الكشف والبيان - ج ١٠

أبو إسحاق أحمد [ الثّعلبي ]

الكشف والبيان - ج ١٠

المؤلف:

أبو إسحاق أحمد [ الثّعلبي ]


المحقق: أبي محمّد بن عاشور
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٤٤

سورة القيامة

مكيّة ، وهي ستمائة واثنان وخمسون حرفا ،

ومائة وتسع وتسعون كلمة ، وأربعون آية

أخبرني محمد بن القيم الفقيه قال : حدّثنا محمد بن يزيد المعدّل قال : حدّثنا أبو يحيى البزاز قال : حدّثنا محمد بن منصور قال : حدّثنا محمد بن عمران بن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال : حدّثني أبي عن مجاهد عن عبد الواحد عن الحجاج بن عبد الله عن أبي الخليل وعن علي ابن زيد وعطاء بن أبي ميمونة عن زرين حبش عن أبيّ بن كعب قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ سورة القيامة شهدت أنا وجبرائيل له يوم القيامة أنه كان مؤمنا بيوم القيامة وجاء ووجهه مسفر على وجوه الخلائق يوم القيامة» [٦٥] (١).

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ (١) وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (٢) أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ (٣) بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ (٤) بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ (٥) يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ (٦) فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ (٧) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (٨) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (٩) يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (١٠) كَلاَّ لا وَزَرَ (١١) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (١٢) يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ (١٣))

(لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ) قراءة العامة مقطوعة الألف مهموزة.

(وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ) مثلها ، وقرأ الحسن وعبد الرحمن الأعرج لأقسم بغير ألف موصله. (وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ) بالألف مقطوعة على معنى أنه أقسم باليوم ولم يقسم بالنفس ، ومثله روى القواس عن شبل عن ابن بكير ، والصحيح أنه قسم بهما جميعا ومعنى قوله (لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ) اختلفوا فيه فقال : بعضهم (لا) صلة أي أقسم بيوم القيامة وإليه ذهب سعيد بن جبير وقال أبو بكر بن عباس : هو تأكيد للقسم كقولك لا والله ، وقال الفراء في قوله (لا) : رد لكلام المشركين ثم ابتدأ القسم فقال (أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ) ، وقال : وكل يمين قبلها رد فلا بد من تقديم (لا) قبلها ليفرّق بين اليمين التي تكون جحدا واليمين التي تستأنف ، ألا ترى أنك تقول مبتدئا : والله إن الرسول لحق ، فإذا قلت : لا والله إن الرسول لحق ، فكأنك أكّدت قوما أنكروه.

__________________

(١) تفسير مجمع البيان : ١٠ / ١٩٠.

٨١

أخبرنا عقيل أن المعافى أخبرهم عن ابن جرير قال : حدّثنا أبو كريب قال : حدّثنا وكيع عن سفيان ومسعر عن زياد بن علاقة عن المغيرة بن شعبة قال : لا يقولون القيامة القيامة وإنما قيامة أحدهم موته ، وبه عن سفيان ومسعر عن أبي قيس قال : شهدت جنازة فيها علقمة فلما دفن قال : أما هذا فقد قامت قيامته.

(وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ) قال : سعيد بن جبير وعكرمة : تلوم على الخير والشر ولا تصبر على السراء والضراء. مجاهد : تندم على ما فات وتلوم عليه وتقول لو فعلت ولو لم أفعل.

قتادة : اللوامة : الفاجرة. ابن عباس : هي المذمومة ، وقال الفراء : ليس من نفس برّة ولا فاجرة إلّا وهي تلوم نفسها إن كانت عملت خيرا قالت : هلّا زدت ، وإن كانت عملت سوءا قالت : يا ليتني لم أفعل. الحسن : هي نفس المؤمن ، قال : إنّ المؤمن والله ما تراه إلّا يلوم نفسه ما أردت بكلامي ما أردت بأكلتي ما أردت بحديث نفسي وإنّ الفاجر يمضي قدما لا يحاسب نفسه ولا [يعاتبها] (١). مقاتل : هي نفس الكافر تلوم نفسها في الآخرة على ما فرطت في أمر الله في الدنيا ، وقيل : لومها قوله سبحانه : (يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي) (٢) و (يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ) (٣) أي في أمر الله. سهل : هي الإمارة بالسوء وهي قرينة الحرص والأمل.

أبو بكر الورّاق : النفس كافرة في وقت منافقه في وقت مرائية على الأحوال كلّها هي كافرة ؛ لأنها لا تألف الحق ، وهي منافقة لأنها لا تفي بالعهد ، وهي مرائية لأنها لا تحبّ أن تعمل عملا ولا تخطو خطوة إلّا لرؤية الخلق ، فمن كانت هذه صفاته فهي حقيقة بدوام الملامة لها.

(أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ) نزلت في عدي بن ربيعة بن أبي سلمة حليف بني زهرة ختن الأخنس ابن شريف حليف بني زهرة وكان النبي عليه‌السلام يقول : «اللهم اكفني جاري السوء» يعني عديا والأخنس [٦٦] (٤) وذلك أن عدي بن ربيعة أتى النبي عليه‌السلام فقال : يا محمد حدّثني عن يوم القيامة متى يكون ، وكيف يكون أمرها وحالها فأخبره النبي عليه‌السلام بذلك ، فقال : لو عاينت ذلك اليوم لم أصدّقك ولم أؤمن به ، أويجمع الله العظام؟ فأنزل الله سبحانه (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ) يعني الكافر.

(أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ) بعد تفريقها وبلائها فنجيبه ونبعثه بعد الموت ، يقال : إنّه ذكر

__________________

(١) في المخطوط : ولا يعاتبه.

(٢) سورة الفجر : ٢٤.

(٣) سورة الزمر : ٥٦.

(٤) تفسير القرطبي : ١٩ / ٩٣.

٨٢

العظام ، والمراد بها نفسه كلّها لأن العظام قالب الخلق ولن يستوي الخلق إلّا باستوائها ، وقيل : هو خارج على قول المنكر أو يجمع الله العظام كقول الآخر : (قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) (١).

ثم قال سبحانه : (بَلى قادِرِينَ) أي نقدر استقبال صرف إلى الحال ، قال الفراء : (قادِرِينَ) نصب على الخروج من (نَجْمَعَ) كأنك قلت في الكلام : أيحسب أن لن يقوى عليك ، (بَلى قادِرِينَ) على أقوى منك ، يريد بلى نقوى مقتدرين على أكثر من ذا (٢) ، وقرأ ابن أبي غيلة قادرون بالرفع ، أي بلى نحن قادرون ، ومجاز الآية : بلى نقدر على جمع عظامه وعلى ما هو أعظم من ذلك ، وهو : (عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ) أنامله فيجعل أصابع يديه ورجليه شيئا واحد كخف البعير ، أو كظلف الخنزير ، أو كحافر الحمار ، فلا يمكنه أن يعمل بها شيئا ولكنا فرقنا أصابعه حتى يأخذ بها ما شاء ، ويقبض إذا شاء ويبسط إذا شاء فحسّنا خلقه. هذا قول عامة المفسرين.

وقال القبيسي : ظن الكافر أن الله لا يبعث الموتى ولا يقدر على جمع العظام البالية ، فقال الله سبحانه : (بَلى قادِرِينَ) أن نعيد السلاميات على صغرها ونؤلف بينها حتى نسوي البنان ، ومن يقدر على هذا فهو على جمع كبار العظام أقدر! وهذا كرجل قلت له : أتراك تقدر على أن تؤلف من هذا الحنظل في خيط ويقول نعم وبين الخردل.

(بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ) يقول تعالى ذكره : ما يجهل ابن آدم أن ربّه قادر على جمع عظامه بعد الموت ، ولكنّه يريد أن يفجر أمامه ، أي يمضي قدما في معاصي الله راكبا رأسه لا ينزع عنها ولا يتوب ، هذا قول مجاهد والحسن وعكرمه والسدي ، وقال سعيد بن جبير : يقدم الذنب ويؤخر التوبة ، يقول : سوف أتوب حتى يأتيه الموت على شر أحواله وأسوأ أعماله ، وقال الضحاك : هو الأمل يأمل الإنسان يقول : أعيش وأصيب من الدنيا كذا وكذا ولا يذكر الموت ، وقال ابن عباس وابن زيد : يكذّب بما أمامه من البعث والحساب ، وقال ابن كيسان : يريد أن تأتيه الآخرة التي هي أمامه فيراها في دار الدنيا.

وأصل الفجور : الميل ، ومنه قيل للكافر والفاسق والكافر : فاجر ، لميلهم عن الحق ، وقال السدي أيضا : يعني ليظلم على قدر طاقته ، وقيل : يركب رأسه في هواه ويهتم حيث قادته نفسه.

(يَسْئَلُ أَيَّانَ) متى (يَوْمُ الْقِيامَةِ) فبيّن الله له ذلك فقال عزّ من قال : (فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ) قرأ أبو جعفر ونافع وابن أبي إسحاق : بَرَقَ بفتح الراء وغيرهم بالكسر.

__________________

(١) سورة يس : ٧٨.

(٢) تفسير الطبري : ٢٩ / ٢١٩.

٨٣

أخبرنا محمد بن نعيم قال : أخبرنا الحسن بن الحسين بن أيوب ، أخبرنا علي بن عبد العزيز قال : حدّثنا أبو عبيد قال : حدّثنا حجاج عن هارون قال : سألت أبا عمرو بن العلاء عنها فقال : (بَرِقَ) بالكسر يعني جار قال : وسألت عنها عبد الله بن أبي إسحاق فقال : بَرَقَ بالفتح ، وقال : إنّما برق الحنظل اليابس ، وبرق البصر قال : فذكرت ذلك لأبي عمرو فقال : إنما برق الحنظل والنار والبرق ، وأما البصر فبرق عند الموت ، قال : فأخبرت بذلك ابن أبي إسحاق فقال : أخذت قراءتي عن الأشياخ نصر بن عاصم وأصحابه فذكرت ذلك لأبي عمرو فقال : لكني لا آخذ عن نصر ولا عن أصحابه كأنه يقول أخذ عن أهل الحجاز فقال : قتادة ومقاتل : شخص البصر فلا يطرف مما يرى من العجائب مما كان يكذب به في الدنيا إنّه غير كائن ، وقال الفراء والخليل : (بَرِقَ) بالكسر فزع ، وأنشدا لبعض العرب :

فنفسك قانع ولا تتغي

وداو الكلوم ولا تبرق

أي لا تفزع من الجرح الذي بك.

قال ذو الرمّة :

ولو أن لقمان الحكيم تعرّضت

لعينيه ميّ سافرا كاد يبرق (١)

وبَرَقَ بفتح الراء : شقّ عينه وفتحها ، وأنشد أبو عبيدة :

لما أتاني ابن عمير راغبا

أعطيته عيسا صهابا فبرق (٢)

أي فتح عينه ، ويجوز أن يكون من البرق.

(وَخَسَفَ الْقَمَرُ) أظلم وذهب ضوءه ، قال ابن كيسان : ويحتمل أن يكون بمعنى غاب كقوله سبحانه (فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ) (٣) ، وقرأ [ابن أبي إسحاق وعيسى والأعرج] : وَخُسِفَ بالضم لقوله : (وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ) (٤) أسودين مكوّرين كأنهما ثوران عقيران ، وهي في قراءة عبد الله : وجمع بين الشمس والقمر ، وقيل : وجمع بينهما في ذهاب الضياء ، وقال عطاء بن يسار : يجمعان يوم القيامة ، ثم يقذفان في البحر ، فيكونان نار الله الكبرى ، وقال علي بن أبي طالب وابن عباس : يجعلان في نور الحجب.

(يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ) المهرب ، وقرأها العامة (الْمَفَرُّ) بفتح الفاء واختاره أبو عبيد وأبو حاتم قالا : لأنه مصدر ، وقرأ ابن عباس والحسن بكسر الفاء ، قال الكسائي : هما

__________________

(١) لسان العرب : ١٠ / ١٥.

(٢) الأبيات في تفسير القرطبي : ١٩ / ٩٦ مورد الآية.

(٣) سورة القصص : ٨١.

(٤) سورة القيامة : ٩.

٨٤

لغتان مثل مدب ومدب ومصح ومصح ، وقال الآخرون : بالفتح المصدر وبالكسر موضع الفرار مثل المطلع والمطلع.

(كَلَّا لا وَزَرَ) لا حصن ولا حرز ولا ملجأ ، قال السدي : لا جبل ، وكانوا إذا فزعوا نحوا إلى الجبل فتحصّنوا به فقال الله سبحانه : لا جبل يومئذ يمنعهم.

(إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ) أي مستقر الخلق وأعمالهم وكل شيء ، وقال مقاتل : المنتهى فلا يجد عنه مرحلا نظيره (وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى) وقال يمان : المصير والمرجع ، وهو قول ابن مسعود نظيره (إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى) (١) و (إِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) (٢) وقوله سبحانه (أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ) (٣).

(يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ) (٤) قال ابن مسعود وابن عباس : قدم قبل موته من عمل صالح أو طالح وما أخر بعد موته من سنة حسنة أو سيئة يعمل بها. عطية عن ابن عباس : (بِما قَدَّمَ) من المعصية (وَأَخَّرَ) من الطاعة. مجاهد : بأول عمل عمله وآخره. قتادة : (بِما قَدَّمَ) من طاعة الله (وَأَخَّرَ) من حقّ الله فضيّعه. ابن زيد : (بِما قَدَّمَ) من عمل من خير أو شر وما (أَخَّرَ) من العمل بطاعة الله فلم يعمل به.

عطاء : (بِما قَدَّمَ) في أول عمره وما (أَخَّرَ) في آخر عمره. زيد بن أسلم : (بِما قَدَّمَ) من أمواله لنفسه وما (أَخَّرَ) خلّف للورثة ، نظيره (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ) (٥).

سمعت أبا عبد الرحمن السلمي يقول : سمعت أبا سعيد بن أبي بكر بن أبي عثمان يقول : سمعت أبي يقول : سمعت أبا عثمان يقول : خمس مصائب في الذنب أعظم من الذنب :

أوّلها : خذلان الله لعبده حتى عصاه ولو عصمه ما عصاه.

والثانية : أن سلبه حلية أوليائه وكساه لباس أعدائه.

والثالثة : أن أغلق عليه أبواب رحمته وفتح عليه أبواب عقوبته.

والرابعة : نظر إليه وهو يعصيه.

والخامسة : وقوفه بين يديه يعرض عليه ما قدّم وأخّر من قبائحه.

فهؤلاء المصائب الخمس في الذنب أعظم من الذنب.

__________________

(١) سورة العلق : ٨.

(٢) سورة آل عمران : ٢٨.

(٣) سورة الشورى : ٥٣.

(٤) سورة القيامة : ١٣.

(٥) سورة الإنفطار : ٥.

