الكشف والبيان - ج ١٠

أبو إسحاق أحمد [ الثّعلبي ]

الكشف والبيان - ج ١٠

المؤلف:

أبو إسحاق أحمد [ الثّعلبي ]


المحقق: أبي محمّد بن عاشور
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٤٤

وقال عمر بن عبد العزيز : إن مؤمنين الجن حول الجنّة في ريض ورحاب وليسوا فيها.

وسمعت أبا القاسم بن جبير يقول : رأيت في بعض التفاسير أن الكافر هاهنا إبليس وذلك أنه عاب آدم بأنه خلق من تراب وافتخر بأنه خلق من النار ، فإذا عاين يوم القيامة ما فيه آدم وبنوه المؤمنون من الثواب والراحة والرحمة ورأى ما هو وذويه فيه من الشدّة والعذاب تمنّى أنه بمكان آدم فيقول حينئذ : (يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً).

وقال أبو هريرة : فيقول التراب للكافر : لا ولا كرامة لك من جعلك مثلي.

١٢١

سورة النازعات

مكيّة : وهي ستة وأربعون آية ، ومائة وتسع وسبعون كلمة ،

وثلاثة وسبع مائة وخمسون حرفا

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً (١) وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً (٢) وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً (٣) فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً (٤) فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً (٥) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (٦) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (٧) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ (٨) أَبْصارُها خاشِعَةٌ (٩) يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ (١٠) أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً (١١) قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ (١٢) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ (١٣) فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (١٤))

(وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً) قال مسروق : هي الملائكة التي تنزع نفوس بني آدم ، وهي رواية أبي صالح وعطية عن ابن عباس ، قال أمير المؤمنين علي كرّم الله وجهه : هي الملائكة تنزع أرواح الكافر والكفرة (١) ، وقال ابن مسعود : يريد أنفس الكفّار ينزعها ملك الموت من أجسادهم من تحت كلّ شعرة ومن تحت الأظافير وأصول القدمين ثم يفرّقها ويردّدها في جسده بعد ما تنزع حتى إذا كادت تخرج ردّها في جسده فهذا عمله بالكفار ، وقال مقاتل : هم [ملك الموت] وأعوانه ينزعون روح الكافر كما ينزع السّفود الكثير الشعب من الصوف المبتل فتخرج نفسه كالغريق في الماء.

سعيد بن جبير : نزعت أرواحهم ثم غرّقت ثم حرّقت ثم قذف بها في النار ، وقال مجاهد هو الموت ينزع النفوس ، السندي : هي النفس حين تغرق في الصدر ، وقيل : يرى الكافر نفسه في وقت النزع كأنه يغرق ، الحسن وقتادة وابن كيسان وأبو عبيدة والأخفش : هي النجوم تنزع من أفق إلى أفق تطلع ثم تغيب ، عطاء وعكرمة : هي القسيّ ، وقيل : الغزاة ، الرماة ، ومجاز الآية : والنازعات إغراقا كما يغرق النازع في القوس إذا بلغ بها غاية المد [...] (٢) الذي عند النصل الملفوف عليه ، ويقال لقشرة البيضة الداخلة غرقي ، وأراد بالإغراق المبالغة في النزع وهو سابغ في جميع وجوه تأويلها.

__________________

(١) كذا في المخطوط.

(٢) كلمة غير مقروءة في المخطوط.

١٢٢

(وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً) قال ابن عباس : يعني الملائكة تنشط نفس المؤمن فتقبضها كما ينشط العقال من يد البعير إذا حلّ عنها وحكى الفرّاء هذا القول ثم قال : والذي سمعت من العرب أن يقولوا : أنشطت ، وكأنما أنشط من عقال ، وربطها نشطا ، والرابط : الناشط ، وإذا ربطت الحبل في يد البعير فقد نشطته وأنت ناشط ، وإذا حللته فقد أنشطته وأنت منشط.

وعن ابن عباس أيضا : هي أنفس المؤمنين عند الموت ، ينشط للخروج وذلك أنه ليس من مؤمن يحضره الموت إلّا عرضت عليه الجنّة قبل أن يموت فيرى فيها أشباها من أهله وأزواجه من الحور العين فهم يدعونه إليها ، فنفسه إليهم نشيطة ان تخرج فتأتيهم ، وقال علي ابن أبي طالب : هي الملائكة تنشط أرواح الكفار ما بين الجلد والأظفار حتى تخرجها من أجوافها بالكرب والغمّ، وقال مجاهد : هو الموت ينشط نفس الإنسان ، وقال السندي : حين ينشط من القدمين ، عكرمة وعطا : هي الأدهان ، قتادة والأخفش : هي النجوم تنشط من أفق إلى أفق ، أي تذهب ، يقال : حمارنا ناشط ينشط من بلد إلى بلد أي يذهب ، ويقال لبقر الوحش نواشط ، لأنها تذهب من موضع إلى موضع. قال الطرماح :

وهل بحليف الخيل ممّن عهدته

به غير أحدان النواشط روّع (١)

والهموم تنشط بصاحبها ، قال هميان بن قحافة :

أمست همومي تنشط المناشطا

الشام بي طورا وطورا واسطا (٢)

وقال الخليل : النشط والإنشاط (٣) مدّك شيئا إلى نفسك حتى تنحل.

(وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً) قال علي : هي الملائكة تسبح بأرواح المؤمنين ، وقال الكلبي : هم الملائكة يقبضون أرواح المؤمنين كالذي يسبح في الماء فأحيانا ينغمس وأحيانا يرتفع يسلونه سلا رفيقا ثم يدعونها حتى يستريح ، وقال مجاهد وأبو صالح : هم الملائكة ينزلون من السماء مسرعين كما يقال للفرس الجواد ، سابح إذا أسرع في جريه ، وقيل : هي خيل الغزاة. قال امرؤ القيس :

مسح إذا ما السابحات على الونى

أثرن الغبار بالكديد المركل (٤)

وقال قتادة : هي النجوم والشمس والقمر. قال الله سبحانه : (كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) (٥) وقال عطا : هي السفن.

__________________

(١) جامع البيان للطبري : ٣٠ / ٣٨.

(٢) لسان العرب : ٧ / ٤١٥.

(٣) النشط : هو الإيثاق ، والإنشاط هو الحلّ ، تاج العروس : ٥ / ٢٣١.

(٤) كتاب العين : ٣ / ١٦.

(٥) سورة يس : ٤٠.

١٢٣

(فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً) قال مجاهد وأبو روق : سقت ابن آدم بالخير والعمل الصالح ، مقاتل : هي الملائكة تسبق بأرواح المؤمنين إلى الجنة ، ابن مسعود : هي أنفس المؤمنين تسبق إلى الملائكة الذين يقضونها وقد عاينت السرور شوقا إلى لقاء الله ورحمته وكرامته ، عطا : هي الخيل ، قتادة : النجوم تسبق بعضها بعضا في المسير.

(فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً) يعني الملائكة.

أخبرنا أبو الحسين أحمد بن محمد بن جعفر بن الطيب قال : أخبرنا أبو بكر محمد بن عمر بن حفص قال : حدّثنا محمد بن خلف قال : حدّثنا أبو نعيم قال : حدّثنا الأعمش عن عمرو ابن مرّة عن عبد الرحمن بن سابط قال : يدبّر أمر الدنيا أربعة : جبريل وميكائيل وملك الموت وإسرافيل عليهم‌السلام ، فأما جبريل فوكّل بالرياح ، وأما ميكائيل فوكّل بالقطر والنبات وأمّا ملك الموت فوكّل بقبض الأنفس ، وأما إسرافيل فهو ينزل بالأمر عليهم.

(يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ) يعني النفخة الأولى التي يتزلزل ويتحرّك لها كلّ شيء (تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ) وهي النفخة الأخيرة وبينهما أربعون سنة ، قال قتادة : هما صيحتان : أما الأولى فتميت كلّ شيء بإذن الله ، وأمّا الأخرى فتحيي كلّ شيء بإذن الله ، وقال مجاهد : (يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ) يعني تزلزل الأرض والجبال (تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ) حين تنشق السماء ويحمل (الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً) ، عطا : (الرَّاجِفَةُ) : القيامة ، و (الرَّادِفَةُ) البعث ، ابن زيد : (الرَّاجِفَةُ) : الموت ، و (الرَّادِفَةُ) : الساعة ، وأصل : الراجفة : الصوت والحركة ومنه سميت الأراجيف لاضطراب الأصوات بها ، وكلّ شيء ولى شيئا وتبعه فقد ردفه.

أخبرنا ابن فنجويه قال : حدّثنا عبد الله بن محمد بن يوسف قال : حدّثنا محمد بن هارون الحضرمي قال : حدّثنا الحسن بن عرفة قال : حدّثنا قبيصة بن عقبة عن سفيان الثوري عن عبد الله ابن محمد بن عقيل عن الطفيل بن أبيّ بن كعب عن أبيّ بن كعب ، قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا ذهب ربع الليل قام وقال : «يا أيها الناس اذكروا الله اذكروا الله جاءت (الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ) جاء الموت بما فيه جاء الموت بما فيه» [٨٩] (١).

واختلف العلماء في جواب القسم فقال بعض نحاة الكوفة : جوابه مضمر مجازه : لتبعثن ولتحاسبن ، وقال بعض نحاة البصرة : هو قوله : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى) وقيل : في الكلام تقديم وتأخير تقديره : (يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ) (... وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً).

(قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ) خائفة ، مجاهد : وجلة ، السدي : زائلة عن أماكنها ، نظيره (إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ) (٢) ، المؤرّخ : قلقة ، قطرب : مستوفرة ، يمان : غير هادئة ولا ساكنة ، أبو

__________________

(١) سنن الترمذي : ٤ / ٥٣.

(٢) سورة غافر : ١٨.

١٢٤

عمرو بن العلا : مرتكضة ، المبرد : مضطربة من وجيف الحركات يقال : وجف القلب ووجب فهو يجف ويجب وجوفا ووجيفا ووجوبا ووجيبا.

(أَبْصارُها خاشِعَةٌ يَقُولُونَ) يعني هؤلاء المكذّبين للبعث من مشركي مكّة إذا قيل لهم : إنكم مبعوثون بعد الموت.

(إِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ) أي إلى أوّل الحال وابتداء الأمر فراجعون أحياء كما كنّا قبل حياتنا وهو من قول العرب : رجع فلان على حافرته إذا أرجع من حيث جاء ، وقال الشاعر :

أحافرة على صلع وشيب

معاذ الله من سفه وعار (١)

ويقال : البعد عند الحافر وعند الحافرة أي في العاجل عند ابتداء الأمر وأول سومه ، والتقى القوم فاقتتلوا عند الحافرة أي عند أول كلمة.

أخبرنا أبو بكر الجمشادي قال : أخبرنا أبو بكر القطيعي قال : حدّثنا إبراهيم بن عبد الله بن مسلم قال : حدّثنا عمر بن مرزوق قال : أخبرنا عمران القطان قال : سمعت الحسن يقول : إنّا لمردودون إلى الدنيا فنصير أحياء كما كنا ، قال الشاعر :

آليت لا أنساكم فاعلموا

حتى يرد الناس في الحافرة (٢)

وقال بعضهم : الحافرة الأرض التي فيها تحفر قبورهم فسمّيت حافرة وهي بمعنى المحفورة كقوله سبحانه : (ماءٍ دافِقٍ) (٣) و (عِيشَةٍ راضِيَةٍ) (٤) ومعنى الآية إنّا لمردودون إلى الأرض فنبعث خلقا جديدا ثم مردودون في قبورنا أمواتا ، وهذا قول مجاهد والخليل بن أحمد ، وقيل : سمّيت الأرض حافرة ، لأنها مستقر الحوافر كما سمي القدم أرضا ، لأنها على الأرض ومجاز الآية : نرد فنمشي على أقدامنا ، وهذا معنى قول قتادة ، وقال ابن زيد : الحافرة النار ، وقرأ (تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ) قال : هي اسم من أسماء النار وما أكثر أسمائها.

(أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً) قرأ أهل الكوفة وأيوب ناخرة بالألف ، وهي قراءة عمر بن الخطاب وابنه وابن عباس وابن الزبير وابن مسعود وأصحابه ، واختاره الفراء وابن جرير لوفاق رؤوس الآي ، وقرأ الباقون بجرة بغير الألف ، وهي اختيار أبي عبيد وأبي حاتم ، قال أبو عبيد إنما اخترناه لحجتين : إحداهما : أن الجمهور الأعظم من الناس عليها ، منهم أهل تهامة والحجاز والشام والبصرة ، والثانية : إنّا قد نظرنا في الآثار التي فيها ذكر العظام التي قد نخرت

__________________

(١) لسان العرب : ٤ / ٢٠٥ ، تفسير القرطبي : ١٩ / ١٩٧.

(٢) تفسير القرطبي : ١٩ / ١٩٧.

(٣) سورة الطارق : ٦.

(٤) سورة الحاقّة : ٢١.

١٢٥

فوجدناها كلّها العظام النخرة ، ولم أسمع في شيء منها الناخرة ، وكان أبو عمرو يحتج بحجة ثالثة قال : إنّما يكون تناخره إلى تنخرها ، ولم يفعل ، وهما لغتان في قول أكثر أهل اللسان مثل : الطمع والطامع والبخل والباخل والفره والفاره والجذر والجاذر ، وفرّق بينهما فقالوا : النخرة : البالية ، والناخرة : المجوّفة التي تمرّ فيها الريح فتخرّ أي تصوّت.

