الكشف والبيان - ج ١٠

أبو إسحاق أحمد [ الثّعلبي ]

الكشف والبيان - ج ١٠

المؤلف:

أبو إسحاق أحمد [ الثّعلبي ]


المحقق: أبي محمّد بن عاشور
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٤٤

يقال : إذا قام زيد قعد عمر ، وقال ابن عباس في قوله : (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ) إلى قوله : (عَلِمَتْ) : اثنتا عشرة خصلة ستة في الدنيا وستة في الآخرة.

(فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوارِ الْكُنَّسِ) قال قوم : هي النجوم الخمسة الذراري السيارة تخنس في مجارتها فترجع ورائها ويكنس في وقت اختفائها غروبها كما يكنس الظباء في مغارها ، وقال قتادة : هي النجوم تبدوا بالليل وتخفى بالنهار فلا ترى ودليل هذا التأويل ما روى شعبة عن سماك عن خالد بن عرعرة أن رجلا من مراد قال لعلي : ما الخنس (الْجَوارِ الْكُنَّسِ)؟ قال : هي الكواكب تخنس بالنهار فلا ترى وتكنس بالليل فتأوي إلى مجاريها ، وهي بهرام وزحل وعطارد والزهرة والمشتري ، قال ابن زيد : معنى الخنس : أنها تخنس أي تتأخر عن مطالعها كل سنة لها في كل عام تأخر يتأخره عن تعجيل ذلك الطلوع يخنس عنه والكنس يكنسن بالنهار فلا ترى.

وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن النواب قال : حدّثنا رضوان بن أحمد بن عبد الجبار قال : حدّثنا أبو معونة عن الأعمش عن إبراهيم عن عبد الله في قوله سبحانه : (الْجَوارِ الْكُنَّسِ) قال : هي بقر الوحش ، وإليه ذهب إبراهيم وجابر بن زيد وقال سعيد بن جبير : هي الظباء وهي رواية العوفي عن ابن عباس.

وأصل الخنس الرجوع إلى وراء ، والكنوس أن يأوي إلى مكانسها ، وهي المواضع التي يأوي إليها الوحش قال الأعشى :

فلما لحقنا الحي أتلع أنس

كما أتلعت تحت المكانس ربرب (١)

ويقال لها الكنائس أيضا ، قال طرفه بن العبد :

كأن كناسي ضالة يكنفانها

وأطرقسي تحت صلب مؤيد (٢)

وقال أوس بن حجر :

ألم تر أن الله أنزل مزنه

وعفر الظباء في الكناس تقمع (٣)

(وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ) قال الحسن : أقبل بظلامه ، وقال الآخرون : أدبر ، يقول العرب : عسعس الليل وسعسع إذا أدبر ولم يبق منه إلّا اليسير ، قال علقمة بن فرط :

حتى إذا الصبح لها تنفسا

وانجاب عنها ليلها وعسعسا (٤)

وقال رؤبة :

__________________

(١) جامع البيان للطبري : ٣٠ / ٩٦.

(٢) جامع البيان للطبري : ٣٠ / ٩٦.

(٣) المصدر السابق.

(٤) جامع البيان للطبري : ٣٠ / ٩٩.

١٤١

يا هند ما أسرع ما تسعسعا

من بعد أن كان فتى سرعرعا (١)

من بعد إن كان فتى سرعرعا.

(وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ) أقبل وأضاء وبدأ أوله وقيل : أمتد وارتفع. (إِنَّهُ) يعني القرآن (لَقَوْلُ) لتنزيل (رَسُولٍ كَرِيمٍ) وهو جبريل عليه‌السلام (ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطاعٍ ثَمَ) في السماء يطيعه الملائكة (أَمِينٍ) على الوحي (وَما صاحِبُكُمْ) محمد (بِمَجْنُونٍ وَلَقَدْ رَآهُ) يعني جبريل على صورته (بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ) وهو الأفق الأعلى من ناحية المشرق الذي يجيء منه النهار ، قاله مجاهد وقتادة.

أخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا مخلد قال : حدّثنا ابن علويه قال : حدّثنا إسماعيل قال :حدّثنا إسحاق بن بشر قال : حدّثنا ابن جريح عن عكرمة ، ومقاتل عن عكرمة عن ابن عباس قال :قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لجبريل : «إني أحبّ أن أراك في صورتك التي تكون فيها في السماء» قال : لن تقوى على ذلك ، قال : «بلى» قال : فأين تشاء أن أتخيل لك؟ قال : «بالأبطح» قال : لا يسعني قال : «فبمنى» قال : لا يسعني قال : «فبعرفات» [١٠١] (٢) قال : ذاك بالحرى أن يسعني ، فواعده فخرج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم للوقت ، فإذا هو بجبريل عليه‌السلام قد أقبل من جبال عرفات بخشخشه وكلكله قد ملأ ما بين المشرق والمغرب ورأسه في السماء ورجله في الأرض ، فلما رآه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خرّ مغشيا عليه فتحوّل جبريل في صورته فضمّه إلى صدره ، وقال : يا محمد لا تخف ، فكيف لو رأيت إسرافيل ورأسه من تحت العرش ورجلاه في النجوم السابعة ، وإن العرش لعلى كاهله ، وإنّه ليتضاءل أحيانا من مخافة الله عزوجل حتى يصير مثل الوضع ـ يعني العصفور ـ حتى ما يحمل عرش ربك إلّا عظمته.

(وَما هُوَ) يعني محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (عَلَى الْغَيْبِ) أي الوحي وخبر السماء وما اطّلع عليه من علم الغيب بظنين قرأ زيد بن ثابت والحسن وابن عمرو والأشهب وعاصم والأعمش وحمزة وأهل المدينة والشام بالضاد ، وكذلك في حرف أبيّ بن كعب ومصحفه ، وهي قراءة ابن عباس برواية مجاهد واختيار أبي حاتم ومعناه : يبخل يقول : [يأتيه] علم الغيب وهو منقوش فيه فلا يبخل به عليكم بل يعلّمكم ويخبركم به ، يقول العرب : ضننت بالشيء بكسر النون أضن به ضنا وضنانة فأنا ضنين ، أي بخيل ، قال الشاعر :

أجود بمضنون التلاد وانني

بسرك عمن سالني لضنين (٣)

وقرأ الباقون بالظاء وكذلك هو في حرف ابن مسعود ومصحفه وهي قراءة عبد الله وعروة

__________________

(١) الصحاح : ٣ / ١٢٢٩.

(٢) تفسير القرطبي : ١٩ / ٢٤١.

(٣) شرح شافية ابن الحاجب ٢ : ٢٦٥ ، وفي الهامش.

