطاع ربّه ، فيفرح المؤمن بذلك ، وتقول للكافر : شرك عليّ وزنى [وسرق] وشرب الخمر فيوبّخ بالمشهد ، وتشهد عليه الجوارح والملائكة مع علم الله سبحانه به حتى يودّ أنه سيق إلى النار مما يرى من الفضوح.

حدّثنا أبو بكر محمد بن عبدوس المزكى إملاء قال : أخبرنا أبو نصر محمد بن حمدويه بن سهل المروزي قال : حدّثنا عبد الله بن حمّاد الآملي قال : حدّثنا سعيد بن أبي مريم قال : حدّثنا رشد بن سعد قال : حدّثنا يحيى بن أبي سلمى عن أبي حازم عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن الأرض لتخبر يوم القيامة بكل عمل عمل على ظهرها» قال : وتلا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها» حتى بلغ «يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها» قال : «أتدرون ما أخبارها؟ إذا كان يوم القيامة أخبرت بكل عمل عمل على ظهرها» [٢٢٦] (١).

وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا علي بن الحسن بن مطرف الجراحي قال : حدّثنا أبو عيسى عبد الرحمن بن عبد الله الأنباري قال : حدّثنا أحمد بن إبراهيم قال : حدّثنا خالد بن يزيد العمري قال : حدّثنا شعبة عن يحيى بن سليم أبي بلج عن سعيد بن المسيّب عن أبي هريرة أن النبي عليه‌السلام ذكر هذه الآية : «يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها» فقال : «تدري ما أخبارها؟» قال : الله ورسوله أعلم.

قال : «فإن أخبارها أن تشهد على كلّ عبد وأمة بما عمل على ظهرها من شيء ، تقول : عمل على ظهري كذا وكذا ، أو حملت على ظهري كذا وكذا يوم كذا لكذا وكذا ، فهذه أخبارها» [٢٢٧] (٢).

وفي حرف ابن مسعود يومئذ تبني أخبارها.

أخبرنا عبد الله بن حامد قال : أخبرنا المطرفي قال : حدّثنا بشر بن مطر قال : حدّثنا سفيان

__________________

(١) الدر المنثور : ٦ / ٣٨٠ ، بتفاوت يسير.

(٢) سنن الترمذي : ٤ / ٤١.

٢٦٤

عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة عن أبيه ـ وكان أبوه يتيما في حجر أبي سعيد الخدري ـ قال : قال لي يعني أبا سعيد : يا بنيّ إذا كنت في البوادي فارفع صوتك بالأذان فإني سمعت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «لا يسمعه جنّ ولا إنس ولا حجر إلّا يشهد له» [٢٢٨] (١).

أخبرنا عبد الله بن حامد قال : حدّثنا محمد بن عامر السمرقندي قال : حدّثنا ابن الحسين قال : حدّثنا علي بن حميد عن إبراهيم عن أبيه قال : رأيت أبا أميّة صلّى في المسجد الحرام المكتوبة ، ثم تقدم فجعل يصلي هاهنا وهاهنا ، فلمّا فرغ قلت : يا أبا أميّة ما هذا الذي رأيتك تصنع؟ قال قرأت هذه الآية : (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها) فأردت أن تشهد لي يوم القيامة.

(بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها) أي أمرها بالكلام واذن لها فيه ، قال [العجاج يصف الأرض] :

أوحى لها القرار فاستقرّت

وشدّها بالراسيات الثبّت

أي أمرها بالقرار.

وقال ابن عباس والقرظي وابن زيد : أوحى إليها. ومجاز الآية : يوحي الله إليها.

(يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً) عن موقف الحساب ، أشتاتا : متفرقين فآخذ ذات اليمين إلى الجنة ، وآخذ ذات الشمال إلى النار (لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ) قيل : في هذه الآية تقديم وتأخير تقديرها (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها * يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً)! وقراءة العامّة (لِيُرَوْا) بضم الياء ، وقرأ الحسن والأعرج بفتح الياء وروي ذلك عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (٧) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (٨))

(فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ) أي يرى ثوابه (وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ).

قال ابن عباس : ليس مؤمن ولا كافر عمل خيرا ولا شرا في الدنيا إلّا أراه الله إياه ، أما المؤمن فيرى حسناته وسيّئاته ، فيغفر له سيئاته ويثيبه لحسناته ، وأما الكافر فترد حسناته ويعذبه بسيّئاته.

وقال محمد بن كعب في هذه الآية : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً) من كافر يرى ثوابه في نفسه وأهله وماله وولده حتى يخرج من الدنيا وليس له عند الله خير ، (وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا) من مؤمن يرى عقوبته في الدنيا في نفسه وأهله وماله وولده حتى يخرج من الدنيا ، وليس له عند الله شر.

ودليل هذا التأويل ما أخبرنا عقيل أنّ أبا الفرج أخبرهم عن ابن جرير قال : حدّثني أبو

__________________

(١) مسند أحمد : ٣ / ٦ ، بتفاوت ، تفسير مجمع البيان : ١٠ / ٤١٩ ، بدون تفاوت.

٢٦٥

الخطاب الجنائي قال : حدّثنا الهيثم بن الربيع قال : حدّثنا سماك بن عطية عن أيوب عن أبي قلابة عن أنس قال : كان أبو بكر يأكل مع النبي عليه‌السلام فنزلت هذه الآية : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) فرفع أبو بكر ـ رضي‌الله‌عنه ـ يده وقال : يا رسول الله أنّى أخبر بما عملت من مثقال ذرة من شر؟ فقال : «يا أبا بكر ما رأيت في الدنيا مما تكره فبمثاقيل ذرّ الشرّ ، ويدّخر الله لك مثاقيل ذر (١) الخير حتى توفّاه يوم القيامة» [٢٢٩] (٢).

