الكشف والبيان - ج ١٠

أبو إسحاق أحمد [ الثّعلبي ]

الكشف والبيان - ج ١٠

المؤلف:

أبو إسحاق أحمد [ الثّعلبي ]


المحقق: أبي محمّد بن عاشور
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٤٤

عبد الرحمن بن مهدي عن خصيف عن عكرمة عن ابن عباس (وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ) قال : ذات المطر. (وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ) قال : النبات ، وقال أبو عبيدة : الرجع الماء ، وأنشد المنحل الهذلي في صفة السيف :

أبيض كالرجع رسوب إذا

ما ثاج في محتفل يختلي (١)

وقال ابن زيد : يعني بالرجع ان شمسها وقمرها يغيب ويطلع (وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ) ، أي ينصدع عن النبات والأشجار والثمار والأنهار ، نظيره قوله سبحانه (شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا وَعِنَباً) إلى آخرها (٢) ، وقال مجاهد : هما السدّان بينهما طريق نافذ مثل [ماري] عرفة.

(إِنَّهُ) : يعني القرآن (لَقَوْلٌ فَصْلٌ) : حق وجد وجزل يفصل بين الحق والباطل. (وَما هُوَ بِالْهَزْلِ) : باللعب والباطل. (إِنَّهُمْ) : يعني مشركي مكّة. (يَكِيدُونَ كَيْداً وَأَكِيدُ كَيْداً) : وأريد بهم أمرا. (فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً) : قليلا فأخذوا يوم بدر.

__________________

(١) تفسير القرطبي : ٢٠ / ١٠ ، وثاخت القدم في الوحل إذا خاضت وغابت.

(٢) سورة عبس : ٢٦ ـ ٢٨.

١٨١

سورة الأعلى

مكيّة ، وهي : تسع عشرة آية ، واثنان

وسبعون كلمة ، ومائتان واحدي وتسعون حرفا.

أخبرني كامل بن أحمد وسعيد بن محمد بن القاسم قالوا : حدّثنا محمد بن مطر قال : حدّثنا إبراهيم بن شريك قال : حدّثنا أحمد بن يونس قال : حدّثنا سلام بن سليم قال : حدّثنا هارون بن كبير عن زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي أمامة عن أبيّ بن كعب قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ سورة الأعلى أعطاه الله من الأجر عشر حسنات ، بعدد كل حرف أنزل الله سبحانه على إبراهيم وموسى ومحمد» [١٢٩] (١).

وأخبرنا عبد الله بن حامد قال : أخبرنا أحمد بن عبد الله قال : حدّثنا محمد بن عبد الله قال : حدّثنا عبد الله بن عمر بن أبان قال : حدّثنا وكيع عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن مسلم البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا قرأ (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) قال : «سبحان ربي الأعلى» [١٣٠] (٢) ، وكذلك روى عن علي وأبي وموسى وابن عمر وابن عباس وابن الزبير إنهم كانوا يفعلون ذلك ، وروي جويبر عن الضحاك أنه كان يقول ذلك ، وكان يقول من قرأها فليقرأها كذلك ، وروي عن علي بن أبي طالب إنه قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحب هذه السورة (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) وأول من قال سبحان ربي الأعلى ميكائيل. قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا جبريل أخبرني عن ثواب من قالها في صلاته أو في غير صلاته» [١٣١] (٣) فقال : يا محمد ما من مؤمن ولا مؤمنة يقولها في سجوده أو في غير سجوده إلّا كانت له في ميزانه أثقل من العرش والكرسي وجبال الدنيا ، ويقول الله سبحانه وتعالى : صدق عبدي أنا أعلى فوق كل شيء وليس فوقي شيء أشهدوا ملائكتي إنّي غفرت لعبدي وأدخلته جنتي ، فإذا مات زاره ميكائيل كل يوم فإذا كان يوم القيامة حمله على جناحه فيوقفه بين يدي الله سبحانه فيقول : يا ربّ شفّعني فيه فيقول : شفّعتك فيه اذهب به إلى الجنة.

__________________

(١) تفسير مجمع البيان : ١٠ / ٣٢٦.

(٢) عون المعبود : ٣ / ٩٨.

(٣) تفسير القرطبي : ٢٠ / ١٤.

١٨٢

وقال عقبة بن عامر : لما نزلت (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اجعلوها في ركوعكم» [١٣٢] (١) فلما نزل (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اجعلوها في سجودكم» [١٣٣] (٢).

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (١) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (٢) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى (٣) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى (٤) فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى (٥) سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى (٦) إِلاَّ ما شاءَ اللهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى (٧) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى (٨) فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى (٩) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى (١٠) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (١١) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى (١٢) ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (١٣))

(سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) يعني قل : سبحان ربّي الأعلى ، وإلى هذا التأويل ذهب جماعة من الصحابة والتابعين ، وقال قوم معناه : نزّه ربّك الأعلى عما يقول فيه الملحدون ويصفه به المبطلون ، وجعلوا الاسم صلة ، ويجوز أن يكون معناه ، نزّه ذات ربّك عما لا يليق به ، لأن الاسم والذات والنفس عبارة عن الوجود والإثبات.

وقال آخرون : نزّه تسمية ربّك وذكرك إياه إن تذكره إلّا وأنت خاشع معظّم ولذكره محترم ، وجعلوا الاسم بمعنى التسمية ، وقال الفراء : سواء قلت (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ) أو سبح باسم ربّك إذا أردت ذكره وتسبيحه ، وقال ابن عباس : صلّ بأمر ربّك الأعلى.

(الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى) فعدل الخلق (وَالَّذِي قَدَّرَ) خفّف عليّ والسلمي والكسائي داله ، وشدّدها الآخرون.

(فَهَدى) : قال مجاهد : هدى الإنسان لسبيل الخير والشر والسعادة والشقاوة وهدى الأنعام لمراتعها ، وقال مقاتل والكلبي : عرّف خلقه كيف يأتي الذكر الأنثى ، وعن عطاء قال : جعل لكل دابة ما يصلحها وهذا حاله ، وقيل : هدى لاكتساب الأرزاق والمعاش ، وقيل : خلق المنافع في الأشياء وهدى الإنسان لوجه استخراجها منه ، وقيل : هدى لدينه من يشاء من خلقه.

قال السدي : قدر الولد في الرحم تسعة أشهر ، أقل ، أو أكثر ، وهدى للخروج من الرحم.

وقال الواسطي : قدّر السعادة والشقاوة عليهم ثم يسّر لكل واحد من الطالعين سلوك ما قدّر عليه ، وقيل : قدّر الأرزاق فهداهم لطلبها ، وقيل : قدّر الذنوب على عباده ثم هداهم الى التوبة.

(وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى) النبات من بين أخضر وأصفر وأحمر وأبيض.

__________________

(١) تفسير مجمع البيان : ١٠ / ٣٢٦.

(٢) تفسير مجمع البيان : ١٠ / ٣٢٦.

١٨٣

(فَجَعَلَهُ غُثاءً) هشيما باليا ، (أَحْوى) أسود إذا هاج وعتق. (سَنُقْرِئُكَ) : سنعلمك ويقرأ عليك جبريل ، (فَلا تَنْسى إِلَّا ما شاءَ اللهُ) أن تنساه وهو ما ننسخه من القرآن ، وهذا معنى قول قتادة ، وقال مجاهد والكلبي : كان النبي عليه‌السلام إذا نزل جبريل بالقرآن لم يفرغ من آخر الآية حتى يتكلم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأوله مخافة أن ينساها فأنزل الله تعالى : (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى) فلم ينس بعد ذلك شيئا ، ووجه الاستثناء على هذا التأويل ما قاله الفراء : لم يشأ أن ينسى شيئا ، وهو كقوله سبحانه : (خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) (١) ، وأنت تقول في الكلام لأعطينّك كل ما سألت إلّا ما شاء أن أمنعك والنية أن لا تمنعه ، وعلى هذا مجاري الأيمان يستثنى فيها ونية الحالف النمّام.

