الكشف والبيان - ج ١٠

أبو إسحاق أحمد [ الثّعلبي ]

الكشف والبيان - ج ١٠

المؤلف:

أبو إسحاق أحمد [ الثّعلبي ]


المحقق: أبي محمّد بن عاشور
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٤٤

وقريش هم ولد النضر بن كنانة ، فمن ولده النضر فهو قرشي ، ومن لم يلده النضر فليس بقرشي.

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «نحن بنو النضر بن كنانة لا نقفو أمّنا ، ولا ننتفي من أبينا» [٢٦٣] (١).

وأخبرنا أبو بكر الجوزي قال : أخبرنا الرعولي قال : حدّثنا محمد بن يحيى قال : حدّثنا أبو المغيرة قال : حدّثنا الأوزاعي قال : حدّثنا أبو عمار شداد عن واثلة بن الأسقع قال : قال رسول الله عليه‌السلام : «إن الله عزوجل اصطفى بني كنانة من بني كنانة من بني إسماعيل ، واصطفى من بني كنانة قريشا ، واصطفى من قريش بني هاشم ، واصطفاني من بني هاشم» [٢٦٤] (٢).

وسمّوا قريشا من التقرش ، وهو التكسّب والتقلّب والجمع والطلب ، وكانوا قوما على المال والإفضال حراصا.

وسأل معاوية عبد الله بن عباس : لم سمّيت قريش قريشا؟ فقال : لدابّة في البحر يقال لها : القرش ، تأكل ولا تؤكل ، وتعلو ولا تعلا. قال : وهل يعرف العرب ذلك في أشعارهم؟ قال : نعم :

وقريش هي التي تسكن البحر بها

سميت قريش قريشا

سلطت بالعلو في لجّة البحر

على ساير البحور جيوشا

تأكل الغثّ والسمين ولا تترك فيه

لذي جناحين ريشا

هكذا في البلاد حي قريش

يأكلون البلاد أكلا كميشا

ولهم آخر الزمان نبيّ

يكثر القتل فيهم والخموشا

يملأ الأرض خيله ورجالا

يحسرون المطيّ حسرا كشيشا (٣)

وقوله : (إِيلافِهِمْ) بدل من الإيلاف الأوّل ويرخمه له ، ومن أسقط الياء من الإيلاف احتج بقول ابي طالب يوصي أبا لهب برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

ولا تتركنه ما حييت لمعظم

وكن رجلا ذا نجدة وعفاف

تذود العدا عن عصبة (٤) هاشمية

إلا فهم في الناس خير إلاف (٥)

__________________

(١) مسند أحمد : ٥ / ٢١١.

(٢) كتاب السنّة : ٦١٨ ، ومسند أبي يعلى : ١٣ / ٤٧٢.

(٣) تفسير القرطبي : ٢٠ / ٢٠٣ ، وفتح الباري : ٦ / ٣٨٨ ، والخموس : الخدوش في البدن ، والكميش : السريع.

(٤) في التاريخ : ذروة.

(٥) تفسير القرطبي : ٢٠ / ٢٠٢.

٣٠١

(رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ) اختلفوا في وجه انتصاب الرحلة فقيل : نصبت على المصدر أي ارتحالهم رحلة ، وإن شئت نصبته بوقوع إيلافهم عليه ، وإن شئت على الظرف بمعنى : على رحلة ، وإن شئت جعلتهما في محل الرفع على معنى هما رحلتا الشتاء والصيف ، والأول أعجب وأحبّ إليّ لأنّها مكتوبة في المصاحف بغير ياء.

وأمّا التفسير : فروى عكرمة وسعيد بن جبير عن ابن عباس قال : كانوا يشتون بمكّة ويصيفون بالطائف ، فأمرهم الله سبحانه أن يشتوا بالحرم ويعبدوا ربّ البيت.

وقال أبو صالح : كانت الشام فيها أرض باردة وفيها أرض حارة ، وكانوا يرتحلون في الشتاء إلى الحارة ، وفي الصيف إلى الباردة وكانت لهم رحلتان كلّ عام للتجارة : أحدهما في الشتاء إلى اليمن ؛ لأنها أدفأ ، والأخرى في الصيف إلى الشام ، وكان الحرم واديا جدبا لا زرع فيه ولا ضرع ، ولا ماء ولا شجر ، وإنّما كانت قريش تعيش بها بتجارتهم ورحلتهم ، وكانوا لا يتعرض لهم بسوء.

وكانوا يقولون : قريش سكان حرم الله وولاة بيته ، فلولا الرحلتان لم يكن لأحد بمكّة مقام ، ولولا الأمن بجوار البيت لم يقدروا على التصرّف ، فشقّ عليهم الاختلاف إلى اليمن والشام ، وأخصبت تبالة وجرش والجند من بلاد اليمن ، فحملوا الطعام إلى مكّة ، أهل الساحل في البحر على السفن ، وأهل البر على الإبل والحمر ، فألقى أهل الساحل بجدّة وأهل البرّ بالمحصّب ، وأخصبت الشام فحملوا الطعام إلى مكّة ، فحمل أهل الشام إلى الأبطح ، وحمل أهل اليمن إلى الجدّة ، فامتاروا من قريب وكفاهم الله مؤونة الرحلتين وأمرهم بعبادة ربّ البيت.

أخبرنا أبو القاسم الحسن بن محمد قال : أخبرنا أبو الوليد حسان بن محمد قال : حدّثنا القاسم بن زكريّا المطرّز قال : حدّثنا محمد بن سليمان قال : حدّثنا أبو عوانة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير قال : مرّ رسول الله عليه‌السلام ومعه أبو بكر بملئهم ينشدون :

يا ذا الذي طلب السماحة والندى

هلّا مررت بآل عبد الدار (١)

هلّا مررت بهم تريد قراهم

منعوك من جهد ومن إقتار

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأبي بكر : «أهكذا قال الشاعر يا أبا بكر؟» [٢٦٥] قال : لا ، والذي بعثك بالحق ، بل قال :

يا ذا الذي طلب السماحة والندى

هلّا مررت بآل عبد مناف

لو أن مررت بهم تريد قراهم

منعوك من جهد ومن إيجاف

الرائشين وليس يوجد رائش

والقائلين هلمّ للأضياف

__________________

(١) تفسير مجمع البيان : ١٠ / ٤٥٢.

٣٠٢

والخالطين غنيّهم بفقيرهم

حتى يصير فقيرهم كالكافي

والقائلين بكل وعد صادق

ورجال مكّة مسنتين عجاف

سفرين سنّهما له ولقومه

سفر الشتاء ورحلة الأصياف

قال الكلبي : وكان أوّل من حمل السمراء من الشام ورحل إليها الإبل هاشم بن عبد مناف.

(فَلْيَعْبُدُوا) لام الأمر (رَبَّ هذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ).