له عن محمد بن جرير قال : حدّثني يونس بن عبد الأعلى قال : أخبرنا بن وهب قال : حدّثني حيي بن عبد الله عن أبي عبد الرحمن الجيلي عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال : نزلت (إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها) وأبو بكر الصديق ـ رضي‌الله‌عنه ـ قاعد فبكى حين أنزلت ، فقال له رسول الله عليه‌السلام : «ما يبكيك يا أبا بكر؟» قال : أبكتني هذه السورة ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «والله لو أنكم لا تخطئون ولا تذنبون ويغفر الله لكم لخلق الله أمّة يخطئون ويذنبون فيغفر لهم» [٢٣٠] (٣).

وقراءة العامّة (يَرَهُ) بفتح الياء في الحرفين ، وقرأ خالد بن نشيط وعاصم الجحدري بضم الياءين لقوله : (لِيُرَوْا).

قال مقاتل : نزلت هذه الآية في رجلين وذلك أنه لما نزل (وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ) (٤) كان أحدهما يأتيه السائل فيستقلّ أن يعطيه التمرة والكسرة والجوزة ونحوها ويقول : ما هذا بشيء إنّما نؤجر على ما نعطي ونحن نحبه يقول الله سبحانه : (وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ) فما أحب لنا هذا فرده غفران ، وكان الآخر يتهاون بالذنب اليسير ، الكذبة والغيبة والنظرة وأشباه ذلك ويقول : ليس عليّ من هذا شيء إنّما وعد الله سبحانه النار على الكبائر ، وليس في هذا إثم ، فأنزل الله سبحانه يرغّبهم في القليل من الخير أن يعطوه ، فإنّه يوشك أن يكثر ، ويحذّرهم اليسير من الذنب فإنّه يوشك أن يكبر ، فالإثم الصغير في عين صاحبه يوم القيامة أعلى من الجبال ، وجميع محاسنه أقل في عينه من كل شيء فقال : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ).

سئل ثعلبة عن الذرّة قال : إن مائة مثل وزن حبّة والذرّة واحد منها. وقال يزيد بن [مروان] : زعموا أن الذرّة ليس لها وزن ، ومعنى المثقال الوزن ، وهو مفعال من الثقل ، وقال

__________________

(١) في الأصل : مثاقيل الخير.

(٢) تفسير ابن كثير : ٤ / ٥٧٧.

(٣) مجمع الزوائد : ٧ / ١٤١ ، بتفاوت يسير.

(٤) سورة الدهر : ٨.

٢٦٦

ابن مسعود : أحكم آية في القرآن (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يسمّيها «الجامعة الفاذة» [٢٣١] (١) ، وتصدق سعد بن أبي وقّاص بتمرتين وقبض السائل يده فقال سعد : ويحك تقبل الله منّا مثقال الذرّة والخردلة وكأين في هذه من مثاقيل.

وتصدّق عمر بن الخطّاب وعائشة بحبة من عنب وقالا فيها مثاقيل ذرّ كثر.

وروى المطّلب بن [عبد الله عن عائشة] أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قرأ في مجلس ومعهم أعرابي جالس فقال رسول الله عليه‌السلام : «فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ» فقال الأعرابي : يا رسول الله مثقال ذرّة؟ قال له : «نعم» ، فقال الأعرابي : يا رسول الله مثقال ذرّة؟ قال له «نعم» ، فقال الأعرابي : وا سوأتاه منّا إذا ، ثم قام وهو يقولها فقال رسول الله عليه‌السلام : «لقد دخل قلب الأعرابي الإيمان» [٢٣٢] (٢).

وأخبرنا عبد الله بن حاطب قال : أخبرنا محمد بن عامر السمرقندي قال : حدّثنا عمر بن يحيى قال : حدّثنا عبد بن حميد عن وهب بن جرير عن أبيه قال : سمعت الحسن يقول : «قدم صعصعة عمّ الفرزدق على النبي عليه‌السلام فلمّا سمع (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) قال : حسبي ما أبالي ولا أسمع من القرآن غير هذا» [٢٣٣] (٣).

وقال الربيع بن صبيح : مرّ رجل بالحسن وهو يقرأ هذه السورة ، فلمّا بلغ آخرها قال : «حسبي قد أتممت الموعظة» فقال الحسن : «لقد فقه الرجل» [٢٣٤].

أنشدنا أبو القاسم الحسن بن محمد المفسّر قال : أنشدني أبو الفضل أحمد بن محمد بن حمدون الفقيه قال : أنشدني أبو بكر أحمد بن محمد بن إبراهيم الحواربي بواسط :

إنّ من يعتدي ويكسب إثما

وزن مثقال ذرّة سيراه

ويجازى بفعله الشر شرّا

وبفعل الجميل أيضا جزاه

هكذا قوله تبارك ربّي

في إذا زلزلت جلّ ثناه (٤)

__________________

(١) صحيح البخاري : ٣ / ٧٩.

(٢) تفسير القرطبي : ٢٠ / ١٥٢ والدر المنثور : ٦ / ٣٨١.

(٣) تفسير القرطبي : ٢٠ / ١٥٣ وتفسير مجمع البيان : ١٠ / ٤٢٠.

(٤) تفسير القرطبي : ٢٠ / ١٥٢.