وسمعت محمد بن الحسن السلمي يقول : سمعت محمد بن الحسن البغدادي يقول : سمعت محمد بن عبد الله الفرغاني يقول : كان يغشي الجنيد في مجلسه أهل النسك من أهل العلوم وكان أحد من يغشاه ابن كيسان النحوي ، وكان في وقته رجلا جليلا فقال له يوما : يا أبا القاسم ما تقول في قوله سبحانه : (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى) فأجابه مسرعا كأنه تقدم له السؤال قبل ذلك بأوقات : لا تنسى العمل به ، فأعجب ابن كيسان به إعجابا شديدا وقال : لا يفضض الله فاك مثلك من يصدر عن رأيه (٢).

(إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ) من القول والفعل (وَما يَخْفى) : قال محمد بن حامد : يعلم إعلان الصدقة وإخفاءها. (وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى) لعمل الجنّة ، وقيل : هو متصل بالكلام الأول معناه : نعلم (الْجَهْرَ) مما تقرأه يا محمد على جبريل إذا فرغ من التلاوة عليك ، (وَما يَخْفى) ما تقرأه في نفسك مخافة ان تنساه. ثم وعده فقال : (وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى) أي يهون عليك الوحي حتى تحفظه وتعلمه وتعمل به ، وقيل : ويوفقك للشريعة اليسرى ، وهي الحنفية السمحة.

(فَذَكِّرْ) عظ بالقرآن (إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى) التذكر (سَيَذَّكَّرُ) سيتّعظ (مَنْ يَخْشى) الله سبحانه (وَيَتَجَنَّبُهَا) يعني ويتجنب التذكرة ويتباعد عنها. (الْأَشْقَى) الشقي في علم الله سبحانه. (الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى * ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها) فيستريح (وَلا يَحْيى) أي حياة تنفعه.

وسمعت السلمي يقول : سمعت منصور بن عبد الله يقول : سمعت أبا القاسم البزاز يقول : قال ابن عطا : (لا يَحْيى)! فيستريح عن القطيعة (وَلا يَحْيى) فيصل إلى روح الوصلة.

(قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (١٤) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (١٥) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا (١٦) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى

__________________

(١) سورة هود : ١٠٧.

(٢) تفسير القرطبي : ٢٠ / ١٩.

١٨٤

(١٧) إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى (١٨) صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى (١٩))

(قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى) : أي تطهّر من الشرك وقال : لا إله إلّا الله ، هذا قول عطاء وعكرمة ورواية الوالي عن ابن عباس وسعيد بن جبير عنه أيضا ، وقال الحسن : من كان عمله زاكيا ، وعن قتادة : عمل صالحا وورعا ، وعن أبو الأحوص : رضح من ماله وأدّى زكاة ماله ، وكان ابن مسعود يقول : رحم الله امرءا تصدّق ثم صلّى ثم يقرأ هذه الآية ، وقال آخرون : هو صدقة الفطر ، وروى أبو هارون عن أبي سعيد الخدري ، في قوله سبحانه : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى) قال :أعطى صدقة الفطر.

(وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى) قال : خرج إلى العيد فصلى.

وروى عبيد الله بن عمر عن نافع قال : كان ابن عمر إذا صلّى الغداة ـ يعني من يوم العيد ـ قال : يا نافع أخرجت الصدقة فإن قلت نعم مضى إلى المصلّى وإن قلت لا قال : فالآن فأخرج ، فإنما نزلت هذه الآية في هذا (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى) : وروى مروان بن معاوية عن أبي خالد قال : دخلت على أبي العالية فقال لي : إذا غدوت غدا إلى العيد فمرّ بي ، قال : فمررت به فقال : هل طمعت شيئا؟ قلت : نعم ، قال : أفضت على نفسك من الماء ، قلت : نعم ، قال : فأخبرني ما فعلت زكاتك؟ قلت : قد وجهتها قال : إنما أردتك لهذا ثم قرأ (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى) وقال : إنّ أهل المدينة لا يرون صدقة أفضل منها ومن سقاية الماء ، ودليل هذا التأويل ما أخبرني الحسين قال : حدّثنا أحمد بن محمد بن علي الهمداني قال : حدّثنا أبو بكر محمد بن إبراهيم بن إسحاق الأصبهاني قال : حدّثنا حاتم بن يونس الجرجاني قال : حدّثنا دحيم قال : حدّثنا عبد الله بن نافع عن كثير بن عبد الله عن أبيه عن جدّه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى) قال : «أخرج زكاة الفطر ، وخرج إلى المصلى فصلّى» [١٣٤] (١).

قلت : ولا أدري ما وجه هذا التأويل ، لأن هذه السورة مكيّة بالإجماع ولم يكن بمكّة عيد ، ولا زكاة فطر والله أعلم.

(وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ) : أي وذكر ربّه ، وقيل : وذكر تسمية ربّه ، وقيل : هو تكبير العيد ، فصلّى صلاة العيد ، وقيل : الصلوات الخمس. يدل عليه ما أخبرنا عبد الله بن حامد قال : أخبرنا أحمد ابن عبد الله قال : حدّثنا محمد بن عبد الله قال : حدّثنا عباد بن أحمد العمري قال : حدّثنا عمّي محمد بن عبد الرحمن عن أبيه عن عطاء بن السائب عن ابن سابط عن جابر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى) قال : «من شهد أن لا إله إلّا الله وخلع الأنداد وشهد أني رسول

__________________

(١) تفسير القرطبي : ٢٠ / ٢١ بتفاوت.

١٨٥

الله» (وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى) قال : «هي الصلوات الخمس ، والمحافظة عليها حين ينادى بها ، والاهتمام بمواقيتها [١٣٥] (١) ، وقيل : الصلاة هاهنا الدعاء.

(بَلْ تُؤْثِرُونَ) ، قراءة العامة : بالتاء وتصديقهم قراءة أبيّ بن كعب ، بل وأنتم تؤثرون ، وقرأ أبو عمرو بالياء ، يعني الاشقين. قال عرفجة الأشجعي : كنا عند ابن مسعود ، فقرأ هذه الآية ، فقال لنا : أتدرون لم آثرنا الحياة الدنيا على الآخرة. قلنا : لا ، قال : لأن الدنيا أحضرت لنا ، وعجّل لنا طعامها وشرابها نساؤها [ولذتها وبهجتها ، وإن الآخرة غيبت لنا وزويت عنا ، فأخذنا بالعاجل وتركنا الآجل] (٢).

(وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى إِنَّ هذا) الذي ذكرت في هذه السورة ، وقال الكلبي : يعني من قوله : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى) إلى آخر السورة ، وقال ابن زيد يعني قوله : (وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى) قال قتادة : تتابعت كتب الله كما تسمعون إنّ الآخرة (خَيْرٌ وَأَبْقى).

