الكشف والبيان - ج ١٠

أبو إسحاق أحمد [ الثّعلبي ]

الكشف والبيان - ج ١٠

المؤلف:

أبو إسحاق أحمد [ الثّعلبي ]


المحقق: أبي محمّد بن عاشور
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٤٤

فيقولون : ما لنا إله إلّا الله وما كنا نعبد غيره ، فينصرف الله تعالى فيمكث ما شاء أن يمكث ، ثمّ يأتيهم فيقول : أيّها الناس ذهب الناس فالحقوا بآلهتكم وما كنتم تعبدون ، فيقولون والله ما لنا إله إلّا الله وما كنا نعبد غيره ، فيكشف لهم عن ساق ويتجلى لهم من عظمته ما يعرفون أنه ربّهم ، فيخرون سجّدا على وجوههم ويخر كل منافق على قفاه يجعل الله أصلابهم كصياصي البقر ، ثمّ يضرب الصراط بين ظهراني جهنم» [١٧] (١).

أخبرنا عقيل بن محمد بن أحمد أن أبا الفرج البغدادي القاضي ، أخبرهم عن أبي جعفر الطبري ، حدّثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، حدّثنا أبي وشعيب بن الليث عن الليث ، حدّثنا خالد بن يزيد بن أسلم عن أبي هلال ، قال أبو جعفر : وحدّثني موسى بن عبد الرحمن بن المسروقي ، حدّثنا جعفر بن عون ، حدّثنا هشام بن سعيد ، حدّثنا زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا كان يوم القيامة نادى مناد : ألا ليلحق كل أمة بما كانوا يعبدون (فيذهب أصحاب الصليب مع صليبهم وأصحاب الأوثان مع أوثانهم وأصحاب كلّ آلهة مع آلهتهم) (٢) فلا يبقى أحد كان يعبد صنما ولا وثنا ولا صورة إلّا ذهبوا حتى يتساقطون في النار ، ويبقى من كان يعبد الله وحده من بر وفاجر وغبرات من أهل الكتاب ، ثمّ يؤتى بجهنم تعرض كأنها سراب يحطم بعضها ، بعضا ثمّ يدعى اليهود فيقال : ماذا كنتم تعبدون؟

فيقولون : عزير بن الله فيقول : كذبتم ما اتخذ الله من صاحبة ولا ولد فماذا تريدون؟ فيقولون : أي ربنا ظمئنا اسقنا فيقول : أفلا تردّون فيذهبون حتى يتساقطون في النار ، ثمّ يدعى النصارى فيقول : ماذا كنتم تعبدون؟ فيقولون : (الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ) فيقول : كذبتم ما اتخذ الله من صاحبة ولا ولد ، فماذا تريدون؟ فيقولون : أي ربّنا ظمئنا اسقنا ، فيقول : أفلا تردّون فيذهبون فيتساقطون في النار ، فيبقى من كان يعبد الله تعالى من بر وفاجر ، ثمّ يأتي الله تعالى جل جلاله لنا في صورة غير صورته التي رأيناه فيها أوّل مرة ، فيقول : أيها الناس لحقت كل أمة بما تعبد ، ونحن ننظر ربنا الذي كنا نعبد ، فيقول : أنا ربكم فيقولون : نعوذ بالله منك ، فيقول : هل بينكم وبين الله من آية تعرفونها؟ فيقولون : نعم ، فيكشف عن ساق فيخرون سجدا لله تعالى أجمعون ، ولا يبقى من كان سجد في الدنيا سمعة ورياء ولا نفاقا إلّا صار ظهره طبقا واحدا ، كلما أراد أن يسجد خر على قفاه ، ثمّ يدفع برّنا ومسيئنا وقد عاد لنا في صورته التي رأيناه فيها أوّل مرّة ، فيقول : أنا ربكم فيقولون : نعم أنت ربّنا ثلاث مرّات» [١٨] (٣).

__________________

(١) الدر المنثور : ٥ / ٣٤١ بتفاوت.

(٢) غير موجود في المصدر.

(٣) جامع البيان للطبري : ٢٩ / ٥٠.

٢١

وبه قال أبو جعفر بن جرير الطبري ، حدّثنا أبو لهب ، حدّثنا أبو بكر ، حدّثنا الأعمش ، عن المنهال عن قيس بن بكر ، قال : حدثني عبد الله وهو عند عمر قال : إذا كان يوم القيامة يقوم الناس بين يدي رب العالمين أربعين عاما ، شاخصة أبصارهم إلى السماء ، حفاة عراة يلجمهم العرق ، ولا يكلّمهم بشيء أربعين عاما ، ثمّ ينادي مناد : يا أيها الناس أليس عدلا من ربكم الذي خلقكم وصوّركم ورزقكم ثمّ عبدتم غيره أن يولي كل قوم ما تولوا؟ قالوا : نعم ، قال : فيرفع لكل قوم ما كانوا يعبدون من دون الله فيتبعونها حتى تقذفهم في النار ، فيبقى المسلمون والمنافقون فيقال : ألا تذهبون قد ذهب الناس؟ فيقولون : حتى يأتينا ربّنا ، قال : وتعرفونه؟ قالوا : إن اعترف لنا ، قال : فعند ذلك يكشف عن ساق ويتجلى لهم فيخرّ من كان يعبده ساجدا ويبقى المنافقون لا يستطيعون كأنّ في ظهورهم السفافيد فيذهب بهم إلى النار ويدخل هؤلاء الجنّة ، فذلك قوله سبحانه وتعالى : (وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ * خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ) وذلك أن المؤمنين يرفعون رؤوسهم ووجوههم أشد بياضا من الثلج ، وتسوّد وجوه الكافرين والمنافقين. (وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ) في الدنيا. (إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ) أصحاء فلا يأتونه ويأبونه.

قال إبراهيم التيمي : يدعون إلى الصلاة المكتوبة بالأذان والإقامة فيأبونه. وقال سعيد بن جبير : كانوا يسمعون حيّ على الفلاح فلا يجيئون. قال كعب الأحبار : والله ما نزلت هذه الآية إلّا في الذين يتخلّفون عن الجماعات.

ويروى أنّ ربيع بن الجثم عرض له الفالج فكان يتهادى (١) بين رجلين إلى المسجد ، فقيل له : يا أبا يزيد لو جلست فإن لك رخصة ، قال : من سمع حي على الفلاح فليجب ولو حبوا.

قيل لسعيد بن المسيب : إنّ طارقا يريد قتلك فتغيّب ، فقال : أحيث لا يقدره عليّ الله ، فقيل له : فاجلس ، فقال : أسمع حيّ على الفلاح فلا أجيب (٢).

(فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ) أي فدعني والمكذبين بهذا القرآن. (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ) سنأخذهم (مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ) فيعذّبوا يوم بدر. وقيل : معناه سنزيدهم حزنا وخذلانا فيزدادوا عصيانا وطغيانا.