(قالُوا) يعني المنكرين (تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ) رجعة غابنة قال الله سبحانه : (فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ) صيحة ونفخة (واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ) يعني وجه الأرض صاروا على ظهر الأرض بعد ما كانوا في جوفها ، والعرب تسمي الفلاة ووجه الأرض ساهرة ، قال أئمة أهل اللغة تراهم سمّوا ذلك بها [لأنّ فيها نوم الحيوان] سهّرهم فوصف بصفة ما فيه ، واستدل ابن عباس والمفسرون بقول أمية بن أبي الصلت :

وفيها لحم ساهرة وبحر

وما فاهوا به لهم مقيم (١)

أي لهم البر والبحر ، وقال امرؤ القيس :

ولاقيتم بعده غبّها

فضاقت عليكم به الساهرة

وقال ابو ذؤيب :

يرتدن ساهرة كأن حميمها

وعميمها أسداف ليل مظلم (٢)

وأخبرنا ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن حمدان قال : حدّثنا ابن لمهان قال : حدّثنا موسى بن إسماعيل قال : حدّثنا جهاد عن أبي سنان عن أبي المنية (فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ) جبل عند البيت المقدّس ، وروى الوليد بن مسلم عن عثمان بن أبي العاتكة (فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ) قال الصقع الذي بين جبل حسان وجبل أريحا يمدّه الله كيف يشاء ، وقال سفيان : هي أرض الشام ، وقال قتادة : هي جهنم.

(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (١٥) إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (١٦) اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (١٧) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى (١٨) وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى (١٩) فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى (٢٠) فَكَذَّبَ وَعَصى (٢١) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى (٢٢) فَحَشَرَ فَنادى (٢٣) فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى (٢٤) فَأَخَذَهُ اللهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى (٢٥) إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى (٢٦) أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها (٢٧) رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها (٢٨) وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها (٢٩) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها (٣٠) أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها (٣١) وَالْجِبالَ أَرْساها (٣٢) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (٣٣) فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى (٣٤) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى (٣٥) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى (٣٦) فَأَمَّا مَنْ طَغى

__________________

(١) تفسير الطبري : ١٠ / ٢٥٢ والبيت وصف الجنة.

(٢) تفسير القرطبي : ١٩ / ١٩٩.

١٢٦

(٣٧) وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا (٣٨) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى (٣٩) وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى (٤٠) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى (٤١) يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها (٤٢) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها (٤٣) إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها (٤٤) إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها (٤٥) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها (٤٦))

(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى * إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً * اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى * فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى) قرأ أهل الحجاز وأيوب ويعقوب بتشديد الزاي أي تتزكّى ومثله روى العباس عن أبي عمرو ، غيرهم بتخفيفه ومعناه تسلّم وتصلح وتطهّر.

(وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى) أخبرنا ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن حبيش قال : أخبرنا ابن زنجويه قال : حدّثنا مسلمة قال : حدّثنا عبد الرزاق قال : أخبرنا ابن التيمي عن عبيد الله بن أبي بكر قال : حدّثني صخر بن جويرية قال : لما بعث الله تعالى موسى عليه‌السلام إلى فرعون فقال له : (اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى) إلى (فَتَخْشى) ولن يفعل. قال موسى عليه‌السلام : يا رب وكيف أذهب إليه وقد علمت أنه لن يفعل؟ فأوحى الله تعالى إليه أن أمض إلى من أمرت به فإن في السماء اثني عشر ألف ملك يطلبون علم القدر فلم يبلغوه ولم يدركوه.

(فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى) وهي العصا واليد البيضاء.

(فَكَذَّبَ وَعَصى * ثُمَّ أَدْبَرَ) تولى وأعرض عن الإيمان.

(يَسْعى) يعمل بالفساد (فَحَشَرَ) فجمع السحرة وقومه (فَنادى فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) يقول ليس ربّ فوقي ، وقيل : أراد أن الأصنام أرباب وأنا ربّها وربكم ، وقيل : أراد القادة والسادة (فَأَخَذَهُ اللهُ) فعاقبه الله (نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى) يعني في الدنيا والآخرة ، الأولى بالغرق وفي الآخرة بالنار ، وقيل : نكال كلمته الأولى وهي قوله سبحانه (ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي) وكلمته الآخرة هي قوله (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) وكان بينهما أربعون سنة.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى * أَأَنْتُمْ) أيها المنكرون للبعث (أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ) إن الذي قدر على خلق السماء قادر (عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى) وقوله (لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ) (١).

(بَناها رَفَعَ سَمْكَها) سقفها ، قال الفراء : كل شيء حمل شيئا من البناء وغيره فهو سمك وبناء وسموك (فَسَوَّاها) بلا شطور ولا فطور (وَأَغْطَشَ) أظلم (لَيْلَها) والغطش أشد الظلمة ورجل أغطش أي أعمى (وَأَخْرَجَ ضُحاها) أبرز وأظهر نهارها ونوره.

(وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها) اختلفوا في معنى الآية ، فقال ابن عباس : خلق الله سبحانه

__________________

(١) سورة غافر : ٥٧.

١٢٧

الأرض بأقواتها من غير أن يدحوها قبل السماء (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ) ، ثم دحا الأرض بعد ذلك أي بسطها ، قال ابن عباس وعبد الله بن عمرو : خلق الله الكعبة ووضعها على الماء على أربعة أركان قبل أن يخلق الدنيا بألفي عام فدحيت الأرض من تحت البيت ، وقيل معناه : والأرض مع ذلك دحاها كما يقال للرجل : أنت أحمق وأنت بعد هذا لئيم الحسب ، أي مع هذا ، قال الله عزوجل : (عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ) (١) أي مع ذلك ، وقال الشاعر :

فقلت لها عني إليك فإنني

حرام وإني بعد ذاك لبيب (٢)

يعني مع ذلك.

ودليل هذا التأويل قراءة مجاهد والأرض عند ذلك دحاها وقيل بعد بمعنى قبل كقوله سبحانه : (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ) (٣) أي من قبل الذكر وهو القرآن ، وقال الهذلي :حملت الهي بعد عروة إذا نجا خراش وبعض الشراهون من بعض زعموا أن خراشا نجا قبل عروة.

وقراءة العامة (وَالْأَرْضَ) بالنصب ، وقرأ الحسن والأرض رفعها بالابتداء الرجوع الهاء وكلا الوجهين سائغان في عائد الذكر ، والدّحو البسط والمدّ ، ومنه أدحي النعامة ؛ لأنها تدحوه بصّدرها ، يقال : دحا يدحوا دحوا ودحا يدحا دحيا لغتان مثل قولهم طغى يطغو أو يطغي وصغا يصغو ويصغي ، ومحا يمحو ويمحي ولحي العود يلحوا أو يلحي ، فمن قال : يدحو قال دحوت ، ومن قال يدحا قال : دحيت.

(أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها) قال القتيبي : أنظر كيف دلّ بشيئين على جميع ما أخرجه من الأرض قوتا ومتاعا للأنعام من العشب والشجر والحبّ والتمر والعصف والحطب واللباس والنار والملح ، لأنّ النار من العيدان والملح من الماء.

(وَالْجِبالَ أَرْساها) قراءة العامة بالنصب وقرأ عمرو بن عبيد بالرفع. (مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ * فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى) وهي القيامة سميت بذلك ؛ لأنها تطم على كلّ هائلة من الأمور فتغمر ما سواها بعظم هولها ؛ أي يغلب ، والطامة عند العرب الناهية التي لا تستطاع ، وإنّما أخرت من قولهم طمّ الفرس طميمها إذا استفرغ جهده الجري.

أخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن حبيش قال : حدّثنا محمد بن عمران قال : حدّثنا هناد ابن السهى قال : حدّثنا أبو أسامة عن ملك بن مغول عن القاسم الهمداني (فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى) قال الحسن : يسوق أهل الجنة إلى الجنة وأهل النار إلى النار.

__________________

(١) سورة القلم : ١٣.

(٢) تفسير القرطبي : ١٩ / ٢٠٥.

(٣) سورة الأنبياء : ١٠٥.

١٢٨

(يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى) عمل في الدنيا من خير أو شر (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى * فَأَمَّا مَنْ طَغى وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى * وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها) متى ظهورها وثبوتها (فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها) علمها عند الله ولست من علمها في شيء قالت عائشة : لم يزل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يذكر الساعة ويسأل عنها حتى نزلت هذه الآيات.

(إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها) قراءة العامة بالإضافة وقرأ أبو جعفر وابن محيض منذر بالتنوين ، ومثله روى العباس عن أبي عمرو.

(كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا) في الدنيا قيل : في قبورهم ، (إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها) قال الفراء : ليس للغاشية ضحى إنّما الضحى لصدر النهار ولكن هذا ظاهر من كلام العرب أن تقولوا أتتك العشية أو عداتها إنما معناه آخر يوم أو أوّله قال وأنشد بعض بني عقيل :

نحن صبّحنا عامرا في دارها

جردا تعاطى طرفي نهارها (١)

عشية الهلال أو سرارها.

بمعني عشية الهلال أو عشية سرار العشية.

__________________

(١) لسان العرب : ٢ / ٥٠٣.

١٢٩

سورة عبس

مكيّة وهي إحدى وأربعون آية ، ومائة وثلاثون كلمة ،

وخمس مائة وثلاثة وثلاثون حرفا

أخبرنا ابن المقري قال : أخبرنا ابن مطر قال : حدّثنا ابن شريك قال : حدّثنا ابن يونس قال : حدّثنا سلام قال : حدّثنا هارون بن كثير عن زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي أمامة عن أبيّ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ سورة (عَبَسَ وَتَوَلَّى) جاء يوم القيامة ووجهه ضاحك مستبشر» [٩٠] (١).

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(عَبَسَ وَتَوَلَّى (١) أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى (٢) وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (٣) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى (٤) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى (٥) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (٦) وَما عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى (٧) وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى (٨) وَهُوَ يَخْشى (٩) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (١٠) كَلاَّ إِنَّها تَذْكِرَةٌ (١١) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (١٢) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (١٣) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (١٤) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (١٥) كِرامٍ بَرَرَةٍ (١٦) قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ (١٧) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (١٨) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (١٩) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (٢٠) ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ (٢١) ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ (٢٢) كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ (٢٣) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ (٢٤) أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا (٢٥) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (٢٦) فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا (٢٧) وَعِنَباً وَقَضْباً (٢٨) وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً (٢٩) وَحَدائِقَ غُلْباً (٣٠) وَفاكِهَةً وَأَبًّا (٣١) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (٣٢))

(عَبَسَ) كلح. (وَتَوَلَّى) وأعرض عنه بوجهه (أَنْ) لأن (جاءَهُ الْأَعْمى) وهو ابن مكتوم واسمه عبد الله بن شريح بن مالك بن ربيعة الفهري من بني عامر بن لؤي ، وذلك أنه أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يناجي عتبة بن ربيعة وأبا جهل بن هشام والعباس بن عبد المطلب وأبيا وأمية ابني خلف ويدعوهم إلى الله سبحانه ويرجوا إسلامهم فقال : يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أقرئني وعلّمني مما علّمك الله ، فجعل يناديه ويكرّر النداء ولا يدري أنه مشتغل مقبل على غيره حتى ظهرت الكراهية في وجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لقطعه كلامه وقال في نفسه : يقول هؤلاء الصناديد إنما أتباعه العميان والسفلة والعبيد فعبس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأعرض عنه وأقبل على القوم يكلّمهم ، فأنزل الله

__________________

(١) تفسير مجمع البيان : ١٠ / ٢٦٣.

١٣٠

سبحانه هذه الآيات ، فكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد ذلك يكرمه وإذا رآه قال : «مرحبا بمن عاتبني فيه ربي» ويقول : «هل لك من حاجة» [٩١] (١) واستخلفه على المدينة مرتين في غزوتين غزاهما قال أنس بن مالك : فرأيته يوم القادسية عليه درع ومعه راية سوداء ، قال ابن زيد كان يقال : لو كتم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم شيئا من الوحي لكتم هذا.

(وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى) أي يتطهّر من ذنوبه ويتّعظ ويصلح ، وقال ابن زيد : يسلم.

(أَوْ يَذَّكَّرُ) يتعظ (فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى) الموعظة ، وقراءة العامة فَتَنْفَعُهُ بالرفع نسقا على قوله (يَزَّكَّى) و (يَذَّكَّرُ) ، وقرأ عاصم في أكثر الروايات بالنصب على جواب لعل بالفاء.

(أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى) اثرى (فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى) تتعرّض وتصغي إلى كلامه قال الراعي : (تَصَدَّى) لوضّاح كان جبينه سراج الدجى تجبى إليه الأساور ، وقرأ أهل الحجاز وأيوب تصّدى بتشديد الصاد على معنى يتصدى ، وقرأ الباقون بالتخفيف على الحذف.

(وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى) أن لا يسلم (إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ) (وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى) يمشي يعني الأعمى (وَهُوَ يَخْشى) الله سبحانه (فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى) تعرض وتتغافل وتتشاغل بغيره (كَلَّا) ردع وزجر أي لا تفعل مثلها بعدها فليس الأمر كما فعلت من إقبالك على الغني الكافر وإعراضك [عن] (٢) الفقير المؤمن.