أخبرنا أبو عبد الله الحسين بن محمد قال : حدّثنا أبو الفضل عبيد الله بن عبد الرحمن بن محمد قال : حدّثنا جعفر قال : سمعت ابن ملك بن دينار يقول : ما سقطت أمة من عين الله سبحانه إلّا ضرب أكبادها بالجوع.

(وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ) وذلك أنهم كانوا يقولون : نحن قطّان حرم الله سبحانه ، فلا يعرض لهم أحد في الجاهلية ، وإن كان الرجل ليصاب في الحي من أحياء العرب فقال : حرمي حرمي فيخلّى عنه وعن ماله تعظيما للحرم ، وكان غيرهم من قبائل العرب إذا خرج أغير عليه.

وقال الضحّاك والربيع وشريك وسفيان : وآمنهم من الجذام ، فلا يصيبهم ببلدهم الجذام.

وأخبرنا أيضا أبو الحسن المقري قال : حدّثنا أبو عبد الله محمد بن عيسى المقري البروجردي ببغداد قال : حدّثنا أبو سعيد عمر بن مرداس قال : حدّثنا محمد بن بكير الحضرمي قال : حدّثنا القاسم بن عبد الله عن [أبي] بكر بن محمد عن سالم قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «غبار المدينة يبرئ من الجذام» [٢٦٦] (١).

وقال علي كرم الله وجهه : (وَآمَنَهُمْ مِنْ) [خوف] أن تكون الخلافة إلّا فيهم [٢٦٧] (٢).

__________________

(١) كنز العمال : ١٢ / ٢٣٦ عن ابن السني وأبي نعيم في الطب.

(٢) تفسير القرطبي : ٢٠ / ٢٠٩ ، وما بين معكوفين منه.

٣٠٣

سورة الماعون

مكية ، وهي مائة وخمسة وعشرون حرفا ،

وخمس وعشرون كلمة ، وسبع آيات

أخبرني محمد بن القاسم الفقيه قال : حدّثنا أبو محمد بن أبي حامد قال : حدّثنا أبو جعفر محمد بن الحسن الأصفهاني قال : حدّثنا مؤمل بن إسماعيل قال : حدّثنا سفيان الثوري ، قال : حدّثنا أسلم المنقري عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبزي عن أبيه عن أبي بن كعب قال : قال رسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ سورة (أَرَأَيْتَ) غفر الله له إن كان للزكاة مؤديا» [٢٦٨] (١).

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (١) فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (٢) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (٣) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (٤) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ (٥) الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ (٦) وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ (٧))

(أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ) قال مقاتل والكلبي : نزلت في العاص بن وائل السهمي ، السدي ومقاتل بن حيان وابن كيسان : يعني الوليد بن المغيرة ، الضحاك : في عمرو بن عائد بن عمران بن مخزوم ، وقيل : هيبرة بن أبي وهب المخزومي ، ابن جريح : كان أبو سفيان بن حرب ينحر كل أسبوع جزورين فأتاه يتيم فسأله شيئا فقرعه بعصاه ، فأنزل الله سبحانه فيه (أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ) أي يقهره ويزجره ويدفعه عن حقّه ، الدع : الدفع في جفوة.

قرأ أبو رجاء يَدَعُ الْيَتِيمَ أي يتركه ويقصر في حقه (وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ)

حدّثنا عبد الله بن حامد قال : أخبرنا ابن الشرقي قال : حدّثنا محمد ابن إسحاق الصعالي ببغداد قال : حدّثنا عمرو بن الربيع بن طارق قال : حدّثنا عكرمة بن إبراهيم عن عبد الملك بن عمير عن مصعب بن سعيد عن سعيد قال : سألت رسول

__________________

(١) تفسير مجمع البيان : ١٠ / ٤٥٤.

٣٠٤

الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن قوله سبحانه : (الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ) قال ابن عباس : هم المنافقون يتركون الصلاة في السرّ إذا غاب الناس ويصلونها في العلانية إذا حضروا.

بيانه قوله سبحانه : (وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ) (١) الآية ، مجاهد : لاهون غافلون عنها متهاونون بها ، وقال قتادة : ساه عنها لا يبالي صلى أم لم يصل.

وأخبرني عقيل أن أبا الفرج أخبرهم عن ابن جرير قال : حدّثنا أبو كريب قال : حدّثنا معاوية بن هشام عن شيبان النحوي عن جابر الجعفي قال : حدّثني رجل عن أبي بردة الأسلمي قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما نزلت هذه الآية (الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ) : «الله أكبر هذه خير لكم من أن لو أعطى كل رجل منكم مثل جميع الدنيا هو الذي إن صلى لم يرج خير صلواته وأن تركها لم يخف ربه» [٢٦٩] (٢) وبه عن ابن جرير قال : حدّثني أحمد بن عبد عبد الرحيم البرقي قال : حدّثنا عمرو بن أبي مسلمة قال سمعت عمر بن سليمان يحدّث عن عطاء بن دينار أنه قال : الحمد لله الذي قال : (الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ) ولم يقل في صلاتهم ، الحسن : هو الذي إن صلّاها صلاها رياء وأن فاتته لم يندم ، أبو العالية : لا يصلونها لمواقيتها ولا يتمّون ركوعها ولا سجودها ، وعنه أيضا : هو الذي إذا سجد قال برأسه هكذا وهكذا ملتفتا ، الضحاك : هم الذين يتركون الصلاة. (وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ)أخبرنا أبو بكر الجمشادي حدّثنا أبو بكر القطيعي قال : حدّثنا إبراهيم بن عبد الله بن مسلم قال : حدّثنا أبو عمر الضرير قال : حدّثنا أبو عوانة عن إسماعيل السهمي عن أبي صالح عن علي رضي‌الله‌عنه (وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ) قال : هي الزكاة ، وإليه ذهب ابن عمر والحسن وقتادة وابن الحنفية والضحاك.

وأخبرنا الجمشادي قال : أخبرنا العطيفي قال : حدّثنا إبراهيم بن عبد الله بن مسلم قال : حدّثنا أبو عمر الضرير قال : حدّثنا حماد عن عاصم عن زر عن عبد الله في الماعون قال : الفاس والدلو والقدر وأشباه ذلك وهي رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس ، مجاهد عنه : هو العارية ومتاع البيت ، عطية عنه : هو الطاعة ، محمد بن كعب والكلبي : الماعون المعروف كله الذي يتعاطاه الناس فيما بينهم ، سعيد بن المسيب والزهري ومقاتل : الماعون : المال بلغة قريش ، قال الأعشى :

بأجود منه بماعونه

إذا ما سماؤهم لم تغم (٣)

وأخبرنا محمد بن عبدوس في آخرين قالوا : حدّثنا محمد بن يعقوب قال : حدّثنا محمد بن الجهم قال : حدّثنا الفراء قال : سمعت بعض العرب يقول : الماعون هو الماء ، وأنشدني فيه :

__________________

(١) سورة النساء : ١٤٢.