١٤٢

ابني الزبير وعمر بن عبد العزيز وأبي عبد السلمي ورواية سعيد بن جبير عن ابن عباس ومعناه يتهمهم يقال : فلان يظن بمال ويزن بمال أي يتّهم به ، والظنّة : التهمة ، قال الشاعر :

أما وكتاب الله لا عن شناءة

هجرت ولكن الظنين ظنين (١)

واختار أبو عبيد هذه القراءة وقال : أنهم لم يبخّلوه فيحتاج أن ينفى عنه ذلك البخل ، وإنما كذّبوه واتهموه ، ولأنّ الأكثر من كلام العرب ما هو بظنين بكذا ولا يقولون على كذا إنّما يقولون : ما أنت على كذا بمتهم ، وقيل بظنين. بضعيف حكاه الفراء والمبرّد يقال : رجل ظنين أي ضعيف ، وبئر ضنون إذا كانت ضعيفة الماء ، قال الأعشى :

ما جعل الجد الظنون الذي

جنّب صوب اللجب الماطر

مثل الفراتي إذا ما طما

يقذف بالبوصي والماهر (٢)

(وَما هُوَ) يعني القرآن (بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ) يعني قال : أين تعدلون عن هذا القرآن ، وفيه الشفاء والبيان ، قال الكسائي : سمعت العرب تقول : انطلق به الغور ، وحكى الفراء عن العرب : ذهبت الشام وخرجت العراق وانطلقت السوق ، أي [...] (٣) قال سمعناه في هذه الأحرف الثلاثة وأنشدني بعض بني عقيل :

تصيح بنا حنيفة إذ رأتنا

وأي الأرض تذهب بالصياح (٤)

يريد إلى أي الأرض تذهب.

وقال الواسطي : (فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ) من ضعف إلى ضعف ارجعوا إلى فسحة الربوبيّة ليستقر بكم القرار ، وقال الجنيد : معنى هذه الآية مقرون بآية اخرى وهو قوله سبحانه وتعالى : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ) (٥) فأين يذهبون.

(إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ) أي يتبع الحق ويعمل به ويقيم عليه ثم قال : (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) أخبرنا أبو بكر بن عبدوس المزكى قال :أخبرنا أبو حامد بن بلال البزاز قال : حدّثنا أحمد بن يوسف السلمي قال : حدّثنا أبو مسهر قال :حدّثني سعيد عن سليمان بن موسى قال : لما أنزل الله سبحانه وتعالى (لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ)

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١٩ / ٢٤٢.

(٢) تفسير القرطبي : ١٩ / ٢٤٢ ، والجد : البئر ، والفراتي : نسبة للفرات ، والبوصي : ضرب من السفن ، والماهر : السابح.

(٣) بياض في المخطوط.

(٤) تفسير القرطبي : ١٩ / ٢٤٣.

(٥) سورة الحجر : ٢١.

١٤٣

قال أبو جهل بن هشام : ذاك إلينا إن شئنا استقمنا وإن شئنا لم نستقم ، فأنزل الله سبحانه (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ).

وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن شنبه قال : حدّثنا [الفرمي] (١) قال : حدّثني مالك بن سليمان قال : حدّثنا بقية عن عمر بن محمد عن زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي هريرة قال : لمّا أنزل الله سبحانه على رسوله : (لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ) قالوا : الأمر إلينا إن شئنا استقمنا وإن شئنا لم نستقم فأنزل الله سبحانه وتعالى : (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ).

وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا محمد بن عمر بن مهران قال : حدّثنا أبو مسلم الكنجي قال : حدّثنا جعفر بن جبير بن فرقد قال : سمعت رجلا سأل الحسن عن قول الله سبحانه وتعالى (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) فقال الحسن : والله ما شاءت العرب الإسلام حتى شاء الله لها.

وأخبرني الحسن قال : حدّثنا أحمد بن علي بن الحسين قال : حدّثنا علي بن أحمد بن بسطام قال : حدّثنا إبراهيم بن الحجاج الشامي قال : حدّثنا حماد بن سلمة قال : حدّثنا أبو سنان عن وهب بن منبّه قال : الكتب التي أنزلها الله سبحانه على الأنبياء بضع وتسعون كتابا قرأت منها بضعا وثمانين كتابا فوجدت فيها (من جعل لنفسه شيئا من المشيئة فقد كفر).

قال الواسطي : أعجزك في جميع أوصافك فلا تشاء إلّا مشيئته ولا تعمل إلّا بقوته ولا تطيع إلّا بفضله ولا تعصي. إلّا بخذلانه فماذا يبقى لك وماذا تفتخر من أفعالك وليس من فعلك شيء؟.

__________________

(١) هو أبو علي الفرمي نسبة (الفر) إلى مدينة على ساحل مصر (معجم البلدان)

١٤٤

سورة الإنفطار

مكيّة ، وهي تسع عشر آية ، وثمانون كلمة ،

وثلاثمائة وسبعة وعشرون حرفا

أخبرني محمد بن القاسم قال : أخبرنا محمد بن مطر قال : حدّثنا إبراهيم بن شريك قال : حدّثنا أحمد بن يونس قال : حدّثنا سلام بن سليم قال : حدّثنا هارون بن كثير عن زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي أمامة عن أبي بن كعب قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ (إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ) أعطاه الله سبحانه من الأجر بعدد كل قبر حسنة وبعدد كل قطرة ماء حسنة وأصلح الله له شأنه يوم القيامة» [١٠٢] (١).

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ (١) وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ (٢) وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ (٣) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (٤) عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (٥) يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (٦) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (٧) فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ (٨))

(إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ) انشقت (وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ) تساقطت (وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ) أي فجر بعضها في بعض عدنها في ملحها وملحها في عدنها فصارت بحرا واحدا ، وقال الحسن : ذهب ماؤها ، وقال الكلبي : مليت.

(وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ) بحثت ونثرت وأثيرت فاستخرج ما في الأرض من الكنوز ومن فيها من الموتى أحياء ، يقال : بعثرت الحوض وبحثرته إذا هدمته فجعلت أسفله أعلاه ، وهذا من أشراط الساعة أن تخرج الأرض أفلاذ كبدها من ذهبها وفضّتها وأموالها (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ) من عمل صالح أو طالح.

(وَأَخَّرَتْ) من سنّة حسنة أو سيئة ، وقال عكرمة : (ما قَدَّمَتْ) من الفرائض التي أدّتها (وَأَخَّرَتْ) من الفرائض التي ضيّعتها ، وقيل : (ما قَدَّمَتْ) من الأعمال (وَأَخَّرَتْ) من المظالم ، وقيل :

__________________

(١) تفسير مجمع البيان : ١٠ / ٢٨٣.

١٤٥

(ما قَدَّمَتْ) من الصدقات (وَأَخَّرَتْ) من التركات ، وقيل (ما قَدَّمَتْ) من الاسقاط والإفراط وما (أَخَّرَتْ) من الأولاد وهذا جواب إذا.

(يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ).

أخبرنا عبد الله الفتحوي قال : حدّثنا أبو علي المقرئ قال : حدّثنا أبو القاسم ابن الفضل المقرئ قال : حدّثنا علي بن الحسين قال : حدّثنا المقدّمي وعلي بن هاشم قالا : حدّثنا كثير بن هشام قال : حدّثنا جعفر بن برقان قال : حدّثني صالح بن مسمار قال : بلغني أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تلا هذه الآية : (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) قال : جهله ، وقال قتادة : غرّة شيطانه عدوه المسّلط عليه.