(إِنَّها) يعني هذه الموعظة ، وقيل : هذه السورة ، وقال مقاتل : آيات القرآن (تَذْكِرَةٌ) موعظة وتبصرة (فَمَنْ شاءَ) من عباد الله (ذَكَرَهُ) اتّعظ به ، وقال مقاتل : فمن شاء الله ذكّره ، أي فهّمه واتعظ به إذا شاء الله منه ذلك وذكّره وفهمه ، والهاء في قوله : (ذَكَرَهُ) راجعة إلى القرآن والتنزيل والوحي أو الوعظ.

(فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ) يعني اللوح المحفوظ ، وقيل : كتب الأنبياء عليهم‌السلام ، دليله قوله سبحانه : (إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى * صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى) (٣).

(مَرْفُوعَةٍ) رفيعة القدر عند الله (مُطَهَّرَةٍ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ) قال ابن عباس ومجاهد : كتبة وهم الملائكة الكرام الكاتبون واحدهم سافر ، ويقال : سفرت أي كتبت ومنه قيل للكتاب سفر ، وجمعه أسفار ، ويقال للورّاق سفّرا بلغة العبرانية وقال قتادة : هم القرّاء ، وقال الباقون : هم الرسل من الملائكة واحدهم سفير وهو الرسول ، وسفير القوم هو الذي يسعى بينهم للصلح ، وسفرت بين القوم إذا أصلحت بينهم ، قال الشاعر :

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١٩ / ٢١٣.

(٢) في المخطوط : على.

(٣) سورة الأعلى : ١٨.

١٣١

فما ادع السفارة بين قومي

ولا أمشي بغير أب نسيب (١)

وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن حبيش قال : حدّثنا أبو القاسم بن الفضل قال : حدّثنا علي بن الحسين قال : حدّثنا الصلت بن مسعود قال : حدّثنا جعفر بن سلمان قال : حدّثنا عبد الصمد بن معقل قال : سمعت عمّي وهب بن منبّه (بِأَيْدِي سَفَرَةٍ) قال : هم أصحاب محمد.

(كِرامٍ بَرَرَةٍ) جمع بار وبرّ مثل كافر وكفرة وساحر وسحرة.

(قُتِلَ الْإِنْسانُ) لعن الكافر سمعت السلمي يقول : سمعت منصور بن عبد الله يقول : سمعت أبا القاسم البزاز يقول : قال ابن عطا : منع الإنسان عن طريق الخيرات بجهله بطلب رشده وسكونه إلى ما وعد الله له ، قال مقاتل : نزلت في عتبة بن أبي لهب (ما أَكْفَرَهُ) بالله وأنعمه مع كثرة إحسانه إليه وأياديه عنده على طريق التعجّب ، وقال الكلبي ومقاتل : هو (ما) الاستفهام تعني أي شيء يحمله على الكفر.

(مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ * مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ * ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ) أي طريق خروجه من بطن أمّه ، وقال الحسن ومجاهد : يعني طريق الحق والباطل بيّن له ذلك وسهل له العمل به ، دليله قوله سبحانه : (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ) و (هَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) (٢) وقال أبو بكر بن طاهر : يسّر على كل أحد ما خلقه له وقدّر عليه ، دليله قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اعملوا فكل ميسّر لما خلق له» [٩٢] (٣).

(ثُمَّ أَماتَهُ) قبض روحه (فَأَقْبَرَهُ) صيّره بحيث يقبر ويدفن يقال : قبرت الميت ، إذا دفنته ، وأقبره الله أي صيّره بحيث يقبر وجعله ذا قبر ويقول العرب : بترت ذنب البعير والله أبتره ، وعضبت قرن الثور والله أعضبه ، وطردت فلانا والله أطرده أي صيّره طريدا ، وقال الفراء : معناه جعله مقبورا ، ولم يجعله ممن يلقى للسباع والطير ولا ممن يلقى في النواويس ، فالقبر مما أكرم به المسلم ، وقال أبو عبيدة (فَأَقْبَرَهُ) أي أمر بأن يقبر ، قال : وقالت بنو تميم لعمر بن هبيرة لما قتل صالح بن عبد الرحمن : أقبرنا صالحا فقال : دونكموه.

(ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ) أحياه بعد موته.

(كَلَّا) ردّ عليه أي ليس الأمر كما تقول ونظر هذا الكافر ، وقال الحسن : حتما.

(لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ) أي لم يفعل ما أمره به ربّه ولم يؤدّ ما فرض عليه (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ) كيف قدر ربّه ودبّره وليكون له آية وعبرة ، وقال مجاهد : إلى مدخله ومخرجه.

أخبرنا ابن فتحويه قال : حدّثنا القطيعي قال : حدّثنا عبد الله قال : حدّثني أبي قال : حدّثنا

__________________

(١) فتح القدير : ٥ / ٣٨٣.

(٢) سورة البلد : ١٠.

(٣) مسند أحمد : ١ / ٨٢.

١٣٢

أحمد بن عبد الملك قال : حدّثنا حماد بن زيد عن علي بن زيد بن جدعان عن الضحاك بن سفيان الكلابي : إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال له : «يا ضحاك ما طعامك؟» قال : يا رسول الله اللحم واللبن ، قال : «ثم يصير إلى ماذا؟» قال : إلى ما قد علمت. قال : «قال الله سبحانه وتعالى : ضرب ما يخرج من ابن آدم مثلا للدنيا» [٩٣] (١).

أخبرنا ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن مالك قال : حدّثنا ابن حنبل قال : حدّثني محمد بن عبد الرحيم أبو يحيى قال : حدّثنا أبو حذيفة قال : حدّثنا سفيان عن يونس عن عبيد عن الحسن عن عتيّ عن أبيّ بن كعب قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ مطعم ابن آدم جعل مثلا للدنيا وان قزحه (٢) وملحه فانظر إلى ما يصير» [٩٤].

وأخبرني ابن فنحويه قال : حدّثنا ابن صقلاب قال : حدّثنا ابن أبي الخصيب قال : حدّثني أبي قال : حدّثنا سهل بن عامر قال : حدّثنا عمر بن سليمان عن ابن الوليد قال : سألت ابن عمر عن الرجل يدخل الخلاء فينظر إلى ما يخرج منه ، قال : يأتيه الملك فيقول انظر إلى ما بخلت به إلى ما صار؟ (٣) (أَنَّا) قرأ الكوفيون بفتح الألف على نية تكرير الخافض ، مجازه : ولينظر إلى أنّا ، غيرهم بالكسر على الاستئناف (٤).

(صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا) يعني الغيث (ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا) بالنبات (فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا وَعِنَباً وَقَضْباً) قال ابن عباس والضحاك : يعني الرطبة ، وأهل مكة يسمون القتّ القضيب ، قال ثعلب : سمي بذلك لأنه يقضب في كل أيام أي يقطع ، وقال الحسن : القضب العلف.