٢٦٧

سورة العاديات

مكّيّة ، وهي مائة وثلاثة وستون حرفا ،

وأربعون كلمة ، وإحدى عشرة آية

أخبرنا الجنازي قال : حدّثنا ابن حبيش قال : أخبرنا أبو العباس الدقّاق قال : حدّثنا عبد الله بن روح قال : حدّثنا شبابة قال : حدّثنا مخلد بن عبد الواحد عن علي بن يزيد عن زر عن أبي قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ سورة العاديات أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من بات بالمزدلفة وشهد جمعا» [٢٣٥].

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالْعادِياتِ ضَبْحاً (١) فَالْمُورِياتِ قَدْحاً (٢) فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً (٣) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً (٤) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً (٥))

(وَالْعادِياتِ ضَبْحاً) قال ابن عباس وعطاء ومجاهد وعكرمة والحسن والكلبي وأبو العالية والربيع وعطية وقتادة ومقاتل وابن كيسان : هي الخيل التي تعدو في سبيل الله وتضبح وهو صوت أنفاسها إذا أجهدت في الجري فيكثر الربو في أجوافها من شدة العدو ، قال ابن عباس : ليس شيء من الدواب يضج غير الفرس والكلب والثعلب.

قال أهل اللغة : أصل الضبح والضباح للثعالب فاستعير في الخيل ، وهو من قول العرب : ضبحته النار إذا غيّرت لونه ، وإنّما تضبح هذه الحيوانات إذا تغيّرت حالها من تعب أو فزع أو طمع ، ونصب قوله : (ضَبْحاً) على المصدر ومجازه : والعاديات تضبح ضبحا قال الشاعر :

لست بالتبّع اليماني إن لم

تضبح الخيل في سواد العراق (١)

وقال آخر :

والعاديات أسابي الدماء بها

كأن أعناقها أنصاب ترجيب (٢) (٣)

__________________

(١) تفسير القرطبي : ٢٠ / ١٥٤.

(٢) البيت لسلامة بن جندل ، والاسابي : الطرق من الدم ، وأسابي الدماء : طرائقها ، والترجيب : دعم الشجرة إذا كثر حملها.

(٣) لسان العرب : ١ / ٤١٣.

٢٦٨

يعني الخيل.

قال مقاتل : بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سرية إلى حي من كنانة واستعمل عليهم المنذر بن عمر الأنصاري أحد النقباء فتأخر خبرهم ، وقال المنافقون : قتلوا جميعا فأخبره الله سبحانه عنها فقال : (وَالْعادِياتِ ضَبْحاً) يعني تلك الخيول غدت حتى ضبحت، وهو صوت ليس بصهيل ولا حمحمة ، وقال الحكماء : هو تقلقل الجرذان في القنب. وقيل : هو صوت إرخاء مشافرها إذا عدت ، قال أبو الضحى : وكان ابن عباس يقول : ضباحها أج أج. وقال قوم : هي الإبل.

أنبأني عبد الله بن حامد قال : أخبرنا أحمد بن محمد بن أبي سعيد قال : حدّثنا الحسن بن محمد بن الصباح قال : حدّثنا مروان بن معاوية قال : حدّثنا إسماعيل بن أبي خالد عن أبي صالح في قوله سبحانه : (وَالْعادِياتِ ضَبْحاً) قال : ما رأى فيه عكرمة؟ فقال عكرمة : قال ابن عباس : هي الخيل في القتال ، فقلت أنا : (قال علي : هي الإبل في الحجّ) ، وقلت : مولاي أعلم من مولاك.

وقال الشعبي تمارى علي ابن عباس في قوله : (وَالْعادِياتِ ضَبْحاً) فقال ابن عباس : هي الخيل ، ألا تراه يقول : (فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً) فهل تثير إلّا بحوافرها ، وهل تضبح الإبل؟ وإنما تضبح الخيل ، فقال علي : ليس كما قلت لقد رأيتنا يوم بدر وما معنا إلّا فرس أبلق للمقداد بن الأسود.

وفي رواية أخرى وفرس لمرثد بن أبي مرثد الغنوي.

وأخبرني عقيل بن أبي الفرج ، أخبرهم عن أبي جرير قال : حدّثني يونس قال : أخبرنا بن وهب قال : حدّثنا أبو صخر عن أبي لهيعة البجلي عن سعيد بن حسين عن ابن عباس حدّثه قال : بينما أنا في الحجر جالس أتاني رجل فسأل عن (الْعادِياتِ ضَبْحاً) ، فقال له : الخيل حين تغير في سبيل الله ثم تأوي إلى الليل فيصنعون طعامهم ويورون نارهم ، فانفتل عني وذهب إلى علي بن أبي طالب وهو تحت سقاية زمزم وسأله عن العاديات ضبحا فقال : «سألت عنها أحدا قبلي».

قال : نعم ، سألت عنها ابن عباس وقال : هي الخيل تغير في سبيل الله قال : «اذهب فادعه لي» ، فلمّا وقف على رأسه قال : «تفتي الناس بما لا علم لك به ، والله إن كانت لأول غزوة في الإسلام بدر ، وما كان معنا إلّا فرسان : فرس للزبير وفرس للمقداد بن الأسود ، فكيف تكون العاديات الخيل ، بل العاديات ضبحا الإبل من عرفة إلى المزدلفة ، ومن المزدلفة إلى منى» [٢٣٦] (١).

قال ابن عباس : فنزعت عن قولي ورجعت إلى الذي قال علي ، وإلى قول علي ذهب ابن مسعود ومحمد بن عمير ومحمد بن كعب والسدي.

__________________

(١) تفسير مجمع البيان : ١٠ / ٤٢٣.