وقال سفيان الثوري : يسبغ عليهم النعم وينسيهم الشكر. وقال [العباد] (٣) : لم نعاقبهم في وقت مخالفتهم فيستيقظوا بل أمهلناهم ومددنا لهم في النعم حتى زال عنهم خاطر التدبير ، فكانوا منعّمين في الظاهر مستدرجين في الحقيقة.

__________________

(١) في المخطوط : تهادى.

(٢) تفسير القرطبي : ١٨ / ٢٥١.

(٣) كذا في المخطوط.

٢٢

وقال الحسن : كم مستدرج بالإحسان إليه ، وكم من مفتون بالثناء عليه ، وكم من مغرور بالستر عليه.

(وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ * أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ * أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ * فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ) في الضجر والغضب والعجلة وهو يونس عليه‌السلام.

(إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ) مغموم (لَوْ لا أَنْ تَدارَكَهُ) أدركه ، وفي مصحف عبد الله (تداركته) بالتاء. (نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ) حين رحمه وتاب عليه (لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ) مليم مجرم.

(فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا) وذلك أنّ الكفار أرادوا أن يعيّنوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويصيبوه بالعين ، فنظر إليه قوم من قريش ، وقالوا : ما رأينا مثله ولا مثل حججه.

وقيل : كانت العين في بني أسد ، حتى أن كانت الناقة السمينة والبقرة السمينة تمرّ بأحدهم فيعاينها ثمّ يقول : يا جارية خذي المكيل والدرهم فأتينا بلحم من لحم هذه البقرة ، فما تبرح حتى تقع بالموت فتنحر.

وقال الكلبي : كان رجل من العرب يمكث لا يأكل يومين أو ثلاثة ، ثمّ يرفع جانب خبائه فتمر به الإبل فيقول : لم أر كاليوم إبلا ولا غنما أحسن من هذه ، فما تذهب إلّا قريبا حتى يسقط منها طائفة وعدة ، فسأل الكفار هذا الرجل أن يصيب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالعين ويفعل به مثل ذلك (١) ، فأجابهم وأنشد :

قد كان قومك يحسبونك سيدا

وأخال أنّك سيد معيون (٢)

فعصم الله تعالى نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأنزل (وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا) يعني : ويكاد الذين كفروا.

(لَيُزْلِقُونَكَ) دخلت اللام لمكان إن ، وقرأ الأعمش وعيسى ليرهقونك ، وهي قراءة ابن عباس وابن مسعود أي يهلكونك ، وقرأ أهل المدينة بفتح الياء (لَيُزْلِقُونَكَ) ، وقرأ غيرهم بضمه ، وهما لغتان ، يقال : زلّفه تزلقه زلقا ، أزلقه تزلقه إزلاقا بمعنى واحد ، واختلفت (٣) عبارات المفسرون في تأويله.

قال ابن عباس : يقذفونك بأبصارهم (لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ).

ويقال : زهق السهم وزلق إذا نفذ ، وقال قتادة ، بمعنى يزهقونك ، معمر عن الكلبي : يصرعونك ، حيان عنه : يصرفونك عما أنت عليه من تبليغ الرسالة ، عطية : يرجونك ، المؤرخ :

__________________

(١) أسباب النزول للواحدي : ٢٤٩.

(٢) الصحاح : ٦ / ٢١٧١.

(٣) في المخطوط : واختلف.

٢٣

يزيلونك ، النضر بن شميل والأخفش : يعينونك ، قال عبد العزيز بن يحيى : ينظرون إليك نظرا شزرا بتحديق شديد يروّعنك به ويظهرون العداوة لك. السدي : يصيبونك بعيونهم ، ابن زيد : ليمسوك ، جعفر : ليأكلونك ، الحسن وابن كيسان : ليقتلونك ، وهذا كما يقال : صرعني بطرفه وقتلني بعينه ، وقال الشاعر :

ترميك مزلقة العيون بطرفها

وتكلّ عنك نصال نبل الرامي

وقال آخر :

يتقارضون إذا التقوا في موطن

نظرا يزيل مواطئ الأقدام (١)

وقال الحسن : دواء إصابة العين أن يقرأ الإنسان هذه الآية. وقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : العين حق «وأن العين لتدخل الرجل القبر ، والجمل القدر» [١٩] (٢).

(وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ * وَما هُوَ) يعني محمدا ، وقيل : القرآن (إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ).

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١٨ / ٢٥٦.

(٢) تفسير القرطبي : ٩ / ٢٢٦.

٢٤

سورة الحاقة

مكّية : وهي ألف وأربعة وثمانون حرفا ،

وست وخمسون كلمة ، واثنان وخمسون آية

أخبرنا كامل بن أحمد ، وأخبرنا محمد بن مسلم ، قال : حدّثنا إبراهيم بن شريك ، قال : حدّثنا أحمد بن يونس ، قال : حدّثنا هارون بن كثير ، عن زيد بن أسلم ، عن أبيه عن أبي أمامة عن أبي بن كعب ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ سورة الحاقة حاسبه الله (حِساباً يَسِيراً)» [٢٠] (١).

وأخبرنا أبو الحسين الخبازي ، قال : حدّثنا أبو الشيخ الحافظ ، قال : حدّثنا الحسن بن محمد ، قال : حدّثنا أبو زرعة ، قال : حدّثنا عمرو بن عثمان ، قال : حدّثنا محمد بن حميد عن فضالة بن شريك عن أبي الزاهرية ، قال : سمعته يقول : من قرأ إحدى عشرة آية من سورة الحاقة أجير من فتنة الدجال ، ومن قرأها كان له نورا من فوق رأسه إلى قدمه.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الْحَاقَّةُ (١) مَا الْحَاقَّةُ (٢) وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ (٣) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ (٤) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (٥) وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ (٦) سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ (٧) فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ (٨) وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكاتُ بِالْخاطِئَةِ (٩) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً (١٠) إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ (١١) لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ (١٢) فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ (١٣) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً (١٤) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (١٥) وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ (١٦) وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ (١٧))

(الْحَاقَّةُ. مَا الْحَاقَّةُ) أي القيامة ، وسمّيت حاقّة لأنها حقّت فلا كاذبة لها. ولأن فيها حواق الأمور وحقائقها. ولأنّ فيها يحق الجزاء على الأعمال أي يجب ، فيقال : حق عليه الشيء

__________________

(١) تفسير مجمع البيان : ١٠ / ١٠٢.

٢٥

إذا وجب بحق حقوقا ، قال الله سبحانه : (وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ) (١) وقال الكسائي والمؤرخ : (الْحَاقَّةُ) : يوم الحق ، يقول العرب : لما عرفت الحق مني.