وحدّثني الحسن بن محمد بن الحسن قال : حدّثني أبي عن جدّي عن علي بن الحسن الهلالي عن إبراهيم بن الأشعث قال : قيل للفضيل بن عياض : لو أقامك الله سبحانه وتعالى يوم القيامة بين يديه فقال : (ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) ماذا كنت تقول؟ قال : أقول غرني ستورك المرخاة ، نظمه محمد ابن السماك فقال :

يا كاتم الذنب أما تستحي

الله في الخلوة ثانيكا

غرك من ربّك إمهاله

وستره طول مساويكا (١)

وقال : مقاتل : غرّه عفو الله حين لم يعجّل عليه بالعقوبة ، وتلا [نصر] بن مغلس هذه الآية فقال : غرّه رفق الله به.

وسمعت أبا القاسم الحلبي يقول : سمعت أبي يقول : سمعت علي بن محمد الورّاق يقول : سمعت يحيى بن معاذ يقول : لو أقامني الله سبحانه بين يديه فقال : ما غرّك بي؟ قلت : غرّني بك برّك بي سابقا وآنفا.

وسمعته يقول : أخبرنا عبد الله بن محمد بن صالح المغافري يقول : سمعت حماد بن بكر يحكي عن بعضهم أنه قال : لو سألني عن هذا ربي لقلت : غرّني حلمك ، وسمعته يقول : سمعت أبا إسحاق إبراهيم بن يزيد النسقي يقول : سمعت أبا عبد الله حسن أبي بكر الورّاق يقول : سمعت أبا بكر الورّاق يقول : لو قال لي (ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) لقلت : غرّني كرم الكريم.

قال أهل الإشارة : إنّما قال : (بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) دون سائر أسمائه وصفاته ؛ لأنه كان لفتة الإجابة حتى يقول : غرّني كرم الكريم ، قال منصور بن عمار لو قيل : ما غرّك بي؟ قلت : يا رب ما غرّني إلّا ما علمته من فضلك على عبادك وصفحك عنهم ، وروى أبو وائل عن ابن مسعود

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١٩ / ٢٤٦.

١٤٦

قال : ما منكم من أحد إلّا سيخلو الله سبحانه وتعالى به يوم القيامة فيقول : يا ابن آدم ما غرّك بي يا ابن آدم ماذا عملت فيما علمت يا ابن آدم ماذا أجبت المرسلين؟.

وسمعت أبا القاسم النيسابوري يقول : سمعت أبا عبد الله محمد بن عبيد الله الشامي وأبا الحسن محمد بن الحسين القاضي الجرجاني يقولان : سمعنا إبراهيم بن فاتك يقول : سمعت يوسف بن الحسين يقول : سمعت ذا النون المصري يقول : كم من مغرور تحت الستر وهو لا يشعر.

وأنشدني الحسن بن جعفر البابي يقول : أنشدني منصور بن عبد الله الأصفهاني يقول : أنشدنا أبو بكر بن طاهر الأبهري في هذا المعنى :

يا من غلا في الغنى والتيه

وغرّه طول تماديه

أملى لك الله فبارزته

ولم تخف غبّ معاصيه (١)

(الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ) قرأ أهل الكوفة بتخفيف الدال أي صرفك وأمالك إلى أي صورة شاء قبيحا أو جميلا وقصيرا أو طويلا ، وقرأ الباقون بالتشديد أي قوّمك وجعلك معتدل الخلق ، وهو اختيار الفراء وأبي عبيد لقوله سبحانه : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) (٢).

(فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ) قال مجاهد : في أي شبه أب أو أم أو خال أو عم.

وأنبأني عبد الله بن حامد قال : أخبرنا عبد الله بن عبد الرحمن العسكري قال : حدّثنا عبد الرحمن بن محمّد بن منصور قال : حدّثنا مطهر بن الهيثم قال : حدّثنا موسى بن علي عن أبيه عن جدّه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. [...] (٣) : «وما ولد لك» قال : يا رسول الله وما عسى أن يولد لي إمّا غلام وإما جارية. قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم :«من شبه» قال : فمن شبه أمه وأباه ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تقل هكذا إنّ النطفة إذا استقرت في الرحم أحضر الله كلّ نسب بينهم وبين آدم ، أما قرأت هذه الآية (فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ)» قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن شاء في صورة إنسان وإن شاء في صورة حمار وإن شاء في صورة قرد ، وإن شاء في صورة كلب وإن شاء في صورة خنزير» [١٠٣] (٤).

(كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (٩) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ (١٠) كِراماً كاتِبِينَ (١١) يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ (١٢) إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (١٣) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (١٤) يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ (١٥) وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ (١٦) وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (١٧) ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (١٨) يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (١٩))

__________________

(١) المصدر السابق ، وفيه : غلا في العجب.

(٢) سورة التين : ٤.

(٣) بياض في المخطوط.

(٤) تفسير مجمع البيان : ١٠ / ٢٨٧.

١٤٧

(كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ) قراءة العامة بالتاء لقوله سبحانه (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ) وقراءة أبو جعفر بالياء (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ) رقباء يحفظون عليكم أعمالكم.

(كِراماً) على الله (كاتِبِينَ) يكتبون أقوالكم وأفعالكم.

(يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ إِنَّ الْأَبْرارَ) يعني الذين بروا وصدقوا في إيمانهم بأداء فرائض الله واجتناب معاصيه ، وأخبرنا عبد الرحمن بن يحيى العدل قال : حدّثنا علي المؤمل قال : حدّثنا أحمد بن عثمان قال : حدّثنا هشام بن عامر قال : حدّثنا سعد بن يحيى بن عبيد الله بن الوليد الوصافي عن محارب بن [دثار] عن ابن عمر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إنما سماهم الله الأبرار لأنّهم برّوا الآباء والأبناء ، كما أن لوالدك عليك حقا كذلك لولدك عليك حق» [١٠٤] (١).

(لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ * يَصْلَوْنَها) يدخلونها (يَوْمَ الدِّينِ) يوم القيامة (وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ * وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ * يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً) قراءة أهل مكّة والبصرة برفع الميم ردّا على اليوم الأول ، وقراءة غيرهم بالنصب أي في يوم ، واختاره أبو عبيد قال : لأنها اضافة غير محضة (وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ).

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١٩ / ١٢٥.

١٤٨

سورة المطففين

مدنية ، وهي ست وثلاثون آية ،

ومائة وتسع وستون كلمة ، وسبع مائة وثلاثون حرفا

أخبرنا كامل بن أحمد المفيد قال : أخبرنا محمد بن مطر العدل قال : حدّثنا ابن إبراهيم بن شريك الأسدي قال : حدّثنا أحمد بن يونس اليربوعي قال : حدّثنا سلام بن سليم قال : حدّثنا هارون بن كثير عن زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي أمامه عن أبيّ بن كعب قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ سورة المطفّفين سقاه الله سبحانه من الرحيق المختوم يوم القيامة» [١٠٥] (١).