٢٦٩

وقال بعضهم : من قال : هي الإبل قال ضبحا يعني ضبعا بمدّ أعناقها في السير وضبحت وضبعت بمعنى واحد ، قالت صفية بنت عبد المطّلب :

فلا والعاديات غداة جمع

بأيديها إذا سطع الغبار

(فَالْمُورِياتِ قَدْحاً) قال عكرمة وعطاء والضّحاك : هي الخيل توري النار بحوافرها إذا سارت في الحجارة والأرض المحصبة.

وقال مقاتل والكلبي : والعرب تسمي تلك النار نار أبي حباحب.

وكان أبي حباحب شيخا من مضر في الجاهلية وكان من أبخل الناس ، وكان لا يوقد نارا لخبز ولا غيره حتى تنام كل ذي عين ، فإذا نام أصحابه وقد نويرة تقد مرّة وتخمد مرّة ، فإذا استيقظ بها أحد أطفأها كراهية أن ينتفع بها أحد ، فشبّهت العرب هذه النار بناره ، أي لا ينتفع به كما لا ينتفع بنار أبي حباحب.

ومجاز الآية : والقادحات قدحا فخالف بين الصدر والمصدر.

وقال قتادة : هي الخيل تهيج للحرب ونار العداوة بين أصحابها وفرسانها.

وروى سعيد بن حسن عن ابن عباس قال : هي الخيل تغير في سبيل الله ثم تأوي إلى الليل فيصنعون طعامهم ويورون نارهم.

مجاهد وزيد بن أسلم : هي مكر الرجل والعرب تقول إذا أراد الرجل أن يمكر لصاحبه قال : أما والله لأقدحنّ لك ثم لأورينّ لك.

سعيد بن جبير : يعني رجال الحرب. عكرمة : هي ألسنة الرجال توري النار من عظيم ما تتكلّم به.

ابن جريج عن بعضهم : فالمنجّحات عملا كنجاح الوتد إذا أوريّ. محمد بن كعب : هي النيران بجمع.

(فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً) يعني الخيل ، تغير بفرسانها على العدو وقت الصبح ، هذا قول أكثر المفسّرين.

قال القرظي : هي الإبل تدفع بركبانها يوم النحر من جمع إلى منى ، والسنّة أن لا يدفع حتى يصبح ، والإغارة سرعة السير ، ومنه قولهم : أشرق ثبير كما نغير.

(فَأَثَرْنَ) فيهيّجن. وقرأ أبو حيوة فأثرن بالتشديد من التأثير (بِهِ) أي بذلك المكان الذي انتهين إليه كناية عن غير مذكور ؛ لأن المعنى مفهوم مشهور.

(نَقْعاً) أي غبارا (فَوَسَطْنَ بِهِ) أي دخلن به وسطهم يقال : وسطت القوم ، بالتخفيف ،

٢٧٠

ووسّطتهم بالتشديد ، وتوسطتهم كلّها بمعنى واحد ، وقرأ قتادة فوسّطن ، بالتشديد (جَمْعاً) أي جمع العدو وهم الكتيبة ، وقال القرظي : يعني جمع منى.

(إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (٦) وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ (٧) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (٨) أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ (٩) وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ (١٠) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (١١))

(إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ) قال ابن عباس ومجاهد وقتادة والربيع : لكفور جحود لنعم الله تعالى. قال الكلبي : هو بلسان كندة وحضرموت ، وبلسان معد كلهم : العاصي ، وبلسان مضر وربيعة وقضاعة : الكفور ، وبلسان بني مالك البخيل.

وروى شعبة عن سماك أنه قال : إنما سميت كندة ؛ لأنها قطعت أباها.

وقال ابن سيرين : هو اللوّام لربه. وقال الحسن : هو الذي يعدّ المصائب وينسى النعم ، أخذه الشاعر فقال :

يا أيها الظالم في فعله

والظلم مردود على من ظلم

إلى متى أنت وحتى متى

تشكو المصيبات وتنسى النّعم (١)

وأخبرنا أبو القمر بن حبيب في صفر سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة قال : أخبرنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن سعد الرازي قال : حدّثنا العباس بن حمزة قال : حدّثنا أحمد بن محمد قال : حدّثنا صالح بن محمد قال : حدّثنا سلمة عن جعفر بن الزبير عن القميّ عن أبي أمامة عن رسول الله عليه‌السلام في هذه الآية : (إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ) قال رسول الله عليه‌السلام : «أتدرون ما الكنود؟» ، فقالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : «الكنود [قال : هو الكفور الذي] يأكل وحده ، ويمنع رفده ، ويضرب عبده» [٢٣٧] (٢).

وقال عطاء : الكنود الذي لا يعطي في النائبة مع قومه. وقال أبو عبيدة : هو قليل الخير ، والأرض الكنود التي لا تنبت شيئا (٣)! قال أبو ذبيان :

إن نفسي ولم أطب عنك نفسا

غير أنّي أمنى بدهر كنود (٤)

وقال الفضيل بن عياض : الكنود الذي أنسته الخصلة الواحدة من الإحسان الخصال الكثيرة من الإساءة.

__________________

(١) تفسير القرطبي : ٢٠ / ١٦٠ مورد الآية.

(٢) تفسير الدر المنثور : ٦ / ٣٨٤ ، وكنز العمال : ٢ / ٤٨ ح ٣٠٦٤.

(٣) راجع تفسير الطبري : ٣٠ / ٣٥٣.

(٤) فتح القدير : ٥ / ٤٨٣ بتفاوت.