(وَزَيْتُوناً) وهو الذي منه الزيت (وَنَخْلاً وَحَدائِقَ غُلْباً) غلاظ الأشجار واحدها أغلب ومنه قيل لغليظ الرقبة أغلب ، وقال مجاهد : ملتفة ، ابن عباس : طوالا ، قتادة : الغلب النخل الكرام ، عكرمة : عظام الأوساط ، ابن زيد : عظام الجذوع والرقاب.

(وَفاكِهَةً وَأَبًّا) يعني الكلاء والمرعى ، وقال الحسن : هو الحشيش وما تأكله الدواب ولا تأكله الناس ، قتادة : أما الفاكهة فلكم وأما الأب فلأنعامكم ، أبو رزين : النبات ، يدل عليه ما روى ابن جبير عن ابن عباس قال : ما أنبتت الأرض مما تأكل (النَّاسُ وَالْأَنْعامُ). علي بن أبي طلحة عنه : الأبّ : الثمار الرطبة. الضحّاك : هو التبن. عكرمة : الفاكهة : ما يأكل الناس ، والأب : ما يأكل الدواب.

__________________

(١) مسند أحمد : ٣ / ٤٢٥.

(٢) قزحه : تبله وهو الذي يوضع في القدور والأوعية من الكمون والكزبرة يقال : توابل.

(٣) تفسير القرطبي : ١٩ / ٢٢٠.

(٤) راجع زاد المسير : ٨ / ١٨٥.

١٣٣

وأخبرنا عبد الله بن حامد قال : أخبرنا محمد بن خالد قال : حدّثنا داود بن سليمان قال : حدّثنا عبد بن حميد قال : حدّثنا محمد بن عبيد عن العوام بن حوشب عن إبراهيم التيمي إن أبا بكر سئل عن قوله (وَفاكِهَةً وَأَبًّا) فقال : أي سماء تظلّني وأي أرض تقلّني إذا قلت في كتاب الله ما لا أعلم.

وأخبرنا ابن حمدون قال : أخبرنا ابن الشرقي قال : حدّثنا محمد بن يحيى قال : حدّثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعد قال : أخبرنا أبي عن صالح عن ابن شاب عن أنس بن مالك أخبره أنه سمع هذه الآية ثم قال : كلّ هذا قد عرّفنا فما الأب ثم رفض عصا كانت بيده وقال : هذا لعمر الله التكليف وما عليك يا ابن أم عمر أن لا تدري ما الأب ثم قال : اتبعوا ما تبيّن لكم من هذا الكتاب وما لا فدعوه.

(مَتاعاً لَكُمْ) يعني الفاكهة (وَلِأَنْعامِكُمْ) يعني العشب.

(فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ (٣٣) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (٣٤) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (٣٥) وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (٣٦) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (٣٧) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (٣٨) ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (٣٩) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ (٤٠) تَرْهَقُها قَتَرَةٌ (٤١) أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (٤٢))

(فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ) يعني صيحة القيامة ، سمّيت بذلك لأنها تصخّ الأسماع أي تبالغ في إسماعها حتى كاد تصمّها.

(يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ) لا يلتفت إلى واحد منهم لشغله بنفسه وقيل : حذرا من مطالبتهم إيّاه لما بينه وبينهم من التبعات والمظالم ، وقيل : لعلمه بأنهم لا ينفعونه ولا يغنون عنه من الله شيئا.

سمعت السلمي يقول : سمعت منصور بن عبد الله يقول : سمعت عبد الله بن طاهر الأبهري يقول في هذه الآية : يفر منهم إذا ظهر له عجزهم وقلّة حيلتهم إلى من يملك كشف تلك الكروب والهموم عنه ولو ظهر له ذلك في الدنيا لما اعتمد سوى ربّه الذي لا يعجزه شيء ، ويمكن من فسحة التوكّل واستراح في ظل التفويض.

وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا مخلّد قال : حدّثنا ابن علوية قال : حدّثنا إسماعيل بن عيسى قال : حدّثنا إسحاق بن بشر قال : أخبرني شيخ لنا عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن الحسن قال : أول من يفر يوم القيامة من أبيه إبراهيم وأول من يفر من أمه إبراهيم وأول من يفر من ابنه نوح ، وأول من يفر من أخيه هابيل بن آدم ، وأول من يفر من صاحبته نوح ثم لوط ، ثم تلا هذه الآية (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ) وقال يروون أن هذه الآية نزلت فيهم.

وأخبرنا أبو بكر محمد بن أحمد بن عبدوس قال : أخبرنا أبو بكر بن محمد بن حمدون بن

١٣٤

خالد قال : حدّثنا أبو حنيفة محمد بن عمرو قال : حدّثنا أبي قال : حدّثنا خليد بن دعلج عن قتادة في قول الله سبحانه (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ) قال : يفرّ هابيل من قابيل (وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ) ، قال :يفر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أمه وإبراهيم من أبيه (وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ) ، قال : لوط من صاحبته ونوح من ابنه.

(لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) يشغله عن شأن غيره قال خفاف.

ستغنيك حرب بني مالك

عن الفحش والجهل في المحفل

قال الفراء : وقرأ بعض القراء وهو ابن محيض (بعينه) وهو شاذ.

أخبرني الحسين قال : حدّثنا عبد الله بن عبد الرحمن قال : حدّثنا محمد بن عبد العزيز قال : حدّثنا ابن أبي أوس قال : حدّثنا أبي عن محمد بن عياش عن عطاء بن بشار عن سودة زوج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يبعث الناس حفاة عراة عزلا قد ألجمهم العرق ، وبلغ شحوم الآذان».

فقلت يا رسول الله وا سوأتاه ينظر بعضنا إلى بعض؟ فقال : «قد شغل الناس (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ)» [٩٥] (١).

(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ) مشرقة مضيئة ، يقال : أسفر الصبح إذا أضاء (ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ) فرحة.

أخبرنا الحسين قال : حدّثنا أبو علي الحسين بن أحمد الفامي قال : حدّثنا أحمد بن الحسن بن عبد الجبار قال : حدّثنا يحيى بن معين قال : أخبرنا إسحاق بن الأشعث عن شمر بن عطية عن عطاء في قول الله سبحانه : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ) قال : من طول ما اغبرت في سبيل الله.

(وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ) غبار ، ذكر أن البهائم التي يصيّرها الله سبحانه ترابا بعد القضاء بينها حوّل ذلك التراب في وجوه الكفرة (تَرْهَقُها قَتَرَةٌ) ظلمة وكآبة وكسوف وسواد ، قال ابن عباس : يغشاها ذلّة ، قال ابن زيد : الفرق بين الغبرة والقترة أن القترة ما ارتفع من الغبار فلحق بالسماء ، والغبرة ما كان أسفل في الأرض (أُولئِكَ) الذين يصنع بهم هذا (هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ).

__________________

(١) مجمع الزوائد : ١٠ / ٣٣٣.