الضحّاك : (إِنَّ هذا) القرآن ، (لَفِي الصُّحُفِ) الكتب (الْأُولى) واحدتها صحيفة ، (صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى) يقال : إنّ في صحف إبراهيم ينبغي للعاقل أن يكون حافظا للسانه عارفا بزمانه مقبلا على شأنه ، وقال أبو ذر : قلت : يا رسول الله كم الأنبياء؟ قال : «مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا» قال : قلت : يا رسول الله كم المرسلون منهم؟

قال : «ثلاثمائة وثلاثة عشر وبقيّتهم أنبياء» قلت : أكان آدم نبيا؟ قال : نعم كلمه الله سبحانه وخلقه بيده ، يا أبا ذر أربعة من الأنبياء عرب : هود وصالح وشعيب ونبيك. قلت : يا رسول الله كم أنزل الله من كتاب؟

قال : «مائة وأربع كتب ، منها على آدم عشر صحف ، وعلى شيث خمسين صحيفة ، وعلى أخنوخ ، وهو إدريس ثلاثين صحيفة ، وهو أوّل من خطّ بالقلم ، وعلى إبراهيم عشر صحائف ، والتوراة والإنجيل والزبور والفرقان» [١٣٦] (٣).

__________________

(١) تفسير مجمع البيان : ١٠ / ٣٣١ ، ومجمع الزوائد : ١٠ / ٢٣٦ وفيه : الآخرة غيبت عنّا.

(٢) بتمامه في تفسير مجمع البيان : ١٠ / ٣٣٢ ، وبتفاوت في تفسير ابن كثير : ١ / ٦٠٠.

(٣) الدر المنثور : ٦ / ٣٣٩.

١٨٦

سورة الغاشية

مكّية ، وهي ست وعشرون آية ، واثنتان

وتسعون كلمة ، وثلاثمائة وأحد وثمانون حرفا

أخبرني محمّد بن القاسم قال : حدّثنا إسماعيل بن مجيد قال : حدّثنا محمّد بن إبراهيم بن سعيد قال : حدّثنا سعيد بن حفص قال : قرأت على معقل بن عبد الله عن عكرمة بن خالد عن سعيد بن جبير عن ابن عبّاس عن أبيّ بن كعب قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ سورة الغاشية حاسبه الله (حِساباً يَسِيراً)» [١٣٧] (١).

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ (١) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ (٢) عامِلَةٌ ناصِبَةٌ (٣) تَصْلى ناراً حامِيَةً (٤) تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (٥) لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلاَّ مِنْ ضَرِيعٍ (٦) لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (٧) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ (٨) لِسَعْيِها راضِيَةٌ (٩) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (١٠) لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً (١١) فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ (١٢) فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (١٣) وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ (١٤) وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ (١٥) وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (١٦) أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (١٧) وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (١٨) وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (١٩) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (٢٠))

(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ) يعني القيامة يغشي كلّ شيء إلّا هو ، هذا قول أكثر المفسّرين.

وقال سعيد بن جبير ومحمّد بن كعب : الغاشية النار. دليله قوله سبحانه : (وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ).

(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ) يعني يوم القيامة ، وقيل : في النار (خاشِعَةٌ) ذليلة (عامِلَةٌ ناصِبَةٌ) قال بعضهم : يعني (عامِلَةٌ) في النار (ناصِبَةٌ) فيها ، قال الحسن وسعيد بن جبير : لم تعمل لله سبحانه وتعالى في الدنيا ، فأعملها وأنصبها في النار لمعالجة السلاسل والأغلال ، وهي رواية العوفي عن ابن عبّاس قال قتادة : نكرت في الدنيا من طاعة فأعملها وأنصبها في النار.

وقال الكلبي : يجرّون على وجوههم في النار. الضحّاك : يكلّفون ارتقاء جبل من حديد في النار ، والنّصب الدؤوب في العمل.

__________________

(١) تفسير مجمع البيان : ١٠ / ٣٣٣.

١٨٧

وقال عكرمة والسدّي : (عامِلَةٌ) في الدنيا بالمعاصي ، (ناصِبَةٌ) في النار يوم القيامة ، وقال سعيد ابن جبير وزيد بن أسلم : هم الرهبان وأصحاب الصوامع ، وهي رواية أبي الضحى عن ابن عبّاس.

(تَصْلى ناراً حامِيَةً) قال ابن مسعود : تخوض في النار كما تخوض الإبل في الوحل.

قراءة العامّة بفتح التاء ، وقرأ أبو عمرو ويعقوب وأبو بكر بضمّها اعتبارا بقوله : (تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ) حارّة. قال قتادة : قد أتى طبخها منذ خلق الله السماوات والأرض.

(لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ) قال محمد وعكرمة وقتادة : وهو نبت ذو شوك لاطئ بالأرض تسمّيه فرش الشرق ، فإذا هاج سمّوه الضريع ، وهو أخبث طعام وأبشعه ، وهي رواية العوفي عن ابن عبّاس ، الوالي عنه : هو شجر من نار ، وقال ابن زيد : أمّا في الدنيا فإنّ الضريع الشوك اليابس الذي ليس له ورق ، تدعوه العرب الضريع ، وهو في الآخرة شوك من نار.

وقال الكلبي : لا تقربه دابّة إذا يبس ، ولا يرعاه شيء ، وقال سعيد بن جبير هو الحجارة ، عطاء عن ابن عبّاس : هو شيء يطرحه البحر المالح ، يسمّيه أهل اليمن الضريع ، وقد روي عن ابن عبّاس عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّه قال : «الضريع شيء يكون في النار شبه الشوك ، أمرّ من الصبر وأنتن من الجيفة وأشدّ حرّا من النار» [١٣٨] (١) سمّاه النبيّ ضريعا ، وقال عمرو بن عبيد : لم يقل الحسن في الضريع شيئا ، إلّا أنّه قال : هو بعض ما أخفى الله من العذاب ، وقال ابن كيسان : هو طعام يضرعون منه ويذلّون ويتضرّعون إلى الله سبحانه ، وعلى هذا التأويل يكون المعنى المضرّع.

وقال أبو الدرداء والحسن : يقبّح الله سبحانه وجوه أهل النار يوم القيامة يشبهها بعملهم (٢) القبيح في الدنيا ، ويحسن وجوه أهل الجنّة يشبّهها بأعمالهم الحسنة في الدنيا ، وأنّ الله سبحانه يرسل على أهل النار الجوع حتّى يعدل عندهم ما هم فيه من العذاب ، فيستغيثون فيغاثون بالضريع ويستغيثون فيغاثون بطعام ذي غصّة ، فيذكرون أنّهم كانوا يخبزون الغصص في الدنيا بالماء فيستسقون بعطشهم ألف سنة ، ثمّ يسقون من عين آنية لا هنيّة ولا مريّة ، فكلّما أدنوه من وجوههم سلخ جلود وجوههم وشواها ، فإذا وصل إلى بطونهم قطّعها ، فذلك قوله سبحانه : (وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ).

قال المفسّرون : فلمّا نزلت هذه الآية قال المشركون : إنّ إبلنا لتسمن على الضريع ، فأنزل الله سبحانه : (لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ) ويقول : فإنّ الإبل ترعاه ما دام رطبا ، فإذا يبس فلا يأكله شيء ورطبه يسمّى شبرقا لا ضريعا.

__________________

(١) تفسير القرطبي : ٢٠ / ٣٠.

(٢) في المخطوط : بعمله.

١٨٨

(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ * لِسَعْيِها) في الدنيا (راضِيَةٌ) في الآخرة حين أعطيت الجنّة بعملها ومجازات لثواب سعيها في الآخرة راضية (فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ * لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً) لغو وباطل ، وقيل : حلف كاذب. (فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ * فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ * وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ * وَنَمارِقُ) ووسائد ومرافق (مَصْفُوفَةٌ) بعضها بجنب بعض ، واحدتها نمرقة. قال الشاعر :

كهول وشبّان حسان وجوههم

على سرر مصفوفة ونمارق (١)

(وَزَرابِيُ) يعني البسط العريضة. قال ابن عبّاس : هي الطنافس التي لها خمل رقيق ، واحدتها زريبة. (مَبْثُوثَةٌ) مبسوطة وقيل : متفرّقة في المجالس. (أَفَلا يَنْظُرُونَ) الآية ، قال المفسّرون لمّا نعت الله ما في الجنّة في هذه السورة عجب من ذلك أهل الكفر والضلالة وكذبوا بها ، فذكرهم الله سبحانه صنعه فقال عزّ من قائل : (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ).

