الكشف والبيان - ج ١٠

أبو إسحاق أحمد [ الثّعلبي ]

الكشف والبيان - ج ١٠

المؤلف:

أبو إسحاق أحمد [ الثّعلبي ]


المحقق: أبي محمّد بن عاشور
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٤٤

ناراً تَلَظَّى لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى) صاحب النخلة (وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى) يعني أبا الدحداح (الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى) يعني أبا الدحداح (وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى) يكافئه بها ، يعني أبا الدحداح (إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى وَلَسَوْفَ يَرْضى) إذا أدخله الجنة. فكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يمر بذلك بجبس وعذوقه دانية ، فيقول : «عذوق وعذوق لأبي الدحداح في الجنة» (١).

__________________

(١) انظر : تفسير القرطبي : ٢٠ / ٩٠ ، مع تفاوت.

٢٢١

سورة والضحى

مكية ، وهي مائة واثنان وسبعون حرفا ،

وأربعون كلمة ، وإحدى عشرة آية

أخبرني محمد بن القاسم الفقيه قال : حدّثنا محمد بن يزيد المعدّل قال : حدّثنا أبو يحيى البزاز قال : حدّثنا محمد بن منصور قال : حدّثنا محمد بن عمران بن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال : حدّثنا أبي ، عن مخالد بن عبد الواحد ، عن الحجاج بن عبد الله ، عن أبي الخليل ، عن علي ابن زيد ، وعطاء بن أبي ميمونة ، عن زر بن حبيش ، عن أبي بن كعب قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ سورة (وَالضُّحى) ، كان فيمن يرضاه الله عزوجل لمحمد أن يشفع له ، وعشر حسنات يكتبها الله له بعدد كل يتيم» [١٦٠].

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالضُّحى (١) وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (٢) ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى (٣) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى (٤) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى (٥) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى (٦) وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدى (٧) وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى (٨))

(وَالضُّحى)

قال المفسّرون : سألت اليهود رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن ذي القرنين وأصحاب الكهف وعن الروح ، فقال : سأخبركم غدا ولم يقل : إن شاء الله ، فاحتبس عنه الوحي (١).

وقال زيد بن أسلم : كان سبب احتباس جبرائيل عليه‌السلام كون جرو في بيته ، فلمّا نزل عليه جبرائيل عاتبه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على إبطائه ، فقال : يا محمد أما علمت أنّا لا ندخل بيتا فيه كلب ولا صورة (٢)؟

واختلفوا في مدة احتباس الوحي عنه ، فقال ابن حريج : اثني عشر يوما ، وقال ابن عباس : خمسة عشر يوما ، وقيل : خمسة وعشرين يوما ، وقال مقاتل : أربعين يوما. قالوا : فقال

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١٠ / ٣٨٥ و ٢٠ / ٩٣.

(٢) أسباب النزول : ١٢٧. وتفسير القرطبي : ٢٠ / ٩٣. والدر المنثور : ٢ / ٢٥٩.

٢٢٢

المشركون : إنّ محمدا ودّعه ربّه وقلاه ، ولو كان أمره من الله لتتابع عليه كما كان يفعل بمن قبله من الأنبياء.

وقال المسلمون : يا رسول الله أما ينزل عليك الوحي؟ فقال : «وكيف ينزل عليّ الوحي وأنتم لا تنقون براجمكم ولا تقلّمون أظفاركم (١)» ، فأنزل الله سبحانه جبرائيل عليه‌السلام بهذه السورة فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا جبرائيل ما جئت حتى اشتقت إليك» [١٦١] ، فقال جبرائيل عليه‌السلام : وأنا كنت إليك أشدّ شوقا ولكني عبد مأمور وما ننزل (إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ).

أخبرنا عبد الله بن حامد قال : أخبرنا محمد بن يعقوب قال : حدّثنا الحسن بن علي بن عفان قال : حدّثنا أبو أسامة ، عن سفيان ، عن الأسود بن قيس ، أنه سمع جندب بن سفيان يقول : رمي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بحجر في إصبعه ، فقال :

«هل أنت إلّا إصبع دميت

وفي سبيل الله ما لقيت» [١٦٢]

فمكث ليلتين أو ثلاثا لا يقوم [الليل] ، فقالت له امرأة : يا محمد ما أرى شيطانك إلّا قد تركك ، لم أره قربك منذ ليلتين أو ثلاث ليال. وقيل : إنّ المرأة التي قالت ذلك أم جميل امرأة أبي لهب ، فأنزل الله سبحانه (وَالضُّحى). يعني النهار كلّه ، دليله قوله (وَاللَّيْلِ إِذا سَجى) فقابله بالليل ، نظيره قوله (أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى) أي نهارا ، وقال قتادة ومقاتل : يعني وقت الضحى ، وهي الساعة التي فيها ارتفاع الشمس ، واعتدال النهار من الحر والبرد في الشتاء والصيف ، وقيل : هي الساعة التي كلّم الله فيها موسى ، وقيل : هي الساعة التي ألقي السحرة فيها سجّدا ، بيانه قوله سبحانه : (وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى) وقال أهل المعاني فيه وفي أمثاله : بإضمار الربّ مجازه : وربّ الضحى.

(وَاللَّيْلِ إِذا سَجى) قال الحسن : أقبل بظلامه ، وهي رواية العوفي عن ابن عباس ، الوالبي عنه : إذا ذهب الضحّاك : غطّى كلّ شيء ، مجاهد وقتادة وابن زيد : سكن بالخلق واستقر ظلامه ، يقال : ليل ساج ، وبحر ساج إذا كان ساكنا ، قال الراجز :

يا حبذا القمراء والليل الساج

وطرق مثل ملاء النسّاج (٢)

وقال أعشى بني ثعلبة :

فما ذنبنا إن جاش بحر ابن عمّكم

وبحرك ساج ما يواري الدّعا مصا (٣)

__________________

(١) المعجم الكبير للطبراني : ١١ / ٣٤١ وفيه : ولا تنقون رواجبكم. وتفسير ابن كثير : ٣ / ١٣٧.

(٢) زاد المسير : ٨ / ٢٦٨. كتاب العين : ٦ / ١٦١. لسان العرب : ٥ / ١١٣.

(٣) لسان العرب : ٧ / ٣٦. تاج العروس : ١٠ / ١٧٠.

٢٢٣

(ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى) أي ما تركك منذ اختارك ، ولا أبغضك منذ أحبّك ، وهذا جواب القسم.

(وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ) من الثواب ، وقيل : من النصر والتمكن وكثرة المؤمنين (فَتَرْضى).

أخبرنا عبد الله بن حامد قال : أخبرنا ابو عبد الله محمد بن عامر السمرقندي قال : حدّثنا عمر بن بحر قال : حدّثنا عبد بن حميد ، عن قتيبة ، عن سفيان ، عن الأوزاعي ، عن إسماعيل بن عبد الله ، عن علي بن عبد الله بن عباس [عن أبيه] قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «رأيت ما هو مفتوح على أمتي من بعدي كفرا كفرا» [١٦٣] فسرّني ذلك ، فنزلت (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى) قال : أعطي في الجنة ألف قصر من لؤلؤ ترابها المسك ، في كل قصر ما ينبغي له (١).