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (١) الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (٢) وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (٣) أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (٤) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (٥) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (٦) كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (٧) وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ (٨) كِتابٌ مَرْقُومٌ (٩) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١٠) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (١١) وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (١٢) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٣) كَلاَّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٤))

(وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ) يعني الذين ينقصون الناس ويبخسون حقوقهم في الكيل والوزن ، وأصله من الشيء الطفيف وهو النزر القليل ، وإناء طفاف إذا لم يكن ملآن ، ومنه قيل للقوم الذين يكونون سواء في حسبة أو عدد : هم كطف الصاع ، يعني ذلك : كقرب الملء منه ناقص عن الملء (٢).

(الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا) أخذوا (عَلَى النَّاسِ) أي منهم ، وعلى ومن تتعاقبان في هذا الموضع (يَسْتَوْفُونَ) حقوقهم منه (وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ) أي كالوا لهم أو وزنوا لهم ، يقال : وزنتك حقّك ، وكلتك طعامك بمعنى وزنت لك وكلت لك ، قال الفراء : وهي لغة أهل الحجاز ومن جاوزهم من [......] (٣) قال : وسمعت أعرابية تقول : إذا صدر الناس أتينا التاجر فيكيلنا المد والمدين إلى الموسم المقبل.

__________________

(١) تفسير مجمع البيان : ١٠ / ٢٨٩.

(٢) تفسير الطبري : ٣٠ / ١١٣.

(٣) كلمة غير مقروءة في المخطوط.

١٤٩

قال أبو عبيد : وكان عيسى بن عمر يجعلها حرفين حرفين ويقف على : كالوا ووزنوا ، ثمّ يبتدئ فيقول : هم يخسرون ، قال : وأحسب قراءة حمزة أيضا كذلك ، قال أبو عبيد : والاختيار أن يكون كلمة واحدة من جهتين : إحداهما : الخط ، وذلك أنهم كتبوها بغير ألف ، ولو كانتا مقطوعتين لكانتا كالوا ووزنوا بالألف على ما كتبوا الأفعال كلّها مثل : (فاؤُ) و (جاؤُ) [...] (١) المصاحف إلّا على إسقاطها.

والجهة الأخرى : أنه يقال : كلتك ووزنتك بمعنى كلت لك ووزنت لك ، وهو كلام عربي كما يقال : صدتك وصدت لك وكسبتك وكسبت لك ومثله كثير.

(يُخْسِرُونَ) ينقصون.

حدّثنا أبو محمد المخلدي قال : أخبرنا ابن الشرقي قال : حدّثنا عبد الرحمن بن بشر قال : حدّثنا علي بن الحسين بن واقد ، قال : حدّثني أبي قال : حدّثني يزيد النحوي أن عكرمة حدّثه عن ابن عباس قال : لما قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة كانوا من أخبث الناس كيلا ، فأنزل الله سبحانه (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ) فأحسنوا الكيل.

وقال القرطبي : كان بالمدينة تجار يطفّفون وكانت بياعتهم كشبه القمار والمنابذة والملامسة والمخاطرة فأنزل الله سبحانه هذه الآية. فخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى السوق وقرأها عليهم ، وقال السدي : قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة وبها رجل يقال له أبو جهينة ومعه صاعان يكيل بأحدهما ويكتال بالآخر فأنزل الله سبحانه هذه الآية.

وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا بن يوسف قال : حدّثنا ابن عمران قال : حدّثنا أبو الدرداء ، عبد العزيز [بن منيب] قال : حدّثنا إسحاق بن عبد الله بن كيسان عن أبيه عن الضحاك ومجاهد وطاوس عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «خمس لخمس» قالوا : يا رسول الله وما خمس لخمس؟ قال : «ما نقض قوم العهد إلّا سلّط عليهم عدوّهم ، وما حكموا بغير ما أنزل الله إلّا فشا فيهم الفقر ، وما ظهرت فيهم الفاحشة إلّا فشا فيهم الموت ، ولا طفّفوا الكيل إلّا منعوا النبات وأخذوا بالسنين ، ولا منعوا الزكاة إلّا حبس عنهم القطر» [١٠٦] (٢).

وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن ماجة قال : حدّثنا ابن أيوب قال : حدّثنا القصواني قال : حدّثنا سنان بن حاتم قال : حدّثنا حفص قال : حدّثنا مالك بن دينار قال : دخلت على جار لي وقد نزل به الموت فجعل يقول : جبلين من نار جبلين من نار ، قال : قلت : ما تقول أتهجر؟ قال : يا أبا يحيى كان لي مكيالان ، كنت أكيل بأحدهما وأكتال بالآخر ، قال : فقمت فجعلت

__________________

(١) بياض بالمخطوط.

(٢) المعجم الكبير : ١١ / ٣٨.

١٥٠

أضرب أحدهما بالآخر فقال : يا أبا يحيى كلما ضربت أحدهما بالآخر إزداد عظما فمات في وجعه.

وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا بن صقلان قال : حدّثنا محمد بن النفاخ الباهلي قال : حدّثنا بركة بن محمد الحلبي عن عثمان بن عبد الرحمن عن النضر بن عدي قال : سمعت عكرمة يقول : أشهد على كلّ كيّال أو وزّان أنّه في النار ، قيل له : إنّ ابنك كيال أو وزان ، قال : أنا أشهد أنه في النار.

وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا الفضل بن الفضل قال : حدّثني عبد الله بن زكريا القاضي قال : حدّثنا العباس بن عبد الله بن أحمد قال : حدّثنا المبرد قال : حدّثنا الرياسي عن الأصمعي قال : قال لي إعرابي : لا تلتمس الحوائج ممن مروءته في رؤس المكاييل والسن الموازين ، وروى عبد خير أن عليّا مرّ على رجل وهو يزن الزعفران وقد أرجح ، فكفا الميزان ، ثم قال : أقم الوزن بالقسط ، ثم أرجح بعد ذلك ما شئت ، وقال نافع كان ابن عمر يمرّ بالبائع فيقول : اتّق الله وأوف الكيل والوزن ، فإن المطفّفين يوقفون يوم القيامة حتى أن العرق ليلجمهم إلى أنصاف آذانهم.

(أَلا يَظُنُ) يستيقن (أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) أخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن مالك قال : حدّثنا ابن حنبل قال : حدّثني أبي قال : حدّثنا وكيع عن هشام صاحب [الدستواني] عن القمر بن أبي [ابزى] قال : حدّثني من سمع ابن عمر قرأ (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ) فلما بلغ (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) بكى حتى خرّوا وامتنع من قراءة ما بعده.