وكانت الإبل من عيش العرب ومن حولهم ، وتكلّمت الحكماء في وجه تخصيص الله سبحانه الإبل من بين سائر الحيوانات ، فقال مقاتل : لأنّهم لم يروا قط بهيمة أعظم منها ، ولم يشاهدوا الفيل إلّا الشاذّ منهم ، وقال الكلبي : لأنّها تنهض بحملها وهي باركة ؛ لأنّه وليس شيء من الحيوانات سابقها ولا سائقها غيرها ، وقال قتادة : ذكر الله سبحانه ارتفاع سرر الجنّة وفرشها فقالوا : كيف نصعد؟ فأنزل الله سبحانه هذه الآية.

وسئل الحسن عن هذه الآية وقيل له : الفيل أعظم في الأعجوبة؟ فقال : أمّا الفيل فالعرب بعيدو (٢) العهد بها ، ثمّ هو خنزير لا يركب ظهرها ولا يأكل لحمها ولا يحلب درها ، والإبل من أعزّ مال العرب وأنفسه.

وقال الحسن : إنّما يأكلون النوى والقت ويخرج (٣) اللبن ، وقيل : لأنّها في عظمة تلين للحمل الثقيل وتنقاد للقائد الضعيف حتّى أنّ الصبي الصغير يأخذ بزمامها فيذهب بها حيث يشاء.

وحكى الأستاذ أبو القاسم بن حبيب أنّه رأى في بعض التفاسير أنّ فأرة أخذت بزمام ناقة ، فجعلت تجرّ بها والناقة تتبعها ، حتّى دخلت الجحر فجرّت الزمام فتحرّكت فجرّته فقربت فمها من جحر الفأر. فسبحان الذي قدّرها وسخّرها.

أخبرنا عبد الله بن حامد قال : أخبرنا أحمد بن عبد الله قال : حدّثنا محمد بن العلاء قال : حدّثنا وكيع عن يونس بن أبي إسحاق عن أبيه عن شريح أنّه كان يقول : اخرجوا بنا إلى الكناسة حتّى ننظر (إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ).

__________________

(١) تفسير القرطبي : ٢٠ / ٣٤.

(٢) في المخطوط : بعيد.

(٣) هكذا في المخطوط.

١٨٩

وقيل : الإبل هاهنا السحاب ، ولم أجد لذلك أصلا في كتب الأئمّة (وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ) بسطت ، وقال أنس بن مالك : صلّيت خلف علي بن أبي طالب فقرأ ا فلا تنظرون إلى الإبل كيف خلقتُ وكذلك رفعتُ ونصبتُ وسطحتُ برفع التاء ، وقرأ الحسن سطّحت بالتشديد.

(فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ (٢١) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (٢٢) إِلاَّ مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (٢٣) فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ (٢٤) إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ (٢٥) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ (٢٦))

(فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) بمسلّط جبّار يكرههم على الإيمان ، ثمّ نسخ ذلك بآية القتال وقرأها هارون بِمُسِيْطَرٍ (بفتح الطاء) وهي لغة تميم.

(إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ) اختلفوا في وجه هذا الاستثناء ، فقال بعضهم : هو راجع إلى قوله : (فَذَكِّرْ) ومجاز الآية : (فَذَكِّرْ) قومك (إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ) منهم ، فإنّه لا ينفعه التذكير ، وقيل معناه (لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) إلّا على (مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ) ، فانّك تقاتله حتّى يسلم ، وقيل : هو راجع إلى ما بعده ، وتقديره : لكن (مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ).

(فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ) وهو النار ، وانّما قال : (الْأَكْبَرَ) لأنّهم عذّبوا في الدنيا بالجوع ، والقحط ، والقتل ، والأسر ، ودليل هذا التأويل قراءة ابن مسعود ((إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ) فإنّه يعذّبه الله العذاب الأكبر). (إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ) رجوعهم ومعادهم ، وقرأ أبو جعفر بتشديد الياء ، قال أبو حاتم : لا يجوز ذلك ولو جاز فيه لجاز في الصيام والقيام. (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ).

١٩٠

سورة الفجر

مكّية ، وهي خمسمائة وسبعة وتسعون حرفا

ومائة وتسع وثلاثون كلمة ، وثلاثون آية.

أخبرني نافل بن راقم بن أحمد البابي قال : حدّثنا محمد بن محمد بن سادة قال : حدّثنا أحمد بن محمد بن الحسن قال : حدّثنا محمد بن يحيى قال : حدّثنا سلمة بن قتيبة عن شعبة عن عاصم بن هدله عن زر بن حبيش عن أبيّ بن كعب قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ سورة (وَالْفَجْرِ) في الليالي العشر غفر له ومن قرأها سائر الأيّام كانت له نورا يوم القيامة» [١٣٩] (١).

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالْفَجْرِ (١) وَلَيالٍ عَشْرٍ (٢) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (٣) وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ (٤) هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (٥))

(وَالْفَجْرِ) قال ابن عبّاس : يعني النهار كلّه ، عطية عنه ، صلاة الفجر ، عثمان بن محصن عنه : فجر المحرّم ومثله قال قتادة : هو أوّل يوم من المحرّم تتفجر منه السنة. ضحاك : فجر ذي الحجّة ؛ لأنّ الله سبحانه قرن الأيّام بها. عكرمة وزيد بن أسلم : الصبح. مقاتل : عداه جميع كلّ سنة. القرظي : انفجار الصبح من كلّ يوم إلى انقضاء الدّنيا. في بعض التفاسير : أنّ الفجر الصخور والعيون تتفجّر بالمياه.

(وَلَيالٍ عَشْرٍ) قال مجاهد وقتادة والضحّاك والكلبي والحلبي : هي عشر ذي الحجّة ، عكرمة : ليالي الحجّ ، وقال مسروق : هي أفضل أيّام السنة. أبو روق عن الضحّاك : هي العشر الأول من شهر رمضان ، أبو ظبيان عن ابن عبّاس قال : هي العشر الأواخر من شهر رمضان ، يمان بن رباب : العشر الأولى من المحرّم التي عاشرها يوم عاشوراء.

أخبرني الحسن قال : حدّثنا بن حمدان قال : حدّثنا موسى بن إسحاق الأنصاري قال : حدّثنا منجاب بن الحرث قال : أخبرنا بشر بن عمارة قال : حدّثنا عمر بن حسّان عن عطية العوفي في قوله سبحانه : (وَالْفَجْرِ) قال : هو الفجر الذي تعرفون ، قلت : (وَلَيالٍ عَشْرٍ) قال :

__________________

(١) تفسير مجمع البيان : ١٠ / ٣٤١.

١٩١

عشر الأضحى ، قلت : (وَالشَّفْعِ) قال : خلقه ، يقول الله سبحانه : (وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً) ، قلت : (وَالْوَتْرِ) قال : الله وتر ، قلت له : هل تروي هذا الحديث عن أحد من أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ قال : نعم ، قلت : عمّن؟ قال : عن أبي سعيد الخدري عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم [١٤٠] (١).

وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن نصرويه قال : حدّثنا ابن وهب قال : حدّثنا أحمد بن يحيى بن سعيد القطان وعبدة بن عبد الله بن النعمان قالا : حدّثنا أبو الحسين زيد بن الحبّاب العكلي قال : حدّثنا عبّاس بن عقبة قال : حدّثني حسين بن نعيم الحضرمي عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قول الله سبحانه : (وَالْفَجْرِ وَلَيالٍ عَشْرٍ) قال : «عشر النحر ، والوتر يوم عرفة ، والشفع يوم النحر» [١٤١] (٢).

وبه عن ابن وهب قال : حدّثنا يوسف بن عبد الرحمن قال : حدّثنا سعيد بن مسلمة الأموي قال : حدّثنا واصل بن السائب الرقاشي قال : حدّثني أبو سودة قال : حدّثني أبو أيّوب الأنصاري قال : سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن قوله سبحانه وتعالى : (وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ) قال : «الشفع يوم عرفة ويوم الأضحى ، والوتر ليلة النحر» [١٤٢] (٣).

وأخبرنا أبو الحسن بن أبي الفضل الفهندري قال : حدّثنا أبو الطاهر المحمدآبادي قال : حدّثنا عثمان بن سعيد قال : حدّثنا مسلم بن إبراهيم قال : حدّثنا خالد بن قيس وهمام بن يحيى قالا : حدّثنا قتادة عن عمران بن عاصم عن عمران بن حصين أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل عن (الشَّفْعِ وَالْوَتْرِ) فقال : «هي الصلاة منها الشفع ومنها الوتر» [١٤٣] (٤).

وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن لؤلؤ قال : حدّثنا الهيثم قال : حدّثنا الدّورقي قال : حدّثنا حجّاج عن ابن جريح قال : أخبرني محمد بن المرتفع أنّه سمع ابن الزبير يقول : (وَالشَّفْعِ) النفر الأوّل (وَالْوَتْرِ) [يوم] النفر الآخر.

وأخبرني الحسن قال : حدّثنا محمّد بن علي بن الحسن الصوفي قال : حدّثنا أحمد بن كثير القيسي قال : حدّثنا محمد بن عبد الله المقرئ قال : حدّثنا مروان بن معاوية الفزاري عن أبي سعيد بن عوف قال : سمعت عبد الله بن الزبير يقول على المنبر : يا معشر الحاجّ إنّكم جئتم من القريب والبعيد على الضعيف والشديد ، فأسهرتم الأعين وأنصبتم الأنفس وأتعبتم الأبدان ، فلا يبطلنّ أحدكم حجّه وهو لا يشعر ، ينظر نظرة بعينه أو يبطش بطشة بيده ، أو يمشي مشية برجله.

__________________

(١) تفسير الطبري : ٣٠ / ٢١٤ ، وتفسير القرطبي : ٢٠ / ٤٠.

(٢) السنن الكبري : ٢ / ٤٤٥.

(٣) زاد المسير لابن الجوزي : ٨ / ٢٣٨.

(٤) زاد المسير لابن الجوزي : ٨ / ٢٣٩.

١٩٢

يا أهل مكّة وسّعوا عليهم ما وسّع الله عليكم وأعينوهم ما استعانوكم عليه ، فإنّهم وفد الله وحاجّ بيت الله ولهم عليكم حقّ ، فاسألوني فعلينا كان التنزيل ، ونحن حصرنا التأويل ، فقام إليه رجل من ناحية زمزم فقال : دخلت فأرة جرابي وأنا محرم؟ فقال : اقتلوا الفويسقة ، فقام آخر فقال : أخبرنا بـ (الشَّفْعِ وَالْوَتْرِ) والليالي العشر فقال : أمّا الشفع والوتر فقول الله سبحانه : (فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) فهما الشفع والوتر ، وأمّا الليالي العشرة فالثمان وعرفة والنحر ، فقام آخر فقال : أخبرنا عن يوم (الْحَجِّ الْأَكْبَرِ)؟ فقال : هو يوم النحر ثلاث تتلوها.

وقال مجاهد ومسروق وأبو صالح : (الشَّفْعِ) الخلق كلّه ، قال الله سبحانه : (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ) (١) الكفر والإيمان والشقاوة والسعادة والهدى والضلالة والليل والنهار والسماء والأرض والبرّ والبحر والشمس والقمر والجنّ والإنس ، (وَالْوَتْرِ) الله سبحانه ، قال الله تعالى : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ).

الحسن وابن زيد : أراد بـ (الشَّفْعِ وَالْوَتْرِ) الخلق كلّه ، منه شفع ووتر.

عطية عن ابن عبّاس : (الشَّفْعِ) صلاة الغداة (وَالْوَتْرِ) صلاة المغرب. قتادة عن الحسن : هو العدد منه شفع ومنه وتر. مقاتل : (الشَّفْعِ) هو آدم وحواء ، (وَالْوَتْرِ) هو الربّ تبارك وتعالى ، وقيل : (الْوَتْرِ) آدم شفّعه الله بزوجته حواء.

إبراهيم والقرظي : الزوج والفرد. الربيع عن أبي العالية : (الشَّفْعِ) ركعتان من صلاة المغرب (وَالْوَتْرِ) الركعة الثالثة ، وقيل : (الشَّفْعِ) الصفا والمروة (وَالْوَتْرِ) البيت ، الحسين بن الفضل : (الشَّفْعِ) درجات الجنان ؛ لأنّها ثمان (وَالْوَتْرِ) دركات النار ؛ لأنّها سبع ، كأنّه الله ـ سبحانه وتعالى ـ أقسم بالجنّة والنار.

مقاتل بن حيان : (الشَّفْعِ) الأيّام والليالي ، (وَالْوَتْرِ) اليوم الذي لا ليلة بعده وهو يوم القيامة.

وسمعت أبا القاسم بن حبيب يقول : سمعت أبا عبد الله محمد بن نافع الشجري يقول : سمعت أبا زيد حاتم بن محبوب السامي يقول : سمعت عبد الجبّار بن العلاء العطّار يقول : سمعت سفيان بن عيينة يقول : الوتر هو الله عزوجل وهو الشفع أيضا ؛ لقوله : (ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ) (٢) وسمعت أبا القاسم يقول : سمعت أبا إسحاق إبراهيم بن محمد ابن يزيد يقول : سمعت أبا عبد الله بن أبي بكر الورّاق يقول : سئل أبو بكر عن (الشَّفْعِ وَالْوَتْرِ) فقال : (الشَّفْعِ) تضاد أوصاف المخلوقين العزّ والذلّ والقدرة والعجز والقوّة والضعف والعلم

__________________

(١) سورة الذاريات : ٤٩.

(٢) سورة المجادلة : ٧.

١٩٣

والجهل والبصر والعمى ، (وَالْوَتْرِ) انفراد صفات الله سبحانه عزّ بلا ذلّ ، وقدرة بلا ضعف ، وعلم بلا جهل ، وبصر بلا عمى وحياة بلا موت وما إزاءها.

وقيل : (الشَّفْعِ) مسجد مكّة والمدينة ، (وَالْوَتْرِ) مسجد بيت المقدس ، وقيل : (الشَّفْعِ) القرآن في الحجّ والتمتّع فيه ، (وَالْوَتْرِ) الإفراد فيه ، وقال ابن عطاء (وَالْفَجْرِ) محمّد صلّى الله عليه ؛ لأنّ به تفجّرت أنوار الإيمان وغابت ظلم الكفر.