١٣٥

سورة التكوير

مكيّة وهي تسع وعشرون آية ، ومائة

وأربع كلمات ، وخمس مائة وثلاثون حرفا

حدّثنا الشيخ الإمام أبو الحسن محمد بن علي بن سهل الماسرخي إملاء قال : أخبرنا أبو الوفاء المؤمّل بن عيسى الماسرخي قال : حدّثنا أحمد بن منصور الرمادي قال : حدّثنا إبراهيم بن خالد قال : حدّثنا يحيى بن عبد الله بن القاص قال : سمعت عبد الرحمن بن زيد الصناعي يقول : سمعت ابن عمر يقول : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من سرّه أن ينظر إلى يوم القيامة فليقرأ (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ)» [٩٦] (١).

وأخبرني سعيد بن محمد قال : أخبرنا محمد بن مطر قال : حدّثنا إبراهيم بن شريك قال : حدّثنا أحمد بن عبد الله قال : حدّثنا سلام بن سليم قال : حدّثنا هارون بن كثير عن زيد عن مسلم عن أبيه عن أبي أمامة عن أبيّ بن كعب قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ) أعاذه الله سبحانه وتعالى أن يفضحه حين تنشر صحيفته» [٩٧] (٢).

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (١) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (٢) وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ (٣) وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ (٤) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (٥) وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ (٦) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (٧) وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ (٨) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (٩) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (١٠))

(إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ) قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : أظلمت ، عطية عنه : ذهبت ، مجاهد : اضمحلت ، قتادة : ذهب ضوؤها ، سعيد بن جبير : عوّرت وهي بالفارسية كوريكرد. أبو صالح : نكست ، وعنه أيضا : ألقيت ، يقال : طعنه فكوّره ، أي : ألقاه ، ربيع بن هيثم : رمي بها. واصل التكوّر في كلام العرب جمع بعض الشيء إلى بعض كتكوير العمامة ، وهو لفّها على الرأس ، وتكوير الكارة من النبات ، وهو جمع بعضها إلى بعض ولفّها ، فمعنى

__________________

(١) مسند أحمد : ٢ / ٢٧ ، تفسير القرطبي : ١٩ / ٢٢٦.

(٢) تفسير مجمع البيان : ١٠ / ٢٧٣.

١٣٦

قوله (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ) : جمع بعضها إلى بعض ، ثم لف فرمي بها وإذا فعل ذلك بها ذهب ضوئها ، دليله ونظيره قوله سبحانه (وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ) (١).

(وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ) أي تناثرت من السماء فتساقطت على الأرض ويقال : انكدر الطائر أي سقط عن عشّه.

قال العجاج :

أبصر ضربان فضاء فانكدر (٢).

وانكدر القوم إذا جاءوا أرسالا حتى انصبوا عليهم (٣) ، قال ذو الرمّة :

فانصاع جانبه الوحشي وانكدرت

يلجبن لا يأتلي المطلوب والطّلب (٤)

ابن عباس : تغيّرت.

(وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ) عن وجه الأرض فصارت هباء منبثا (وَإِذَا الْعِشارُ) وهي النوق الحوامل التي أتى على حملها عشرة أشهر واحدتها عشراء ، ثم لا يزال ذلك اسمها حتى تضع لتمام سنة وهي أنفس ما تكون عند أهلها وأعزّها عليهم. (عُطِّلَتْ) سيّبت وأهملت تركها أربابها وكانوا [....] (٥) لأذنابها فلم تركب ولم تحلب ، ولم يكن في الدنيا مال أعجب إليهم منها (٦). لإتيان ما يشغلهم عنها.

(وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ).

أخبرنا عبد الخالق قال : أخبرنا ابن حبيب قال : حدّثنا أبو العباس البرتي قال : حدّثنا أبو نعيم قال : حدّثنا سفيان عن أبيه عن عكرمة عن ابن عباس (وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ) قال : حشرها موتها ، وقال ابن عباس : حشر كلّ شيء الموت غير الجنّ والإنس فإنهما يوقفان يوم القيامة ، وقال أبيّ بن كعب (وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ) أي اختلطت. قتادة : جمعت ، وقيل : بعثت ليقضي الله [بينها] (٧).

(وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ) قرأ أهل مكّة والبصرة بالتخفيف وغيرهم بالتشديد ، واختلفوا في معناه فقال ابن زيد وشمر بن عطيّة وسفيان ووهب : أوقدت فصارت نارا.

__________________

(١) سورة القيامة : ٩.

(٢) أي فانصب ، وهو في لسان العرب : ٤ / ٥١٨.

(٣) كتاب العين : ٥ / ٣٢٦.

(٤) لسان العرب : ١ / ٥٦٠.

(٥) غير مقروءة في المخطوط.

(٦) تفسير القرطبي : ٣٠ / ٨٣ ، وتفسير الدر المنثور : ٦ / ٣١٨.

(٧) في المخطوط : بينهما.

١٣٧

قال ابن عباس : يكوّر الله الشمس والقمر والنجوم في البحر فيبعث عليها ريحا دبورا فينفخه حتى يصير نارا.

وقال مجاهد ومقاتل والضحّاك : يعني فجر بعضها في بعض العذب والملح فصارت البحور كلّها بحرا واحدا.

قال الحلبي : ملئت ، ربيع بن حيثم : فاضبّت ، الحسن : يبست ، قتادة : ذهب ماؤها فلم يبق فيها قطرة ، وقتل : صارت مياهها بحرا واحد له من الحميم لأهل النار.

وأخبرنا عقيل أنّ أبا الفرج أخبرهم عن ابن جرير قال : حدّثنا الحسن بن الحريث قال : حدّثنا الفضل موسى عن الحسين بن واقد عن الربيع بن أنس عن أبي العالية قال : حدّثني أبيّ بن كعب قال : ستّ آيات قبل يوم القيامة بينما الناس في أسواقهم إذ ذهب ضوء الشمس فبينما هم كذلك إذ تناثرت النجوم فبينما هم كذلك إذ وقعت الجبال على وجه الأرض فجردت واضطربت واحترقت وفزعت الجن إلى الإنس والإنس إلى الجن واختلطت الدواب والطير والوحش وماج بعضهم في بعض فذلك قوله سبحانه (وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ) قال : اختلطت (وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ) قال : أهملها أهعلها (وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ) قال : قالت الجن للإنس : نحن نأتيكم بالخبر ، فانطلقوا إلى البحر فإذا هي نار تأجج.

قال : فبينما هم كذلك إذ تصدّعت الأرض صدعة واحدة إلى الأرض السابعة وإلى السماء السابعة العليا ، قال : فبينما هم كذلك إذ جاءتهم الريح فأماتتهم (١).

(وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ)أخبرنا الحسن قال : أخبرنا السني قال : أخبرنا أبو يعلي قال : حدّثنا محمد بن بكار قال : حدّثنا الوليد بن أبي نور عن سماك عن النعمان بن بشير أنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ) قال : [الضرباء] كل رجل مع كل قوم كانوا يعملون عمله» [٩٨] (٢).