٢٧١

وقال أبو بكر الورّاق : الكنود الذي يرى النعمة من نفسه وأعوانه. محمد بن علي الترمذي : هو الذي يرى النعمة ولا يرى المنعم ، وقال أبو بكر الواسطي : هو الذي ينفق نعم الله سبحانه في معاصي الله ، وقال بسّام بن عبد الله : هو الذي يجادل ربّه على عقد العوض. ذو النّون : تفسير الهلوع والكنود قوله : (إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً) (١).

وقيل : هو الذي يكفر باليسير ولا يشكر الكثير ، وقيل : الحقود ، وقيل : الحسود. وقيل : جهول القدر. وفي الحكمة من جهل قدره هتك ستره. وقال بعضهم والحسن : رأسه على وسادة النعمة وقلبه في ميدان الغفلة. وقيل : يرى ما منه ولا يرى ما إليه ، وجمع الكنود كند. قال الأعشى :

أحدث لها [تحدث] لوصلك أنّها

كند لوصل الزائر المعتاد (٢)

(وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ) قال أكثر المفسّرين : وإن الله على كنود هذا الإنسان وصنيعه لشاهد ، وقال ابن كيسان : ال (هاء) راجعة إلى الإنسان ، يعني أنّه شاهد على نفسه بما يصنع ، و (إِنَّهُ) يعني الإنسان (لِحُبِّ الْخَيْرِ) أي المال.

وقال ابن زيد : سمّى الله المال خيرا وعسى أن يكون خبيثا وحراما ولكن الناس يعدّونه خيرا فسمّاه الله خيرا ؛ لأن الناس يسمّونه خيرا وسمي الجهاد سوءا فقال : (فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ) (٣) أي قتال. وليس هو عند الله بسوء ولكن سمّاه الله سوءا ؛ لأنّ الناس يسمّونه سوءا.

ومعنى الآية وإنه من أجل حبّ المال (لَشَدِيدٌ) بخيل ، ويقال للبخيل : شديد ومتشدّد ، قال طرفة :

أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي

عقيلة مال الفاحش المتشدّد (٤)

والفاحش : البخيل أيضا قال الله سبحانه : (وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ) (٥) أي البخل ، وقيل : معناه : وإنّه لحب الخير لقويّ ، وقال الفرّاء : كان موضع الحب أن يكون بعد شديد وأن يضاف شديد إليه فيقال : وإنّه لشديد الحبّ للخير ، فلمّا يقدم الحبّ قبل شديد وحذف من آخره لمّا جرى ذكره في أوله ، ولرؤوس الآيات كقوله سبحانه : (فِي يَوْمٍ عاصِفٍ) (٦) والعصوف لا يكون

__________________

(١) سورة المعارج : ٢٠ ـ ٢١.

(٢) تفسير الطبري : ٣٠ / ٣٥٣.

(٣) سورة آل عمران : ١٧٤.

(٤) لسان العرب : ٣ / ٢٣٤.

(٥) سورة البقرة : ٢٦٨.

(٦) سورة إبراهيم : ١٨.

٢٧٢

للأيّام إنّما يكون للريح ، فلمّا جرى ذكر الريح قبل اليوم طرحت من آخره كأنه قيل : في يوم عاصف الريح.

(أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ) يحث وأثير ، قال الفرّاء : وسمعت بعض أعراب بني أسد يقرأ : بحثر بالحاء وقال : هما لغتان.

(ما فِي الْقُبُورِ) فأخرجوا منها (وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ) أي ميّز وأبرز ما فيها من خير أو شرّ ، وقرأ عبيد بن عمير وسعيد بن جبير حَصَلَ بفتح الحاء وتخفيف الصاد أي ظهر.

(إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ) جمع الكناية لأنّ الإنسان اسم الجنس.

(يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ) عالم ، والقراءة بكسر الألف لأجل اللام ، ولولاها لكانت مفتوحة بوقوع العلم عليها. وبلغني أن الحجاج بن يوسف قرأ على المنبر هذه السورة يحضّ الناس على الغزو فجرى على لسانه : أنّ ربهم بفتح الألف ثم استدركها من جهة العربية فقال : خبير ، وأسقط اللام.

٢٧٣

سورة القارعة

مكّيّة ، وهي مائة واثنان وخمسون حرفا ،

وست وثلاثون كلمة ، واحدى عشرة آية

أخبرني ابن المقري قال : أخبرنا ابن مطر قال : حدّثنا ابن شريك قال : حدّثنا ابن يونس قال : حدّثنا ابن سليم قال : حدّثنا ابن شبر عن ابن أسلم عن أبيه عن أبي أمامة عن أبيّ بن كعب قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ القارعة ثقّل الله سبحانه بها ميزانه يوم القيامة» [٢٣٨] (١).

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الْقارِعَةُ (١) مَا الْقارِعَةُ (٢) وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ (٣) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ (٤) وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (٥) فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ (٦) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (٧) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ (٨) فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ (٩) وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ (١٠) نارٌ حامِيَةٌ (١١))

(الْقارِعَةُ * مَا الْقارِعَةُ * وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ * يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ) وهي الطير التي تتساقط في النار ، المبثوث : المتفرّق. قال الفرّاء : الغوغاء : الجراد يركب بعضه بعضا من الهول.

(وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ) كالصوف المصبوغ المبلل.

(فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ) مرضيّة في الجنة.

(وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ * فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ) مسكنه ومأواه النار. قال قتادة : هي كلمة عربية ، كان الرجل إذا وقع في أمر شديد قال : هوت أمّه ، وقال بعضهم : أراد أمّ رأسه ، يعني أنهم يهوون في النار على رؤوسهم ، وإلى هذا التأويل ذهب قتادة وأبو صالح.

(وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ) أي من؟ فقال : (نارٌ حامِيَةٌ).

__________________

(١) تفسير مجمع البيان : ١٠ / ٤٢٦.

٢٧٤

وأخبرنا ابن حامد قال [حدّثنا] صالح بن محمد قال : حدّثنا إبراهيم بن محمد عن جعفر ابن زيد عن أنس بن مالك قال : إن ملكا من ملائكة الله عزوجل موكّل يوم القيامة بميزان ابن آدم ، فيجاء به حتى يوقف بين كفتي الميزان ، فيوزن عمله فإن ثقل ميزانه نادى الملائكة بصوت يسمع جميع الخلق باسم الرجل : ألا سعد فلان سعادة لا شقاوة بعدها ، وإن خفّت موازينه ينادي الملائكة : ألا شقي فلان شقاوة لا سعادة بعدها.

٢٧٥

سورة التكاثر

مكّيّة ، وهي مائة وعشرون حرفا ،

وثمان وعشرون كلمة ، وثماني آيات

أخبرني محمد بن القثم قال : حدّثنا محمد بن مطر قال : حدّثنا إبراهيم بن شريك قال : حدّثنا أحمد بن يونس قال : حدّثنا سلام بن سليم قال : حدّثنا هارون بن كثير عن زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي أمامة عن أبي قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من قرأ (أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ) لم يحاسبه بالنعيم الذي أنعم عليه في دار الدنيا ، وأعطي من الأجر كأنما قرأ ألف آية» [٢٣٩] (١).

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ (١) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ (٢) كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣) ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (٤) كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (٥) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (٦) ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ (٧) ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (٨))

(أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ) يقول : شغلتكم المباهاة والمفاخرة بكثرة المال والعدد عن طاعة ربّكم وما ينجيكم من سخطه عليكم (حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ) أي متّم فدفنتم فيها.

قال قتادة : نزلت في اليهود قالوا : نحن أكثر من بني فلان ، وبنو فلان أكثر من بني فلان ، ألهاهم ذلك حتى ماتوا ضلّالا. وقال ابن بريدة : نزلت في فخذ من الأنصار تفاخروا. مقاتل والكلبي : نزلت في حيّين من قريش : بني عبد مناف وبني قصي ، وبني سهم بن عمرو بن هصيص ابن كعب ، كان بينهم لحاء فتعادّوا السادة والأشراف أيّهم أكثر فقال بنو عبد مناف : نحن أكثر سيّدا وأعزّ عزيزا وأعظم نفرا وأكثر عددا.

وقال بنو سهم مثل ذلك فكثرهم بنو عبد مناف ثم قالوا : نعدّ موتانا حتى زاروا القبور فعدّوهم ، وقالوا : هذا قبر فلان وهذا قبر فلان ، فكثرهم بنو سهم بثلاثة أبيات ؛ لأنهم كانوا أكثر عددا في الجاهلية فأنزل الله سبحانه هذه الآية.

__________________

(١) تفسير مجمع البيان : ١٠ / ٤٣٠.

٢٧٦

أخبرنا أبو القاسم عبد الرحمن بن أحمد بن جعفر ، وأبو بكر أحمد بن الحسن بن أحمد الحبريان قالا : أخبرنا أبو محمد حاجب بن أحمد بن [سفيان] قال : حدّثنا عبد الرحمن بن مسيّب قال : حدّثنا النضر بن شميل قال : أخبرنا شعبة عن قتادة عن مطرف بن عبد الله عن النخير عن أبيه قال : انتهيت إلى رسول الله عليه‌السلام وهو يقرأ هذه الآية : (أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ) قال : يقول ابن آدم : ما لي ما لي ، وهل لك إلّا ما أكلت فأفنيت ، أو لبست فأبليت ، أو تصدّقت فأمضيت.

وروى زر بن حبيش عن علي بن أبي طالب قال : ما زلنا نشكّ في عذاب القبر حتى نزلت (أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ) إلى (كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ) يعني في القبر.

(كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ) وعيد لهم (ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ) والتكرير على التأكيد ، وقال الضحّاك : (كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ) يعني الكفّار ثمّ كلّا سوف يعلمون يعني المؤمنين ، وكذلك كان يقرأها : الأولى بالتاء والثانية بالياء ثم (كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ) أي علما يقينا فأضاف العلم إلى اليقين لقوله سبحانه : (إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ) (١) قال قتادة : كنّا نحدّث أن علم اليقين أن يعلم أن الله باعثه بعد الموت.

(ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ) يصلح أن يكون في معنى المضي جوابا لـ (لو) ، تقديره : لو تعلمون العلم اليقين لرأيتم الجحيم بقلوبكم ، ثم رأيتموها بالعين اليقين.

وقيل : معناه لو تعلمون علم اليقين لشغلكم عن التكاثر والتفاخر ، ثم استأنف (لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ) على نيّة القسم ، وإلى هذا ذهب مقاتل ، وقيل : معناه : لو علمتم يقينا أنكم ترون النار لشغلكم ذلك عما أنتم فيه.

وقيل : ذكر (كلّا) ثلاث مرّات أراد : تعلمون عند النزوع ، وتعلمون في القبر ، وتعلمون في القيامة ، ثم ذكر في الثالثة علم اليقين ؛ لأنّه صار عيانا ما كان مغيّبا.

وقراءة العامّة لَتُرَوُنَّ بضم التاء في الحرفين ، وضمّ الكسائي التاء في الأولى منهما وفتح الأخرى ، ورواه عن علي رضي‌الله‌عنه.