و (الْحَاقَّةُ) والحقّة هي ثلاث لغات بمعنى واحد ، و (الْحَاقَّةُ) الأولى رفع بالابتداء وخبره فيما بعده ، وقيل : (الْحَاقَّةُ) الأولى مرفوعة بالثانية ؛ لأنّ الثانية بمنزلة الكتابة عنها كأنه عجب منها وقال : الحاقة ما هي؟ كما تقول : زيد ما زيد ، و (الْحَاقَّةُ) الثانية مرفوعة بما ، وما بمعنى أي شيء ، وهو رفع بالحاقة الثانية ، ومثله (الْقارِعَةُ مَا الْقارِعَةُ) (٢) ، (وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ) (٣) ، ونحوهما.

(وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ * كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ) أي بالعذاب الذي نزل بهم حين وعدهم نبيّهم حتى هجم عليهم فقرع قلوبهم. وقال ابن عباس وقتادة : بالقيامة.

(فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ) أي بطغيانهم وعصيانهم ، وهي مصدر كالحاقة ، وقيل : هي نعت مجازه : بفعلتهم الطاغية ، وهذا معنى قول مجاهد وابن زيد ، ودليل هذا التأويل قوله سبحانه : (كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها) (٤) وقال قتادة : يعني بالصيحة الطاغية التي جاوزت مقادير الصياح فاهمدتهم.

(وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ) عتت على خزانها فلم تطعهم وجاوزت المقدار.

أخبرني الحسن قال : حدّثنا ابن حمدان قال : حدّثنا محمد بن حمدان بن سعد قال : حدّثنا أبو زرعة الرازي قال : حدّثنا المعافى بن سلمان البحراني قال : حدّثنا موسى بن عمر عن سعيد عن موسى بن المسيب عن شهر بن خوشب عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ما أرسل الله سبحانه من ريح إلّا بمكيال ، ولا قطرة من ماء إلّا بمكيال ، إلّا يوم عاد ويوم نوح ، فإن الماء يوم نوح طغى على الخزائن فلم يكن لهم عليها سبيل ، ثمّ قرأ : (بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ)» [٢١] (٥).

(سَخَّرَها) أرسلها وسلطها. (عَلَيْهِمْ) والتسخير استعمال الشيء بالاقتدار. (سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ) قال وهب : هي الأيام التي سمّاها العرب : أيام العجوز ذات برد ورياح شديدة وإنما نسبت هذه الأيام الى العجوز ؛ لأن عجوزا دخلت سربا فتبعتها الريح فقتلها اليوم الثامن من نزول العذاب وانقطع العذاب في اليوم الثامن.

__________________

(١) سورة الزمر : ٧١.

(٢) سورة القارعة : ١ ـ ٢.

(٣) سورة الواقعة : ٢٧.

(٤) سورة الشمس : ١١.

(٥) جامع البيان للطبري : ٢٩ / ٦١.

٢٦

وقيل : سمّيت أيام العجوز ؛ لأنها في عجز الشتاء ولها أسامي مشهورة. أنشدني أحمد بن محمد بن يوسف ، قال : أنشدنا محمد بن طاهر الوزير قال : أنشدنا أبو الحسين محمد بن محمد ابن يحيى الصفار قال : أنشدنا محمد بن القيّم بن بشار قال : أنشدنا أحمد بن يحيى ثعلب الشاعر في وصف أيام العجوز :

كسع (١) الشتاء بسبعة غبر

أيّام شهلتنا (٢) من الشهر

فبآمر وأخيه مؤتمر

ومعلّل وبمطفئ الجمر (٣)

ذهب الشتاء مولّيا عجلا

وأتتك واقدة من النجر (٤)

واسم اليوم الثامن : مكفي الظعن.

(حُسُوماً) قال ابن عباس : تباعا ، ومجاهد وقتادة : متابعة ليس فيها فترة ، وعلى هذا القول هو من جسم الكي وهو أن تتابع عليه بالمكواة ، وقال مقاتل والكلبي : دائمة ، والضحاك : كاملة لم تفتر عنهم حتى أفنتهم ، عطيّة : شؤما كأنّها حسمت الخير عن أهلها ، الخليل : قطعا لدابرهم ، والحسم : القطع والمنع ومنه حسم الداء وحسم الدفاع ، قال يمان والنظر بن شميل : حسمهم فقطعهم وأهلكهم وهو نصب على الحال والقطع.

(فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها) أي في تلك الليالي والأيام ، (صَرْعى) هلكى جمع صريع (كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ) أصول (نَخْلٍ خاوِيَةٍ) ساقطة ، وقيل : خالية الأجواف. (فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ) بقاء.

(وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ) قرأ أبو عمرو والحسن والسلمي والحجري والكسائي ويعقوب : بكسر القاف وفتح الباء أي ومن معه من جنوده وأتباعه وهي اختيار أبي عبيد وأبي حاتم اعتبار : بقراءة عبد الله وأبيّ ومن معه ، وقرأ أبو موسى الأشعري : ومن تلقاه ، وقرأ الآخرون : (وَمَنْ قَبْلَهُ) بفتح القاف وجزم الباء ، أي ومن تقدّمه من القرون الخالية.

(وَالْمُؤْتَفِكاتُ) قراءة العامّة بالألف ، وقرأ الحسن والمؤتفكة : بغير ألف (بِالْخاطِئَةِ) بالخطيئة والمعصية وهي الكفر (فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً) نامية عالية غالية. قال ابن عباس : شديدة ، وقيل : زائدة على عذاب الأمم.

(إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ) أي عتا فخرج بلا وزن ولا كيل. قال قتادة : طغى الماء فوق كل

__________________

(١) الكسع : شدّة المرّ.

(٢) الشهلة : العجوز.

(٣) الصحاح : ٣ / ٨٨٤.

(٤) النجر : الحرّ.

٢٧

شيء خمسة عشر ذراعا (حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ) السفينة (لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً) عبرة وموعظة (وَتَعِيَها) قرأ طلحة بإسكان على العين تشبها بقوله : (وَأَرِنا) ، واختلف فيه عن عاصم وابن بكر وهي قراءة رديئة غير قويّة ، الباقون : مشبع.

(أُذُنٌ واعِيَةٌ) عقلت عن الله ما سمعت.

الفاربي بن فنجويه ، قال : حدّثنا ابن حيان قال : حدّثنا إسحاق بن محمد قال : حدّثنا أبي قال : حدّثنا إبراهيم بن عيسى قال : حدّثنا علي بن عليّ قال : حدّثنا أبو حمزة الثمالي قال : حدثني عبد الله بن الحسن قال : حين نزلت هذه الآية (وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ) قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «سألت الله أن يجعلها أذنك يا عليّ» [٢٢] (١) قال علي : فما نسيت شيئا بعد وما كان لي أن أنساه.