(كَلَّا) قال الحسن : حقا (إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ) الذي كتب فيه أعمالهم (لَفِي سِجِّينٍ) قال عبد الله بن عمر ومغيث بن سمي وقتادة ومجاهد والضحاك وابن زيد : هي الأرض السابعة السفلى فيها أرواح الكفّار وأعمالهم ، يدلّ عليه ما أخبرنا الحسين قال : حدّثنا موسى قال : حدّثنا ابن علوية قال : حدّثنا إسماعيل قال : حدّثنا المسيّب قال : حدّثنا الأعمش عن المنهال عن زادان عن البرك قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «سجين أسفل سبع أرضين» [١٠٧] (١) : وأخبرني أبو عبد الله الفنجوي قال : حدّثنا أبو علي المقرئ قال : حدّثنا أبو [القاسم بن] الفضل قال : حدّثنا محمد بن حميد قال : حدّثنا يعقوب بن عبد الله الأشعري قال : حدّثنا حفص ابن حميد عن سمر بن عطية قال : جاء ابن عباس إلى كعب الأحبار فقال : أخبرني عن قول الله سبحانه وتعالى : (إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ) فقال : إنّ روح الفاجر يصعد بها إلى السماء

__________________

(١) تفسير مجمع البيان : ١٠ / ٢٩٢ ، وقريب منه في تفسير القرطبي : ١٩ / ٢٥٨.

١٥١

فتأبى السماء أن تقبلها ثم يهبط بها إلى الأرض فتأبى الأرض أن تقبلها فيهبط تحت سبع أرضين حتى ينتهي بها إلى سجّين ، وهي حدّ إبليس ، فيخرج لها من سجين من تحت حدّ إبليس رق فيرقم ويختم ويوضع تحت حدّ إبليس بمعرفتها الهلاك بحساب يوم القيامة ، وإليه ذهب سعيد بن جبير قال : سجّين تحت حدّ إبليس ، وقال عطاء الخراساني : هي الأرض السفلى وفيها إبليس وذريته.

وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا الفضل قال : حدّثنا عبد الرحمن بن أبي حاتم قال : قراءتي على يونس بن عبد الأعلى قال : أخبرنا ابن وهب قال : وحدّثني عمارة بن عيسى عن يونس بن يزيد عمّن حدّثه عن ابن عباس أنه قال لكعب الأحبار : أخبرني عن سجّين وعليّين ، فقال كعب : والذي نفسي بيده لأخبرنّك عنها إلّا بما أجد في كتاب الله المنزل ، أما سجّين فإنّها شجرة سوداء تحت الأرضين السبع مكتوب فيها كلّ اسم شيطان ، فإذا قبضت نفس الكافر عرج بها إلى السماء فغلقت أبواب السماء دونها ، ثم رمى بها إلى سجين فذلك سجين ، وأما عليّيون فإنّه إذا قبضت نفس المسلم عرج بها إلى السماء وفتحت لها أبواب السماء حتى تنتهي إلى العرش ، قال : فيخرج كفّ من العرش فيكتب له نزله وكرامته فذلك عليّون.

وقال الكلبي : هي صخرة تحت الأرض السابعة السفلى خضراء خضرة السموات منها ، يجعل كتاب الفجار تحتها ، وقال وهب : هي آخر سلطان إبليس.

وأخبرني عقيل : إن المعافى أخبرهم عن ابن جرير قال : حدّثني إسحاق بن وهب الواسطي قال : حدّثنا مسعود بن موسى بن مشكان قال : حدّثنا نصر بن خزيمة عن شعيب بن صفوان عن القرطي عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال. «الفلق جبّ في جهنم مغطّى وأما سجين جبّ في جهنم مفتوح» [١٠٨] (١).

وأخبرنا أبو القمر الصفار قال : أخبرنا حاجب بن أحمد قال : حدّثنا محمد بن حماد قال : حدّثنا يحيى بن سليم الطائفي عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قول الله سبحانه : (إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ) قال : سجّين صخرة تحت الأرض السابعة تقلب فيجعل كتاب الفجّار تحتها ، وقال عكرمة : أي لفي خسار وضلال ، والمعنى أنه أراد بطلان أعمالهم وذهابها بلا محمدة ولا ثواب وهذا سائغ مستفيض في كلام الناس ، يقولون لمن خمل ذكره وسقط قدره قد لزق بالحضيض ، وقال الأخفش : لفي حبس ضيق شديد ، وهو فعّيل من السجن كما يقال فسّيق وشرّيب قال ابن مقبل :

ورفقه يضربون البيض ضاحيّة

ضربا تواصت به الأبطال سجّينا (٢)

__________________

(١) جامع البيان للطبري : ٣٠ / ١٢٠ ، الدر المنثور : ٦ / ٣٢٥.

(٢) تفسير القرطبي : ١٩ / ٢٥٨.

١٥٢

(وَما أَدْراكَ) يا محمد (ما سِجِّينٌ) أي ذلك الكتاب الذي في السجّين ثم منّ فقال : (كِتابٌ) أي هو كتاب (مَرْقُومٌ) مكتوب مثبت عليهم كالرقم في الثوب لا ينسى ولا يمحى حتى يجازوا به وقال قتادة : رقم لهم بشرّ وقيل : مختوم بلغة حمير. (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ * الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ * وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا) قراءة العامة (تُتْلى) ، وقرأ أبو حيان بالياء لتقديم الفعل.

(قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ * كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ)أخبرنا الحسين قال :حدّثنا الفضل قال : حدّثنا أبو الحسن أحمد بن مكرم التربي ببغداد قال : حدّثنا علي المكرمي قال : حدّثنا الوليد بن مسلم قال : سمعت محمد بن عجلان يقول : حدّثني القعقاع بن حكم أن أبا صالح السمّان قال أن أبا هريرة حدّثه أنّه سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إنّ العبد إذا أذنب كانت نكتة سوداء في قلبه فإن تاب صقل قلبه وإن عاد زادت حتى يسوّد قلبه» [١٠٩] (١) قال : فذلك قوله سبحانه (كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) وكذا قال المفسرون : هو الذنب على الذنب حتى يسوّد القلب ، وقال حذيفة بن اليمّان : القلب مثل الكفّ فإذا أذنب العبد انقبض وقبض إصبعا من أصابعه ثم إذا أذنب انقبض وقبض إصبعا أخرى ، ثم إذا أذنب انقبض وقبض أصابعه ثم يطبع عليه فكانوا يرون أنّ ذلك هو الرين ، ثمّ قرأ هذه الآية.

وقال بكر بن عبد الله : إنّ العبد إذا أصاب الذنب صار في قلبه كوخزة الإبرة ثمّ إذا أذنب ثانيا صار كذلك فإذا كثرت الذنوب صار القلب كالمنخل أو كالغربال ، وقال الحسن : هو الذنب على الذنب حتى لعله يصدئ القلب ، وقال ابن عباس : طبع عليها ، عطا : غشيت على قلوبهم فهوت بها فلا يفزعون ولا يتحاشون (٢) ، وقيل : قلبها فجعل أسفلها أعلاها ، نظيره قوله سبحانه (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ) (٣) وأصل الرين الغلبة ، يقال : رانت الخمر على عقله إذا غلبت عليه فسكر ، وقال أبو زبيد الطائي :

ثم إذا رآه رانت به الخمر

وأن لا يرينه باتّقاء

وقال الراجز :

لم نرو حتى هجّرت ورين بي

ورين بالسّاقي الذي أمسى معي (٤)

معنى الآية غلب على قلوبهم وأحاطت بها حتى غمرتها وغشيتها.