(وَلَيالٍ عَشْرٍ) ليالي موسى التي أكمل بها ميعاده بقوله تعالى : (وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ) (١) ، (وَالشَّفْعِ) : الخلق (وَالْوَتْرِ) : الحقّ ، وقيل : (الشَّفْعِ) الفرائض (وَالْوَتْرِ) السنن ، وقيل : (الشَّفْعِ) الأفعال (وَالْوَتْرِ) النيّة ، وهو الإخلاص ، وقيل : (الشَّفْعِ) العبادة التي تتكرّر ، كالصلاة والصوم والزكاة ، (وَالْوَتْرِ) : العبادة التي لا تتكرّر كالحجّ ، وقيل : (الشَّفْعِ) النفس والروح إذا كانتا معا ، (وَالْوَتْرِ) الروح بلا نفس والنفس بلا روح ، فكأنّ الله سبحانه أقسم بها في حالتي الاجتماع والافتراق (٢).

واختلف القرّاء في (الْوَتْرِ) ، فقرأ يحيى (٣) بن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي وخلف : بكسر الواو ، وهو اختيار أبي عبيد ، قال : لأنّها أكثر في العامّة وأفشى ، ومع هذا إنّا تدبّرنا الآثار التي جاء فيها ذكر وتر الصلاة فوجدنا كلّها بهذه اللغة ولم نسمع في شيء منه الوتر بالفتح ، ووجدنا المعنى في الوتر جميعا الذي في الصلاة والذي في السورة ، وإن تفرّقا في الفرع فإنّهما في الأصل واحد إنّما تأويله الفرد الذي هو ضدّ الشفع ، وقرأ الباقون بفتح الواو ، وهي لغة أهل الحجاز واختيار أبي حاتم وهما لغتان مستفيضتان.

(وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ) قال أكثر المفسّرين : يعني إذا سار فذهب ، وقال قتادة : إذا جاء وأقبل.

قال مجاهد وعكرمة والكلبي : هي ليلة المزدلفة.

واختلف القرّاء في قوله : (يَسْرِ) فقرأ أهل المدينة وأبو عمرو وعيسى بالياء في الوصل ، وهي اختيار أبي حاتم ورواية قتيبة ونصير والشرياني عن الكسائي قال أبو عبيد : كان الكسائي فترة يقول : أثبت الياء بالوصل واحذفها في الوقف لمكان الكتاب ، ثمّ رجع إلى حذف الياء في الحالين جميعا ؛ لأنّها رأس آية ، وهي قراءة ابن عامر وعاصم واختيار أبي عبيد اتباعا للخط ، وقرأ ابن كثير ويعقوب الياء في الحالين على الأصل ، قال الخليل بن أحمد : أسقط الياء منه وفاقا لرؤوس الآي.

وقال أكثر أهل المعاني : يعني يسري فيه كقولهم : ليل نائم ونهار صائم وسر كاتم. قال الفراء : يحذف العرب الياء ويكتفي بكسر ما قبلها. أنشدني بعضهم :

__________________

(١) سورة الأعراف : ١٤٢.

(٢) راجع للأقوال في معنى الشفع والوتر مقدمة فتح الباري : ١٣٦.

(٣) لعله : الجني.

١٩٤

كفّاك كفّ ما تلقي درهما

جودا وأخرى تعط بالسيف الدما (١)

وقال آخر :

ليس يخفى سادتي قدر قوم

ولعل يخف سئمتي إعساري

وقال المؤرّخ : سألت الأخفش عن العلّة في سقوط الياء من يسر ، فقال : لا أجيبك ما لم تبت على باب داري سنة. فبتّ سنة على باب داره ثمّ سألته فقال : الليل لا يسري ، وانّما يسرى فيه وهو مصروف فلمّا صرفه بخسه حظّه من الإعراب ، ألا ترى إلى قوله : (وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا) (٢)؟ ولم يقل بغية ؛ لأنّه صرّفه من باغية.

(هَلْ فِي ذلِكَ) الذي ذكرت (قَسَمٌ) أي مقنع ومكتف (٣) في القسم (لِذِي حِجْرٍ) عقل سمّي بذلك ؛ لأنّه يحجر صاحبه ممّا لا يحلّ ولا يجمل كما سمّي عقلا ؛ لأنّه يعقله عن القبائح والفضائح ، ونهي لأنّه نهى عمّا لا ينبغي ، وأصل الحجر المنع ، يقال للرجل إذا كان مالكا قاهرا ضابطا له : إنّه لذو حجر ، ومنه قولهم : حجر الحاكم على فلان.

(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ (٦) إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ (٧) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ (٨) وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ (٩) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ (١٠) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ (١١) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ (١٢) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ (١٣) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ (١٤))

(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ * إِرَمَ) قرأته العامّة بالتنوين وقرأ الحسن (بعادِ إرم) على الإضافة وقرأت العامّة : (إِرَمَ) بكسر الألف ، وقرأ مجاهد بفتحه ، قال المؤرّخ : من قرأ بفتح الألف شبههم بالآرام ، وهي الأعلام واحدها ارم.

واختلف العلماء في معنى قوله (إِرَمَ) فأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا موسى الباقرحي قال : حدّثنا ابن علوية قال : حدّثنا إسماعيل قال : حدّثنا إسحاق بن بشير عن محمد بن إسحاق عمّن يخبره أنّ سعيد بن المسيّب كان يقول : (إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ) دمشق.

وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن حمدان قال : حدّثنا ابن مروان ، قال : حدّثنا علي بن حرب الطائي قال : حدّثنا أبو الأشهب هود عن عوف الإعرابي عن خالد الربعي (إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ) قال : دمشق ، وبه قال عكرمة وأبو سعيد المقبري.

__________________

(١) تفسير الطبري : ١٢ / ١٥١.

(٢) سورة مريم : ٢٨.

(٣) في المخطوط : ومكتفي.

١٩٥

وقال القرظي : هي الإسكندرية ، وقال مجاهد : هي ارمة ومعناها القديمة. قتادة : هم قبيلة من عاد ، وقال أبو إسحاق : هو جدّ عاد ، وهو عاد بن عوص بن ارم بن سام بن نوح.

وقال مقاتل : ارم قبيلة من قوم عاد كان فيهم الملك وكانوا موضع مهرة ، وكان عاد أباهم فنسبهم إليه ، وهو ارم بن عاد بن شمر بن سام بن نوح.

وأخبرنا ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن حنش قال : حدّثنا أبو الطيّب المروزي قال : حدّثنا محمّد بن علي قال : أخبرنا فضل بن خالد قال : حدّثنا عبيد بن سليمان عن الضحّاك بن مزاحم أنّه كان يقرأ (إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ) بفتح الألف والراء ، والإرم الهلاك فقال : ارم بنو فلان أي هلكوا ، وهي رواية العوفي عن ابن عبّاس.

وروي عن الضحّاك أنّه قرأ (إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ) أي أهلكهم وجعلهم رميما ، والصواب أنّها اسم قبيلة أو بلدة فلذلك لم يجرّ (١).

قوله : (ذاتِ الْعِمادِ) قال قوم : يعني ذات الطول والقوّة والشدّة.

أخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن حنش قال : حدّثنا أبو القاسم بن الفضل قال : حدّثنا أبو حاتم قال : حدّثنا أبو صالح كاتب الليث قال : حدّثني معاوية بن صالح عمّن حدّثه عن المقدام عن النبيّ صلّى الله عليه أنّه ذكر «إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ» فقال : «كان الرجل منهم يأتي بالصخرة فيحملها على [كاهله فيلقيها على أي حي أراد] فيهلكهم» [١٤٤] (٢).

وقال الكلبي : كان طول الرجل منهم أربع مائة ذراع ، وقال ابن عبّاس : يعني طولهم مثل العماد ، ويقول العرب للرجل الطويل : معمّدا ، وقال مقاتل : كان طول أحدهم اثني عشر ذراعا ، وقال آخرون : إنّما قيل لهم : ذات العماد ؛ لأنّهم كانوا أهل عمد سيارة ينتجعون الغيث وينتقلون إلى الكلأ ، حيث كان ثمّ يرجعون إلى منازلهم ولا يقيمون في موضع.