وأخبرني ابن فنجويه قال : حدثني ابن حسن قال : حدّثنا أبو القيّم بن الفضل قال : حدّثنا محمد بن غالب بن الحرب قال : حدثني بشر بن آدم قال : حدثني عبد الله بن الزبير الأسدي قال : حدّثنا صالح بن ميثم قال : سمعت بريرة الأسلمي يقول : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعلي : «إنّ الله عزوجل أمرني أن أدنيك ولا أقصيك ، وأن أعلّمك وأن تعي وأن حقّا على الله سبحانه أن تعي» قال : ونزلت (وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ) [٢٣] (٢).

(فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ) وهي النفخة الأولى (وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ) وما عليها (وَالْجِبالُ) وما فيها (فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً) فكسّر ودقّتا دقة واحدة فصارتا هباء منبثّا ، وإنّما قال : (فَدُكَّتا) ولم يقل : دككن ؛ لأنّه جعل الأرض كالشيء الواحد ، وجعل الجبال كالشيء الواحد.

(فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ) قامت القيامة (وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ) ضعيفة (وَالْمَلَكُ) يعني الملائكة (عَلى أَرْجائِها) نواحيها وأقطارها ، بلغة هذيل واحدها رجاء وتثنيته رجوان (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ).

قال ابن عباس : ثمانية صفوف من الملائكة ، لا يعلم عددهم إلّا الله ، وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هم اليوم أربعة ، فإذا كان يوم القيامة أيدهم الله بأربعة آخرين ، فكانوا ثمانية» [٢٤] (٣).

وأخبرنا الإمام أبو منصور الحمادي قال : حدّثنا الإمام أبو الوليد قال : حدّثنا جعفر قال : حدّثنا عليّ بن حجر قال : حدّثنا شريك عن سماك عن الأحنف بن قيس عن العباس بن عبد

__________________

(١) كنز العمّال : ١٣ / ١٧٧ ، ح ٣٦٥٢٦.

(٢) كنز العمّال : ١٣ / ١٣٦ ، ح ٣٦٤٢٦.

(٣) جامع البيان للطبري : ٢٩ / ٧٣.

٢٨

المطلب في قوله سبحانه : (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ) قال : ثمانية أملاك على صورة الأوعال.

وفي الحديث : «إن لكلّ ملك منهم أربعة أوجه : وجه رجل ، ووجه أسد ، ووجه ثور ، ووجه نسر» [٢٥] (١).

وقيل : أنشد بين يدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قول أمية بن أبي الصلت :

رجل وثور تحت رجل يمينه

والنسر للأخرى وليث مرصد

والشمس تصبح كل آخر ليلة

حمراء تصبح لونها يتورّد

تأبى فما تطلع لنا في رسلها

إلّا معذّبة وإلّا تجلّد (٢)

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «صدق» [٢٦].

وروى عن عليّ بن الحسن أنه قال : إنّ الله سبحانه خلق العرش رابعا لم يخلق قبله إلّا ثلاثة أشياء : الهواء ، والقلم ، والنور ، ثمّ خلق من ألوان أنوار مختلفة ، من ذلك نور أخضر منه اخضرت الخضرة ، ونور أصفر منه اصفرت الصفرة ، ونور أحمر منه احمرت الحمرة ، ونور أبيض فهو نور الأنوار ، ومنه ضوء النهار ثمّ جعله سبعين ألف ألف ألف طبق ليس من ذلك طبق إلّا يسبّح بحمده ويقدّسه بأصوات مختلفة لو أذن للسان منها أن تسمع لهدم الجبال والقصور ولخسف البحار.

(يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ (١٨) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ (١٩) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ (٢٠) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (٢١) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (٢٢) قُطُوفُها دانِيَةٌ (٢٣) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ (٢٤) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ (٢٥) وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ (٢٦) يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ (٢٧) ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ (٢٨) هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ (٢٩) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (٣٠) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (٣١) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ (٣٢) إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ (٣٣) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (٣٤) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ (٣٥) وَلا طَعامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ (٣٦) لا يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخاطِؤُنَ (٣٧) فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ (٣٨) وَما لا تُبْصِرُونَ (٣٩) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (٤٠) وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ (٤١) وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (٤٢) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٣) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ (٤٤) لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (٤٥) ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ (٤٦) فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ (٤٧) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (٤٨) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (٤٩) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ (٥٠) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (٥١) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (٥٢))

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١٨ / ٢٦٦.

(٢) تفسير القرطبي : ١٨ / ٢٦٦.

٢٩

(يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى) بالياء كوفي غير عاصم والباقون بالتاء (مِنْكُمْ خافِيَةٌ) في الحديث قال : «يعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات ، فأمّا عرضتان فجدال وخصومات (١) ومعاذير ، وأمّا الثالثة فعند ذلك تطير الصحف في الأيدي ، فآخذ بيمينه وآخذ بشماله» [٢٧] (٢).

(فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ) أي تعالوا (اقْرَؤُا كِتابِيَهْ) ها الوقف وأخواته مثله (إِنِّي ظَنَنْتُ) علمت وأيقنت (أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ).

أخبرنا الحسن قال : حدّثنا عبد الله بن يوسف قال : حدّثنا أبو القيّم عبد الله بن محمد بن إسحاق المروزي قال : حدّثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي قال : حدّثنا عمر بن إبراهيم بن خالد عن عبد الرحمن قال : حدّثنا مرحوم بن أبي أرطبان ابن عم عبد الله بن عون قال : حدّثنا عاصم الأحول عن زيد بن ثابت قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أوّل من يعطى (كِتابَهُ بِيَمِينِهِ) من هذه الأمّة عمر بن الخطّاب ، وله شعاع كشعاع الشمس!» فقيل له : فأين أبو بكر؟

قال : «هيهات هيهات زفّته الملائكة إلى الجنّة!» (٣).

أخبرنا الحسن ، حدّثنا منصور بن جعفر بن محمد النهاوندي ، قال : حدّثنا أبو صالح أحمد ابن محمد بن أسعد البروجردي ، قال : حدّثنا أسد بن عاصم ، قال : حدّثنا إبراهيم بن محمد ، قال : حدّثنا أبو عمر الضرير عن حماد عن سلمة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا عائشة كلّ الناس يحاسبون يوم القيامة إلّا أبو بكر» [٢٨] (٤).

(فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ) مرضية كقوله : (ماءٍ دافِقٍ) (٥) وقيل : ذات رضا مثل لأبن وتأمن (فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ) رفيعة (قُطُوفُها دانِيَةٌ) ثمارها قريبة ينالها القائم والقاعد والمضطجع ، يقال لهم (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ) قدّمتم لآخرتكم من الأعمال الصالحة في الأيام الماضية وهي الدنيا.

أخبرني الحسين قال : حدّثنا القطيعي قال : حدّثنا عبد الله قال : أخبرت عن عبد الله بن أبي بكر بن عليّ المقدمي قال : حدّثنا عبد الله بن جعفر قال : سمعت يوسف بن يعقوب الخيفي يقول : بلغنا أن الله سبحانه وتعالى يقول يوم القيامة : يا أوليائي طال ما نظرت إليكم في الدنيا وقد قلصت شفاهكم عن الأشربة ، وغارت أعينكم ، وخمصت بطونكم ، فكونوا اليوم في نعيمكم ، و (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ).