__________________

(١) مسند أحمد : ٢ / ٢٩٧ ، تحفة الاحوذي : ١ / ٢٥ ، جامع البيان للطبري : ٣٠ / ١٢٣ بتفاوت.

(٢) تفسير الطبري : ٣٠ / ١٢٤.

(٣) سورة الأنعام : ١١٠.

(٤) جامع البيان للطبري : ٣٠ / ١٢٢.

١٥٣

(كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (١٥) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ (١٦) ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (١٧) كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (١٨) وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ (١٩) كِتابٌ مَرْقُومٌ (٢٠) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (٢١) إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (٢٢) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (٢٣) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (٢٤) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (٢٥) خِتامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ (٢٦) وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (٢٧) عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (٢٨) إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (٢٩) وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ (٣٠) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (٣١) وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ (٣٢) وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ (٣٣) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (٣٤) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (٣٥) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (٣٦))

(كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) قال بعضهم : من كرامته ورحمته ممنوعون ، وقال قتادة : هو أن (لا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ) (وَلا يُزَكِّيهِمْ) ، وقال أكثر المفسرين : عن رؤيته ، قال الحسين بن الفضل : كما حجبهم في الدنيا عن توحيده حجبهم في الآخرة عن رؤيته.

أخبرنا الحسن بن محمد بن جعفر قال : حدّثنا أبو جعفر محمد بن صالح بن هاني قال : حدّثنا الحسين بن الفضل قال : حدّثنا عفان بن مسلم الصفار عن الربيع بن صبيح وعبد الواحد بن زيد قالا : قال الحسن : لو علم الزاهدون والعابدون أنهم لا يرون ربّهم في المعاد لزهقت أنفسهم في الدنيا ، وقال يحيى بن سليمان : بن نضلة : يسئل مالك بن أنس عن هذه الآية قال : لها حجب أعداءه فلم يروه تجلّى لأوليائه حتى رأوه ، وسمعت أبا القاسم الحسن بن محمد يقول : سمعت أبا علي الحسن بن أحمد [الشبوي] (١) بها يقول : سمعت أبا نعيم عبد الملك بن محمد بن عدي يقول : سمعت الربيع بن سليمان يقول : كنت ذات يوم عند الشافعي رضي‌الله‌عنه وجاءه كتاب من الصعيد يسألونه عن قول الله سبحانه : (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) فكتب فيه : لما حجب قوما بالسخط دل على أن قوما يرونه بالرضا ، فقلت له : أوتدين بهذا يا سيدي؟ فقال : والله لو لم يوقن محمد بن إدريس أن يرى ربّه في المعاد لما عبده في الدنيا.

(ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ) لداخلو النار (ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ * كَلَّا إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ)

أخبرني الحسين قال : حدّثنا موسى قال : حدّثنا ابن علوية قال : حدّثنا إسماعيل قال : حدّثنا المسيّب عن الأعمش عن النهال عن زادان عن البراء بن عازب عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «عليين في السماء السابعة تحت العرش» [١١٠] (٢) وقال ابن عباس هو لوح من زبرجدة خضراء معلق تحت العرش أعمالهم مكتوبة فيها ، وقال كعب وقتادة : هو قائمة العرش

__________________

(١) كذا في المخطوط.

(٢) تفسير القرطبي : ١٩ / ٢٦٢.

١٥٤

اليمنى ، مقاتل : ساق العرش ، علي ابن أبي طلحة وعطاء عن ابن عباس : هو الجنة ، عطية عنه : أعمالهم في كتاب الله في السماء ، الضحاك : سدرة المنتهى ، وقال أهل المعاني : علو بعد علو وشرف بعد شرف ، ولذلك جمعت بالياء والنون لجمع الرجال إذا لم يكن له نبأ من واحد ولا ثانية ، قال الفراء : هو اسم موضوع على صفة الجمع لا واحد له من لفظه كقولك عشرين وثلاثين ، وقال يونس النحوي : واحدها عليّ وعليّه.

وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا بن حمدان قال : حدّثنا أبو الحسن محمد بن إسحاق الملحمي قال : حدّثنا محمد بن يونس قال : حدّثنا عفان قال : حدّثنا عفان قال : حدّثنا حماد بن سلمة عن عصام ابن يهدله عن خيثمة عن عبد الله بن عمرو في قوله سبحانه : (كَلَّا إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ) قال : إنّ أهل عليين لينظرون إلى أهل الجنة من كذا فإذا أشرف رجل أشرقت الجنة وقالوا : قد طلع علينا رجل من أهل عليين.

(وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ * كِتابٌ مَرْقُومٌ) رقم له بخير وفي الآية تقديم وتأخير ، مجازها : إنّ كتاب الأبرار مرقوم في عليين وهي محل الملائكة ، ومثله إن كتاب الفجّار كتاب مرقوم وهي سجين ، وهي محل إبليس وجنوده.

(يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ) الملائكة (إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ) أي ما أعطاهم الله تعالى من الكرامة والنعمة ، الأرائك : كلّ ما يتكئ عليه ، وقيل : السرير في الحجلة ، وقال مقاتل : ينظرون إلى [أعدائهم] (١) كيف يعذّبون ، وقال ابن عطاء : على أرائك المعرفة ينظرون إلى المعروف وعلى أرائك القربة ينظرون إلى الرؤوف.

(تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ) أي عصارته وبريقه ونوره يقال أنضر النبات إذا أزهر ونوّر ، وقراءة العامة (تَعْرِفُ) بفتح التاء وكسر الراء (نَضْرَةَ) نصب ، وقرأ أبو جعفر ويعقوب بضم التاء وفتح الراء على غير تسمية الفاعل.

(يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ) خمر صافية طيبة وقيل : هي الخمر العتيقة ، مقاتل : الخمر البيضاء.

قال حسان :

يسقون من ورد البريص عليهم

بردا يصفّق بالرحيق السلسل (٢)

وقال آخر :

أم لا سبيل إلى الشباب وذكره

أشهى إليّ من الرحيق السلسل (٣)

__________________

(١) في المخطوط : عدوّهم.

(٢) تفسير القرطبي : ١٩ / ١٤٣ ، والبريص : نهر بدمشق ، وبردى : نهر بدمشق أيضا ، ويصفق : يمزج ، والرحيق : الخمر البيضاء.

(٣) لسان العرب : ١١ / ٣٤٣.

١٥٥

(مَخْتُومٍ) ختمت ومنعت عن أن يمسها ماس أو تنالها يد إلى أن يفكّ ختمها الأبرار يوم القيامة ، وقال مجاهد : مطيّن.

(خِتامُهُ) طينة (مِسْكٌ) قال ابن زيد : (خِتامُهُ) عند الله سبحانه : (مِسْكٌ) وختامها اليوم في الدنيا طين ، وقال ابن مسعود : مختوم ممزوج ، ختامه خلط ومسك ، وقال علقمة : طعمه وريحه مسك ، وقال الآخرون : عاقبته وآخر طعمه مسك ، قال قتادة : يمزج لهم بالكافور ويختم بالمسك ، وروى عبد الرحمن بن سابط عن أبي الدرداء في قوله سبحانه (خِتامُهُ مِسْكٌ) قال : شراب أبيض مثل الفضة يختمون به شرابهم ولو أن رجلا من أهل الدنيا أدخل إصبعه فيه ثم أخرجها لم يبق ذو روح إلّا وجد طيبها.