(٢) جامع البيان للطبري : ٣٠ / ٤٠٤.

(٣) لسان العرب : ١٣ / ٤١٠.

٣٠٥

يمج صبيرة الماعون صبا (١)

والصبير : المنجاب.

وقال أبو عبيد والمبرد : الماعون في الجاهلية : كلّ منفعة وعطية وعارية ، وهو في الإسلام : الطاعة والزكاة ، قال حسان بن قحافة : لا يحرم الماعون منه خابطا ، ويقول العرب : [ولقد نزلنا لصنعت بناقتك صنيعا] (٢) تعطيك الماعون ، أي الطاعة والانقياد ، قال الشاعر :

متى يجاهدهن بالبرين

يخضعن أو يعطين بالماعون (٣)

وحكى الفراء أيضا عن بعضهم أنه قال : ماعون من الماء المعين ، وقال قطرب : أصل الماعون من القلّة ، يقول العرب : ماله سعنة ولا معنة أي شيء قليل ، فسمّى الزكاة والصدقة والمعروف ماعونا ، لأنه قليل من كثير ، وقيل : الماعون ما لا يحل منعه مثل الماء والملح والنار ، يدلّ عليه ما أخبرنا ابن فنجويه قال : حدّثنا عمرو بن مرداس قال : حدّثنا محمد بن بكر قال : حدّثنا عثمان بن مطر عن الحسن بن أبي جعفر عن علي بن زيد بن جدعان عن سعيد بن المسيّب عن عائشة أنّها قالت : يا رسول الله ما الذي لا يحلّ منعه قال : «الماء والملح والنار».

فقالت : يا رسول الله هذا الماء فما بال النار والملح؟ فقال لها : يا حميراء «من أعطى نارا فكأنما تصدّق بجميع ما طبخ بذلك (٤) النار ، ومن أعطى ملحا فكأنما تصدق بجميع ما طيّب بذلك الملح ، ومن سقى شربة من الماء حيث يوجد الماء فكأنما أعتق (ستين نسمة) (٥) ، ومن سقى (٦) شربه ماء حيث لا يوجد الماء فكأنما أحيا نفسا» [٢٧٠] (٧) قال الراعي :

قوم على الإسلام لمّا يمنعوا

ماعونهم ويمنعوا التهليلا (٨)

__________________

(١) الصحاح : ٦ / ٢٢٠٥ ، تفسير القرطبي : ٢٠ / ٢١٤.

(٢) عن تاج العروس : ٩ / ٣٤٧ ، وعبارة المخطوط مشوشة.

(٣) تفسير القرطبي : ٢٠ / ٢١٥ ، وفيه متى تصادفهن.

(٤) في المصدر : انضجت تلك.

(٥) في المصدر : رقبة.

(٦) في المصدر : مسلما.

(٧) سنن ابن ماجة : ٢ / ٨٢٦.

(٨) الصحاح : ٦ / ٢٢٠٥ ، ولسان العرب : ١١ / ٧٠٤.

٣٠٦

سورة الكوثر

مكية وهي اثنان وأربعون حرفا ،

وعشر كلمات ، وثلاث آيات

أخبرني الأستاذ أبو الحسين الفارسي الماوردي قال : حدّثنا أبو محمد الشيباني قال : حدّثنا أبو عمرو الحبري وأبو عثمان البصري قالا : حدّثنا محمد بن عبد الوهاب العبدي قال : حدّثنا أحمد بن عبد الله بن يونس قال : حدّثنا سلام بن سليم قال : حدّثنا هارون بن كثير عن زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي أمامة عن أبيّ بن كعب قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ (إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ) سقاه الله من أنهار الجنة وأعطي من الأجر عشر حسنات بعدد كل قربان قرّبة العباد في يوم عيد ويقربون من أهل الكتاب والمشركين» [٢٧١] (١).

وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن شنبه قال : حدّثنا أبو علي حمزة بن محمد الكاتب قال : حدّثنا نعيم بن حماد قال : حدّثنا نوح بن أبي مريم عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر عن مكحول قال : قال رسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ (إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ) كان له ما بين المشرق والمغرب أبعرة على كل بعير كراريس ، كل كراسة مثل الدنيا وما فيها كتب له بدقة الشعر ليس فيها إلّا صفة قصوره ومنازله في الجنة [٢٧٢].

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (١) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (٢) إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (٣))

(إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ)

قال ابن عباس : نزلت هذه السورة في العاص بن وائل ابن هشام بن سعيد بن سهم أنه رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخرج من المسجد وهو يدخل فالتقيا عند باب بني سهم وتحدّثا وأناس من صناديد قريش في المسجد جلوس ، فلما دخل العاص قالوا له : من الذي كنت تحدث؟ قال : ذاك الأبتر ، يعني النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكان قد توفى قبل ذلك عبد الله ابن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكان من خديجة ، وكانوا يسمّون من ليس له ابن أبتر ، فسمّته قريش عند موت ابنه أبتر وصنبورا فأنزل الله سبحانه (إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ).

__________________

(١) تفسير مجمع البيان : ١٠ / ٤٥٨.

٣٠٧

قراءة العامة بالعين ، وقرأ الحسن وطلحة بن مصرف (أنطيناك) بالنون ، وروى ذلك عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

أخبرناه أبو محمد إسحاق بن إبراهيم بن أحمد بن علي المطوعي بقراءتي عليه قال : حدّثنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الصفار الأصفهاني قال : أخبرنا أبو المثنى معادين المثنى بن معاد ابن نصر العبيدي قال : حدّثنا عمرو بن المحرّم أبو قتادة البصري قال : حدّثنا عبد الوارث بن عمرو عن الحسن عن أمّه عن أم سلمة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ : إنّا أنطيناك الكوثر.

والكوثر فوعل من الكثرة كنوفل من النفل وحوقر من الحقر ، والعرب يسمي كل شيء كثير في العدد أو كثير في المقدار الخطر : كوثرا. قال سفيان بن عيينة : قيل لعجوز رجع ابنها من السفر بم آب ابنك؟ قالت آب بكوثر ، يعني بمال كثير (١).

واختلفوا في المراد به هاهنا فحدّثنا أبو محمد المخلدي قال : أخبرنا أبو العباس الثقفي قال : حدّثنا أبو همام الوليد بن شجاع السكوني وعبد الله بن عمر بن أبان قالا : حدّثنا عبد الرحمن بن سلمان عن المختار بن فلفل عن أنس بن مالك قال : بينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم معنا إذ أغفى إغفاءة أو أغمى عليه ، فرفع رأسه مبتسما فقال : «هل تدرون ممن ضحكت» فقالوا الله ورسوله أعلم ، قال : «إنه نزل عليّ سورة» فقرأ (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ) فقرأ حتى ختم السورة فلما قرأها قال : «أتدرون ما الكوثر؟ أنه نهر في الجنة وعدنيه ربّي عزوجل فيه خير كثير ، لذلك النهر حوض يرد عليه أمتي يوم القيامة آنيته عدد الكواكب [فيختلج] منهم فأقول :ربّ إنّه من أمتي فيقال : أنك لا تدري ما أحدثوا بعدك» [٢٧٣] (٢).