٨٥

(بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (١٤) وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ (١٥) لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (١٦) إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (١٧) فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (١٨) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ (١٩) كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ (٢٠) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (٢١) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (٢٢) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (٢٣) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ (٢٤) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ (٢٥) كَلاَّ إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ (٢٦) وَقِيلَ مَنْ راقٍ (٢٧) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ (٢٨))

(بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ) قال عكرمة ومقاتل والكلبي : معناه بل الإنسان على نفسه من نفسه رقبا يرقبونه بعمله ويشهدون عليه به وهي : سمعه وبصره ويداه ورجلاه وجميع جوارحه وهذه رواية علي بن أبي طلحة عن ابن عباس.

قال القبسي : أقام جوارحه مقام نفسه لذلك رأت ويجوز أن يكون تأنيثه للإضافة إلى النفس كما تقول في الكلام : ذهبت بعض أصابعه ، و (بَصِيرَةٌ) مرفوعة بخبر حرف الصفة وهي قوله (عَلى نَفْسِهِ) ، ويحتمل أن يكون معناه بل الإنسان على نفسه ببصيرة ، ثم حذفت حرف الجر كقوله : (وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ) (١) أي لأولادكم ، ويصلح أن يكون نعتا لاسم مؤنث أي بل للإنسان على نفسه عين بصيرة وأنشد الفراء :

كأن على ذي العقل عينا بصيرة

بمقعده أو منظر هو ناظره

يحاذر حتّى يحسب الناس كلهم

من الخوف ولا تخفى عليه سرائره (٢)

قال أبو العالية وعطاء : بل الإنسان على نفسه شاهد ، وهي رواية العوفي عن ابن عباس ، والهاء في (بَصِيرَةٌ) للمبالغة ، وقال الأخفش : هي كقولك فلان عبرة وحجة ، ودليل هذا التأويل قول الله تعالى : (كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً) (٣) وقال ابن تغلب : البصيرة والبينة والشاهد والدليل واحد.

(وَلَوْ أَلْقى) عليه (مَعاذِيرَهُ) يعني أنه يشهد عليه الشاهد ولو أعتذر وجادل عن نفسه.

نظيره قوله سبحانه : (يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ) (٤) وقوله : (وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ) (٥) وهذا قول مجاهد وقتادة وسعيد بن جبير وابن زيد وأبو العالية وعطا. قال الفراء : ولو اعتذر

__________________

(١) سورة البقرة : ٢٣٣.

(٢) تفسير القرطبي : ١٩ / ١٠٠.

(٣) سورة الإسراء : ١٤.

(٤) سورة غافر : ٥١.

(٥) سورة المرسلات : ٣٦.

٨٦

فعليه من نفسه من يكذّب عذره. مقاتل : ولو أدلى بعذر أو حجة لم ينفعه ذلك.

ومعنى الإلقاء : القول نظيره : (فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ) (١) (وَأَلْقَوْا إِلَى اللهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ) (٢). الضحاك والسدي : يعني ولو أرخى الستور وأغلق الأبواب ، قال : وأهل اليمن يسمّون الستر المعذار ، وقال بعض أهل المعاني : المعاذير إحالة بعضهم على بعض.

(لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ) وذلك أن رسول الله عليه‌السلام كان لا يفتر من قراءة القرآن مخافة أن ينساه ، وكان إذا نزل عليه جبرائيل بالقرآن لم يفرغ جبرائيل من الآية حتى يقرأ رسول الله عليه‌السلام أولها ويحرك لسانه بها في نفسه مخافة أن ينساها فأنزل الله سبحانه (وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ) (٣) وأنزل (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى) (٤) وأنزل (لا تُحَرِّكْ بِهِ) أي بالوحي (لِسانَكَ) به أي تلاوته لتحفظه ولا تنساه (إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ) في صدرك حتى تحفظه (وَقُرْآنَهُ) وقراءته عليك حتى تعيه وقيل أراد بقوله : (وَقُرْآنَهُ) وجمعه في صدرك وهو مصدر كالرجحان والنقصان.

(فَإِذا قَرَأْناهُ) عليك (فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ) أي ما فيه من الأحكام (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ) بما فيه من الحدود والحلال والحرام. (كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ) قرأهما أهل المدينة والكوفة بالتاء وغيرهم بالياء أي يختارون الدنيا على العقبى نظيرها في سورة الإنسان (إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً) (٥).

(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ) يعني يوم القيامة (ناضِرَةٌ). قال ابن عباس : حسنة. قال الحسن : حسّنها الله بالنظر إلى ربها. مجاهد : مسرورة. ابن زيد : ناعمة. مقاتلان : بيض يعلوها النور. السدي : مضيئة. يمان : مسفرة. الفراء : مشرقة بالنعيم. الكسائي : بهجة. قال الفراء والأخفش : يقال نضر الله وجه فلان فلا يتنضر نضيرا فنضر وجهه ننضّر نضرة ونضارة قال الله سبحانه : (تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ) (٦) وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «نضّر الله امرءا سمع مقالتي فوعاها» [٦٧] (٧) ، ونظر في هذه الآية قوله سبحانه : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ) (٨).

(إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) وأكثر الناس تنظر إلى ربّها عيانا.

__________________

(١) سورة النحل : ٨٦.

(٢) سورة النحل : ٨٧.

(٣) سورة طه : ١١٤.

(٤) سورة الأعلى : ٦.

(٥) سورة الإنسان : ٢٧.

(٦) سورة المطفّفين : ٢٤.

(٧) مسند أحمد : ٤ / ٨٠.

(٨) سورة عبس : ٣٩.

٨٧

قال الحسين بن واقد : أخبرني يزيد بن عكرمة وإسماعيل بن أبي خالد وأشياخ من أهل الكوفة قالوا : تنظر إلى ربّها نظرا ، وقال الحسن : تنظر إلى الخالق وحق لها أن تنضر وهي تنظر إلى الخالق ، وقال عطية العوفي : ينظرون إلى الله لا تحيط أبصارهم به من عظمته وبصره يحيط بهم ، فذلك قوله سبحانه : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) (١) ودليل هذا التأويل ما أخبرنا الحسن بن فنجويه قال : حدّثنا ابن ماجة قال : حدّثنا أبو جعفر محمد بن مندة الأصفهاني قال : حدّثنا الحسين بن حفص قال : حدّثنا إسرائيل بن يونس عن ثوير بن أبي فاختة قال : سمعت ابن عمر يقول : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن أدنى أهل الجنة منزلة لمن ينظر إلى جنانه وزوجاته ونعيمه وخدمه وسرره مسيرة ألف عام ، وإن أكرمهم على الله لمن ينظر إلى وجهه تبارك وتعالى غدوة وعشية ثم قرأ رسول الله عليه‌السلام (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ)» [٦٨] (٢).

وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا أبو النفخ محمد بن الحسن الأزدي الموصلي قال : حدّثني أحمد بن عيسى بن السكين قال : حدّثنا أحمد بن محمد بن عمر بن يونس اليمامي قال : حدّثنا قال : أخبرنا رباح بن زيد الصنعاني قال : أخبرني ابن جريح قال : أخبرني زياد بن سعد أن أبا الزبير أخبره عن جابر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يتجلّى ربّنا عزوجل حتى ينظروا إلى وجهه فيخرّون له سجدا فيقول : ارفعوا رؤسكم فليس هذا بيوم عبادة» [٦٩] (٣).

وروى الحسن عن عمار بن ياسر قال : كان من دعاء النبي عليه‌السلام : «اللهم أسألك لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلّة» [٧٠] (٤) يعني أنّها تنتظر الثواب من ربّها ولا تراه من خلفه شيء.