وأخبرني عقيل أن أبا الفرج ، أخبرهم عن ابن جرير قال : حدّثني عبّاد بن يعقوب قال : حدّثنا الحكم بن ظهر ، عن السدي ، عن ابن عباس : في قوله (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى) قال : رضا محمد ان لا يدخل أحد من أهل بيته النار ، وقيل : هي الشفاعة في جميع المؤمنين.

أخبرنيه أبو عبد الله القنجوي قال : حدّثنا أبو علي المقري قال : حدّثنا محمد بن عمران بن أسد الموصلي قال : حدّثنا محمد بن أحمد المدادي قال : حدّثنا عمرو بن عاصم قال : حدّثنا حرب بن سريح البزاز قال : حدّثنا أبو جعفر محمد بن علي قال : حدّثني عمي محمد بن علي بن الحنفية ، عن أبيه علي بن أبي طالب قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أشفع لأمتي حتى ينادي ربي عزوجل : رضيت يا محمد ، فأقول : ربّ رضيت» ثم قال لي : إنّكم معشر أهل العراق تقولون : إن أرجى آية في القرآن (يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ) قلت : انا لنقول ذلك ، قال : ولكنّا أهل البيت نقول : إنّ أرجى آية في كتاب الله تعالى (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى) وهي الشفاعة [١٦٤] (٢).

وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن حمدان قال : حدّثنا أبو عامر بن سعدان قال : حدّثنا أحمد بن صالح المصري ، قال : حدّثنا عبد الله بن وهب ، قال : أخبرني عمرو بن الحارث أن بكر بن سوادة حدّثه عن عبد الرحمن بن جبير عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تلا قول الله سبحانه في إبراهيم : (فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) وقول عيسى : (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) فرفع يديه ثم قال : «اللهمّ أمّتي أمّتي» وبكى.

__________________

(١) المعجم الكبير : ١٠ / ٢٧٧. جامع البيان للطبري : ٣٠ / ٢٩٢.

(٢) شواهد التنزيل : ٢ / ٤٤٦.

٢٢٤

فقال الله سبحانه : يا جبرائيل اذهب إلى محمد ـ وربّك أعلم ـ فاسأله ما يبكيك؟ فأتاه جبرائيل ، فسأله فأخبره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال الله سبحانه : يا جبرائيل اذهب إلى محمد ، فقل : إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوؤك (١).

ويروي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لمّا نزلت هذه الآية : «إذا لا أرضى وواحد من أمتي في النار» [١٦٥] (٢).

وقال جعفر بن محمد : دخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على فاطمة رضي‌الله‌عنها وعليها كساء من جلد الإبل ، وهي تطحن بيدها ، وترضع ولدها ، فدمعت عينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمّا أبصرها ، فقال : «يا بنتاه تعجّلي مرارة الدنيا بحلاوة الآخرة ، فقد أنزل الله عليّ : (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى) [١٦٦] (٣).

ثم أخبر الله سبحانه ، عن حاله عليه‌السلام التي كان عليها قبل الوحي ، وذكّره نعمه ، فقال عزّ من قائل : (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى).

أنبأني عبد الله بن حامد الأصبهاني قال : أخبرنا محمد بن عبد الله النيسابوري قال : حدّثنا محمد بن عيسى ، قال : حدّثنا أبو عمر الحوصي ، وأبو الربيع الزهراني ، عن حمّاد بن زيد ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «سألت ربي مسألة وددت أني لم أكن سألته ، قلت : يا ربّ إنك آتيت سليمان بن داود ملكا عظيما ، وآتيت فلانا كذا ، وآتيت فلانا كذا ، قال : يا محمد ألم أجدك يتيما فآويتك؟ قلت : بلى أي رب ، قال : ألم أجدك ضالا فهديتك؟ قلت : بلى يا رب ، قال : ألم أجدك عائلا فأغنيتك؟ قلت : بلى أي رب» [١٦٧] (٤).

ومعنى الآية : (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً) صغيرا فقيرا ضعيفا حين مات أبواك ، ولم يخلفا لك مالا ، ولا مأوى ، فجعل لك مأوى تأوي إليه ، ومنزلا تنزله ، وضمّك إلى عمّك أبي طالب حتى أحسن تربيتك ، وكفاك المؤونة.

سمعت الأستاذ أبا القاسم الحبيبي يقول : سمعت أبا نصر منصور بن عبد الله الأصفهاني يقول : سمعت أبا القاسم الاسكندراني يقول : سمعت أبا جعفر الملطي يقول : سمعت أبي يقول : سمعت علي بن موسى الرضا يقول : سمعت أبي يقول : سئل جعفر بن محمد الصادق : لم أوتم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن أبويه؟ فقال : لئلّا يكون عليه حق لمخلوق (٥).

__________________

(١) صحيح مسلم : ١ / ١٣٢. جامع البيان للطبري : ١٣ / ٣٠٠.

(٢) تفسير القرطبي : ٢٠ / ٩٦.

(٣) شواهد التنزيل : ٢ / ٤٤٥. فتح القدير : ٥ / ٤٦٠.

(٤) أسباب نزول الآيات : ٣٠٣. مستدرك الحاكم : ٢ / ٥٢٦.

(٥) مسند زيد بن علي : ٥٠٣. كشف الغمّة : ٢ / ٣١٨.

٢٢٥

وسمعت أبا القاسم الحبيبي يقول : سمعت أبا زكريا يحيى بن محمد بن عبد الله العنبري يحكي بإسناد له لا أحفظه ، عن عبد الوهاب بن مجاهد ، عن أبيه أنه قال في قوله تعالى : (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى) : هو من أقوال العرب : درة يتيمة إذا لم يكن لها مثل وقد جاء في الشعر :

لا ولا درّة يتيمة بحر

تتلالأ في جونة البياع

فمجاز الآية : (أَلَمْ يَجِدْكَ) واحدا في شرفك ، وفضلك ، لا نظير لك ، فآواك إليه.

وقرأ أشهب العقيلي فأوى بالقصر : أي رحمك. تقول العرب : آويت لفلان أية ومأواة أي رحمته.

(وَوَجَدَكَ ضَالًّا) عما أنت عليه اليوم ، فهداك إلى الذي أنت عليه اليوم.

قال السدي : كان على أمر قومه أربعين عاما ، وقال الكلبي : وجدك في قوم ضلال فهداك إلى التوحيد ، والنبوة ، وقيل : فهداهم بك ، وقال الحسن والضحّاك وشهر بن حوشب وابن كيسان : (وَوَجَدَكَ ضَالًّا) عن معالم النبوة ، وأحكام الشريعة غافلا عنها ، فهداك إليها ، نظيره ودليله قوله سبحانه (وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ) وقوله تعالى : (ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ) ، وقيل : (ضَالًّا) في شعاب مكّة ، فهداك الى جدّك عبد المطلب ، وردّك إليه.