قال الكلبي : ارم هو الذي يجتمع إليه نسب عاد وثمود وأهل السواد وأهل الجزيرة ، كان يقال : عاد ارم وثمود ارم ، فأهلك الله سبحانه عادا ، ثمّ ثمود وبقي أهل السواد وأهل الجزيرة ، وكان أهل عمد وخيام وماشية في الربيع ، فإذا هاج العود رجعوا إلى منازلهم فكانوا أهل جنان وزروع ومنازلهم كانت بوادي القرى ، وهي التي يقول الله سبحانه : (لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ).

وقيل : سمّوا ذات العماد لبناء بناه بعضهم ، فشيّد عمده ورفع بناءه ، والعماد والعمد والعمد جمع عمود ، وهو : ما أخبرنا أبو القاسم المفسّر قال : أخبرنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن أحمد الصفّار

__________________

(١) تفسير الطبري : ٣٠ / ٢٢٠.

(٢) تفسير الدر المنثور : ٦ / ٣٤٧ ، وفتح الباري : ٨ / ٥٣٨.

١٩٦

الأصبهاني قال : أخبرنا أبو جعفر أحمد بن مهدي بن رستم الأصبهاني قال : حدّثنا عبد الله بن صالح المصري قال : حدّثني ابن لهيعة وأخبرنا أبو القاسم قال : أخبرنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن عبدوس الطرائفي قال : أخبرنا عثمان بن سعيد الدارجي قال : أخبرنا عبد الله بن صالح قال : حدّثني ابن لهيعة عن خالد بن أبي عمران عن وهب بن منبه عن عبد الله بن قلابة أنّه خرج في طلب إبل له شردت ، فبينما هو في صحاري عدن إذا هو قد وقع على مدينة في تلك الفلوات عليها حصن ، وحول الحصن قصور كبيرة وأعلام طوال ، فلمّا دنى منها ظنّ أنّ فيها أحدا يسأله عن إبله فلم ير خارجا ولا داخلا فنزل عن دابته وعقلها وسلّ سيفه ودخل من باب الحصن ، فلمّا دخل في الحصن إذا هو ببابين عظيمين لم ير أعظم منهما ، والبابان مرصّعان بالياقوت الأبيض والأحمر فلمّا رأى ذلك دهش وأعجبه ففتح أحد البابين ، فإذا هو بمدينة لم ير أحد مثلها ، وإذا قصور كل قصر معلّق تحته أعمدة من زبرجد وياقوت وفوق كلّ قصر منها غرف :

اعتبر يا أيها المغرور بالعمر المديد

أنا شداد بن عاد صاحب الحصن المشيد

] وأخو القوّة والبأساء والملك الحشيد

دار أهل الأرض لي من خوف وعيدي ووعيد

وملكت الشرق والغرب بسلطان شديد

وبفضل الملك والعدّة فيه والعديد

فأتى هود وكنّا في ضلال قبل هود

فدعانا لو قبلناه إلى الأمر الرشيد

وعصيناه ونادى هل من محيد

فأتتنا صيحة تهوي من الأفق البعيد

فتوافينا كزرع وسط بيداء حصيد

(وَثَمُودَ) أي وثمود (الَّذِينَ جابُوا) قطّعوا وخرقوا (الصَّخْرَ) الحجر واحدتها صخرة (بِالْوادِ) يعني بوادي القرى ، فنحتوا منها بيوتا كما قال الله سبحانه : (وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ) (١).

قال أهل السير : أوّل من نحت الجبال والصخور والرخام ثمود ، فبنوا من الدور والمنازل ألفي ألف وسبع مائة ألف كلّها من الحجارة ، وأثبت أبو جعفر وأبو حاتم وورش الياء في الوادي وصلا ، وأثبتها في الوصل والوقف ابن كثير برواية البزي والعواش ويعقوب على الأصل ، وحذفها الآخرون في الحالتين ؛ لأنّها رأس آية.

(وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ) اختلفوا فيه فقال بعضهم : أراد ذا الجنود والجموع الذين يقوّون أمره (٢) ويسدّدون مملكته ، وسمّي الأجناد أوتادا لكثرة المضارب التي كانوا يضربونها ويوتّدونها في أسفارهم ، وهي رواية عطية عن ابن عبّاس.

__________________

(١) سورة الحجر : ٨٢.

(٢) في المخطوط : أمره.

١٩٧

وقال قتادة : سمّي ذا الأوتاد ؛ لأنّه كانت له مظال وملاعب وأوتاد يضرب له فتلعب له تحتها ، وقال محمد بن كعب : يعني ذا البناء المحكم ، وقال سعيد بن جبير : كان له منارات يعذّب الناس عليها ، وقال مجاهد وغيره : كان يعذّب الناس بالأوتاد ، وكان إذا غضب على أحد مدّه على الأرض وأوتد يديه ورجليه ورأسه على الأرض.

أخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا مخلد قال : حدّثنا ابن علوية قال : حدّثنا إسماعيل قال : حدّثنا إسحاق بن بشير عن ابن سمعان عن عطاء عن ابن عبّاس أنّ فرعون لمّا قيل له : ذو الأوتاد أنّه كان امرأة ـ وهي امرأة خازنه خربيل (١) بن نوحابيل وكان مؤمنا كتم إيمانه مائة سنة (٢) ، وكان لقي من لقى من أصحاب يوسف ، وكانت امرأته ماشطة بنت فرعون ـ فبينما هي ذات يوم تمشّط رأس بنت فرعون إذ سقط المشط من يدها فقالت : تعس من كفر بالله ، فقالت بنت فرعون : وهل لك من إله غير أبي؟ فقالت : إلهي وإله أبيك وإله السماوات والأرض واحد لا شريك له.

فقامت فدخلت على أبيها وهي تبكي قال : ما يبكيك؟ قالت : الماشطة امرأة خازنك تزعم أنّ إلهك وإلهها وإله السماوات والأرض واحد لا شريك له. فأرسل إليها فسألها عن ذلك ، فقالت : صدقت. فقال لها ويحك : اكفري بإلهك وأقري أني إلهك ، قالت : لا أفعل فمدها بين أربعة أوتاد ثم أرسل عليها الحيات والعقارب فقال لها : اكفري بالله وإلّا عذبتك بهذا العذاب شهرين ، قالت : والله لو عذّبتني سبعين شهرا ما كفرت بالله تعالى.

قال : وكان لها ابنتان فجاء بابنتها الكبرى فذبحها على فيها ، وقال لها : اكفري بالله وإلّا ذبحت ابنتك الصغرى على فيك ، وكانت طفلة رضيعة تجد بها وجدا شديدا فقالت : لو ذبحت من على الأرض على فيّ ما كفرت بالله تعالى.

قال : فأتى بابنتها فلمّا أن قدّمت منها وأضجعت على صدرها وأرادوا ذبحها جزعت المرأة ، فأطلق الله لسان ابنتها فتكلّمت وهي من الأربعة الذين تكلّموا أطفالا ، فقالت : يا أمّاه لا تجزعي فإنّ الله سبحانه قد بنى لك بيتا في الجنّة ، اصبري فإنّك تمضين إلى رحمة الله سبحانه وكرامته ، قال : فذبحت فلم تلبث أن ماتت وأسكنها الله سبحانه الجنّة.