قلت : وهذا تأويل مدخول ؛ لأنّ العرب إذا أرادت بالنظر الانتظار قالوا : نظرته ، كما قال الله سبحانه : (فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ) (٥) هل ينظرون إلّا نار الله؟ و (ما يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً) (٦) وإذا أردت به التفكّر والتدبير قالوا : نظرت فيه فأمّا إذا كان النظر مقرونا بذكر إلى وذكر الوجه فلا يكون إلّا بمعنى الرؤية والعيان.

(وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ) عابسة كالحة متغيّرة مسودة (تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ) قال مجاهد : داهية ، سعيد بن المسيب : قاصمة الظهر وأصلها الفقرة والفقار ، يقال : فقره إذا كسر فقاره ، كما يقال : رأسه إذا ضرب رأسه ، وقال قتادة : الفاقرة : الشرّ ، وقال ابن زيد : تعلم أنها

__________________

(١) سورة الأنعام : ١٠٣.

(٢) سنن الترمذي : ٤ / ٩٣.

(٣) تفسير القرطبي : ١٩ / ١٠٩.

(٤) السنن الكبرى : ١ / ٣٨٨.

(٥) سورة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ١٨.

(٦) سورة يس : ٤٩.

٨٨

ستدخل النار ، وقال أبو عبيدة : الفاقرة : الداهية يقال : عمل بها الفاقرة وأصلها الوسم على أنف البعير بحديدة أو بنار حتى يخلص إلى العظم ، وقال الكلبي : منكرة من العذاب وهي الحجاب.

(كَلَّا إِذا بَلَغَتِ) يعني النفس كناية عن غير مذكور (التَّراقِيَ) فيحشرج بها عند الموت ، والتراقي : العظام المكتنفة لثغرة النحر عن يمين وشمال ، وقال دريد بن الصمة :

وربّ عظيمة دافعت عنهم

وقد بلغت نفوسهم التراقي (١)

(وَقِيلَ) وقال من حضره (مَنْ راقٍ) هل من طبيب يرقيه ويداويه فيشفيه. قال قتادة : التمسوا له الأطباء فلم يغنوا عنه من قضاء شيئا.

أخبرني الحسين قال : حدّثنا السني أبو خليفة الفضل بن الحباب الجمحي قال : حدّثنا مسدّد بن مسرهد عن خالد بن عبد الله عن عطاء بن السائب عن أبي عبد الرحمن السلمي أنه كوى غلاما له فقلت أتكوى قال : نعم هوّدوا العرب.

أخبرنا ابن مسعود أن رسول الله عليه‌السلام قال : «إن الله سبحانه لم ينزل داء إلّا وقد أنزل معه دواء جهله من جهله وعلمه من علمه» [٧١] (٢) ، وقال سليمان التيمي ومقاتل بن سليمان : هذا من قول الملائكة يقول بعضهم لبعض من يرقى بروحه فيصعد بها ملائكة الرحمة وملائكة العذاب ، وهذه رواية أبي الجوزاء عن ابن عباس. قال أبو العالية : يختصم فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب أيّهم يترقّى بروحه.

(وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ) فراق ليس يشبهه فراق قد انقطع الرجاء عن التلاق.

أخبرنا الربيع بن محمد الخاتمي ومحمد بن عقيل الخزاعي قالا : أخبرنا علي بن محمد بن عقبة الشيباني قال : أخبرنا الخضر بن أبان القرشي قال : حدّثنا ابن ميثم بن هدية عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله عليه‌السلام : «إنّ العبد ليعالج كرب الموت وسكراته وإنّ مفاصله يسلّم بعضها على بعض يقول عليك السلام تفارقني وأفارقك إلى يوم القيامة» [٧٢] (٣).

(وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (٢٩) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ (٣٠) فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى (٣١) وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (٣٢) ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (٣٣) أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (٣٤) ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (٣٥) أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً (٣٦) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى (٣٧) ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (٣٨) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٣٩) أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى (٤٠))

__________________

(١) بلاغات النساء : ١٩٧ ، تفسير القرطبي : ١٩ / ١١١.

(٢) مسند أحمد : ١ / ٤٤٦.

(٣) كنز العمال : ١٥ / ٥٦٣ ح ٤٢١٨٣.

٨٩

(وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ) قال الربيع بن أنس : الدنيا بالآخرة ، وهي رواية أبي الجوزاء وعطية عن ابن عباس ، ورواية عوف ومنصور عن الحسن ، وروى الوالي وبادان عن ابن عباس قال : أمر الدنيا بأمر الآخرة ، فكان في آخر يوم من أيام الدنيا ، وأول يوم من أيام الآخرة ، وهي رواية ابن أبي نجيح عن مجاهد وقال : إسماعيل ابن أبي خالد : عمل الدنيا بعمل الآخرة ، وقال الضحاك : الناس يجهزون جسده والملائكة يجهزون روحه ، وروى سفيان عن رجل عن الحسن عن مجاهد قالا : اجتمع فيه الحياة والموت. قتادة : الشدّة بالشدّة. بشر بن المهاجر عن الحسن قال : هما ساقاك إذا لفّتا في الكفن ، وإليه ذهب سعيد بن المسيّب.

وأخبرنا عبد الله بن حامد قال : أخبرنا أبو محمد المزني قال : حدّثنا مطين قال : حدّثنا نصر بن علي فقال : حدّثنا خالد بن قيس عن قتادة عن الحسن قال : ماتت رجلاه ولم تحملاه وكان عليهما جوّالا ، وروى شعبة عن قتادة قال : أمر أتاه إذا ضرب برجله الأخرى. أبو مالك : يلبسهما عند الموت. عكرمة : خروج من الدنيا إلى الآخرة. أبو يحيى عن مجاهد : بلاء ببلاء.

القرطبي : الأمر بالأمر. زيد بن أسلم : ساق الكفن بساق الميت. سعيد بن جبير : تتابعت عليه الشدائد. السدي : لا يخرج من كرب إلّا جاءه أشدّ منه ، والعرب لا تذكر الساق إلّا في المحن والشدائد ، ومنه مثلهم السائر : (لا يرسل الساق إلّا ممسكا ساقا) ، وقال أميّه بن أبي الصّلت :

وقد أرقت لهمّ بات يطرقني

والنفس ذات حزازات وطرّاق

مستجذ بالقراة حين

آرقني ليل التمام أقاسيه على ساق

أي على تعب وشدة.

وقال ابن عطاء : اجتمع عليه شدّة مفارقة الوطن من الدنيا والأهل والولد وشدّة القدوم على ربّه لا يدري بما ذا يقدم عليه لذلك قال عثمان بن عفان : ما رأيت منظرا إلّا والقبر أفضع منه ؛ لأنّه آخر منازل الدنيا وأول منازل الآخرة ، وقال يحيى بن معاذ : إذا دخل الميت القبر قام على شفير قبره أربعة أملاك واحد عند رأسه والثاني عند رجليه والثالث عن يمينه والرابع عن يساره ، فيقول الذي عند رأسه : يا ابن آدم انفضّت الآجال وانقطعت الآمال ، ويقول الذي عن يمينه : ذهبت الأموال وبقيت الأعمال ، ويقول الذي عن يساره : ذهب الأشغال وبقي الوبال ، ويقول الذي عند الأموال وبقيت الأعمال ، ويقول الذي عن يساره : ذهب الأشغال وبقي الوبال ، ويقول الذي عند رجليه : طوبى لك من كسبك إن كان كسبك من الحلال وكنت مشتغلا بخدمة ذي الجلال.

(إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ) المنتهى والمرجع تسوق الملائكة روحه حيث أمرهم الله سبحانه وتعالى. (فَلا صَدَّقَ) يعني أبا جهل (وَلا صَلَّى * وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى * ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى) يتبختر ، قال زيد بن أسلم : هي مشية بني مخزوم وأصله من المطا وهو الظهر أي يلوي مطاه تبخترا ، وقيل : أصله يتمطط أي يتمدد ، والمط هو المد فجعلت أحدى الطاءات يا ، وقد مضت هذه المسألة وتمطى الإنسان إذا قام من منامه فتمدّد.

٩٠

أخبرني الحسين قال : حدّثنا أحمد بن محمد بن علي بن الحسين الهمداني قال : حدّثنا محمد بن علي بن مخلد الفرقدي قال : حدّثنا سليمان بن داود الشاذكوني قال : حدّثنا سفيان بن عتبة عن يحيى بن سعيد الأنصاري سمع شيخا قديما يقال له بجنس مولى الزبير يقول : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا مشت أمتي المطيطاء وخدمتهم الروم وفارس سلط بعضهم على بعض» [٧٣] (١) قال سفيان : فأخبرت بهذا الحديث ابن أبي نجيح فقال هل تدرون ما المطيطاء؟ هو مثل قوله سبحانه : (ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى) يتبختر.

(أَوْلى لَكَ فَأَوْلى * ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى) هذا وعيد من الله سبحانه على وعيد أبي جهل وهي كلمة موضوعة للتهدّد والوعيد قالت الخنساء :

هممت بنفسي كل الهموم

فأولى لنفسي أولى لها (٢)

وأنشدني أبو القيّم السدوسي قال : أنشدني أبو محمد عبد الله بن محمد البلوي الأدبي قال : أنشدنا أحمد بن يحيى بن تغلب :

يا أوس لو نالتك أرماحنا

كنت كمن تهوى به الهاوية (٣)

القيتا عيناك عند القفا

أولى فأولى لك ذا واقيه

وقال بعض العلماء : معناه أنك أجدر بهذا العذاب وأحقّ وأولى ، يقال للرجل يصيبه مكروه يستوجبه ، وقيل : هو كلمة يقولها العرب لمن قاربه المكروه وأصلها من الولي وهو القرب ، قال الله سبحانه : (قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ) (٤) ويقال ثمّ الذي يليه أي يقرب منه. قال الشاعر :

فصالوا صولة فيمن يليهم

وصلنا صولة فيمن يلينا (٥)

وقال آخر :

هجرت غضوب وحب من يتجنّب

وعدت عواد دون وليك تشعب (٦)

وحكى لنا الأستاذ أبو القيم الحلبي أنه سمع أبا الهيثم الجمي وكان عارفا بالمعاني يقول حاكيا عن بعض العلماء : أن قوله (أَوْلى) من المقلوب مجازه : أويل من الويل ، كما يقال : ما أطيبه وأيطبه وعاقني وعقاني وأيم وأيامي وأصله أيايم وقوس وقسي وأصله قؤوس ، ومعنى الآية

__________________

(١) المعجم الأوسط : ١ / ٤٨.

(٢) لسان العرب : ١٥ / ٤١٢.

(٣) تاج العروس : ١ / ١٦٥ ، وهو لعمر بن ملقط الطائي.

(٤) سورة التوبة : ١٢٣.

(٥) تاريخ دمشق : ١٠ / ١٤٣.

(٦) لسان العرب : ١ / ٢٩٢.

٩١

كأنه يقول لأبي جهل : الويل لك يوم تموت ، والويل لك يوم تبعث ، والويل لك يوم تدخل النار وتخلد فيها.

وقال قتادة : ذكر لنا أن النبي عليه‌السلام لمّا نزلت هذه الآية أخذ بمجامع ثوب أبي جهل بالبطحاء وقال له : (أَوْلى لَكَ فَأَوْلى * ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى) فقال أبو جهل : أتوعدني يا محمد والله ما تستطيع أنت ولا ربّك أن تفعلا بي شيئا وأني لأعزّ من مشى بين جبليها ، فلمّا كان يوم بدر أشرف عليهم وقال : لا نعبد الله بعد اليوم (١) ، فصرعه الله شرّ مصرع ، وقتله أسوأ قتلة ، أقعصه ابنا عفراء وأجهز عليه ابن مسعود (٢) ، قال : وذكر لنا أن أبا جهل كان يقول : لو علمت أن محمدا رسول الله ما أتبعت غلاما من قريش قال : وذكر لنا أن نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقول : «إنّ لكل أمّة فرعونا وأن فرعون هذه الأمة أبو جهل» [٧٤] (٣).

(أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً) هملا لا يؤمر ولا ينهى يقال : أسديت حاجتي أي ضيّعتها ، وأبل سدى ترعى حيث شاءت بلا راع. (أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى) قرأ الحسن وابن محيص وأبو عمرو ويعقوب وسلام بالياء وهي رواية المفضل وحفص عن عاصم واختيار أبي عبيد لأجل المنى ، وقرأ الباقون بالتاء لأجل النطفة وهو اختيار أبي حاتم.

(ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى) خلقه (فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى * أَلَيْسَ ذلِكَ) الذي فعل هذا (بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى).

أخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا القطيعي قال : حدّثنا الكندي قال : حدّثنا سعيد بن بنان الصفار قال : حدّثنا شعبة قال : حدّثني يونس الطويل جليس لأبي إسحاق الهمداني عن البراء بن عازب قال : لما نزلت هذه الآية (أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى) قال رسول الله عليه‌السلام : «سبحانك وبلى» [٧٥] (٤).

وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا محمد بن إبراهيم الربيعي قال : حدّثنا إبراهيم بن عبد الله ابن أيوب المخزومي قال : حدّثنا صالح بن مالك قال : حدّثنا أبو نوفل علي بن سليمان قال : حدّثنا أبو إسحاق السبيعي عن سعيد بن جبير عن عبد الله بن عباس قال : من قرأ (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) (٥) إماما كان أو غيره فليقل : سبحان ربي الأعلى ، ومن قرأ : (لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ) فإذا انتهى إلى آخرها فليقل : سبحانك اللهم بلى (٦) ، إماما كان أو غيره.

__________________

(١) تفسير الطبري : ١٠ / ٢٩ ح ١٢٥٧٥ وفيه زيادة ... قسوة وعتوا.

(٢) تفسير الطبري : ٩ / ٢٧٥.

(٣) تفسير الدر المنثور : ٦ / ٢٩٦ مورد الآية.

(٤) جامع البيان للطبري : ٢٩ / ٢٥٠.

(٥) سورة الأعلى : ١.

(٦) كذا في المخطوط وتفسير القرطبي (١٩ / ١١٧) وبهامشه عن نسخة : سبحانك اللهم وبحمدك.

٩٢

سورة الإنسان (الدهر)

مكية ، وهي ألف وأربع مائة وخمسون حرفا ،

ومائتان وأربعون كلمة ، وإحدى وثلاثون آية

أخبرني نافل بن راقم قال : حدّثنا محمد بن شادة قال : حدّثنا أحمد بن الحسن قال : حدّثنا محمد بن يحيى قال : حدّثنا مسلم بن قتيبة عن شعبة عن عاصم عن زرّ عن أبيّ بن كعب قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ سورة هل أتى كان جزاؤه على الله (جَنَّةً وَحَرِيراً)» [٧٦] (١).