وأخبرنا أبو سعيد بن حمدون قال : أخبرنا أبو بكر محمد بن حمدون بن خالد قال : حدّثنا أبو عتبة أحمد بن الفرج الحمصي قال : حدّثنا أيوب بن سويد قال : حدّثنا محمد بن إبراهيم عن عمّه العباس بن عبد الله بن معيد عن ابن عباس قال : لما نزلت (إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ) صعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقرأها على الناس ، فلما نزل قالوا : يا رسول الله ما هذا الذي قد أعطاكه الله سبحانه؟ قال : «نهر في الجنة أشدّ بياضا من اللبن ، وأشد استقامة من القدح حافتاه قباب الدر الدر والياقوت ترده طير خضر لها أعناق كأعناق البخت» قالوا : يا رسول الله ما أنعم هذا لطائر؟ قال «أفلا أخبركم بأنعم منه؟» قالوا بلى : قال : «من أكل الطائر وشرب الماء فاز (٣) برضوان الله سبحانه» [٢٧٤] (٤).

__________________

(١) راجع تفسير القرطبي : ٢٠ / ٢١٦.

(٢) السنن الكبرى : ٢ / ٤٣ ، صحيح مسلم : ١ / ١٢ ، بتفاوت.

(٣) في المخطوط : وفاز.

(٤) تفسير نور الثقلين : ٥ / ٦٨٠.

٣٠٨

وأخبرنا عبد الله بن حامد قال : أخبرنا محمد بن جعفر المطيري قال : حدّثنا علي بن حرب قال : حدّثنا ابن فضيل قال : حدّثنا عطاء عن محارب بن دثار عن ابن عمر قال : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الكوثر نهر في الجنة حافتاه من الذهب ومجراه على الدر والياقوت وتربته أطيب من المسك وماءه أحلى من العسل وأشد بياضا من الثلج» [٢٧٥] (١) وقالت عائشة رضى الله عنها : الكوثر نهر في الجنّة يخرخر (٢) في الحوض فمن أحب أن يسمع خريره فليجعل إصبعيه في أذنيه.

وقال بعضهم : هو الحوض بعينه ، وصفته على ما جاء في الأخبار أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : وصف حوض الكوثر فقال : «حصباؤه الياقوت الأحمر والزبرجد الأخضر والدر والمرجان وحمأته المسك الأذفر وترابه الكافور ، وماءه أشد بياضا من اللبن وأحلى من العسل وأبرد من الثلج ، يخرج : من أصل السدرة عرضه وطوله ما بين المشرق والمغرب ، حافتاه الزعفران وقباب الدر والمرجان ، من دخله أمن من الغرق ، ولا يشرب منه أحد فيظمأ ، ولا يتوضأ منه أحد فيشعث ، فيه طيور أعناقها كأعناق الجزر» فقال أبو بكر وعمر : إنها لناعمة فقال : «أكلها أنعم منها» [٢٧٦].

وفي خبر آخر : «لتزدحمنّ هذه الأمة على الحوض ازدحام واردات الحمر» [٢٧٧] (٣).

وأخبرنا أبو القاسم بن حبيب في سنة ست وثلاثمائة : قال : حدّثنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن أحمد الصفار الأصفهاني قال : أخبرنا أبو عبد الله العمري الكوفي بالكوفة قال : حدّثنا بشر بن داود القرشي قال : حدّثنا مسعود بن سابور عن علي بن عاصم عن حميد الطويل عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ لحوضي أربعة أركان : فأول ركن منها في يد أبي بكر والثاني في يد عمر والثالث في يد عثمان والرابع في يد علي ، فمن أحب أبا بكر وأبغض عمر لم يسقه أبو بكر ومن أحب عمر وأبغض أبا بكر لم يسقه عمر ومن أحب عثمان وأبغض عليا لم يسقه عثمان ومن أحب عليا وأبغض عثمان لم يسقه علي ، ومن أحسن القول في أبي بكر فقد أقام الدين ، ومن أحسن القول في عمر فقد أوضح السبيل ، ومن أحسن القول في عثمان فقد استنار بنور الله ، ومن أحسن القول في علي (فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى) ، من أحسن القول في أصحابي فهو مؤمن ومن أساء القول في أصحابي فهو منافق» [٢٧٨].

وقال قطر بن خليفة : سألت عطاء عن الكوثر ونحن نطوف في البيت فقال : حوض أعطي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليه وسلم في الجنة ، وروى حميد عن أنس قال : دخلنا على عبيد الله بن زياد وهم يتذاكرون الحوض فقلت : ما كنت أرى أن أعيش حتى أرى أمثالكم يتمارون في الحوض ،

__________________

(١) كنز العمّال : ١٤ / ٤٢٣ ، ح ٣٩١٤٦.

(٢) في المخطوط : يقرقر.

(٣) كنز العمال : ١٤ / ٤٢٥ ، ح ٣٩١٥٥.

٣٠٩

لقد تركت خلفي عجائز ما تصلي امرأة منهن إلا سألت الله أن يسقيها من حوض محمد وفيه يقول الشاعر :

يا صاحب الحوض من يدانيكا

وأنت حقا حبيب باريكا (١)

وقال سعيد بن جبير ومجاهد : هو الخير الكثير ، وقال الحسن : هو القرآن العظيم ، عكرمة : النبوة والكتاب ، محمد بن إسحاق هو العظيم من الأمر وذكر بيت لبيد

صاحب ملحوب فجعنا بفقده

وعند الرداع بيت آخر كوثر (٢)

يقول : أي عظيم.

وقال أبو بكر بن عباس ويمان بن ذياب : هو كثرة الأصحاب والأشياع ، ابن كيسان : هو كلمة من الكتب الأولى ومعناها الإيثار ، الحسين بن الفضل : الكوثر شيئان تيسير القرآن وتخفيف الشرائع ، جعفر الصادق : الكوثر نور في قبلك دلّك عليّ ، وقطعك عما سواي ، وعنه أيضا :الشفاعة ، وقيل : معجزات أكثرت بها أهل الإجابة لدعوتك ، هلال بن يساق : هو قول لا اله الله محمد رسول الله ، وقيل : الفقه في الدين ، وقيل : الصلوات الخمس.

(فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) قال محمد بن كعب : يقول : إن ناسا يصلّون لغير الله وينحرون لغير الله فـ (إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ) فلا تكن صلاتك ونحرك إلّا لي ، وقال عكرمة وعطاء وقتادة : (فَصَلِّ لِرَبِّكَ) صلاة العيد يوم النحر ، قال سعيد بن جبير ومجاهد : (فَصَلِّ لِرَبِّكَ) صلاة الغداة المفروضة بجمع (وَانْحَرْ) البدن بمنى.