__________________

(١) غير موجودة في المصدر.

(٢) مسند أحمد : ٤ / ٤١٤.

(٣) تفسير القرطبي : ١٨ / ٢٦٩.

(٤) كنز العمّال : ١١ / ٥٥٨ ، ح ٣٢٦٣٥ ، وح ٣٢٦٣٦ بتفاوت.

(٥) سورة الطارق : ٦.

٣٠

(وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ) قال ابن الثابت : تلوى يده اليسرى خلف ظهره ثمّ يعطى كتابه. وقيل : تنزع من صدره إلى خلف ظهره (فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ * يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ) يقول : يا ليت الموتة التي متّها في الدنيا كانت القاضية الفارغة من كل ما بعدها ، فلم أبعث بعده ، والقاضية موت الأحياء بعدها. وقيل : معناه يا ليتني متّ فاسترحت. قال قتادة : تمنّى الموت ولم يكن عنده في الدنيا شيء أكره من الموت.

(ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ) ذهبت عنّي حجّتي عن أكثر المفسّرين ، وقال ابن زيد : زال عنّي ملكي وقولي فيقول الله لخزنة جهنّم : (خُذُوهُ) ، ويروى أنّه يجتمع على شخص واحد من أهل النار مائة ألف من الزبانية ، فيقطع في أيديهم قال : فلا يرى على أيديهم منه إلّا الودك ، ثمّ يعاد خلقا جديدا.

(فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ) أدخلوه (ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ) فأدخلوه في ذراع الملك ، فيدخل دبره ويخرج من منخريه. وقيل : يدخل من فيه ويخرج من دبره.

روى سفيان عن بسر بن دعلوق عن نوف البكالي قال : كلّ ذراع سبعون باعا والباع أبعد ممّا بينك وبين مكّة ، وكان في رحبة الكوفة (١).

وقال سفيان الثوري : كلّ ذراع من سبعين ذراعا سبعون ذراعا وقال : بأي ذراع هو؟ ، وقال عبد الله بن عمرو ابن العاص : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو أن رصاصة مثل هذه ـ وأشار إلى جمجمة ـ أرسلت من السماء إلى الأرض فهي مسيرة خمسمائة سنة بلغت الأرض قبل الليل ، ولو أنّها أرسلت من رأس السلسلة لسارت أربعين خريفا الليل والنهار قبل أن تبلغ أصلها أو قعرها» [٢٩] (٢).

وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن حبش قال : حدّثنا ابن زنجويه قال : حدّثنا موسى بن محمد قال : حدّثنا الحسن بن عليّ قال : حدّثنا سلمة قال : حدّثنا عبد الرزاق قال : حدّثنا بكار ابن عبد الله عن ابن أبي مليكة عن عبد الله بن حنظلة عن كعب في قوله : (ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ) قال : لو جمع حديد الدنيا ما وزن حلقة منها.

وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا موسى بن محمد قال : حدّثنا الحسن بن علويه قال : حدّثنا إسماعيل بن عيسى قال : حدّثنا المسيب قال : حدّثنا سويد بن يحيى قال : بلغني أن جميع أهل النار في تلك السلسلة ، ولو أن حلقة منها وضعت على جبل لذاب من حرّها.

__________________

(١) تفسير الطبري : ٢٩ / ٧٨.

(٢) مسند أحمد : ٢ / ١٩٧.

٣١

(إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ * وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ * فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ) صديق ، وقيل : قريب يعينه ، وقيل : هو مأخوذ من الحميم ، وهو الماء الحار كأنه الصديق الذي يرق ويحترق قلبه له. (وَلا طَعامٌ) وليس له اليوم طعام. (إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ) وهو صديد أهل النار مأخوذ من الغسل كأنه غسالة جروحهم وقروحهم ، وقال الضحاك والربيع : هو شجر يأكله أهل النار. (لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخاطِؤُنَ) المذنبون وهم الكافرون.

(فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ * وَما لا تُبْصِرُونَ) ترون وما لا ترون ، وأراد جميع المكونات والموجودات ، وقيل : الدنيا والآخرة. وقيل : ما في ظهر السماء والأرض وما في بطنها. وقيل : الأجسام والأرواح.

وقيل : النعم الظاهرة والباطنة.

وقال جعفر الصادق : (بِما تُبْصِرُونَ) من صنعي في ملكي (وَما لا تُبْصِرُونَ) من برّي بأوليائي.

وقال الجنيد : ما (تُبْصِرُونَ) من آثار الرسالة والوحي على حسن محمد (وَما لا تُبْصِرُونَ) من السر معه ليلة الإسراء. وقيل : ما أظهر الله للملائكة واللوح والقلم ، وما استأثر بعلمه فلم يطلع عليه أحدا.

وقيل : ما (تُبْصِرُونَ) : الإنس (وَما لا تُبْصِرُونَ) : الجن والملائكة. وقال ابن عطا : ما (تُبْصِرُونَ) من آثار القدرة (وَما لا تُبْصِرُونَ) من أسرار القرية.

(إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) أي تلاوة محمد وتبليغه ، وقيل : لقول مرسل رسول كريم فحذف كقوله (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) (١).

(وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ * وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ) قرأ ابن عامر ويعقوب أبو حاتم : يؤمنون ويذكرون بالياء ، وغيرهم بالتاء فيهما (تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ * وَلَوْ تَقَوَّلَ) تخرّص واختلق (عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ * لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ) قيل : من صلة مجازه : لعاقبناه وانتقمنا منه بالحق كقوله : (قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ) (٢) أي من قبل الحق.

وقال ابن عباس : لأخذناه بالقوة والقدرة ، كقول الشاعر :

إذا ما راية رفعت لمجد

تلقّاها غرابة باليمن (٣)

وقيل : معناه لأخذنا منه باليد اليمنى من يديه ، وهو مثل معناه لأذللناه وأهناه ، وهذا

__________________

(١) سورة يوسف : ٨٢.

(٢) سورة الصّافات : ٢٨.

(٣) الصحاح : ١ / ١٨٠.

٣٢

كقوله : ذي السلطان إذا أراد الاستخفاف ببعض من بين يديه ، واهانته لبعض أعوانه ، خذ بيده فاقمه ، واعتمد ابن جرير هذا التأويل.

(ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ) نياط القلب ، عن ابن عباس وأكثر الناس ، وقال قتادة : حبل القلب ، وقال مجاهد : الحبل الذي في الظهر. وقيل : هو عرق بين العلباء والحلقوم.

(فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ) مانعين يحجزوننا عن عقوبته وما نفعله به وإنّما جمع وهو فعل واحد ردا على معناه كقوله : (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) (١) ، وقال عليه‌السلام : «لم تحل الغنائم لأحد (٢) سود الرؤوس [ممّن] قبلكم»[٣٠] (٣) لفظه واحد ومعناه الجميع.

(وَإِنَّهُ) يعني القرآن (لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ * وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ * وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ) إذا رأوا ثواب متابعيه وقد خالفوه. (وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ) أضافه إلى نفسه لاختلاف اللفظين (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) الذي كلّ شيء في جنب عظمته صغير.

__________________

(١) سورة البقرة : ٢٨٥.

(٢) في بعض المصادر : لقوم.

(٣) تفسير القرطبي : ١٨ / ٢٧٦ ، وأحكام القرآن للجصّاص : ٣ / ٦٠.

٣٣

سورة المعارج

مكية ، وهي ألف ومائة وستّون حرفا ،

واثنتان وست عشرة كلمة ، وأربعة وأربعون آية

أخبرني محمد بن القيّم ، قال : حدّثنا إسماعيل بن مجيد قال : حدّثنا محمد بن إبراهيم بن سعد قال : حدّثنا سعد بن حفص قال : قرأت على معقل بن عبيد الله عن عكرمة بن خالد عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن أبي بن كعب قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ سورة (سَأَلَ سائِلٌ) أعطاه الله ثواب (الَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ)» [٣١] (١).

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ (١) لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ (٢) مِنَ اللهِ ذِي الْمَعارِجِ (٣) تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (٤) فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً (٥) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً (٦) وَنَراهُ قَرِيباً (٧) يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ (٨) وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ (٩) وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً (١٠))

(سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ) قرأ أهل المدينة والشام سال بغير همز ، وقرأ الباقون بالهمز واختاره أبو عبيد وأبو حاتم ، فمن قرأه بالهمز فهو من السؤال لا غير وله وجهان : أحدهما أن تكون الباء في قوله (بِعَذابٍ) بمعنى عن كقوله سبحانه : (فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً) (٢) أي عنه ، وقال علقمة بن عبدة :

فإن تسألوني بالنساء فانّي

بصير بأدواء النساء طبيب (٣)

أي عن النساء.

ومعنى الآية : سأل سائل عن عذاب واقع نازل : على من ينزل؟ ولمن هو؟ فقال الله سبحانه مجيبا له :

__________________

(١) تفسير مجمع البيان : ١٠ / ١١٦.

(٢) سورة الفرقان : ٥٩.

(٣) لسان العرب : ١ / ٥٥٤.

٣٤

(لِلْكافِرينَ) وهذا قول الحسن وقتادة قالا : كان هذا بمكّة ، لما بعث الله تعالى محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليهم وخوّفهم بالعذاب والنكال ، قال المشركون بعضهم لبعض : من أهل هذا العذاب اسألوا محمدا لمن هو وعلى من ينزل وبمن يقع ، فبيّن الله سبحانه وأنزل (سَأَلَ سائِلٌ) عذابا واقعا (لِلْكافِرينَ) أي على الكافرين ، اللام بمعنى على ، وهو النضر بن الحرث حيث دعا على نفسه وسأل العذاب فقال : (اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَ) لأنّه نزل به ما سأل يوم بدر ، فقتل صبرا ولم يقتل من الأسرى يومئذ غيره وغير عقبه بن أبي معيط ، وهذا قول ابن عباس ومجاهد ، وسئل سفيان بن عيينة عن قول الله سبحانه : (سَأَلَ سائِلٌ) فيمن نزلت ، فقال : لقد سألتني عن مسألة ما سألني أحد قبلك.

حدّثني أبي عن جعفر بن محمد عن آبائه ، فقال : لما كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بغدير خم ، نادى بالناس فاجتمعوا ، فأخذ بيد عليّ رضي‌الله‌عنه فقال : «من كنت مولاه فعليّ مولاه» (١).

فشاع ذلك وطار في البلاد ، فبلغ ذلك الحرث بن النعمان القهري فأتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ناقة له حتّى أتى الأبطح ، فنزل عن ناقته وأناخها وعقلها ، ثمّ أتى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو في ملأ من أصحابه فقال : يا محمد أمرتنا عن الله أن نشهد أن لا إله إلّا الله وأنّك رسول الله فقبلناه منك ، وأمرتنا أن نصلّي خمسا فقبلناه منك ، وأمرتنا بالزكاة فقبلنا ، وأمرتنا بالحجّ فقبلنا ، وأمرتنا أن نصوم شهرا فقبلنا ، ثمّ لم ترض بهذا حتّى رفعت بضبعي ابن عمّك ففضلته علينا وقلت : من كنت مولاه فعلي مولاه ، فهذا شيء منك أم من الله تعالى؟

فقال : «والّذي لا إله إلّا هو هذا من الله» فولّى الحرث بن النعمان يريد راحلته وهو يقول : اللهمّ إن كان ما يقوله حقا (فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ ، أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) ، فما وصل إليها حتّى رماه الله بحجر فسقط على هامته وخرج من دبره فقتله ، وأنزل الله سبحانه : (سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ) [٣٢] (٢).

ومن قرأ بغير همز فله وجهان : أحدهما أنّه لغة في السؤال ، تقول العرب : سال سائل وسأل سال مثل نال ينال ، وخاف يخاف ، والثاني : أن يكون من السيل ، قال زيد بن ثابت وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، سال واد من أودية جهنم يقال له سائل.

(مِنَ اللهِ ذِي الْمَعارِجِ). قال ابن عباس : يعني ذي السماوات ، وقال ابن كيسان : المعارج الفتق الذي بين سمائين وأرضين ، قتادة : ذي الفواصل والنعم ، سعد بن جبير : ذي الدرجات ، القرطبي : ذي الفضائل العالية ، مجاهد : معارج الملائكة.

__________________

(١) مسند أحمد : ١ / ٨٤ ، و ٥ / ٣٤٧ ، والمستدرك : ٣ / ١١٠ ، ومصنّف ابن أبي شيبة : ٧ / ٤٩٥.

(٢) تفسير القرطبي : ١٨ / ٢٧٩ مورد الآية.

٣٥

(تَعْرُجُ) بالياء الكسائي وهي قراءة ابن مسعود واختيار أبي عبيد ، وغيرهم بالتاء (الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ) هو جبريل (إِلَيْهِ) إلى الله عزوجل (فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) من سنين الدنيا ، لو صعد غير الملائكة وذلك أنّها تصعد من منتهى أمر الله من أسفل الأرض السابعة إلى منتهى أمره من فوق السماء السابعة.

وروى ليث عن مجاهد (فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) قال : من منتهى أمره من أسفل الأرضين إلى منتهى أمره من فوق السموات مقدار خمسين ألف سنة ويوم (كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ) يعني بذلك نزول الأمر من السماء إلى الأرض ومن الأرض إلى السماء في يوم واحد فذلك مقدار ألف سنة ؛ لأنّ ما بين السماء إلى الأرض مسيرة خمسمائة عام.