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً (١) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً (٢) إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (٣) إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالاً وَسَعِيراً (٤) إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً (٥) عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً (٦))

(هَلْ أَتى) قد أتى (عَلَى الْإِنْسانِ) آدم عليه‌السلام ، وهو أول من سمّي به (حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ) أربعون سنة ملقى بين مكة والطائف قبل أن ينفخ الروح فيه (لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً) لا يذكر ولا يعرف ولا يدري ما اسمه ولا ما يراد به ، وروى أن عمر سمع رجلا يقول (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً) فقال عمر : ليتها تمت ، وقال عون بن عبد الله : قرأ رجل عند ابن مسعود الآية فقال : إلّا ليت ذلك.

(إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ) يعني ولد آدم (مِنْ نُطْفَةٍ) يعني من منيّ الرجل ومنيّ المرأة ، وكل ماء قليل في وعاء فهو نطفة ، كقول عبد الله بن رواحة : هل أنت إلّا نطفة ، وجمعها نطاف ونطف ، وأصلها من نطف إذا قطر. (أَمْشاجٍ) أخلاط ، واحدها مشج مشيج مثل حذن وحذين قال رؤبة :

يطرحن كلّ معجّل نسّاج

لم يكس جلدا في دم أمشاج (٢)

__________________

(١) تفسير مجمع البيان : ١٠ / ٢٠٦.

(٢) جامع البيان للطبري : ٢٩ / ٢٥٢.

٩٣

ويقال مشجت هذا بهذا أي خلطته فهو ممشوج ومشج ، مثل مخلوط وخليط ، قال أبو دوم :

كأن الريش والفوقين منه

خلاف النصل سبطيه مشيج

قال ابن عباس والحسن وعكرمة ومجاهد والربيع : يعني ماء الرجل وماء المرأة يختلطان في الرحم فيكون منهما جميعا الولد ، وماء الرجل أبيض غليظ وماء المرأة أصفر رقيق ، فأيهما علا صاحبه كان الشبه له ، وقال قتادة : هي أطوار الخلق : نطفة ، ثم علقة ، ثم مضغة ، ثم لحما ثم عظاما ثم يكسوه لحما ثم ينشئه خلقا آخر.

وقال الضحاك : أراد اختلاف ألوان النطفة نطفة ، الرجل بيضاء وحمراء ونطفة المرأة خضراء وحمراء فهي مختلفة الألوان ، وهي رواية الوالي عن ابن عباس وابن أبي نجح عن مجاهد ، وكذلك قال عطاء الخراساني والكلبي : الأمشاج الحمرة في البياض والبياض في الحمرة أو الصفرة.

وقال عبد الله بن مسعود وأسامة بن زيد : هي العروق التي تكون في النطفة ، وروى ابن جريح عن عطاء قال : الأمشاج الهن الذي كأنه عقب ، وقال الحسن : نعم والله خلقت من نطفة مشجت بدم وهو دم الحيضة فإذا حبلت أرفع الحيض ، وقال يمان : كل لونين اختلطا فهما أمشاج ، وقال ابن السكيت : الأمشاج : الأخلاط ، لأنها ممتزجة من أنواع فخلق الإنسان ذا طبائع مختلفة ، وقال أهل المعاني : بناء الأمشاج بناء جمع وهو في معنى الواحد لأنه نعت النطفة وهذا كما يقال : برمة أعشار وثوب أخلاق ونحوهما (١).

وسمعت أبا عبد الرحمن السلمي يقول : سمعت أبا عثمان المغربي يقول : سئلت وأنا بمكّة عن قول الله سبحانه : (أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ) فقلت ابتلى الله الخلق تسعة أمشاج : ثلاث مفتنات وثلاث كافرات وثلاث مؤمنات ، فأما الثلاث المفتنات فسمعه وبصره ولسانه ، وأما الثلاث الكافرات فنفسه وهواه وشيطانه ، وأما الثلاث المؤمنات فعقله وروحه وملكه ، فإذا أيّد الله العبد بالمعونة فقرّ العقل على القلب فملكه واستأسرت النفس والهوى فلم يجد إلى الحركة سبيلا ، فجانست النفس الروح وجانس الهوى العقل وصارت كلمة الله هي العليا : (قاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ) (٢).

(نَبْتَلِيهِ) نختبره بالأمر والنهي وقال بعض أهل العربية : هي مقدمة معناها التأخير مجازها : (فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً) لنبتليه ؛ لأن الابتلاء لا يقع إلّا بعد تمام الخلقة. (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ)

__________________

(١) راجع لسان العرب : ٦ / ٣٣٩ ، وتاج العروس : ٤ / ٣٤٢.

(٢) سورة البقرة : ١٩٣.

٩٤

أي بيّنا له سبيل الحق والباطل والهدى والضلالة وعرّفناه طريق الخير والشرّ وهو كقوله (وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) (١). (إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) أما مؤمنا سعيدا وأما كافرا شقيّا يعني خلقناه أما كذا وأما كذا ، وقيل معنى الكلام : الجزاء ، يعني بيّنا له الطريق إن شكر وكفر ، وهو إختيار الفرّاء ، ثم بين الفريقين فقال عز من قال (إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ) كل سلسلة سبعون ذراعا.

(وَأَغْلالاً وَسَعِيراً) قرأ أبو جعفر وشيبة ونافع وعاصم عن حفص والأعمش والكسائي وأيوب كلهن : (سَلاسِلَ) بإثبات الألف في الوقف والتنوين في الأصل ، وهو اختيار أبي عبيد ، ورواية هشام عن أهل الشام ، ضده حمزة وخلف [وقنبل] ويعقوب برواية [....] (٢) وزيد ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو : (قَوارِيرَا) الأولى بالألف والثاني بغير ألف.

قال أبو عبيد : ورأيت في مصحف الإمام عثمان (قَوارِيرَا) الأولى بالألف مبنية والثانية كانت بالألف فحكّت ، ورأيت أثرها بيّنا هناك (٣).

(إِنَّ الْأَبْرارَ) يعني المؤمنين الصادقين في إيمانهم المطيعين لربّهم ، وقال الحسن : هم الذين لا يؤذون الذر ولا ينصبون الشرّ ، وأحدهم بار ، مثل شاهد وأشهاد وناصر وأنصار وصاحب وأصحاب ويراد بها مثل نهر وأنهار وضرب وأضراب.

(يَشْرَبُونَ) في الآخرة (مِنْ كَأْسٍ) خمر (كانَ مِزاجُها كافُوراً) قال قتادة : يمزج لهم بالكافور ويختم لهم بالمسك ، وقال عكرمة : مزاجها طعمها ، وقال أهل المعاني : أراد كالكافور في بياضه وطيب ريحه وبرده ، لأن الكافور لا يشرب ، وهو كقوله (حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً) (٤) أي كنار ، وقال ابن كيسان : طيّبت بالكافور والمسك والزنجبيل ، وقال الفرّاء : ويقال : إنّ الكافور اسم لعين ماء في الجنة ، وفي مصحف عبد الله من كأس صفراء كان مزاجها قافورا والقاف والكاف يتعاقبان ؛ لأنّهما لهويتان ، وقال الواسطي : لمّا اختلفت أحوالهم في الدنيا اختلفت أشربتهم في الآخرة فكأس الكافور برّدت الدنيا في صدورهم.

(عَيْناً) نصب لأنها تابعة للكافور كالمفسر له وقال الكسائي : على الحال والقطع ، وقيل : يشربون عينا ، وقيل من عين ، وقيل : أعني عينا ، وقيل : على المدح وهي لهذه الوجوه كلّها محتملة.