روى أبو الضحى ، عن ابن عباس قال : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ضل ، وهو صبي صغير في شعاب مكّة ، فرآه أبو جهل ، منصرفا من أغنامه ، فردّه إلى جدّه عبد المطلب ، فمنّ الله سبحانه عليه بذلك ، حين ردّه إلى جدّه على يدي عدوّه.

وأخبرنا عبد الله بن حامد قال : أخبرنا أحمد بن محمد بن عبدوس قال : حدّثنا عثمان بن سعيد قال : حدّثنا عمرو بن عوف قال : أخبرنا خالد ، عن داود بن أبي هند ، عن العباس بن عبد الرحمن ، عن بشر بن سعيد ، عن أبيه قال : حججت في الجاهلية ، فإذا أنا برجل يطوف بالبيت ، وهو يرتجز ، ويقول :

يا ربّ ردّ راكبي محمدا

ردّ إليّ واصطنع عندي يدا

فقلت : من هذا؟ قيل : عبد المطلب بن هاشم ، ذهبت أبل له فأرسل ابن ابنه في طلبها ، ولم يرسله في حاجة قط إلّا جاء بها ، وقد احتبس عليه ، قال : فما برحت أن جاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجاء بالإبل ، فقال : يا بنيّ لقد حزنت عليك حزنا لا يفارقني أبدا (١).

وفي حديث كعب الأحبار ، في مولد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبدء أمره أن حليمة لمّا قضت حق الرضاع ، جاءت برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لتردّه إلى عبد المطلب ، قالت حليمة : فأقبلت أسير حتى أتيت

__________________

(١) التاريخ الكبير للبخاري : ٣ / ٤٥٤. أسد الغابة : ٢ / ٣٠٥.

٢٢٦

الباب الأعظم من أبواب مكّة ، فسمعت مناديا ينادي : هنيئا لك يا بطحاء مكة ، اليوم يرد عليك النور والدين والبهاء والجمال ، قالت : ثم وضعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأقضي حاجة وأصلح ثيابي ، فسمعت هدّة شديدة ، فالتفت فلم أره ، فقلت : معاشر الناس أين الصبي؟ فقالوا : أي الصبيان؟

قلت : محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ، الذي نضّر الله به وجهي ، وأغنى عيلتي ، ربّيته حتى إذا أدركت فيه سروري وأملي أتيت به لأردّه ، وأخرج هذا من أمانتي ، اختلس من بين يدي قبل أن يمس قدمه الأرض ، واللات والعزى لئن لم أره لأرمينّ بنفسي من شاهق الجبل ، فلأقطعنّ إربا إربا.

قالوا : ما رأينا شيئا ، فلمّا آيسوني وضعت يدي على أم رأسي ، وقلت : وا محمداه وا ولداه ، فأبكيت الجواري الأبكار لبكائي ، وضجّ الناس معي بالبكاء حرقة لي ، فإذا أنا بشيخ كالفاني يتوكأ على عصا ، قال : ما لك أيتها السعدية؟

قلت : فقدت ابني محمدا ، فقال : لا تبكي أنا أدلّك على من يعلم علمه ، وإن شاء أن يردّه فعل ، قلت : فدتك نفسي ، ومن هو؟ قال : الصنم الأعظم هبل.

قالت : فدخل وأنا أنظر ، فطاف بهبل وقبّل رأسه وناداه : يا سيداه ، لم تزل منتك على قريش قديمة ، وهذه السعدية تزعم أن ابنا لها قد ضلّ ، فردّه إن شئت ، وأخرج هذه الوحشة عن بطحاء مكة ، فإنها تزعم أن ابنها محمدا قد ضلّ ، قال : فانكب هبل على وجهه ، وتساقطت الأصنام ، وقالت : إليك عنّا أيها الشيخ. إنما هلاكنا على يدي محمد.

قالت : فأقبل الشيخ أسمع لأسنانه اصطكاكا ، ولركبته ارتعادا ، وقد ألقى عكازته من يده وهو يقول : يا حليمة إن لابنك ربا لا يضيّعه فاطلبيه على مهل ، قالت : فخفت أن يبلغ الخبر عبد المطلب قبلي ، فقصدته فلمّا نظر إليّ ، قال : أسعد نزل بك أم نحوس؟ ، قلت : بل النحس الأكبر ، ففهمها منّي ، وقال : لعلّ ابنك ضلّ منك ، قالت : قلت : نعم فظنّ أن بعض قريش قد اغتاله ، فسلّ عبد المطلب سيفه لا يثبت له أحد من شدة غضبه ، ونادى بأعلى صوته : يا آل غالب ، يا آل غالب ، وكانت دعوتهم في الجاهلية فأجابته قريش بأجمعها ، وقالوا : ما قصتك؟ ، قال : فقد ابني محمد ، قالت قريش : اركب نركب معك ، فإن تسنّمت جبلا تسنماه معك ، وان خضت بحرا خضناه معك ، فركب وركبت قريش معه فأخذ على أعلى مكة وانحدر على أسفلها ، فلمّا أن لم ير شيئا ترك الناس واتشح وارتدى بآخر ، وأقبل الى البيت الحرام ، فطاف اسبوعا ثم أنشأ يقول :

يا ربّ ردّ راكبي محمدا

ردّه ربي واتخذ عندي يدا

يا ربّ إن محمد لم يوجدا

مجمع قومي كلّهم مبدّدا

فسمعنا مناديا ينادي من الهواء : معاشر الناس لا تضجوا ، فان لمحمد ربّا لا يخذله ولا

٢٢٧

يضيّعه ، قال عبد المطلب : يا أيها الهاتف ومن لنا به وأين هو؟ ، قال بوادي تهامة عند شجرة اليمن.

فأقبل عبد المطلب راكبا متسلحا ، فلمّا صار في بعض الطرق تلقّاه ورقة بن نوفل فصارا جميعا يسيران ، فبينما هم كذلك إذ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قائم تحت شجرة يجذب الأغصان ويعبث بالورق ، قال له عبد المطلب : من أنت يا غلام؟

قال : أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ، قال عبد المطلب : فدتك نفسي وأنا جدّك ، ثم حمله على قربوس سرجه وردّه إلى مكة واطمأنت قريش بعد ذلك (١).

وقال سعيد بن المسيب : خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع عمه أبي طالب في قافلة ميسرة غلام خديجة ، فبينما هو راكب ذات ليلة ظلماء على ناقة إذ جاء إبليس ، وأخذ بزمام الناقة فعدل به عن الطريق ، فجاء جبرائيل فنفخ إبليس نفخة وقع منها الى الحبشة وردّه الى القافلة ، فمنّ الله عليه بذلك.

وقيل : (وَجَدَكَ ضَالًّا) ليلة المعراج حين انصرف عنك جبرائيل لا تعرف الطريق ، فهداك إلى ساق العرش.

أخبرني ابن فنجويه قال : حدّثني ابن حبيش قال : قال بعض أهل الكلام في قوله : (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى) : إن العرب إذا وجدت شجرة في فلاة من الأرض وحيدة ليس معها ثانية يسمونها : ضالة ، فيهتدون بها إلى الطريق.