قال : وبعث في طلب زوجها خربيل فلم يقدروا عليه ، فقيل لفرعون : إنّه قد رئي في موضع كذا وكذا في جبال كذا وكذا ، فبعث رجلين في طلبه فانتهيا إليه وهو يصلّي وثلاثة صفوف من الوحش خلفه يصلّون ، فلمّا رأيا ذلك انصرفا ، وقال خربيل : اللهم إنّك تعلم أنّي كتمت إيماني مائة سنة ، ولم يظهر عليّ أحد فأيّما هذين الرجلين كتم عليّ فاهده إلى دينك وأعطه من الدنيا سؤله ، وأيّما هذين الرجلين أظهر عليّ فعجّل عقوبته في الدّنيا ، واجعل مصيره في العاقبة إلى

__________________

(١) ذكر القرطبي في تفسيره (١٥ / ٣٠٦) عن الثعلبي أن اسمه : حزقيل.

(٢) كما ذكره في تاج العروس (٧ / ٣٠٢) وقيل ستمائة سنة ذكره الجزائري في القصص : ٢٥٣.

١٩٨

النار ، فانصرف الرجلان إلى فرعون فأمّا أحدهما فاعتبر وآمن ، وأمّا الآخر فأخبر فرعون بالقصّة على رؤوس الملأ ، فقال له فرعون : وهل كان معك غيرك؟ قال : نعم.

قال : ومن كان معك؟ قال : فلان. فدعى به. فقال : حقّ ما يقول هذا؟ قال : لا ، ما رأيت ممّا قال شيئا. فأعطاه فرعون وأجزل ، وأمّا الآخر فقتله ثمّ صلبه.

قال : وكان فرعون قد تزوّج امرأة من أجمل نساء بني إسرائيل يقال لها آسيا بنت مزاحم ، فرأت ما صنع فرعون بالماشطة فقالت : وكيف يسعني أن أصبر على ما أتى فرعون وأنا مسلمة وهو كافر ، فبينما هي كذلك تؤامر نفسها إذ دخل عليها فرعون فجلس قريبا منها فقالت : يا فرعون أنت شرّ الخلق وأخبثه عمدت إلى الماشطة فقتلتها ، فقال : فلعلّ بك الجنون الذي كان بها.

قالت : ما بي من جنون ، وإن إلهي وإلهها وإلهك وإله السماوات والأرض واحد لا شريك له فمزّق عليها وضربها وأرسل إلى أبويها فدعاهما فقال لهما الأمر ، بأنّ الجنون الذي كان بالماشطة أصابها فقالت : أعوذ بالله من ذلك ، إنّي أشهد أنّ ربّي وربّك وربّ السماوات والأرض واحد لا شريك له ، فقال أبوها : يا آسية ألست خير نساء العماليق وزوجك إله العماليق؟ قالت : أعوذ بالله من ذلك إن كان ما تقول حقّا ، فقولا له : يتوّجني تاجا يكون الشمس أمامه والقمر خلفه والكواكب حوله ، فقال لهم فرعون : أخرجا عنّي فمدّها بين أربعة أوتاد يعذّبها ، وفتح الله سبحانه لها بابا إلى الجنّة ليهوّن عليها ما يصنع بها فرعون فعند ذلك قالت : (رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ) يعني من جماع فرعون (وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) يعني من فرعون وشيعته ، فقبض الله سبحانه روحها وأسكنها الجنّة (١).

وقيل : الأوتاد عبارة عن ثبات مملكته وطول مدّته وشدّة هيبته ، كثبوت الأوتاد في الأرض كقول الأسود :

في ظل ملك ثابت الأوتاد (٢)

(الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ) قال قتادة : يعني لونا من العذاب صبّه عليهم ، وقال السّدي : كلّ يوم لون آخر من العذاب ، وقيل : وجع العذاب ، وقال أهل المعاني : هذا على الاستعارة ؛ لأنّ السوط عندهم غاية العذاب ، فجرى ذلك لكلّ عذاب. قال الشاعر :

__________________

(١) القصة بتفاوت في الأحاديث الطوال للطبراني : ١١٥ ، وتفسير ابن كثير : ٤ / ٤٢٠.

(٢) معاني القرآن للنحاس : ٦ / ٨٥ ، ومعجم البلدان : ١ / ٢٧٢ ومطلعه : ولقد غنوا فيها بأنعم عيشة.

١٩٩

ألم تر أنّ الله أظهر دينه

وصبّ على الكفّار سوط عذاب (١)

(إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ) قال ابن عبّاس : سبحانه يرى ويسمع ، وقال مقاتل : ترصد الناس على الصراط ، فجعل رصدا من الملائكة معهم الكلاليب والمحاجن والحسك ، وقال الضحّاك : بمرصد لأهل الظلم والمعصية ، وقيل : معناه مرجع الخلق ومصيرهم إلى حكمه وأمره ، وقال الحسن وعكرمة : ترصد أعمال بني آدم ، وعن مقاتل أيضا : ممرّ الناس عليه. عطاء ابن أبي رياح : لا يفوته أحد. يمان : لا محيص عنه. السدي : أرصد النار على طرقهم حتّى تهلكهم ، والمرصاد والمرصد الطريق وجمع المرصاد مراصيد وجمع المرصد مراصد.

وروى مقسم عن ابن عبّاس قال : إنّ على جهنّم سبع مجاسر يسأل العبيد عند أوّلهنّ عن شهادة أن لا إله إلّا الله ، فإن جاء بها تامّة جاز بها إلى الثاني ، فيسأل عن الصلاة ، فإن جاء بها تامّة جاز إلى الثالث ، فيسأل عن الزكاة فإن جاء بها تامّة جاز إلى الرابع ، فيسأل عن الصوم ، فإن جاء به تامّا جاز إلى الخامس ، فيسأل عن الحجّ فإن جاء به تامّا جاز إلى السادس ، فيسأل عن العمرة فإن جاء بها تامّة جاز إلى السابع ، فيسأل عن المظالم فإن خرج منها وإلّا يقال انظروا ، فإن كان له تطوّع أكمل به أعماله ، فإذا فرغ به انطلق به إلى الجنّة.

(فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (١٥) وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ (١٦) كَلاَّ بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (١٧) وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (١٨) وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلاً لَمًّا (١٩) وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا (٢٠) كَلاَّ إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (٢١) وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (٢٢) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى (٢٣) يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي (٢٤) فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ (٢٥) وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ (٢٦) يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (٢٧) ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً (٢٨) فَادْخُلِي فِي عِبادِي (٢٩) وَادْخُلِي جَنَّتِي (٣٠))

(فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ) امتحنه (رَبُّهُ) بالنعمة والوسعة. (فَأَكْرَمَهُ) بالمال (وَنَعَّمَهُ) بما وسّع عليه من الأفضال (فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ) فيفرح بذلك ويسر ويحمد عليه ويشكر ، و (إِذا مَا ابْتَلاهُ) بالفقر (فَقَدَرَ) وضيّق وقتّر (عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ) أذلّني بالفقر ، ولم يشكر الله على ما أعطاه من سلامة الجوارح ورزقه من العافية والصحّة. قال قتادة : ما أسرع كفر ابن آدم.

وقراءة العامّة (فَقَدَرَ) بتخفيف الدال ، وقرأ أبو جعفر وابن عامر بالتشديد ، وهما لغتان وكان أبو عمرو يقول : قدر بمعنى قتّر وقدر هو أن يعطيه ما يكفيه ولو فعل ذاك ما قال : (رَبِّي أَهانَنِ) ، ثمّ ردّ عليه فقال : (كَلَّا) لم أبتله بالغنى لكرامته عليّ ولم ابتله بالفقر ؛ لهوانه عليّ

__________________

(١) تفسير القرطبي : ٢٠ / ٤٩.

٢٠٠