وختم كلّ شيء الفراغ منه ، ومنه ختم القرآن ، والأعمال بخواتيمها ، وقراءة العامة (خِتامُهُ) بتقديم التاء وقرأ الكسائي (خاتمه) وهي قراءة علي وعلقمة.

أخبرنا محمد بن عبدوس قال : حدّثنا محمد بن يعقوب قال : أخبرنا محمد بن الجهم قال : أخبرنا يحيى بن زرارة الفراء قال : حدّثني محمد بن الفضل عن عطاء بن السائب عن أبي عبد الرحمن أنه قرأ خاتمه مسك.

وباسناده عن الفراء قال : حدّثني أبو الأحوص عن أشعث بن أبي الشعثاء المحاربي قال : قرأ علقمة بن قيس (خاتمه مسك) وقال : أما رأيت المرأة تقول للعطار : اجعل لي خاتمه مسكا ، تريد آخره ، والخاتم والختام واحد كما يقال للرجل الكريم : الطابع والطباع ، وقال الفرزدق :

فبتن بجانبي مصرّعات

وبتّ أفض أغلاق الختام (١)

(وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ) فليرغب الراغبون بالمبادرة إلى طاعة الله ، وقال مجاهد فليعمل العاملون ، نظيره قوله سبحانه : (لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ) (٢) ، مقاتل بن سليمان : فليتنازع المتنازعون ، ابن حيان : فليتسارع المتسارعون ، عطا : فليستبق المتسابقون ، زيد بن أسلم : فليتشاح المتشاحون ، ابن جرير : فليجدوا في طلبه وليحرصوا عليه ، وأصله من الشيء النفيس ، وهو الذي تحرص عليه نفوس الناس ، ويطلبه ويتمناه ويريده كل واحد منهم لنفسه وينفس به على غيره أي يضن.

(وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ) شراب ينصب عليه من علو ، ومنه سنام البعير وتسنيم القبور قال الضحاك : هو شراب اسمه تسنيم وهو أشرف الشراب ، مقاتل : يسمى تسنيما ؛ لأنه يتسنّم فيصب عليه انصبابا من فوقهم في غرفهم ومنازلهم تجري من جنّة عدن إلى أهل الجنان ، قال ابن مسعود وابن عباس : هو خالص للمقربين يشربونها صرفا ويمزج لساير أهل الجنة.

__________________

(١) لسان العرب : ١٠ / ٢٩١.

(٢) سورة السجدة : ١٧.

١٥٦

وأخبرنا عبد الله بن حامد في آخرين قالوا : أخبرنا مكيّ قال : حدّثنا عمار بن رجاء قال : حدّثنا سويد بن عمرو الكلبي قال : حدّثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن يونس بن مهران عن ابن عباس (وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ) قال : هذا مما قال الله سبحانه : (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) (١) ، وعن بعضهم : أنها عين تجري في الهواء متسنما فتصب في أواني أهل الجنّة على مقدار ملئها ، فإذا امتلأت أمسك الماء حتى لا يقع منه قطرة على الأرض فلا يحتاجون إلى الاستقاء وهو معنى قول قتادة ، وأصل الكلمة مأخوذ من علوّ المكان والمكانة ، فيقال للشيء المرتفع : سنام ، وللرجل الشريف : سنام وهو اسم معرفة مثل التنعيم وهو اسم جبل.

(عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا) أي منها ، وقيل يشربها (الْمُقَرَّبُونَ) قال الحريري والواسطي : (يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ) صرفا على بساط القرب في مجلس الأنس ورياض القدس بكأس الرضا على مشاهدة الحقّ سبحانه وتعالى.

(إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا) أشركوا أبا جهل والوليد بن المغيرة والعاص بن وائل وأصحابهم من مترفي مكّة (كانُوا مِنَ الَّذِينَ) عمّار وخبّاب وصهيب وبلال وأصحابهم من فقراء المؤمنين.

(يَضْحَكُونَ) وبهم يستهزءون ومن إسلامهم يتعجبون.

وقال مقاتل والكلبي : نزلت في علي بن أبي طالب عليه‌السلام وذلك أنه جاء في نفر من المسلمين إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسخر منهم المنافقون وضحكوا وتغامزوا ثم رجعوا إلى أصحابهم فقالوا : رأينا اليوم الأصلع فضحكنا منه فأنزل الله سبحانه وتعالى هذه الآيات قبل أن يصل عليّ وأصحابه إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم [١١١] (٢).

(وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ) يغمز بعضا ويشيرون بالأعين (وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ * وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ) حين يأتون محمد يرون أنهم على شيء (وَما أُرْسِلُوا) يعني المشركين (عَلَيْهِمْ) يعني على المؤمنين (حافِظِينَ) لأعمالهم موكلين بأحوالهم.

(فَالْيَوْمَ) يعني يوم القيامة (الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ) كما ضحك الكفار منهم في الدنيا وذلك أنّه يفتح للكفار باب إلى الجنة فيقال لهم أخرجوا إليها فإذا وصلوا إليه أغلق دونهم يفعل بهم ذلك مرارا ويضحك المؤمنون منهم وهم (عَلَى الْأَرائِكِ) من الدر والياقوت (يَنْظُرُونَ) إليهم كيف يعذبون ، قال كعب : بين الجنة والنار كوى فإذا أراد المؤمن أن ينظر إلى عدو له كان في الدنيا اطّلع من بعض تلك الكوى ، دليله قوله سبحانه (فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ) (٣) (هَلْ ثُوِّبَ) جوزي (الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ) ثوّب وأثاب بمعنى واحد.

__________________

(١) سورة الصافّات : ٦١.

(٢) تفسير مجمع البيان : ١٠ / ٢٩٨ ، وقريب منه في شواهد التنزيل ٢ : ٤٢٨.

(٣) سورة الصافات : ٥٥.

١٥٧

سورة الإنشقاق

مكيّة. وهي خمس وعشرون آية ، ومائة

وسبع كلمات ، وأربع مائة وأربع وثلاثون حرفا

أخبرني سعيد بن محمد وكامل بن أحمد ومحمد بن القاسم قالوا : أخبرنا محمد بن مطر قال : حدّثنا إبراهيم بن شريك قال : حدّثنا أحمد بن يونس قال : حدّثنا سلام بن سليم قال : حدّثنا هارون بن كثير عن زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي أمامة عن أبيّ بن كعب قال : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ سورة انشقت أعاذه الله سبحانه أن يعطيه (كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ)» [١١٢] (١).