قال : (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى) أي وحيدا ليس معك نبي غيرك فهديت بك الخلق إليّ ، وقال عبد العزيز بن يحيى ومحمد بن علي الترمذي : ووجدك خاملا لا تذكر ولا تعرف من أنت ، فهداهم إليك حتى عرفوك ، وأعلمهم بما منّ به عليك.

قال بسام بن عبد الله : (وَوَجَدَكَ ضَالًّا) نفسك لا تدري من أنت فعرّفك نفسك وحالك ، وقال أبو بكر الورّاق وغيره : (وَوَجَدَكَ ضَالًّا) بحب أبي طالب فهداك إلى حبّه ، وغيره : وجدك محبّا فهداك إلى محبوبك ، دليله قوله سبحانه ، إخبارا عن إخوة يوسف (إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (٢) وقوله سبحانه : (تَاللهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ) (٣) اي فرط الحب ليوسف.

وقيل : وجدناك ناسيا شأن الاستثناء حين سئلت عن أصحاب الكهف وذي القرنين والروح ، دليله قوله (أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما) (٤) أي تنسى ، وقال سهل : وجد نفسك نفس الشهوة

__________________

(١) تاريخ مدينة دمشق : ٣ / ٤٧٨.

(٢) سورة يوسف : ٨.

(٣) سورة يوسف : ٩٥.

(٤) سورة البقرة : ٢٨٢.

٢٢٨

والطبع ، فغيّره إلى سبيل المعرفة والشرع ، قال جنيد : وجدك متحيرا في بيان الكتاب المنزل عليك فهداك لبيانه ، لقوله (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ) (١) وقوله (لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ) (٢).

قال بندار بن الحسين : ليس قائما مقام الاستدلال فتعرفت إليك ، وأغنيتك بالمعرفة عن الشواهد والأدلة ، وقيل : وجدك طالبا لقبلتك ضالا عنها فهداك إليها.

(وَوَجَدَكَ عائِلاً) فقيرا عديما فأغناك بمال خديجة ، ثم بالغنائم ، وقال مقاتل : فرضاك بما أعطاك من الرزق ، وقرأ ابن السميقع : وجدك عيّلا بتشديد الياء من غير ألف على وزن فيعل ، كقولك : طاب يطيب فهو طيّب. وعن ابن عطاء : وجدك فقير النفس ، وقيل : فقيرا إليه فأغناك به ، وقيل : غنيا بالمعرفة فقيرا عن أحكامها ، فأغناك بأحكام المعرفة حتى تم لك الغنى.

وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن حبيش ، عن بعضهم أنه قال : (وَجَدَكَ عائِلاً) تعول الخلق بالعلم فأغناك بالقرآن والعلم والحكمة ، وقال الأخفش : وجدك ذا عيال. دليله قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : وابدأ بمن تعول.

عن ابن عطاء : لم يكن معك كتاب ولا شريعة فأغناك بهما ، وقيل : (وَجَدَكَ عائِلاً) عن الصحابة محتاجا إليهم ، فأكثرنا لك الاخوان والأعوان ، وحذف الكاف من قوله (فَآوى) وأختيها لمشاكلة رؤوس الآي ، ولأن المعنى معروف.

(فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (٩) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ (١٠) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (١١))

(فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ) واذكر يتمك ، وقرأ النخعي والشعبي : فلا تكهر ، بالكاف ، وكذلك هو في مصحف عبد الله ، والعرب تعاقب بين القاف والكاف ، يدل عليه حديث معاوية بن الحكم الذي تكلّم في الصلاة قال : ما كهرني ، ولا ضربني.

أخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن مالك قال : حدّثنا ابن حنبل قال : حدّثني أبي قال : حدّثنا إسحاق بن عيسى قال : حدّثنا مالك ، عن ثور بن زيد الدبلي قال : سمعت أبا الغيث يحدّث ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «كافل اليتيم ـ له أو لغيره ـ أنا وهو كهاتين في الجنّة إذا اتقى الله سبحانه» [١٦٨] (٣) وأشار مالك بالسبابة والوسطى.

أخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن [يوسف] (٤) قال : حدّثنا الحسن بن علي بن نصر

__________________

(١) سورة النحل : ٤٤.

(٢) سورة النحل : ٦٤.

(٣) مسند أحمد : ٢ / ٣٧٥.

(٤) وهو عبد الله بن يوسف بن أحمد بن مالك.

٢٢٩

الطوسي قال : حدّثنا جعفر بن محمد بن الفضل برأس العين قال : حدّثنا إبراهيم بن زكريا قال : حدّثنا الحسين بن أبي جعفر ، عن علي ، عن سعيد بن المسيب ، عن عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إنّ اليتيم إذا بكى اهتز لبكائه عرش الرحمن ، فيقول الله سبحانه لملائكته : يا ملائكتي! من أبكى هذا اليتيم الذي غيّب أباه في التراب؟ فيقول الملائكة : ربنا أنت أعلم ، فيقول الله : يا ملائكتي! فإني أشهدكم أنّ لمن أسكته وأرضاه أن أرضيه يوم القيامة» فكان عمر إذا رأى يتيما مسح رأسه ، وأعطاه شيئا [١٦٩] (١).

وأخبرني عبد الله بن حامد الأصفهاني ، حدّثنا صالح بن محمد قال : حدّثنا سليمان بن عمرو ، عن أبي حزم ، عن أنس بن مالك قال : من ضمّ يتيما فكان في نفقته وكفاه مؤونته كان له حجابا من النار يوم القيامة ، ومن مسح برأس يتيم كان له بكل شعرة حسنة.

(وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ) فلا تزجر لكن بدّل يسيرا وردّ جميلا ، واذكر فقرك.

وأخبرنا عبد الله بن حامد فيما أجاز لي روايته عنه قال : أخبرنا إسماعيل بن إبراهيم الحلواني قال : حدّثنا العباس بن عبد الله قال : حدّثنا سعيد أبو عمرو البصري قال : حدّثنا سهل ابن أسلم العنبري ، عن الحسن في قوله سبحانه وتعالى : (وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ) قال : أما انه ليس بالسائل الذي يأتيك لكن طالب العلم.

وأخبرني عبد الله بن حامد الأصفهاني قال : حدّثني العباس بن محمد بن قوهيال (٢) قال : حدّثنا حاتم بن يونس قال : حدّثني عبيد بن نعيش قال : سمعت يحيى بن آدم يقول : (وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ) ، قال : إذا جاءك الطالب للعلم فلا تنهره.

وأخبرنا ابن فنجويه قال : حدّثنا أبو حذيفة قال : حدّثنا أبو عروبة قال : حدّثنا يحيى بن حكيم والحسين بن سلمة بن أبي كبشة قالا : حدّثنا أبو قتيبة قال : حدّثنا الحسن بن علي الهاشمي ، عن عبد الرحمن الأعرج ، عن أبي هريرة قال : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يمنعن أحدكم السائل أن يعطيه إذا سأل وأن رأى في يده قلبين من ذهب» [١٧٠] (٣).

وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن شنبه قال : حدّثنا عبد الله بن أحمد الكسائي قال : حدّثنا أحمد بن ثابت بن غياث قال : حدّثنا إبراهيم بن الشماس قال : حدّثنا أحمد بن أيوب الضبي ، عن إبراهيم بن أدهم قال : نعم القوم السّؤّال ، يحملون زادنا إلى الآخرة.