وقال محمد بن إسحاق بن يسار : لو سار بنو آدم من الدنيا إلى موضع العرش ساروا خمسين ألف سنة قبل أن يقطعوه.

وقال الحكم بن عكرمة : هو مدة عمر الدنيا من أولها إلى آخرها ، خمسون ألف سنة لا يدري أحدكم مضى وكم بقي إلّا الله. وقال قتادة : هو يوم القيامة.

وقال الحسن : هو يوم القيامة وليس يعني أن مقدار طوله هو دون عمره ، ولو كان ذلك لكانت له غاية نعني فيها الجنة والنار ، ولكنّه يوم موقفهم للحساب ، حتّى يفصل بين الناس خمسون ألف سنة من سني الدنيا ، وذلك أنّ ليوم القيامة أولا وليس له آخر. لأنّه يوم ممدود ولو كان له آخر كان منقطعا.

وقيل : معناه لو ولى محاسبة العباد في ذلك غير الله لم يفرغ منه في خمسين ألف سنة ، وهي رواية محمد بن الفضيل عن الكلبي قال : يقول : لقد لو وليت حساب ذلك اليوم الملائكة والجن والإنس وطالت محاسبتهم لم يفرغوا منه في خمسين ألف سنة ، وأنا أفرغ منه في ساعة من النهار.

وقال يمان : هو يوم القيامة فيه خمسون موطنا ، كل موطن ألف سنة ، وفيه تقديم وتأخير ، كأنه قال : (لَيْسَ لَهُ دافِعٌ مِنَ اللهِ) (فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) يعرج (الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ).

وروى أبو الجوزاء وابن أبي طلحة عن ابن عباس قال : هو يوم القيامة جعله الله على الكافرين مقدار خمسين ألف سنة فأراد أن أهل الموقف يستطيلون ذلك اليوم.

وأخبرنا ابن فنجويه ، قال : حدّثنا القطيعي ، قال : حدّثنا عبد الله قال : حدّثنا أبي قال : حدّثنا حسن قال : حدّثنا ابن لهيعة قال : حدّثنا دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري قال : قيل لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يوم (كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) ما أطول هذا اليوم؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

٣٦

«والذي نفسي بيده إنّه ليخفف على المؤمنين حتّى يكون أخف عليهم من صلاة مكتوبة تصليها في الدنيا» [٣٣] (١).

وقال إبراهيم التيمي : ما قدر ذلك اليوم على المؤمن إلّا كما بين الظهر والعصر.

(فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً * إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ) يعني العذاب (بَعِيداً * وَنَراهُ قَرِيباً) ؛ لأنّ ما هو آت قريب (يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ) كعكر الزيت ، وقيل : كالفلز المذاب وقد مرّ تفسيره (وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ) كالصوف المصبوغ ، ولا يقال عهن إلّا للمصبوغ. وقال مقاتل : كالصوف المنفوش. قال الحسن : كالصوف الأحمر وهو أضعف الصوف ، وأوّل ما تتغير الجبال تصير رملا مهيلا ، ثمّ عهنا منفوشا ، ثمّ تصير هباء منثورا.

(وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً) قريب قريبا لشغله بشأن نفسه ، وقرأ : وَلا يُسْئَلُ بضم الياء ، أي لا يسأل حميم عن حميم.

(يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (١١) وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (١٢) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (١٣) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ (١٤) كَلاَّ إِنَّها لَظى (١٥) نَزَّاعَةً لِلشَّوى (١٦) تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (١٧) وَجَمَعَ فَأَوْعى (١٨) إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً (١٩) إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (٢٠) وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (٢١) إِلاَّ الْمُصَلِّينَ (٢٢) الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ (٢٣) وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (٢٤) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (٢٥) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (٢٦) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (٢٧) إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (٢٨) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (٢٩) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (٣٠) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (٣١) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (٣٢) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ (٣٣) وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (٣٤) أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (٣٥))

(يُبَصَّرُونَهُمْ) يرونهم وليس في القيامة مخلوق إلّا وهو نصب عن صاحبه من الجن والإنس فيبصر الرجل أباه وأخاه وقرابته وعشيرته ولا يسأله ، ويبصر الرجل حميمه فلا يكلمه لاشتغالهم بأنفسهم.

قال ابن عباس : يتعارفون مدة ساعة من النهار ثمّ لا يتعارفون بعد ذلك ، وقال السدي : (يُبَصَّرُونَهُمْ) يعرفونهم ، أمّا المؤمن فلبياض وجهه ، وأما الكافر فلسواد وجهه.

(يَوَدُّ الْمُجْرِمُ) يتمنّى المشرك (لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ * وَصاحِبَتِهِ) زوجته (وَأَخِيهِ * وَفَصِيلَتِهِ) عشيرته التي فصل منهم ، أبو عبيدة : فخذه ، ثعلب : آبائه الأدنين. غيره :

__________________

(١) كشف الخفاء : ٢ / ٣٨٥.

٣٧

أقربائه الأقربين (الَّتِي تُؤْوِيهِ) مجاهد قبيلته (وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ) ذلك الفداء من عذاب الله سبحانه (كَلَّا) ليس كذلك لا ينجيه من عذاب الله شيء.

ثمّ ابتدأ فقال : (إِنَّها لَظى) وقيل : معناه حقّا إنّها لظى ، فيكون متّصلا ولظى اسم من أسماء جهنّم ، ولذلك لم يجر ، وقيل : هي الدركة الثانية سمّيت بذلك لأنّها تتلظى ، قال الله تعالى : (فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى) (١).

(نَزَّاعَةً) قراءة العامة بالرفع على نعت اللظى ، وروى حفص عن عاصم بالنصب على الحال والقطع (لِلشَّوى) قال الكلبي : لأمر الرأس بأكل الدماغ ، ثمّ يعود الدماغ كما كان ، ثمّ يعود لأكله فذلك دائها ، وهي رواية أبي ظبيان عن ابن عباس ، عطيّة عنه : يعني الجلود والهام ، سعيد بن جبير عنه : للعصب والعقب ، مجاهد : لجلود الرأس ، ودليل هذا التأويل قول كثير عزّة :

لأصبحت هدتك الحوادث هذه

لها فشواة الرأس باد قتيرها (٢)

إبراهيم بن مهاجر : اللحم دون العظم ، الهام يحرق كل شيء منه ويبقى فؤاده نصيحا ، أبو صالح : للحم الساق ، ثابت البناني : لمكارم وجهه ، قتادة : لمكارم خلقه وأطرافه ، أبو العالية : لمحاسن وجهه ، يمان : خلّاعة للأطراف ، مرة : للأعضاء ، ابن زيد : لأذاب العظام ، الضحّاك : تبري اللحم والجلد عن العظم حتّى لا تترك منه شيئا ، الكسائي : للمفاصل ، ابن جرير : الشوى جمع شواة وهي من جوارح الإنسان ما لم يكن مقتلا يقال : رمى فاشوى إذا لم يصب مقتلا ، وقال بعض الأئمة : هي القوائم والجلود ، قال امرؤ القيس :

سليم الشظى عبل الشوى شنج النسا (٣)

وقال الأعشى :

قالت قتيلة ما له قد جلّلت شيبا شواته (٤)

(تَدْعُوا) إلى نفسها (مَنْ أَدْبَرَ) عن الإيمان (وَتَوَلَّى) عن الحق فتقول إليّ إليّ.