(يَشْرَبُ بِها) أي شربها والباء صلة وقيل منها. (عِبادُ اللهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً) أي يقودونها حيث شاءوا من منازلهم وقصورهم كما يفجر الرجل منكم النهر يكون له في الدنيا هاهنا وهاهنا إلى حيث يريد.

__________________

(١) سورة البلد : ١٠.

(٢) بياض بالمخطوط.

(٣) تفسير القرطبي مفصلا : ١٩ / ١٢٣.

(٤) سورة الكهف : ٩٦.

٩٥

(يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً (٧) وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً (٨) إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً (٩) إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً (١٠) فَوَقاهُمُ اللهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً (١١) وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً (١٢) مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً (١٣))

(يُوفُونَ بِالنَّذْرِ) قال قتادة : بما فرض الله سبحانه عليهم من الصلاة والزكاة والحج والعمرة وغيرها من الواجبات ، وقال مجاهد وعكرمة : يعني إذا بدروا في طاعة الله وفوا به.

(وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً) ممتدا قاسيا يقال استطار الصدع في الزجاجة واستطال إذا امتد ، ومنه قول الأعشى :

وبانت وقد أسأرت في الفؤاد

صدعا على نأيها مستطيرا (١)

(وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ) قال ابن عباس : على قلّته وحسبهم إياه وشهوتهم له ، وقال الداري : على حبّ الله ، وقال الحسين بن الفضل : على حبّ إطعام الطعام. (مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً) وهو الحربي يؤخذ قهرا أو المسلم يحبس بحق. قال قتادة : بعد أمر الله بالأسراء أن يحسن إليهم ، وأنّ أسراءهم يومئذ لأهل الشرك فأخوك المسلم أحقّ أن تطعمه ، وقال مجاهد وسعيد بن جبير وعطا : هو المسجون من أهل القبلة.

أخبرني الحسن قال : حدّثنا موسى بن محمد بن علي بن عبد الله قال : حدّثنا عبد الله بن محمد بن ناجية قال : حدّثنا عباد بن أحمد العرزمي قال : حدّثنا عمي عن أبيه عن عمرو بن قيس عن عطية عن أبي سعيد الخدري عن النبي عليه‌السلام (وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً) قال : «فقيرا» (وَيَتِيماً) قال : «لا أب له» (وَأَسِيراً) قال : «المملوك والمسجون» ، وقال أبو حمزة الثمالي : الأسير المرأة ، ودليل هذا التأويل قول النبي عليه‌السلام : «استوصوا بالنساء خيرا فإنّهن عندكم عوان» [٧٧] (٢).

(إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً) فيه وجهان : أحدهما أن يكون جمع الشكر كالفلوس بجمع الفلس ، والكفور بجمع الكفر ، والآخران يكون بمعنى المصدر كالفعول والدخول والخروج.

قال مجاهد وسعيد بن جبير : أمّا أنهم ما تكلموا به ، ولكن علمه الله من قلوبهم فأثنى عليهم ليرغب في ذلك راغب.

(إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً) في يوم (عَبُوساً) تعبس فيه الوجوه من شدّته وكثرة مكارهه

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١٩ / ١٢٨.

(٢) سنن ابن ماجة : ١ / ٥٩٤.

٩٦

فنسب العبوس إلى اليوم كما يقال : يوم صائم وليل نائم ، وقال ابن عباس : يعبس الكافر يومئذ حتى يسيل من بين عينيه عرق مثل القطران ، وقيل : وصف اليوم بالعبوس لما فيه من الشدّة والهول كالرجل الكالح البائس.

(قَمْطَرِيراً) روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال : العبوس : الضيق ، والقمطرير : الطويل. الكلبي : العبوس : الذي لا انبساط فيه والقمطرير : الشديد. وقال قتادة ومجاهد ومقاتل : القمطرير : الذي يقلّص الوجوه ويقبض الحياة وما بين الأعين من شدته. قال الأخفش :

القمطرير أشدّ ما يكون من الأيام وأطوله في البلاء يقال : يوم قمطرير وقماطر إذا كان شديدا لكربها. قال الشاعر :

ففرّوا إذا ما الحرب ثار غبارها

ولج بها اليوم العبوس القماطر (١)

وأنشد الفرّاء :

بني عمّنا هل تذكرون بلانا

عليكم إذا ما كان يوم قماطر (٢)

وقال الكسائي : اقمطرّ القوم وازمهرّ اقمطرارا وازمهرارا وهو الزمهرير والقمطرير ، ويوم مقمطر إذا كان صعبا شديدا. قال الهذلي :

بنو الحرب أرضعنا لهم مقمطرة

فمن تلق منا ذلك اليوم يهرب (٣)

(فَوَقاهُمُ اللهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ) الذي يخافون (وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً) في وجوههم (وَسُرُوراً) في قلوبهم (وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا) على طاعة الله وعن معصيته ، وقال الضحاك : على الفقر.

القرطبي : على الصوم. عطاء : على الجوع.

وروي سعيد بن المسيب عن عمر قال : سئل رسول الله عليه‌السلام عن الصبر فقال : «الصبر أربعة أولها الصبر عند الصدمة الأولى والصبر على أداء الفرائض ، والصبر على اجتناب محارم الله ، والصبر على المصائب» [٧٨] (٤). (جَنَّةً وَحَرِيراً) قال الحسن : أدخلهم الجنة وألبسهم الحرير. (مُتَّكِئِينَ) نصب على الحال (فِيها) في الجنة (عَلَى الْأَرائِكِ) السرر في الحجال لا تكون أريكة إذا اجتمعا. قال الحسن : وهي لغة أهل اليمن كان الرجل العظيم منهم يتخذ أريكة فيقال : أريكه فلان.

وقال مقاتل : الأرائك : السرر في الحجال من الدر والياقوت موضونة بقضبان الذهب والفضة وألوان الجواهر. (لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً) أي شتاء ولا قيضا.

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١٩ / ١٣٥.

(٢) الصحاح : ٢ / ٧٩٧.

(٣) المصدر السابق ، وفي تاج العروس (٣ / ٥٠٧) رواه : بها مقمطرة ، فمن يلق يلق سيد مدرّب.

(٤) تفسير القرطبي : ١٩ / ١٣٦.

٩٧

قال قتادة : علم الله سبحانه أن شدّة الحر تؤذي وشدة القرّ تؤذي فوقّاهم الله أذاهما جميعا ، وقال مرة الهمداني : الزمهرير البرد القاطع. مقاتل بن حيّان : هو شي مثل رءوس الابر ينزل من السماء في غاية البرد. ابن سمعود : هو لون من العذاب وهو البرد الشديد.

وسمعت أبا القاسم الحبيبي يقول : سمعت أبا بكر أحمد بن عمران السوادي يقول : سمعت أبا العباس أحمد بن يحيى ثعلب وسئل عن قوله (لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً) قال الزمهرير القمر بلغة طيئ. قال شاعرهم :

وليلة ظلامها قد اعتكر

قطعتها والزمهرير ما زهر (١)

أي لم يطلع القمر.

واختلف العلماء في سبب نزول هذه الآيات فقال مقاتل : نزلت في رجل من الأنصار أطعم في يوم واحد مسكينا ويتيما وأسيرا وكانت قصته.