وقال إبراهيم : السائل يريد الآخرة يجيء إلى باب أحدكم فيقول : هل توجهون إلى أهليكم بشيء.

__________________

(١) تفسير القرطبي : ٢٠ / ١٠١.

(٢) لعله : بن موهار ، قوهيار.

(٣) كنز العمال : ٦ / ٤٠٧ ح ١٦٢٨٩. والقلب : السوار.

٢٣٠

وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا عبد الله بن يوسف قال : حدّثنا الحسن بن علي بن زكريا القرشي قال : حدّثنا هدية بن خالد قال : حدّثنا صبان بن علي قال : حدّثنا طلحة بن عمرو ، عن عطاء ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا رددت السائل ثلاثا فلم يرجع فلا عليك أن تزبره» [١٧١] (١).

(وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) يعني النبوّة ، عن مجاهد ابن أبي نجيح عنه قال : القرآن ، وإليه ذهب الكلبي. وحكم الآية [عام] في جميع الإنعام.

أخبرني الغنجوي قال : حدّثنا القطيعي قال : حدّثنا ابن حنبل قال : حدّثني ابو عمرو الأزدي قال : حدّثنا مسلم بن إبراهيم قال : حدّثنا نوح بن قيس قال : حدّثني نصر بن علي قال : كان عبد الله بن غالب إذا أصبح يقول : لقد رزقني الله البارحة خيرا ، قرأت كذا وصلّيت كذا ، وذكرت الله كذا وفعلت كذا ، فيقال له : يا أبا فراس إن مثلك لا يقول مثل هذا فيقول : الله سبحانه يقول : (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) وتقولان أنتم : لا تحدّث بنعمة ربك.

وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن مالك قال : حدّثنا شبر بن موسى قال : حدّثنا عبد الله ابن يزيد المقري قال : حدّثنا أبو معمر ، عن بكر بن عبد الله المزني أنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من أعطي خيرا فلم ير عليه سمّي بغيض الله معاديا لنعمه» [١٧٢] (٢).

وأخبرنا الحسن قال : حدّثنا أحمد بن محمد بن إسحاق قال : حدّثنا أبو القاسم بن منيع قال : حدّثنا منصور بن أبي مزاحم قال : حدّثنا وكيع ، عن أبي عبد الرحمن يعني القاسم بن وليد ، عن الشعبي ، عن النعمان بن بشير قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول على المنبر : «من لم يشكر القليل ، ومن لم يشكر الكثير ، ومن لم يشكر الناس لم يشكر الله ، والتحدث بنعمة الله شكر ، وتركها كفر ، والجماعة رحمة ، والفرقة عذاب» [١٧٣] (٣).

__________________

(١) كنز العمال : ٦ / ٤٠٠ ح ١٦٢٥٣. والزبر : الزجر والمنع.

(٢) تفسير القرطبي : ٢٠ / ١٠٢ ، والشكر لله لابن أبي الدنيا : ٩٢.

(٣) مسند أحمد : ٤ / ٢٧٨.

٢٣١

سورة الشرح

مكية ، وهي مائة وثلاثة أحرف

وسبع وعشرون كلمة ، وثماني آيات

أخبرنا أبو محمد إسحاق بن إبراهيم بن أحمد بن علي الجرجاني قال : حدّثنا أبو القاسم عبد الله بن محمد بن إبراهيم قال : حدّثني أبو بكر أحمد بن إسحاق بن إبراهيم البصري قال : حدّثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب قال : حدّثنا أبو عوانة ، عن عاصم بن بهدلة ، عن زرّ ابن حبيش ، عن عبد الله قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «من قرأ (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) فكأنما جاءني وأنا مغتم ففرّج عنّي» [١٧٤].

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (١) وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ (٢) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (٣) وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ (٤) فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (٥) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (٦) فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (٧) وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ (٨))

(أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) ألم نفتح ونوسّع ونليّن لك قلبك بالإيمان والنبوّة والعلم والحكمة.

(وَوَضَعْنا) وحططنا (عَنْكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ) أثقل ظهرك فأوهنه ، ومنه قيل للبعير إذا كان رجيع سفر قد أوهنه وأنضاه : نقض. وقال الفرّاء : كسر ظهرك حين سمع نقيضه : أي صوته ، قال الحسن وقتادة والضحّاك : يعني ما سلف منه في الجاهلية ، وقال الحسين بن الفضل : يعني الخطأ والسهو ، وقيل : ذنوب أمتك فأضافها إليه لاشتغال قلبه بها واهتمامه لها ، وقال عبد العزيز بن يحيى وأبو عبيدة : يعني خفّفنا عليك أعباء النبوة والقيام بأمرها ، وقيل : وعصمناك عن احتمال الوزر.

(وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ) أخبرنا عبد الخالق بقراءتي عليه قال : حدّثنا ابن جنب قال : حدّثنا أبو إسماعيل محمد بن إسماعيل قال : حدّثنا صفوان يعني ابن صالح الثقفي أبو عبد الملك قال : حدّثنا الوليد يعني ابن مسلم قال : حدّثني عبد الله بن لهيعة ، عن دراج ، عن أبي الهيثم ، عن أبي

٢٣٢

سعيد الخدري ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه سأل جبرائيل عن هذه الآية (وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ) ، قال : «قال الله سبحانه : إذا ذكرت ، ذكرت معي» [١٧٥] (١).

وحدّثنا أبو سعيد عبد الملك بن أبي عثمان الواعظ قال : حدّثنا إسماعيل بن أحمد الجرجاني قال : أخبرنا عمران بن موسى قال : حدّثنا أبو معمر قال : حدّثنا عباد ، عن عوف ، عن الحسن في قوله (وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ) ، قال : إذا ذكرت ذكرت معي ، وقال قتادة : يرفع الله ذكره في الدنيا والآخرة ، فليس خطيب ولا متشهد ولا صاحب صلاة إلّا ينادي بها : أشهد ان لا إله إلّا الله ، وأن محمدا رسول الله ، وقال مجاهد : يعني بالتأذين ، وفيه يقول حسان بن ثابت يمدح النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

أغرّ عليه للنبوة خاتم

من الله مشهور يلوح ويشهد

وضمّ الإله اسم النبي الى اسمه

إذا قال في الخمس المؤذّن أشهد (٢)

وقال ابن عطاء : يعني جعلت تمام الإيمان بي بذكرك ، وقيل : (وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ) عند الملائكة في السماء ، وقيل : بأخذ ميثاقه على النبيين وإلزامهم الإيمان به والإقرار بفضله ، وقال ذو النون : همم الأنبياء تجول حول العرش وهمّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فوق العرش ، لذلك قال : (وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ) ، فذكره ذكره ، ومفزع الخلق يوم القيامة إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم كمفزعهم إلى الله ، لعلمهم بجاهه عنده.

(فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) أي مع الشدّة التي أنت فيها من جهاد المشركين ، ومزاولة ما أنت بسبيله يسرا ورخاء بأن يظهرك عليهم ، حتى ينقادوا للحق الذي جئتهم به طوعا وكرها.

(إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) كرّره لتأكيد الوعد وتعظيم الرجاء ، وقيل : (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) : في الدنيا ، (إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) : في الآخرة.

أخبرنا عبد الله بن حامد قال أخبرنا أحمد بن عبد الله قال : حدّثنا محمد بن عبد الله قال : حدّثنا عثمان قال : حدّثنا ابن عليّة ، عن يونس ، عن الحسن قال : لما نزلت هذه الآية ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ابشروا فقد جاءكم اليسر لن يغلب عسر يسرين» [١٧٦] (٣).

وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا عمر بن الخطاب قال : حدّثنا علي بن مرداراد الخياط قال : حدّثنا قطن بن بشير قال : حدّثنا جعفر بن سليمان ، عن رجل ، عن إبراهيم النخعي قال : قال ابن مسعود : والذي نفسي بيده ، لو كان العسر في جحر لطلبه اليسر حتى يدخل عليه ، إنّه لن يغلب عسر يسرين ، إنّه لن يغلب عسر يسرين.

__________________

(١) جامع البيان للطبري : ٣٠ / ٢٩٧.

(٢) تفسير القرطبي : ٢٠ / ١٠٦.

(٣) صحيح البخاري : ٦ / ٨٧ ، جامع البيان للطبري : ٣٠ / ٢٩٧.

٢٣٣

قال العلماء في معنى هذا الحديث : لأنه عرّف العسر ونكّر اليسر ، ومن عادة العرب إذا ذكرت اسما معرفة ثم أعادته فهو هو ، وإذا نكرّته ثم كررته فهما اثنان ، وقال الحسن بن يحيى بن نصر الجرجاني صاحب كتاب (النظم) وهو يكلم الناس في قوله عليه‌السلام : «لن يغلب عسر يسرين» [١٧٧] : فلم يحصل غير قولهم : إن العسر معرفة واليسر نكرة مكررة ، فوجب أن يكون [عسر] واحد ويسران ، وهذا قول مدخول [إذ] لا يجب على هذا التدريج إذا قال الرجل : إنّ مع الفارس سيفا إنّ مع الفارس سيفا أن يكون الفارس واحدا والسيف اثنين ، ولا يصح هذا في نظم العربية.

فمجاز قوله : «لن يغلب عسر يسرين» إن الله بعث نبيّه عليه‌السلام مقلّا مخففا فعيّره المشركون لفقره ، حتى قالوا أنجمع لك مالا؟ فاغتمّ ، فظنّ أنهم كذّبوه لفقره ، فعزّاه الله سبحانه وتعالى وعدد عليه نعماءه ووعده الغنى فقال : (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) إلى قوله (ذِكْرَكَ) ، فهذا ذكر امتنانه عليه ، ثم ابتدأ ما وعده من الغنى ليسلّبه مما خامر قلبه ، فقال (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) ، والدليل عليه دخول الفاء في قوله (فَإِنَّ) ولا يدخل الفاء أبدا إلّا في عطف أو جواب.

ومجازه : لا يحزنك ما يقولون (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) في الدنيا عاجلا ، ثم أنجزه ما وعده وفتح عليه القرى العربية ، ووسّع ذات يده ، حتى يهب المائتين من الإبل ، ثم ابتدأ فضلا آخر من الآخرة فقال تأسية له : (إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) ، والدليل على ابتدائه تعرّيه من الفاء والواو وحروف النسق فهذا عام لجميع المؤمنين ، ومجازه : (إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ) في الدنيا للمؤمنين (يُسْراً) في الآخرة لا محالة ، فقوله : «لن يغلب عسر يسرين»! أي لن يغلب عسر الدنيا اليسر الذي وعد الله المؤمنين في الدنيا ، واليسر الذي وعدهم في الآخرة ، إنما يغلب أحدهما وهو يسر الدنيا ، فأمّا يسر الآخرة فدائم غير زايل ؛ اي لا يجمعهما في الغلبة ، كقوله عليه‌السلام «شهرا عيد لا ينقصان» اي لا يجتمعان في النقصان.

وقال أبو بكر الوراق : مع [أختها] بالدنيا جزاء الجنة ، قال القاسم : [بردا هذه السعادة من أسحار] (١) الدنيا إلى رضوان العقبى ، وقراءة العامة بتخفيف السينين ، وقرأ أبو جعفر وعيسى ، بضمهما ، وفي حرف عبد الله : إنّ مع العسر يسرا ، مرة واحدة غير مكررة.

أخبرني أبو عبد الرحمن محمد بن الحسين بن محمد الرمجاري وأبو الحسن علي بن محمد ابن محمد البغدادي قالا : حدّثنا محمد بن يعقوب الأصم قال : حدّثنا أحمد بن شيبان الرملي قال : حدّثنا عبد الله بن ميمون القداح قال : حدّثنا شهاب بن خراش ، عن عبد الملك بن عمير ، عن ابن عباس قال : أهدي للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بغلة ، أهداها له كسرى فركبها بحبل من شعر ، ثم أردفني

__________________

(١) كذا في المخطوط.

٢٣٤

خلفه ، ثم سار بي مليّا ، ثم التفت اليّ فقال لي : «يا غلام» ، قلت : لبيك يا رسول الله ، قال : «احفظ الله يحفظك ، احفظ الله تجده أمامك ، تعرّف الى الله في الرخاء يعرفك في الشدّة ، وإذا سألت فاسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله ، قد مضى القلم بما هو كائن ، فلو جهد الخلائق أن ينفعوك بما لم يقضه الله لك ، لما قدروا عليه ، ولو جهدوا أن يضرّوك بما لم يكتبه الله عليك ما قدروا عليه ، فإن استطعت أن تعمل بالصبر مع اليقين فافعل ، فإنّ لم تستطع فاصبر ، فإنّ في الصبر على ما يكره خيرا كثيرا ، واعلم أنّ مع الصبر النصر ، وأنّ مع الكرب الفرج و (إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) [١٧٨] (١).

وسمعت أبا القاسم الحسن بن محمد بن الحسن النيسابوري يقول : سمعت أبا علي محمد ابن عامر البغدادي يقول : سمعت عبد العزيز بن يحيى يقول : سمعت عمي يقول : سمعت العتبي يقول : كنت ذات يوم في البادية بحالة من الغم فألقي في روعي بيت شعر فقلت :

أرى الموت لن أصبح ولاح

مغموما له أروح

فلمّا جنّ الليل سمعت هاتفا يهتف ، من الهواء :

ألا يا أيّها المرء

الذي الهمّ به برّح

وقد أنشد بيتا لم

يزل في فكره يسنح

إذا اشتدّ بك العسر

ففكّر في ألم نشرح

فعسر بين يسرين

إذا فكّرتها فافرح

قال : فحفظت الأبيات ، وفرّج الله غمّي (٢).