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ (١) وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (٢) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (٣) وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ (٤) وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (٥) يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ (٦) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ (٧) فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً (٨) وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً (٩) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ (١٠) فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً (١١) وَيَصْلى سَعِيراً (١٢) إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً (١٣) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (١٤) بَلى إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً (١٥) فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (١٦) وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ (١٧) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (١٨) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ (١٩) فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٢٠) وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ (٢١) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (٢٢) وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ (٢٣) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٢٤) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (٢٥))

(إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ * وَأَذِنَتْ لِرَبِّها) أي سمعت أمر ربها بالانشقاق وطاعته (وَحُقَّتْ) أي وحق لها أن تطيع ربّها وحق الله ذلك عليه.

(وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ) مدّ الأديم العكاظي وزيد في سعتها. (وَأَلْقَتْ) أخرجت (ما فِيها) من الموتى والكنوز (وَتَخَلَّتْ) وخلت فليس في باطنها شيء. (وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ) ، واختلفوا في جواب قوله (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) فقيل جوابه متروك ؛ لأنّ المعنى مفهوم ، وقيل جوابه (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ) ومجازه : (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) لقي كل كادح ما عمله ، قال المبرّد : فيه تقديم وتأخير تقديره (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً

__________________

(١) تفسير مجمع البيان : ١٠ / ٣٠١.

١٥٨

فَمُلاقِيهِ) (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) ، وقيل : جوابه (وَأَذِنَتْ) ، وحينئذ يكون الواو زائدة.

ومعنى قوله (كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً) أي عامل واصل به إلى ربّك عملا فملاقيه ومجازى به خيرا كان أو شرا ، وقال القتيبي ناصب في معيشتك إلى لقاء ربك ، والكدح : السعي والجهد في الأمر حتى يكدح ذلك فيه ، أي يؤثّر ومنه قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من سأل وله ما يغنيه جاءت مسئلته يوم القيامة خدوشا أو خموشا أو كدوحا في وجه» [١١٣] (١) أي أثر الخدش ، قال ابن مقبل :

وما الدهر إلّا تارتان فمنهما

أموت وأخرى أبتغي العيش أكدح (٢)

وأخبرني الحسين قال : حدّثنا موسى قال : حدّثنا ابن علوية قال : حدّثنا إسماعيل قال : حدّثنا إسحاق بن بشر عن سفيان الثوري عن أبيه عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «النادم ينتظر الرحمة والمعجب ينتظر المقت وكل عامل سيقدم على ما سلف» [١١٤] (٣).

(فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ) ديوان أعماله (بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً * وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً). أخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن مندة قال : حدّثنا محمد بن غالب قال : حدّثني سعيد بن سليمان قال : حدّثنا مبارك بن فضالة عن أيوب عن أبي مليكة عن عائشة قالت : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «من يحاسب يعذّب» قالوا : يا رسول الله أليس قد قال الله سبحانه : (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً) قال : «ذاكم العرض ولكن من نوقش الحساب عذّب» [١١٥] (٤).

(وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ) فتغلّ يده اليمنى إلى عنقه وتجعل يده الشمال وراء ظهره فيؤتى كتابه بشماله من وراء ظهره ، وقال مجاهد : يخلع يده وراء ظهره.

(فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً) ينادى بالويل والهلاك (وَيَصْلى سَعِيراً) قرأ أبو جعفر وأيوب وكوفي غير الكسائي بفتح الياء والتخفيف واختاره أبو عبيد لقوله سبحانه : (إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ) (٥) ، وقوله (يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى) (٦) وقرأ الباقون بضم الياء وتشديد اللام ، واختاره أبو حاتم لقوله سبحانه (ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ) (٧) (وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ) (٨) (إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً)

__________________

(١) سنن ابن ماجة : ١ / ٥٨٩.

(٢) جامع البيان للطبري : ٢١ / ٤٠.

(٣) كنز العمال : ١٥ / ٩٣٦ ، ح ٤٣٦٠٧.

(٤) مسند أحمد : ٦ / ١٢٧.

(٥) سورة الصافّات : ١٦٣.

(٦) سورة الأعلى : ١٢.

(٧) سورة الحاقّة : ٣١.

(٨) سورة الواقعة : ٩٤.

١٥٩

سمعت السلمي يقول : سمعت منصور بن عبد الله يقول : سمعت أبا القاسم المصري يقول : قال ابن عطاء لنفسه متابعا ساعيا.

(إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ) يرجع إلينا قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أعوذ بك من الحور بعد الكور» [١١٦] (١) وقال ابن عباس : كنت لا أدري ما معنى يحور حتى سمعت إعرابية تدعوا بنية لها فتقول : حوري حوري أي أرجعي ، وقال الشاعر :

وما المرء إلّا كالشهاب وضوءه

يحور رمادا بعد إذ هو ساطع (٢)

ثم قال : (بَلى) ، أي ليس كما ظن بلى يحور إلينا ويبعث.

(إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً * فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ) قال مجاهد وغيره : هو النهار كلّه ، عكرمة : ما بقي من النهار ، وقال ابن عباس وأكثر الناس : هو الحمرة التي تبقى في الأفق بعد غروب الشمس وبغيبوبته يتعلّق أول وقت العشاء الآخرة وإليه ذهب من الصحابة ابن مسعود وابن الزبير وعمر وابنه وعبادة بن الصامت وشداد بن أوس وأنس بن مالك وأبو قتادة الأنصاري وأبو هريرة وجابر بن عبد الله ومن التابعين سعيد بن المسيّب وسعيد بن جبير وطاوس وعبد الله بن دينار ومكحول ، ومن الفقهاء مالك والأوزاعي والشافعي وأبو يوسف وأبو ثور وابن عبيد وأحمد وإسحاق ، وقال قوم : هو البياض ، وإليه ذهب عمر بن عبد العزيز وأبو حنيفة ، والاختيار القول الأول ؛ لإجماع العبادلة عليه ، ولأن الشواهد في كلام العرب وأشعارهم تشهد له ، قال الفراء : سمعت بعض العرب يقول : الثور أحمر كأنه الشقق ، وقال الشاعر :

أحمر اللون كمحمر الشفق

وقال آخر :

قم يا غلام أعني غير محتشم

على الزمان بكأس حشوها شفق (٣)

ويقال للحفرة الشفق ، وزعم الحكماء أنّ البياض لا يغيب أصلا قال الخليل : صعدت منارة اسكندرية فرمقت البياض فرأيته يتردّد من أفق الى أفق ولم أره يغيب ، والله أعلم بالصواب.

(وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ) أي جمع وجمل ، ويقال : وسقته أسقه وسقا ، ومنه قيل للطعام المجتمع الكبير : وسق وهو ستون صاعا ، وطعام موسّق أي مجموع في غرارة ووعاء ، وقال مجاهد : برواية ابن أبي بحج : وما آوي فيه من دابة ، منصور عنه : وما لفّ وأظلم عليه ودخل

__________________

(١) جامع البيان للطبري : ٣٠ / ١٤٨.

(٢) الدر المنثور : ٦ / ٣٣٠.

(٣) تفسير مجمع البيان : ١٠ / ٣٠٣ ، تفسير القرطبي : ١٩ / ٢٧٥ ، وفيه مرتبك محتشم.

١٦٠