قال ابن عباس : تدعوا الكافرين والمنافقين بأسمائهم بلسان فصيح ، ثمّ تلتقطهم كما تلتقط الطير الحب ، وقال تغلب : (تَدْعُوا) أي تهلك يقول العرف : دعاك الله أي أهلكك الله ، وقال الخليل : إنه ليس كالدعاء تعالوا ولكن دعوتها إياهم تمكّنها من تعذيبهم وفعلها بهم ما تفعل.

(وَجَمَعَ) المال (فَأَوْعى) أمسك ولم يود حقّ الله منه.

__________________

(١) سورة الليل : ١٤.

(٢) تفسير القرطبي : ١٨ / ٢٨٨.

(٣) الصحاح : ٥ / ١٧٩٤.

(٤) الصحاح : ٦ / ٢٣٩٦.

٣٨

أخبرني وقيل : إنّ أبا الفرج أخبرهم عن ابن جرير قال : حدّثنا محمد بن منصور قال : حدّثنا أبو فطن قال : حدّثنا المسعودي عن الحكم قال : كان عبد الله بن حكيم لا يربط كيسه ويقول : سمعت الله سبحانه وتعالى يقول : (وَجَمَعَ فَأَوْعى).

(إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً).

أخبرنا عبد الخالق قال : حدّثنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن يزداد الرازي ، قال : حدّثنا أبو الحسن طاهر الخثعمي ، قال : حدّثنا إسماعيل بن موسى ، قال : أخبرنا الحكم بن ظهير عن السدي عن أبي صالح عن ابن عباس في قوله : (هَلُوعاً) قال : الحريص على ما لا يحلّ له.

وروى عطية عنه قال : هو الذي قال الله سبحانه وتعالى : (إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً) وقال سعيد بن جبير : شحيحا ، عكرمة : ضجورا ، الضحاك والحسن : بخيلا ، حصين : حريصا ، قتادة وابن زيد : حزونا ، مجاهد : شرها ، وعن الضحاك أيضا : الهلوع الذي لا يشبع ، مقاتل : ضيق القلب ، ابن كيسان : خلق الله الإنسان يحب ما يسره ويرضيه ويهرب مما يكرهه (١) ويسخطه ثمّ تعبّده بإنفاق ما يحب ويلذ والصبر على ما يكره ، عطا : عجولا وقيل : جهولا ، سهل : متقلّبا في شهواته وهواه ، وسمعت أبا عبد الرحمن السلمي يقول : سمعت منصور بن عبد الله يقول : سمعت أبا القيّم البزاز يقول : قال ابن عطاء : الهلوع : الذي يرضى عند الموجود ويسخط عند المفقود ، أبو الحسن الوراق : نسّاء عند النعمة دعّاء عند المحنة ، وعن سهل أيضا : إذا افتقر جزع وإذا أيسر منع ، أبو عبيدة وثعلب : هو الذي إذا مسّه الخير لم يشكر وإذا مسّه الشرّ لم يصبر ، وقيل : طموعا يرضيه القليل من الدنيا ويسخطه مثلها ، والهلع في اللغة : أشد الحرص وأسوأ الجزع.

قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «شرّ ما أعطى العبد شح هالع وجبن خالع» [٣٤] (٢).

وتقول العرب : ناقة هلواع إذا كانت سريعة السير خفيفة. قال الشاعر :

صكاء علبة إذا استدبرتها

حرج إذا استقبلتها هلواع (٣)

ثمّ استثنى سبحانه وتعالى (إِلَّا الْمُصَلِّينَ) قيل : هم الصحابة خاصّة وهم المؤمنون عامّة فإنّهم يغلبون فرط الهلع بحكم الشرع لثقتهم بربّهم ويقينهم بقدرته ، واستثنى الجمع من الواحد.

لأنّ الإنسان اسم الجنس فهو في معنى الجمع.

(الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ).

__________________

(١) في المخطوط : يكره.

(٢) الفائق في غريب الحديث : ٣ / ٤٠٤.

(٣) لسان العرب : ٨ / ٣٧٥.

٣٩

أخبرنا ابن فنجويه قال : حدّثنا القطيعي قال : حدّثنا بشر بن موسى قال : حدّثنا أبو عبد الرحمن المقري عن حيوة قال : حدثني يزيد بن أبي حسب عن أبي الخير مرثد بن عبد الله اليزني : أن عقبة بن عامر قال لهم : الذين هم على صلواتهم دائمون.

قال : قلنا : الذين لا يزالون يصلون؟ فقال : لا ولكن الذين إذا صلوا لم يلتفتوا يمينا ولا شمالا (وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ * وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ * وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ * إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ) يعني يقيمونها ولا يكتمونها ولا يغيرونها.

وقال سهل : قائمون بحفظ ما شهدوا به من شهادة لا إله إلّا الله ، فلا يشركون به في شيء من الأفعال والأقوال والأحوال. وقرأ ابن عامر ويعقوب وحفص (بِشَهاداتِهِمْ) بالألف على الجمع ، الباقون بشهادتهم.

(وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ * أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ).

(فَما لِالَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (٣٦) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ (٣٧) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (٣٨) كَلاَّ إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (٣٩) فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ (٤٠) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (٤١) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (٤٢) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (٤٣) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (٤٤))

(فَما لِالَّذِينَ كَفَرُوا) فما بالهم كقوله سبحانه : (فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ) (١) وقوله سبحانه : (فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ) (٢).

(قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ) مقبلين مسرعين عليك مادّي أعناقهم مديمي النظر إليك متطلّعين نحوك.

وقد مرّ تفسير الإهطاع وهو نصب على الحال (عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ) حلقا وفرقا عصبة عصبة وجماعة جماعة متفرقين ، والعزين : جماعات في تفرقة ، واحدتها عزة ونظيرها في الكلام ثبته وثبتين وكره وكرين وقله وقلين ، قال عنترة :

وقرن قد تركت لذي ولي

عليه الطير كالعضب العزين (٣)

وقال الراعي :

__________________

(١) سورة النساء : ٨٨.

(٢) سورة المدّثّر : ٤٩.

(٣) تفسير القرطبي : ١٨ / ٢٩٤.

٤٠