وأنشدنا أبو القاسم الحبيبي قال : أنشدنا أبو محمد أحمد بن محمد بن إسحاق الجيزنجي قال : أنشدنا إسحاق بن بهلول القاضي :

فلا تيأس وإن أعسرت يوما

فقد أيسرت في دهر طويل

ولا تظننّ بربك ظنّ سوء

فإنّ الله أولى بالجميل

فإنّ العسر يتبعه يسار

وقول الله أصدق كلّ قيل (٣)

وأنشدني أبو القاسم الحبيبي قال : أنشدني محمد بن سليمان بن معاد الكرخي قال : أنشدنا أبو بكر الأنباري :

إذا بلغ العسر مجهوده

فثق عند ذاك بيسر سريع

__________________

(١) بتفاوت في مسند أحمد : ١ / ٢٩٣ ، وتمامه في كتاب الدعاء للطبراني : ٣٤.

(٢) زاد المسير : ٨ / ٢٧٣.

(٣) حسن الظن بالله لابن أبي الدنيا : ١٢٣ ، وقد نسبت الأبيات فيه إلى محمود الوراق ، وفيه تفاوت يسير.

٢٣٥

ألم تر بخس الشتاء القطيع

يتلوه سعد الربيع البديع

ولزيد بن محمد العلوي :

إن يكن نالك الزمان ببلوى

عظمت شدّة عليك وجلّت

وتلتها قوارع باكيات

سئمت دونها الحياة وملّت

فاصطبر وانتظر بلوغ مداها

فالرزايا إذا توالت تولّت

وإذا أوهنت قواك وحلّت

كشفت عنك جملة فتخلّت

وقال آخر :

إذا الحادثات بلغن المدى

وكادت تذوب لهنّ المهج

وحلّ البلاء وقلّ الرجاء

فعند التناهي يكون الفرج (١)

وأنشدني أبو القاسم الحسن بن محمد السلوسي قال : أنشدني أبو الحسن عيسى بن زيد العقيلي النسابة قال : أنشدني سليمان بن أحمد الرقي :

توقع إذا ما عرتك الخطوب

سرورا [يسيّرها] عنك قسرا

ترى الله يخلف ميعاده

وقد قال : (إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً)

(فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ) قال ابن عباس : إذا فرغت من صلاتك (فَانْصَبْ) إلى ربّك في الدعاء ، واسأله حاجتك وارغب اليه. ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : إذا قمت إلى الصلاة (فَانْصَبْ) في حاجتك إلى ربّك. الضحّاك : إذا فرغت من الصلاة المكتوبة (فَانْصَبْ) إلى ربّك في الدعاء ، وأنت جالس قبل أن تسلم. قتادة : أمره أن يبالغ في دعائه إذا فرغ من صلاته. عن الحسن : إذا فرغت من جهاد عدوك ، (فَانْصَبْ) في عبادة ربّك. عن زيد بن أسلم : إذا فرغت من جهاد العرب وانقطع جهادهم ، (فَانْصَبْ) لعبادة الله وإليه (فَارْغَبْ). عن منصور ، عن مجاهد : إذا فرغت من أمر الدنيا (فَانْصَبْ) في عبادة ربّك وصلّ.

وأخبرنا محمد بن عبوس قال : حدّثنا محمد بن يعقوب قال : حدّثنا محمد بن الحميم قال : حدّثني الفراء قال : حدّثني قيس بن الربيع ، عن أبي حصين قال : مرّ شريح برجلين يصطرعان فقال : ليس بهذا أمر الفارغ ، إنما قال الله عزوجل : (فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ). قال الفراء : فكأنّه في قول شريح : إذا فرغ الفارغ من الصلاة أو غيرها.

وقوله (فَانْصَبْ) من النصب ، وهو التعب والدأب في العمل ، وقيل : أمره بالقعود للتشهد إذا فرغ من الصلاة والانتصاب للدعاء. عن حيان ، عن الكلبي : إذا فرغت من تبليغ الرسالة ،

__________________

(١) تفسير القرطبي : ٩ / ٢٢٠.

٢٣٦

(فَانْصَبْ) : أي (اسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ). عن جنيد : فإذا فرغت من أمر الخلق ، فاجتهد في عبادة الحق. عن أبو العباس بن عطاء : (فَإِذا فَرَغْتَ) من تبليغ الوحي ، (فَانْصَبْ) في طلب الشفاعة.

(وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ) في جميع أحوالك [لا] إلى سواه ، وقيل : إذا فرغت من أشغال الدنيا ، ففرّغ قلبك لهموم العقبى.

عن جعفر : اذكر ربّك على فراغ منك عن كل ما دونه ، وقيل : إذا فرغت من العبادة ، (فَانْصَبْ) إلى الإعراض عنها مخافة ردّها عليك ، (وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ) ، والاستغفار لعملك كالخجل المستحيي.

أخبرنا الشيخ أبو الفضل محمد بن جعفر الخزاعي المقري قال : حدّثنا أبو محمد عبد الله ابن محمد المزني قال : حدّثنا الوليد بن بيان ويحيى بن محمد بن صاعد ومحمد بن أحمد السطوي قال : حدّثنا ابن أبي برة قال : حدّثنا عكرمة بن سليمان قال : قرأت على إسماعيل بن عبد الله ، فلمّا بلغت إلى (وَالضُّحى) قال : كبّر حتى نختم مع خاتمة كل سورة ، فإني قرأت على شبل بن عباد وعلي بن عبد الله بن كثير ، فأمراني بذلك.

قال : وأخبرني عبد الله بن كثير أنه قرأ على مجاهد ، فأمره بذلك ، وأخبره مجاهد أنه قرأ على ابن عباس ، فأمره بذلك وأخبره ابن عباس أنه قرأ على أبي بن كعب ، فأمره بذلك ، وأخبره أبيّ بن كعب أنه قرأ على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فأمره بذلك.

٢٣٧

سورة التين

مكية ، وهي ثمانمائة وخمسون حرفا ،

وأربع وثلاثون كلمة ، وثماني آيات

أخبرني أبو الحسين الخبازي غير مرّة قال : حدّثنا أبو بكر أحمد بن أبي ميثم الجرجاني وأبو الشيخ قال : حدّثنا أبو إسحاق بن ميثم بن شريك قال : حدّثنا أحمد بن يونس قال : حدّثنا سلام بن سليم قال : حدّثنا هارون بن كثير ، عن زيد بن أسلم ، عن أبيه ، عن أبي أمامة ، عن أبيّ ابن كعب قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ سورة (وَالتِّينِ) أعطاه الله سبحانه خصلتين : العافية واليقين ما دام في دار الدنيا ، فإذا مات أعطاه الله سبحانه من الأجر بعدد من قرأ هذه السورة صيام يوم» [١٧٩] (١).

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (١) وَطُورِ سِينِينَ (٢) وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (٣) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (٤) ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ (٥) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (٦) فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (٧) أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ (٨))

(وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ) قال ابن عباس والحسن ومجاهد وعكرمة وإبراهيم وعطاء بن أبي رباح وجابر بن زيد ومقاتل والكلبي : هو تينكم هذا الذي تأكلون ، وزيتونكم هذا الذي تعصرون منه الزيت.