وقال بعضهم : نزلت هذه الآية يوم الحديبية حين حضر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه وصدّوا عن البيت فأمره الله سبحانه أن يصلي وينحر البدن وينصرف ، وفعل ذلك ، وهو رواية أبي معاوية البجلي عن سعيد بن جبير.

وأخبرنا عبد الله بن حامد قال : أخبرنا محمد بن الحسين قال : حدّثنا أحمد بن يوسف قال : حدّثنا حجاج قال : حدّثنا حماد عن عاصم الجحدري عن أبيه عن عقبة بن ظبيان عن علي ابن أبي طالب رضي‌الله‌عنه أنه قال في هذه الآية (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) قال : وضع اليد اليمنى على ساعده اليسرى ثم وضعها على صدره.

وأخبرنا ابن فنجويه قال : حدّثنا علي ابن إبراهيم بن أحمد العطار قال : حدّثنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز قال : حدّثنا هاشم بن الحرث المروزي قال : حدّثنا محمد بن ربيعة قال : حدّثنا يزيد بن ذياب بن أبي السعد عن عاصم الجحدري عن عقبة بن ظهير عن علي بن أبي

__________________

(١) تفسير القرطبي : ٢٠ / ٢١٧.

(٢) لسان العرب : ٢ / ١٥ وفيه : فجعنا بيومه.

٣١٠

طالب في قوله (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) قال : وضع اليمين على الشمال في الصلاة.

وأخبرنا عبد الخالق قال : حدّثنا ابن جنب قال : حدّثنا يحيى بن أبي طالب قال : أخبرنا يزيد بن هارون قال : حدّثنا روح بن المسيّب قال : أخبرني عمرو بن مالك البكري عن أبي الجوزاء عن ابن عباس في قول الله سبحانه (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) قال : وضع اليمين على الشمال في الصلاة عند النحر.

يدلّ عليه ما أخبرنا عبد الله بن حامد قال : أخبرنا محمد بن جعفر قال : حدّثنا علي بن حرب قال : حدثنا المعافى بن داود قال : حدثنا إسرائيل عن سماك بن حرب عن قبيصة بن هلب عن أبيه قال : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يضرب بإحدى يديه على الأخرى في الصلاة.

وأخبرنا عبد الله بن حامد قال : أخبرنا مكي قال : حدّثنا عبد الله بن هاشم قال : حدّثنا عبد الرحمن قال : أخبرنا سفيان عن سماك عن قبيصة بن هلب عن أبيه قال : رأيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم واضعا يمينه على شماله في الصلاة ، هلب لقب وأسمه يزيد بن قتادة.

وأخبرنا عبد الله بن حامد قال : أخبرنا مكي قال : حدّثنا ابراهيم بن الحرث قال : حدّثنا يحيى بن أبي بكر قال : حدّثنا زهير بن معاوية قال : حدّثنا أبو إسحاق عن عبد الجبار بن وائل عن وائل بن حجر قال : رأيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يضع يده اليمنى على اليسرى في الصلاة قريبا من الرفع ، ويرفع يديه حتى يبلغا أذنيه.

وأخبرنا عبد الله قال : أخبرنا محمد بن الحسين قال : حدّثنا أحمد بن يوسف قال : حدّثنا حجاج قال : حدّثنا هشيم عن الحجاج بن أبي زينب السلمي قال : حدّثنا أبو عثمان النهدي عن ابن مسعود أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأى رجلا وهو يصلي واضعا يده اليسرى على اليمنى فنزع اليسرى عن اليمنى ووضع اليمنى على اليسرى.

وأخبرنا أبو محمد المخلدي قال : أخبرنا أبو الفضل يعقوب بن يوسف بن عاصم البخاري الفقيه قال : حدّثنا الحسين بن الفضل النصراني قال : حدّثنا وهب بن إبراهيم الرازي قال : حدّثنا أبو عبد الله إسرائيل بن حاتم المروزي وكان ثقة مأمونا قال : أخبرنا مقاتل بن حيان عن أصبغ ابن نباتة عن علي بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه قال : لما نزلت هذه السورة (إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لجبرائيل : «ما هذه النحيرة التي أمرني بها ربي؟» [٢٧٩] (١) قال : ليست بنحيرة ولكنه يأمرك إذا تحرمت للصلاة أن ترفع يدك إذا كبرت ، وإذا ركعت ، وإذا رفعت رأسك من الركوع ، وإذا سجدت ، فإنه صلاتنا وصلاة الملائكة الذين في السموات السبع وإن لكل شيء زينة وأن زينة الصلاة رفع الأيدي عند التكبيرة.

__________________

(١) كنز العمال : ٢ / ٥٥٧ ، ح ٤٧٢١.

٣١١

وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «رفع الأيدي في الصلاة من الاستكانة» قلت : فما الاستكانة؟ قال : «ألا تقرأ هذه الآية : (فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ) (١)» قال : هو الخضوع [٢٨٠] (٢).

يدل عليه ما أخبرنا عبد الله بن حامد قال : أخبرنا أحمد بن محمد بن يحيى بن بلال قال : حدّثنا أبو زرعة الرازي قال : حدّثنا عبد الجبار بن سعيد بن سليمان بن نوفل بن مساحق العامري قال : حدّثنا ابن أبي الزياد عن موسى بن عقبة عن عبد الله بن الفضل عن عبد الرحمن الأعرج عن عبيد الله بن أبي رافع عن علي بن أبي طالب عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّه كان إذا قام الى الصلاة المكتوبة كبّر ورفع يديه حذو منكبيه ويصنع مثل ذلك إذا قضى قراءته وأراد أن يركع ويضعه إذا رفع من الركوع ، ولا يرفع يديه في شيء من صلاته وهو قاعد.

وأخبرنا الشيخ الصالح أبو الحسن أحمد بن إبراهيم بن علوية بن سلوس العبدوي في رجب سنة أربع وثمانين وثلاثمائة قال : أخبرنا أبو العباس أحمد بن محمد بن الأزهر الأزهري وعبد الله بن يحيى بن أحمد بن مهران المذكر قالا : سمعنا أبا إسماعيل الترمذي وحدّثنا أبو محمّد المخلدي إملاء قال : أخبرنا أبو محمّد عبد الله بن يحيى بن أحمد المذكر قال : حدّثنا أبو إسماعيل محمد بن إسماعيل السلمي قال : صلّيت خلف أبي عارم ـ أي النعمان ـ فرأيته يرفع يديه حين أفتتح الصلاة وحين ركع وحين رفع رأسه من الركوع ، فقلت ما هذا؟ فقال : صليت خلف حماد بن زيد فرأيته يرفع يديه حين أفتتح الصلاة وحين ركع وحين رفع رأسه من الركوع ، فقلت له : ما هذا؟ فقال : صليت خلف أيوب السجستاني فرأيته يرفع يديه حين أفتتح الصلاة وحين ركع وحين رفع رأسه من الركوع ، فقلت له : ما هذا؟ قال : صلّيت الى جنب عطاء بن أبي رياح فرأيته يرفع يديه حين أفتتح الصلاة وحين ركع وحين رفع رأسه من الركوع ، فقلت له : ما هذا؟ قال : صليت خلف أبي بكر الصديق فرأيته يرفع يديه حين أفتتح الصلاة وحين ركع وحين رفع رأسه من الركوع ، فقلت له : ما هذا؟ قال : صلّيت خلف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فرأيته يرفع يديه حين أفتتح الصلاة وحين ركع وحين رفع رأسه من الركوع.