أخبرنا ابن فتجويه قال : حدّثنا محمد بن خلف بن حيّان قال : حدّثنا إسحاق بن محمد بن مروان قال : حدّثنا إبراهيم بن عيسى قال : حدّثنا على بن علي بن أبي حمزة الثمالي قال : بلغنا أن مسكينا أتى رسول الله عليه‌السلام فقال : يا رسول الله أطعمني فقال : «والذي نفسي بيده ما عندي ما أطعمك ولكن أطلب» فأتى رجلا من الأنصار وهو يتعشى وامرأته فقال له : أني أتيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقلت له : أطعمني فقال : ما عندي ما أطعمك ولكن أطلب ، فقال : الأنصاري لامرأته : ما ترين؟ فقالت : أطعمه وأسقه ثم أتى رسول الله عليه‌السلام يتيم فقال يا رسول الله أطعمني فقال : «ما عندي ما أطعمك ولكن أطلب» فأتى اليتيم الأنصاري الذي أتاه المسكين فقال له : أطعمني فقال لامرأته : ما ترين؟ قالت : أطعمه فأطعمه ، ثم أتى رسول الله عليه‌السلام أسير فقال : يا رسول الله أطعمني ، فقال : «والله ما معي ما أطعمك ولكن أطلب» [٧٩] (٢) فأتى الأسير الأنصاري فقال له : أطعمني ، فقال : لامرأته ما ترين فقالت : أطعمه ، وكان هذا كلّه في ساعة واحدة ، فأنزل الله سبحانه فيما صنع الأنصاري من إطعامه المسكين واليتيم والأسير (وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً).

وقال غيرهما : نزلت في علي بن أبي طالب وفاطمة وجارية لهما يقال لها فضة وكانت القصة فيه.

وأخبرنا الشيخ أبو محمد الحسن بن أحمد بن محمد بن علي الشيباني العدل قراءة عليه في صفر سنة سبع وثمانين وثلاثمائة قال : أخبرنا ابن الشرقي قال : حدّثنا محبوب بن حميد النصري

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١٩ / ١٣٨.

(٢) تفسير القرطبي : ١٩ / ١٣٠.

٩٨

قال : حدّثنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب الخوار ابن عم اللأحنف بن قيس سنة ثمان وخمسين ومائتين وسأله عن هذا الحديث روح بن عبادة قال : حدّثنا القيم بن مهرام عن ليث عن مجاهد عن ابن عباس وأخبرنا عبد الله بن حامد قال : أخبرنا أبو محمد أحمد بن عبد الله المزني قال : حدّثنا أبو الحسن محمد بن أحمد بن سهيل بن علي بن مهران الباهلي بالبصرة قال : حدّثنا أبو مسعود عبد الرحمن بن فهد بن هلال قال : حدّثنا الغنيم بن يحيى عن أبي علي القيري عن محمد بن السائر عن أبي صالح عن ابن عباس قال : أبو الحسن بن مهران وحدّثني محمد بن زكريا البصري قال : حدّثني سعيد بن واقد المزني قال : حدّثنا القاسم بن بهرام عن ليث عن مجاهد عن ابن عباس في قول الله سبحانه وتعالى (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً) قال : مرض الحسن والحسين فعادهما جدّهما محمد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومعه أبو بكر وعمر رضي‌الله‌عنهما وعادهما عامّة العرب فقالوا : يا أبا الحسن لو نذرت على ولديك نذرا وكل نذر لا يكون له وفاء فليس بشيء.

فقال علي رضي‌الله‌عنه : إن برأ ولداي مما بهما صمت ثلاثة أيام شكرا ، وقالت فاطمة رضي‌الله‌عنها : إن برأ ولداي مما بهما صمت لله ثلاثة أيام شكرا ما لبس الغلامان العافية ، وليس عند آل محمد قليل ولا كثير ، فانطلق علي رضي‌الله‌عنه إلى شمعون بن جابا الخيبري ، وكان يهوديا فاستقرض منه ثلاثة أصوع من شعير ، وفي حديث المزني عن ابن مهران الباهلي فانطلق إلى جار له من اليهود يعالج الصوف يقال له : شمعون بن جابا ، فقال : هل لك أن تعطيني جزّة من الصوف تغزلها لك بنت محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بثلاثة أصوع من الشعير قال : نعم ، فأعطاه فجاء بالسوق والشعير فأخبر فاطمة بذلك فقبلت وأطاعت قالوا : فقامت فاطمة رضي‌الله‌عنها إلى صاع فطحنته واختبزت منه خمسة أقراص لكل واحد منهم قرصا وصلى علي مع النبي عليه‌السلام المغرب ، ثم أتى المنزل فوضع الطعام بين يديه إذ أتاهم مسكين فوقف بالباب فقال : السلام عليكم أهل بيت محمد ، مسكين من مساكين المسلمين ، أطعموني أطعمكم من موائد الجنة ، فسمعه علي رضي‌الله‌عنه فأنشأ يقول :

فاطم ذات المجد واليقين

يا ابنة خير الناس أجمعين

أما ترين البائس المسكين

قد قام بالباب له حنين

يشكوا إلى الله ويستكين

يشكوا إلينا جائع حزين

كل امرء بكسبه رهين

وفاعل الخيرات يستبين

موعدنا جنة عليين

حرمها الله على الضنين

وللبخيل موقف مهين

تهوى به النار إلى سجين

شرابه الحميم والغسلين

من يفعل الخير يقم سمين

ويدخل الجنة أي حين

٩٩

فأنشأت فاطمة :

أمرك عندي يا ابن عمّ طاعة

ما بي من لؤم ولا وضاعه

غذيت من خبز له صناعة

أطعمه ولا أبالي الساعة

أرجو إذا أشبعت ذا المجاعة

أن ألحق الأخيار والجماعه

وأدخل الخلد ولي شفاعه (١)

قال : فأعطوه الطعام ومكثوا يومهم وليلتهم لم يذوقوا شيئا إلّا الماء القراح ، فلمّا كان اليوم الثاني قامت فاطمة إلى صاع فطحنته فاختبزته وصلّى علي مع النبي عليه‌السلام ، ثم أتى المنزل فوضع الطعام بين يديه فأتاهم يتيم فوقف بالباب فقال : السلام عليكم أهل بيت محمد ، يتيم من أولاد المهاجرين ، استشهد والدي يوم العقبة ، أطعموني أطعمكم الله على موائد الجنة فسمعه علي رضي‌الله‌عنه فأخذ يقول :

فاطم بنت السيد الكريم

بنت نبي ليس بالزنيم

لقد أتى الله بذي اليتيم

من يرحم اليوم يكن رحيم

موعده في جنّة النعيم

قد حرّم الخلد على اللئيم

ألا يجوز الصراط المستقيم

يزل في النار إلى الجحيم (٢)

فأنشأت فاطمة :

أطعمه اليوم ولا أبالي

وأوثر الله على عيالي

أمسوا جياعا وهم أشبالي

أصغرهم يقتل في القتال

بكربلا يقتل باغتيال

للقاتل الويل مع الوبال

تهوى به النار إلى سفال

وفي يديه الغل والأغلال

كبوله زادت على الأكبال

. قال : فأعطوه الطعام ومكثوا يومين وليلتين لم يذوقوا شيئا إلّا الماء القراح ، فلمّا كان في اليوم الثالث قامت فاطمة رضي‌الله‌عنها إلى الصاع الباقي فطحنته واختبزته وصلى علي مع النبي عليه‌السلام ثم أتى المنزل فوضع الطعام بين يديه إذ أتاهم أسير فوقف بالباب فقال : السلام عليكم أهل بيت محمد ، تأسرونا [وتشدوننا] ولا تطعمونا ، أطعموني فإني أسير محمد أطعمكم الله على موائد الجنة ، فسمعه علي فأنشأ يقول :

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١٩ / ١٣٢.

(٢) تفسير القرطبي : ١٩ / ١٣٣.

١٠٠