وأخبرنا عبد الله بن حامد قال : حدّثنا محمد بن يعقوب قال : حدّثنا محمد بن خالد قال : حدّثنا أحمد بن خالد الوهبي قال : حدّثنا إسماعيل عن سماك بن حرب إنّه سمع النعمان بن بشير يقول : قال عمر بن الخطاب : (وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ) قال : الفاجر مع الفاجر ، والصالح مع الصالح ، قال ابن عباس : ذلك حتى يكون الناس (أَزْواجاً ثَلاثَةً) ، وقال الحسن وقتادة : ألحق كلّ امرئ بشيعته ، اليهود باليهود والنصارى بالنصارى ، الربيع بن خيثم يحشر المرء مع صاحب عمله : مقاتل : زوجت نفوس المؤمنين بالحور العين ونفوس الكافرين بالشياطين نظيرها (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ) (٣) ، وقيل : زوجت النفوس بأعمالها.

__________________

(١) تفسير الطبري : ٣٠ / ٨٠.

(٢) جامع البيان للطبري : ٣٠ / ٨٨.

(٣) سورة الصافات : ٢٢.

١٣٨

وأخبرنا محمد بن حمدون قال : أخبرنا مكي قال : حدّثنا حمد بن الأزهر قال : حدّثنا أسباط عن أبيه عن عكرمه في قوله سبحانه : (وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ) قال زوّجت الأرواح في الأجساد.

(وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ) وهي الجارية المقتولة المدفونة حيّة سمّيت بذلك لما يطرح عليها من التراب فيؤدها أي يثقلها حتى تموت ، قالوا : وكان الرجل من العرب إذا ولدت له بنت فأراد أن يستحيها ألبسها جبّة من صوف أو شعر ترعى الإبل والغنم في البادية وإذا أراد أن يقتلها تركها حتى إذا صارت سداسية قال أبوها لأمها طيّبيها وزيّنيها حتى أذهب بها إلى أحمائها وقد حفر لها بئرا في الصحراء فإذا بلغ بها البئر قال لها : انظري إلى هذا البئر فيدفعها من خلفها في البئر لم يهيل على رأسها التراب حتى يستوي البئر بالأرض ، فذلك قوله سبحانه وتعالى (أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ) (١) وقال ابن عباس : كانت المرأة في الجاهلية إذا حملت وكان أوان ولادتها حفرت حفرة فتمخضت على رأس الحفرة فإذا ولدت جارية رمت بها في الحفرة ، وإن ولدت غلاما حبسته ، وكانت طوائف من العرب يفعلون ذلك وفيه يقول قائلهم :

سميتها إذ ولدت تموت

والقبر صهر ضامن رميت (٢)

وقال قتادة : كان أهل الجاهلية يقتل أحدهم ابنته ويغذو كلبه فعاب الله تعالى ذلك عليهم وأوعدهم.

وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن حمدان أن قال : حدّثنا الفراتي قال : حدّثنا محمد بن مهدي الأبلي ويحيى بن موسى قالا : حدّثنا عبد الرزاق قال : أخبرنا إسرائيل بن يونس عن سماك ابن حرب عن النعمان بن بشير قال : سمعت عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه يقول في قول الله سبحانه : (وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ) قال : جاء قيس بن عاصم التميمي إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله إني وأدت ثمان بنات في الجاهلية ، قال : «فأعتق عن كلّ واحدة منهم رقبة».

قال : يا رسول الله إني صاحب إبل. قال : «فانحر عن كل واحدة منهنّ بدنة إن شئت» [٩٩] (٣).

(سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ) قراءة العامة على الفعل المجهول فيهما ، ولها وجهان : أحدهما :(سُئِلَتْ) هي فقيل لها : (بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ) وبأي فجور قتلت؟ كما يقال : قال عبد الله إنه ذاهب وإني ذاهب ، وقال عبد الله بأي ذنب ضربت وبأي ذنب ضرب ، كلاهما سائغ جائز ، والآخر : سئل عنها الذين وأدوها كأنّك قلت : طلبت منهم فقيل : أين أولادكم وبأي ذنب قتلتموهم.

__________________

(١) سورة النحل : ٥٩.

(٢) الصحاح : ١ / ٢٤٩.

(٣) كنز العمال : ٢ / ٥٤٦.

١٣٩

وأخبرنا الحسن بن محمد بن عبد الله المقرئ قال : أخبرنا البغوي ببغداد قال : حدّثنا ابن أبي شيبة قال : حدّثنا زياد بن أيوب دلويه قال : حدّثنا هشام عن رجل ذكروا أنه هارون ، قال زياد : ولم اسمعه أنا من هاشم عن جابر بن زيد أنه كان يقرأ (وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ) ومثله قرأ أبو الضحى ومسلم بن صبح.

(وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ) قرأ أهل المدينة والشام والبصرة إلّا أبا عمرو بالتخفيف غيرهم بالتشديد لقوله سبحانه (صُحُفاً مُنَشَّرَةً) (١).

أخبرني الحسين قال : حدّثنا هارون قال : حدّثنا اليسيري قال : حدّثنا سعيد بن سليمان عن عبد الحمد بن سليمان قال : حدّثنا محمد بن أبي موسى عن عطاء بن بشار عن أم سلمة قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «يحشر الناس يوم القيامة عراة حفاة» قالت يا رسول الله كيف بالنساء؟ قال : «شغل الناس يا أم سلمة» قالت : وما شغلهم قال : «نشر الصحف فيها مثاقيل الذر ومثاقيل الخردل» [١٠٠] (٢).

(وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ (١١) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (١٢) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (١٣) عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ (١٤) فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (١٥) الْجَوارِ الْكُنَّسِ (١٦) وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ (١٧) وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ (١٨) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (١٩) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (٢٠) مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (٢١) وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (٢٢) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (٢٣) وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (٢٤) وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (٢٥) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (٢٦) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٢٧) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (٢٨) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٢٩))

(وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ) أي فعلت ونزعت وجذبت عن أماكنها ثم طويت ، وفي قراءة عبد الله : قشطت بالقاف وهما لغتان ، والقاف والكاف في كلام العرب يتعاقبان مخرجيهما كما يقال : الكافور والقافور والقف والكف.

(وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ) قرأ أهل المدينة بالتشديد غيرهم بالتخفيف واختاره أبو عبيد وأبو حاتم ، لأنها واحدة واختلف فيه بن عاصم وبن عامر ، ومعناه : أوقدت ، قال قتادة : سعّرها غضب الله وخطايا بني آدم.

(وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ) قرّبت لأهلها نظيرها قوله : (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ) (٣) (عَلِمَتْ) عند ذلك (نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ) من خير أو شرّ وهو جواب لقوله : (إِذَا الشَّمْسُ) وما بعدها كما

__________________

(١) سورة المدثر : ٥٢.

(٢) تفسير القرطبي : ١٩ / ٢٣٤.

(٣) سورة الشعراء : ٩٠.

١٤٠