وأنبأني عقيل قال : أخبرنا المعافى قال : أخبرنا ابن جرير قال : حدّثنا أبو كريب قال : حدّثنا وكيع عن إسرائيل عن جابر عن أبي جعفر (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) قال : يرفع يديه أول ما يكبّر في الافتتاح الى النحر.

وأخبرنا محمد بن عبدوس قال : حدّثنا محمد بن يعقوب قال : أخبرنا محمد بن الجهم قال : حدّثنا الفراء قال : يقال : (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) أي أستقبل القبلة بنحرك ، سمعت بعض العرب يقول : منازلنا تتناحر ، أي هذا ينحر هذا ، أي قبالته ، وأنشدني بعض أسد :

__________________

(١) سورة المؤمنون : ٧٦.

(٢) كنز العمال : ٢ / ٥٥٧ ، ح ٤٧٢١ ، وتاريخ بغداد : ١٤ / ٤٢٢.

٣١٢

أبا حكم هل أنت عم مجالد

وسيّد أهل الأبطح المتناحر (١)

أي ينحر بعضه بعضا ، وإليه ذهب الضحاك والكلبي ، وقال واصل بن السائب : سألت عطاء عن قوله سبحانه (وَانْحَرْ) قال : أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يستوي بين السجدتين جالسا حتى يبدوا نحره ، سليمان التيمي : يعني وأرفع يديك بالدعاء الى نحرك ، ذو النون : أي أذبح هواك في قلبك.

(إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ) يعني أن عدوك ومبغضك هو الأقل الأذلّ المنقطع دابره ، نزلت في العاص بن وائل ، وقال شمر بن عطية : هو عقبة بن أبي معيط ، وقال عكرمة عن ابن عباس : نزلت في كعب بن الأشرف وجماعة من قريش ، وذلك أنه لما قدم كعب مكّة قالت له قريش : نحن أهل السقاية والسدانة وأنت سيّد أهل المدينة فنحن خير أم هذا الصنبور المنبتر من قومه؟ فقال : بل أنتم خير منه. فنزلت في كعب (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ) (٢) الآية ونزلت في الذين قالوا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أبتر.

(إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ) يعني المنقطع من كل خير ، قال الجنيد : المنقطع عن بلوغ أمله فيك.

__________________

(١) لسان العرب : ٥ / ١٩٧.

(٢) سورة آل عمران : ٢٣.

٣١٣

سورة الكافرون

مكية. وهي أربعة وتسعون حرفا ،

وست وعشرون كلمة ، وست آيات

أخبرني محمد بن القاسم قال : حدّثنا أبو محمد عبد الله بن أحمد بن جعفر قال : أخبرنا أبو عمر الحرشي قال : حدّثنا إسحاق بن إبراهيم قال : حدّثنا يعقوب بن حميد قال : حدّثنا إسماعيل بن داود عن سليمان بن بلال عن أبي جبير عن الحكم بن عبد الله بن سعد أن محمد ابن سعيد بن جبير بن مطعم حدّثهم أنه سمع جبير بن مطعم يقول : قال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أتحب يا جبير أن تكون إذا خرجت سفرا من أمثل أصحابك هيئة وأكثرهم زادا»؟ قال : قلت : نعم بأبي أنت وأمي يا رسول الله ، قال : «فأقرأ بهذه السور : (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) و (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ) و (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) و (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) و (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ) وأفتح قراءتك بـ (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)» [٢٨١] (١) قال : فقال جبير : وكنت غنيا كثير المال وكنت أخرج مع من شاء الله أن أخرج معه في السفر فأكون أبذّهم هيئة وأقلّهم زادا فما زالت منذ علمنيهن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقرأتهن أكون من أحسنهم هيئة وأكثرهم زادا حتى أرجع من سفري ذلك (٢).

وأخبرنا أبو العباس السليطي قال : أخبرنا ابن الشرقي قال : حدثنا أحمد بن يوسف قال : حدثنا عبد الرزاق ومحمد بن يوسف قالا : حدّثنا سفيان عن أبي إسحاق عن فروة بن نوفل الأشجعي يرفعه إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال لرجل : «اقرأ عند منامك (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) فإنها براءة من الشرك» [٢٨٢] (٣).

وأخبرنا أحمد بن أبي قال : أخبرنا منصور بن محمد قال : حدّثنا محمد بن أيوب قال : حدّثنا القصيني قال : حدّثنا سلمة بن وردان قال سمعت أنسا يقول : قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) ربع القرآن» [٢٨٣] (٤).

__________________

(١) تفسير القرطبي : ٢٠ / ٢٢٤ ، مجمع الزوائد : ١٠ / ١٣٣ ، وفيه افتتح كلّ سورة ، بدل أفتتح قراءتك.

(٢) مسند أبي يعلى : ١٣ / ٤١٤.

(٣) تفسير مجمع البيان : ١٠ / ٤٦٢.

(٤) مجمع الزوائد : ٧ / ١٤٨.

٣١٤

وأخبرنا محمد بن القاسم قال : حدّثنا محمد بن زيد المعدل قال : حدّثنا أبو يحيى البزاز قال : حدّثنا محمد بن منصور قال : حدّثنا محمد بن عمران بن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال : حدّثني أبي عن مخالد عن الحجاج بن عبد الله عن أبي الجليل عن زر عن أبي قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ سورة (يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) فكأنما قرأ ربع القرآن ، وتباعدت عنه مردة الشياطين ، وبرئ من الشرك ويعافى من الفزع الأكبر» [٢٨٤] (١).

وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «مروا صبيانكم فليقرءوها عند المنام فلا يعرض لهم شيء» [٢٨٥].

وقال ابن عباس : ليس في القرآن سورة أشد لغيظ إبليس من هذه السورة لأنها توحيد وبراءة من الشرك.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (١) لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ (٢) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (٣) وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ (٤) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (٥) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (٦))

(قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) الى آخر السورة نزلت في رهط من قريش منهم الحرث بن قيس السهمي والعاص بن وائل والوليد بن المغيرة والأسود بن عبد يغوث الزهري والأسود بن المطلب بن أسد وأميّة بن خلف قالوا : يا محمد هلم فاتبع ديننا ونتبع دينك ونشركك في أمرنا كلّه تعبد آلهتنا سنة ونعبد الهك سنة فأن كان الذي جئت به خيرا مما بأيدينا كنا قد شركناك فيه وأخذنا بحظنا منه ، وأن كان الذي بأيدينا خيرا مما في يديك كنت قد شركتنا في أمرنا وأخذت بحظك منه ، فقال : «معاذ الله أن أشرك به غيره» [٢٨٦] (٢).