أخبرني الحسين قال : حدّثنا السني قال : وجدت في كتاب أبي : حدّثنا القاسم بن أبي الحسين الزبيدي قال : حدّثنا سهل بن إبراهيم الواسطي ، عن عيسى بن يونس ، عن الأوزاعي ، عن يحيى بن أبي كثير قال : حدّثني الثقة عن أبي ذر قال : أهدي للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم طبق من تين فأكل منه وقال لأصحابه : «كلوا ، ثم قال : لو قلت : إن فاكهة نزلت من الجنة لقلت : هذه ، لأنّ فاكهة الجنة بلا عجم فكلوها فإنها تقطع البواسير ، وتنفع من النقرس» [١٨٠] (٢).

__________________

(١) تفسير مجمع البيان : ١٠ / ٣٩٢.

(٢) تفسير القرطبي : ٢٠ / ١١٠.

٢٣٨

وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن شنبه قال : حدّثنا يوسف بن أحمد أبو يعقوب قال : حدّثنا العباس بن أحمد بن علي قال : حدّثنا معلل بن نقيل الحداني قال : حدّثنا محمد بن محصن ، عن إبراهيم بن أبي عبلة ، عن عبد الله بن الديلمي ، عن عبد الرحمن بن غنم قال : سافرت مع معاذ بن جبل ، [فكان يمرّ] بشجرة الزيتون فيأخذ منها القضيب فيستاك به ويقول : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم [يقول] نعم السواك الزيتون من الشجرة المباركة ، يطيّب الفم ، ويذهب بالجفر سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «هي مسواكي ومسواك الأنبياء قبلي» [١٨١].

وقال كعب الأحبار وقتادة وابن زيد وعبد الرحمن بن غنيم : (التِّينِ) : مسجد دمشق ، (وَالزَّيْتُونِ) : بيت المقدس. عن الضحّاك : هما مسجدان بالشام. عن محمد بن كعب : (التِّينِ) : مسجد أصحاب الكهف ، (وَالزَّيْتُونِ) : مسجد إيليا ، ومجازه على هذا التأويل : منابت التين والزيتون. أبو مكين ، عن عكرمة : جبلان. عن عطية ، عن ابن عباس : (التِّينِ) : مسجد نوح الذي [بناه] على الجودي ، (وَالزَّيْتُونِ) : بيت المقدس. عن نهشل ، عن الضحّاك : (التِّينِ) : المسجد الحرام.

(وَالزَّيْتُونِ) : المسجد الأقصى.

وسمعت محمد بن عبدوس يقول : سمعت محمد بن الحميم يقول : سمعت الفرّاء يقول : سمعت رجلا من أهل الشام وكان صاحب تفسير قال : (التِّينِ) : جبال ما بين حلوان إلى همدان ، (وَالزَّيْتُونِ) : جبال الشام.

(وَطُورِ سِينِينَ) يعني جبل موسى ، قال عكرمة : السينين : الجسر بلغة الحبشة. الحكم والنضر عنه : كلّ جبل ينبت فهو طور سينين ، كما ينبت في السهل كذلك ينبت في الجبل ، وعن مجاهد : الطور الجبل ، وسينين : المبارك. وعن قتادة : المبارك الحسن.

عن مقاتل : كل جبل فيه شجرة مثمرة فهو سينين وسينا وهو بلغة النبط. عن الكلبي : يعني الجبل المشجر. عن شهر بن حوشب : (التِّينِ) : الكوفة ، (وَالزَّيْتُونِ) : الشام ، (وَطُورِ سِينِينَ) : جبل فيه ألوان الأشجار.

قال عبد الله بن عمر : أربعة أجبال مقدّسة بين يدي الله سبحانه ، طور تينا وطور زيتا وطور سينا وطور يتمانا ، فأما طور تينا فدمشق ، وأما طور زيتا فبيت المقدس ، وأما طور سينا فهو الذي كان عليه موسى ، وأما طور يتمانا فمكة.

أخبرنا أبو سفيان الحسين بن محمد بن عبد الله المقري قال : حدّثنا البغوي ببغداد قال : حدّثنا ابن أبي شيبة قال : حدّثنا يعقوب بن إبراهيم قال : حدّثنا وكيع عن أبيه وسفيان ، عن أبي إسحاق ، عن عمرو قال : سمعت عمر بن الخطاب يقرأ بمكة في المغرب : (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ) وطور سيناء ، قال : فظننت أنه إنما يقرؤها ليعلم حرمة البلد.

٢٣٩

(وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ) الآمن ، يعني مكة ، وأنشد الفرّاء :

ألم تعلمي يا أسم ويحك أنني

حلفت يمينا لا أخون أميني

يريد آمني.

(لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) أعدل قامة وأحسن صورة ، وذلك أنه خلق كل شيء منكبّا على وجهه إلّا الإنسان. وقال أبو بكر بن ظاهر : مزينا بالعقل ، مؤدّبا بالأمر ، مهذّبا بالتمييز ، مديد القامة ، يتناول مأكوله بيده.

(ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ) يعني (إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ) ، ينقص عمره ويضعف بدنه ويذهب عقله.

قال ابن عباس : [إنّ] نفرا ردوا (إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ) على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأنزل الله عذرهم وأخبر أن لهم أجرهم الذي عملوا قبل أن تذهب عقولهم.

قال عكرمة : لم يضرّ هذا الشيخ الهرم كبره إذا ختم الله تعالى له بأحسن ما كان يعمل.

قال أهل المعاني : السافلون : الضعفى والهرمى والزمنى ، فقوله (أَسْفَلَ سافِلِينَ) نكرة تعمّ الجنس ، كما تقول : فلان أكرم قائم ، فإذا عرّفت قلت : القائمين.

أخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا محمد بن عبد الله بن مهران قال : حدّثنا جعفر بن محمد الفراي قال : حدّثنا قتيبة بن سعيد قال : حدّثنا خالد الزيات قال : حدّثنا داود ابو سليمان ، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن معمّر بن حزم الأنصاري ، عن أنس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «المولود حتى يبلغ الحنث ما عمل من حسنة كتبت لوالديه ، فإن عمل سيئة لم تكتب عليه ، ولا على والديه ، فإذا بلغ الحنث وجرى عليه القلم ، أمر الله الملكين اللذين معه يحفظانه ويسدّدانه ، فإذا بلغ أربعين سنة في الإسلام آمنه الله سبحانه من البلايا الثلاث : من الجنون والجذام والبرص ، فإذا بلغ خمسين خفف الله حسابه ، فإذا بلغ ستين رزقه الله الإنابة إليه فيما يحب ، فإذا بلغ سبعين أحبه أهل السماء ، فإذا بلغ الثمانين كتب الله حسناته وتجاوز عن سيئاته ، فإذا بلغ تسعين غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، وشفّعه في أهل بيته ، وكان اسمه أسير الله في الأرض ، فإذا بلغ أرذل (الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً) ، كتب الله سبحانه له مثل ما كان يعمل في صحته من الخير ، وإن عمل سيئة لم تكتب عليه» [١٨٢] (١).

وقال الحسن ومجاهد وقتادة : يعني (ثُمَّ رَدَدْناهُ) الى النار. وقال أبو العالية : يعني إلى النار في شر صورة ، في صورة خنزير.

__________________

(١) تفسير ابن كثير : ٣ / ٢١٧. كنز العمال : ١٥ / ٧٦٦ ح ٤٣٠١١.

٢٤٠