أخبرنا محمد بن عبدوس قال : حدّثنا محمد بن يعقوب قال : حدّثنا محمد بن الجهم قال : حدّثنا الفرّاء قال : أخبرني محمد بن الفضل عن عطاء عن أبي عبد الرحمن السلمي عن علي أنه قرأ لَتُرَوُنَّ الْجَحِيمَ (ثُمَّ لَتَرَوُنَّها) بضم التاء الأولى وفتح الثانية ، وقال الفرّاء : الأول أشبه بكلام العرب ؛ لأنّه تغليظ فلا ينبغي أن يختلف لفظه.

__________________

(١) سورة الواقعة : ٩٥.

٢٧٧

(ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) (١) اختلفوا فيه وأكثروا ، فأخبرنا أبو علي الحسين بن محمد ابن علي بن إبراهيم السراج بقراءتي عليه في الجامع يوم الجمعة في المحرم سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة قال : حدّثنا أبو بكر محمد بن علي بن مهران الخشّاب ، قال حدّثنا علي بن سعيد العسكري قال : حدّثنا الحسين بن معاذ الأخفش مستملي أبي حفص الفلاس قال : حدّثنا إبراهيم ابن أبي سويد الذارع قال : حدّثنا سويد أبو حاتم عن قتادة عن عبد الله بن سفيان عن أبي هريرة عن النبي عليه‌السلام (لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) قال : «عن الماء البارد» [٢٤٠] (٢).

وحدّثنا أبو الحسن محمد بن علي بن الحسين بن القيّم الحسني السّني قال : حدّثنا أحمد ابن علي بن مهدي بن صدقة بالرملة قال : حدّثني أبي قال : حدّثنا علي بن موسى الرضا قال : حدّثني أبي موسى بن جعفر قال : حدّثني أبي جعفر بن محمد قال : حدّثني أبي محمد بن علي ، قال حدّثني أبي علي بن الحسين قال : حدّثني أبي الحسين بن علي قال : حدّثني أبي علي بن أبي طالب قال : قال رسول الله عليه‌السلام في قول سبحانه : (ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) قال : «الرطب والماء البارد» (٣).

وقال عبد الله بن عمر : هو الماء البارد في الصيف ، ودليل هذا التأويل الخبر المأثور : «أن أول ما يسأل الله سبحانه العبد يوم القيامة أن يقول له : ألم أصحّ جسمك وأروك من الماء البارد» [٢٤١] (٤).

وقال أنس بن مالك : ضاف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المقداد بن الأسود فقدم إليه طعاما فأكله ثم سقاه ماء باردا فاستطابه وقال : «يا بردها على الكبد» ، ثم قال : «إذا شرب أحدكم الماء فليشرب أبرد ما يقدر عليه» قيل ولم؟ قال «أطيب للمعدة ، وأنفع للعلّة ، وأبعث على الشكر» [٢٤٢] (٥).

وسمعت أبا القاسم الحبيبي يقول : سمعت أبا زكريّا العنبري يقول : سمعت أبا العباس الأزهري يقول : سمعت أبا حاتم يقول : الماء البارد العذب يستخرج الحمد من جوف القلب.

وقال مالك بن دينار : قال رجل للحسن : إنّ لنا جارا لا يأكل الفالود ويقول : لا أقوم بشكره ، فقال : ما أجهل جاركم بنعمة الله عليه بالماء البارد أكثر من نعمة بجميع الحلاوي!

وأخبرنا أبو الحسن عبد الرحمن بن إبراهيم بن محمد بن يحيى قال : أخبرنا أبو محمد عبد الله بن أحمد [بن محمد الرومي] قال : حدّثنا أبو حفص محمد بن حفص البصري قال : حدّثنا

__________________

(١) سورة التكاثر : ٨.

(٢) الدر المنثور : ٦ / ٣٩١.

(٣) تفسير نور الثقلين : ٥ / ٦٦٥.

(٤) المعجم الأوسط : ١ / ٢٦ وكنز العمال : ٣ / ٢٥٤ ح ٦٤١٦ بتفاوت يسير.

(٥) سبيل الهدى والرشاد : ١٢ / ١٠٤ عن المصنف.

٢٧٨

عبد الله بن سلمة بن عياش قال : حدّثنا الأشعث بن نزار عن قتادة عن عبد الله بن شقيق عن أبي هريرة أن النبي عليه‌السلام في قول الله جلّ ثناؤه (ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) قال : «من أكل خبز البرّ ، وشرب الماء المبرّد ، وكان له ظل ، فذلك النعيم الذي يسأل عنه» [٢٤٣] (١) (٢).

وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا بن مالك قال : حدّثنا ابن حنبل قال : حدّثني الوليد بن شجاع قال : حدّثنا محمد بن سعيد الأصبهاني عن ابن أبي ليلى عن الشعبي عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) قال : «الأمن والصحة» (٣).

وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن برزة قال : حدّثنا محمد بن غالب بن حرب قال : حدّثني زكريّا بن يحيى الرقاشي المنقري قال : حدّثنا عبد الله بن عيسى بن خلف قال : حدّثنا يونس بن عبد عن عكرمة عن ابن عباس أنّه سمع عمر بن الخطاب يقول : خرج علينا رسول الله عليه‌السلام عند الظهيرة فوجد أبا بكر في المسجد فقال : «يا أبا بكر ما أخرجك في هذه الساعة؟» قال : يا رسول الله أخرجني الذي أخرجك.