فقالوا : فاستلم بعض آلهتنا نصدّقك ونعبد إلهك فقال : حتى أنظر ما يأتي من عند ربي فانزل الله سبحانه : (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) الى آخر السورة فغدا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المسجد الحرام وفيه الملأ من قريش فقام على رؤوسهم ثم قرأها عليهم حتى فرغ من السورة ، فيئسوا عنه عند ذلك وآذوه وآذوا أصحابه.

وأما وجه تكرار الكلام فأن معنى الآية (لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ) في الحال (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) في الحال (وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ) في الاستقبال (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) في الاستقبال وهذا خطاب لمن سبق في علم الله سبحانه أنهم لا يؤمنون ، وقال أكثر أهل المعاني : نزل القرآن بلسان العرب وعلى مجاري خطابهم ومن مذاهبهم التكرار إرادة التوكيد والإفهام ،

__________________

(١) تفسير مجمع البيان : ١٠ / ٤٦٢.

(٢) أسباب نزول الآيات : ٣٠٧ ، تفسير مجمع البيان : ١٠ / ٤٦٣.

٣١٥

كما أن مذاهبهم الاختصار إرادة التخفيف والإيجاز لإن إتيان المتكلّم والخطيب وخروجه من شيء الى شيء آخر أفضل من اقتصاره في المقام على شيء واحد ، قال الله تعالى : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (١) (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) (٢) في غير موضع من سورة واحدة وقال سبحانه : (كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ) (٣) وقال : تعالى (وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ) (٤) وقال : (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) (٥) كل هذا أراد به التأكيد ، ويقول القائل : ارم ارم ، عجّل عجل ، ومنه الحديث أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صعد المنبر ذات يوم فقال : «إن بني مخزوم استأذنوا أن ينكحوا فتاتهم عليا فلا آذن ثم لا آذن ، لأنّ فاطمة بضعة مني يسرّها ما يسرّني ويسوءها ما يسوءني» [٢٨٧].

ومنه قول الشاعر :

هلا سألت جموع كندة

يوم ولوا أين أينا (٦)

وقال آخر :

يا علقمه يا علقمه يا علقمه

خير تميم كلّها وأكرمه (٧)

وقال آخر :

قربا مربط النعامة مني

لقحت حرب وائل عن حيان (٨)

ثم قال في عدة أبيات من هذه القصيدة :

لقحت حرب وائل عن حيان

وأنشدني أبو القاسم بن حبيب قال : أنشدني أبو القاسم عبد الرحمن بن المظفر الأنباري قال : أنشدنا أبو بكر محمد بن أحمد بن القاسم الأنباري لبعض نساء الإعراب.

يقول رجال زوجها لعلها

تقر وترضى بعده بحليل

فأخفت في النفس التي ليس دونها

رجاء وان الصدق أفضل قيل

أبعد ابن عمي سيد القوم مالك

أزفّ الى بعل ألدّ كليل

__________________

(١) سورة الرحمن.

(٢) سورة المرسلات : ١٥.

(٣) سورة النبأ : ٤ ـ ٥.

(٤) سورة الانفطار : ١٧.

(٥) سورة الشرح : ٥ ـ ٦.

(٦) تفسير القرطبي : ٢٠ / ٢٢٧.

(٧) فتح القدير : ٥ / ٥٠٧.

(٨) لسان العرب : ٧ / ٨٢.

٣١٦

وحدّثني أصحابه أن مالكا

أقام ونادى صحبه برحيل

وحدّثني أصحابه أن مالكا

صروم كماضي الشفرتين صقيل

وحدّثني أصحابه أن مالكا

جواد بما في الرحل غير بخيل

وقال القتيبي : وفيه وجه آخر وهو أنّ قريشا قالوا : إن سرّك أن ندخل في دينك عاما فأدخل في ديننا عاما فنزلت هذه السورة ، فتكرار الكلام لتكرار الوقت ، وقال : فيه وجه آخر وهو أن القرآن نزل شيء بعد شيء وآية بعد آية فكأنهم قالوا اعبد آلهتنا سنة فقال الله سبحانه : (لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ) ثم قالوا بعد ذلك : استلم بعض آلهتنا فانزل الله تعالى : (وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ. لَكُمْ دِينُكُمْ) الشرك (وَلِيَ دِينِ) الإسلام.

وهذه الآية منسوخة بآية السيف ، وقرأ أهل المدينة وعيسى بن عمر (وَلِيَ دِينِ) بفتح الياء ومثله روى حفص عن عاصم وهشام عن أهل الشام ، غيرهم بجزمه وأبو حاتم بجر.

٣١٧

سورة النصر

مدنيّة وهي سبعة وتسعون حرفا ،

وست عشر كلمة ، وثلاث آيات

أخبرني أبو الحسين الحياري عن مرة قال : أخبرنا الإمام أبو بكر الإسماعيلي الجرجاني وأبو الشيخ الحافظ الأصبهاني قالا : حدّثنا أبو إسحاق إبراهيم بن أبي شريك قال : حدّثنا أبو عبد الله اليربوعي قال : حدّثنا سلام قال : حدّثنا هارون بن كثير عن زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي أمامة عن أبيّ بن كعب قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ سورة الفتح فكأنما شهد مع محمد فتح مكّة» [٢٨٨] (١).

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ (١) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْواجاً (٢) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً (٣))

(إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ) على من عاداك وناوأك (وَالْفَتْحُ) قال يمان : فتح المدائن والقصور ، وقال عامة المفسرين : فتح مكة ، وكانت قصته على ما ذكره محمد بن إسحاق بن بشار والعلماء من أصحاب الأخبار : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما صالح قريش عام الحديبية كان فيما اشترطوا أنه من أحب أن يدخل في عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعقده دخل فيه ، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه ، فدخلت بنو بكر في عقد قريش ودخلت خزاعة في عقد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكان بينهما شرّ قديم ، وكان السبب الذي هاج ما بين بكر وخزاعة أن رجلا من الحضرمي يقال له مالك بن عماد خرج تاجرا ، فلما توسّط أرض خزاعة عدوا عليه فقتلوه ، فعدت خزاعة قبيل الإسلام على بني الأسود بن رزين الديلي وهم من أشراف بكر فقتلوه بعرفة عند أنصاب الحرم ، فبينا بكر وخزاعة على ذلك من الشر حجز بينهم الإسلام وتشاغل الناس به ، فلما كان صلح الحديبيّة ووقعت تلك الهدنة اغتنمها بنو الديل من بني بكر من خزاعة وأرادوا أن يصيبوا منهم بأولئك النفر الذين أصابوا منهم بني الأسود بن رزين ، فخرج نوفل بن معونة الديلي في بني الديل ، وهو يومئذ قائدهم حتى بيّت خزاعة وهم على الوتير ـ ماء لهم بأسفل مكة ـ ، فأصابوا

__________________

(١) تفسير مجمع البيان : ١٠ / ٤٦٦.

٣١٨

منهم رجلا وتحاوروا واقتتلوا ، ورفدت قريش بني بكر بالسلاح وقاتل معهم من قريش من قاتل بالليل مستخفيا حتى جاوزوا خزاعة الى الحرم ، وكان ممن أعان من قريش بني بكر على خزاعة ليلتين بأنفسهم مشتركين صفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهل وسهيل بن عمرو ومع عبيدهم قالوا : فلما انتهوا الى الحرم قالت بنو بكر : يا نوفل إنا دخلنا الحرم ، إلهك إلهك ، فقال كلمة عظيمة : أنه لا إله اليوم [يا بني بكر] أصيبوا ثأركم فيه فلعمري إنكم لتسرقون في الحرم أفلا تصيبون ثأركم فيه (١).

فلما دخلت خزاعة مكة لجئوا الى دار بديل بن ورقاء الخزاعي ودار مولى لهم يقال له رافع ، فلما تظاهرت قريش على خزاعة وأصابوا منهم ما أصابوا ونقضوا ما بينهم وبين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من العهد لما استحلّوا من خزاعة ، وكانوا في عقدة ، خرج عمرو بن سالم الخزاعي حتى قدم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكان ذلك مما هاج فتح مكة فوقف عليه وهو في المسجد جالس بين ظهراني الناس فقال لهم : إني بايعت محمدا وذكر الأبيات كما ذكرها في سورة التوبة الى قوله :

هم بيتونا بالوتير هجّدا

فقتلونا ركعا وسجدا (٢)

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : قد نصرت يا عمرو بن سالم ، ثم عرض لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عنان من السماء فقال : «إن هذه السحابة لتستهلّ بنصر بني كعب» [وأمر رسول الله الناس بالجهاز وكتمهم مخرجه]».

وقد قال حسن : بلغه إسلام أم هاني بنت أبي طالب وأسمها هند :

أشاقتك هند أم ناك سؤالها

كذاك النوى أسبابها وانفتالها (٣)

القصيدة.

قال ابن إسحاق ، وكان جميع من شهد فتح مكة من المسلمين عشرة آلاف من بني غفار أربعمائة ومن أسلم أربعمائة ومن مزينة ألف ومن بني سلم سبعمائة ومن جهينة ألف وأربعمائة رجل وسائرهم من قريش والأنصار وحلفائهم وطوائف العرب من تميم وقيس واسد.

قالوا : وكان فتح مكة لعشر ليال بقين من شهر رمضان سنة ثمان وأقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمكة بعد فتحها خمس عشر ليلة يقصر الصلاة ، ثم خرج الى هوازن وثقيف وقد نزلوا حنين.

(وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْواجاً) زمرا وأرسالا (٤) القبيلة بأسرها ، والقوم بأجمعهم من غير قتال.

__________________

(١) تاريخ الطبري : ٢ / ٣٢٤.

(٢) تاريخ الطبري : ٢ / ٣٢٥.

(٣) تاريخ الطبري : ٢ / ٣٤٠ ، والبداية والنهاية : ٤ / ٣١٨.

(٤) الأرسال : فرقة بعد فرقة واحدها : رسل.

٣١٩

قال الحسن : لمّا فتح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مكة قالت العرب بعضها لبعض : أما إذ ظفر محمد بأهل الحرم وقد كان الله سبحانه أجارهم من أصحاب الفيل فليس لكم به يدان ، فكانوا (يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْواجاً) ، وقال عكرمة ومقاتل : أراد بالناس أهل اليمن ، قال ابن عباس وأبو هريرة : لما نزلت هذه السورة قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الله أكبر (جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ)» [٢٨٩] (١) وجاء أهل اليمن قوم رقيقة قلوبهم لينة طاعتهم الإيمان يمان والفقه يمان والحكمة يمانية.

أخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن شيبة قال : حدّثنا محمد بن مصفر قال : حدّثنا بقيّة بن الوليد قال : حدّثنا الأوزاعي قال : حدّثنا شدّاد أبو عمار قال : حدّثني جار لجابر قال : غدا جابر ليسلم عليّ فجعل يسألني عن حال الناس فجعلت أخبره نحوا مما رأيت من اختلافهم وفرقتهم فجعلت أخبره وهو يبكي فقال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «أن الناس دخلوا (فِي دِينِ اللهِ أَفْواجاً) وسيخرجون من دين الله أفواجا» [٢٩٠] (٢).

(فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً) فأنك حينئذ لاحق به وذائق الموت كما ذاق من قبلك من الرسل ، وعند الكمال يرتقب الزوال كما قيل.

إذا تم أمر (٣) نقصه

توقع زوالا إذا قيل تم (٤)

وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس أن عمر بن الخطاب كان يأذن لأهل بدر ويأذن لي معهم فقال عبد الرحمن بن عوف : أتأذن لهذا الفتى معنا ومن أبنائنا من هو مثله ، فقال : إنه ممن قد علمتم ، قال ابن عباس : فأذن لهم ذات يوم وأذن لي معهم فسألهم عن قول الله سبحانه : (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ) الآية ولا أراه سألهم إلّا من أجلي ، فقال بعضهم : أمر الله نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا فتح عليه أن يستغفره ويتوب إليه ، فسألني فقلت : ليس كذلك ولكن أخبر نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بحضور أجله ونعيت إليه نفسه ، فذلك علامة موته. فقال عمر : ما أعلم منها إلّا مثل ما تعلم ، ثم قال : كيف تلومونني عليه بعد ما ترون (٥).

وأخبرنا عبد الله بن حامد قال : أخبرنا محمد بن جعفر المطيري قال : حدّثنا ابن فضل قال : حدّثنا عطاء عن سعيد عن ابن عباس قال : لما نزلت (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ) قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «نعيت إليّ نفسي» بأنّه مقبوض في تلك السنة [٢٩١] (٦)، وقال مقاتل وقتادة : عاش النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد نزول هذه السورة سنتين.

__________________

(١) موارد الظمآن : ٥٧٢ ، وفيه : الله أكبر الله أكبر.

(٢) مسند أحمد : ٣ / ٣٤٣.

(٣) في المصدر : بدا.

(٤) تفسير مجمع البيان : ١٠ / ٤٦٧.

(٥) مسند أحمد : ١ / ٣٣٨ ، بتفاوت بسيط.

(٦) مسند أحمد : ١ / ٢١٧.

٣٢٠