قال : وجاء عمر فقال له رسول الله : «يا أبا الخطّاب ما أخرجك؟» قال : يا رسول الله الذي أخرجكما. وقعد معهما عمر قال : فأقبل رسول الله عليه‌السلام يحدّثهما ثم قال : «هل لكما من قوّة فتنطلقان إلى هذا النخل فتصيبان طعاما وشرابا وظلّا؟» قلنا : نعم ، قال : «مرّوا بنا إلى أبي الهيثم بن التيهان الأنصاري» فتقدّم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين أيدينا فاستأذن وسلّم عليهم ثلاث مرّات ، وأمّ الهيثم تسمع الكلام من وراء الباب ، وتريد أن يزيدهم رسول الله عليه‌السلام ، فلمّا أراد رسول الله عليه‌السلام أن ينصرف خرجت أمّ الهيثم تسعى خلفهم فقالت : يا رسول الله لقد سمعت تسليمك ولكنّي أردت أن تزيدنا من سلامك.

فقال لها رسول الله عليه‌السلام : «أين أبو الهيثم؟» قالت : يا رسول الله هو قريب ، ذهب يستعذب لنا من الماء ، ادخلوا فإنه يأتي الساعة إن شاء الله.

وبسطت لهم بساطا تحت شجرة حتى جاء أبو الهيثم ، ففرح بهم أبو الهيثم وقرّت عينه ، وصعد أبو الهيثم على نخلة يصرم لهم عذقا ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «حسبك يا أبا الهيثم» قال : يا رسول الله تأكلون من بسره ومن رطبه وتذنوبه (٤) ثم أتاهم فشربوا عليه فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هذا من النعيم الذي تسألون عنه».

__________________

(١) مسند أحمد : ٥ / ٣٩.

(٢) كنز العمال : ٢ / ٥٥٥ ح ٤٧١٥ وتفسير الدر المنثور : ٦ / ٣٨٨ مورد الآية وفيه : وشرب ماء الفرات باردا ـ وكان له منزل يسكنه.

(٣) تفسير الطبري : ٣٠ / ٣٦٥.

(٤) التذنوب : الذي بدأ فيه الأرطاب من قبل ذنبه.

٢٧٩

ثم قام أبو الهيثم إلى شاة لهم ليذبحها ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إياك واللبون» وقامت أمّ الهيثم تعجن لهم وتخبز فوضع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبو بكر وعمر رؤوسهم للقائلة ، فانتبهوا وقد أدرك طعامهم فوضع بين أيديهم الطعام فأكلوا وشبعوا وحمدوا الله عزوجل ، ثمّ ردّ عليهم أبو الهيثم بقية الأعذاق فأكلوا من رطبه [ومن تذنوبه] فسلّم عليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ودعا لهم بخير [٢٤٤] (١).

وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن شنبه قال : حدّثنا الفريابي قال : حدّثنا منصور بن أبي مزاحم قال : حدّثنا أبو سعيد المؤذّن وهو محمد بن مسلم بن أبي للوضّاح عن محمد بن عمر عن صفوان بن سليم عن محمود بن لبيد قال : لمّا نزلت هذه الآية : (ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) قالوا : يا رسول الله عن أيّ نعيم نسأل وإنّما هما هذان الأسودان التمر والماء ، وسيوفنا على عواتقنا؟ قال : «إنّ ذاك لكائن» [٢٤٥] (٢).

وأخبرنا الفنجوي قال : حدّثنا القطيعي قال : حدّثنا ابن حنبل قال : حدّثنا أبي قال : حدّثنا عنّان قال : حدّثنا يزيد بن إبراهيم قال : أخبرنا يوسف ابن أخت ابن سيرين عن أبي قلابة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قول الله سبحانه : (ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) قال : «ناس من أمّتي يعقدون السمن والعسل بالنقي فيأكلونه» [٢٤٦] (٣).

وأخبرنا ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن شنبه قال : حدّثنا الفريابي قال : حدّثنا إبراهيم بن عبد الله قال : أخبرنا هيثم قال : أخبرنا منصور بن زاذان عن ابن سيرين عن ابن عمر قال : لا يدخل الحمّام فإنّه ممّا أحدثوا من النعيم ، قال : وكان منصور لا يدخل الحمّام.

وأخبرني الحسين قال : حدّثنا [أحمد بن جعفر بن حمدان] قال : حدّثنا محمود (٤) بن الفرج قال : حدّثنا ابن أبي الشوارب قال : حدّثنا أبو عوانة عن ابراهيم الهجري عن أبي الأحوص عن عبد الله عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «إن الله سبحانه ليعدد نعمه على العبد في المصدر : [يوم القيامة حتى يعد عليه] : سألتني فلانة أن أزوجكها ، يسمّيها باسمها فزوجتكها» [٢٤٧] (٥).

وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا بن صقلاب قال : حدّثنا ابن أبي الخصيب قال : حدّثني محمد بن عيسى قال : حدّثنا فضل بن سهل قال : حدّثنا حفص بن عمر قال : حدّثنا الحكم بن أبان عن عكرمة قال : لمّا نزلت (ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) قالت الصحابة : يا رسول الله

__________________

(١) المعجم الكبير : ١٩ / ٢٥٤ ، مجمع الزوائد : ١٠ / ٣١٧ ، ومسند أبي يعلى : ١ / ٢١٥ ح ٢٥٠.

(٢) مجمع الزوائد : ٧ / ١٤٢ بتفاوت يسير.

(٣) الدر المنثور : ٦ / ٣٨٨ وفتح القدير : ٥ / ٤٩٠.

(٤) رواه في غير موضع : أحمد بن الفرج.

(٥) تفسير القرطبي : ٢٠ / ١٧٧.

٢٨٠