الكشف والبيان - ج ١٠

أبو إسحاق أحمد [ الثّعلبي ]

الكشف والبيان - ج ١٠

المؤلف:

أبو إسحاق أحمد [ الثّعلبي ]


المحقق: أبي محمّد بن عاشور
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٤٤

فاطم يا بنة النبي أحمد

بنت نبي سيد مسوّد

هذا أسير للنبي المهتد

مكبّل في غلّه مقيّد

يشكو إلينا الجوع قد تمدد

من يطعم اليوم يجده من غد

عند العلي الواحد الموحّد

ما يزرع الزارع سوف يحصد

فأنشأت فاطمة تقول :

لم يبق مما جاء غير صاع

قد ذهبت كفي مع الذراع

ابناي والله من الجياع

يا رب لا تتركهما ضياع

أبوهما للخير ذو اصطناع

يصطنع المعروف بابتداع

عبل الذراعين طويل الباع

وما على رأسي من قناع

إلّا قناعا نسجه انساع (١)

قال : فأعطوه الطعام ومكثوا ثلاثة أيام ولياليها لم يذوقوا شيئا إلّا الماء القراح فلما أن كان في اليوم الرابع وقد قضوا نذرهم أخذ علي رضي‌الله‌عنه بيده اليمنى الحسن وبيده اليسرى الحسين وأقبل نحو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهم يرتعشون كالفراخ من شدّة الجوع فلمّا نضر به النبي عليه‌السلام قال : يا أبا الحسن ما أشدّ ما يسؤني ما أرى بكم ، أنطلق إلى ابنتي فاطمة فانطلقوا إليها وهي في محرابها وقد لصق بطنها بظهرها من شدة الجوع وغارت عيناها ، فلما رآها النبي عليه‌السلام قال : «وا غوثاه بالله ، أهل بيت محمد يموتون جوعا» فهبط جبرائيل عليه‌السلام فقال : يا محمد خذها ، هنّأك الله في أهل بيتك قال : «وما أخذنا يا جبرائيل» [٨٠] (٢) فاقرأه (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ) إلى قوله (وَلا شُكُوراً) إلى آخر السورة.

قتادة بن مهران الباهلي في هذا الحديث : فوثب النبي عليه‌السلام حتى دخل على فاطمة فلما رأى ما بهم انكب عليهم يبكي ، ثم قال : أنتم من منذ ثلاث فيما أرى وأنا غافل عنكم ، فهبط جبرائيل عليه‌السلام بهذه الآيات (إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً) قال : هي عين في دار النبي عليه‌السلام تفجر إلى دور الأنبياء عليهم‌السلام والمؤمنين.

(يُوفُونَ بِالنَّذْرِ) يعني عليا وفاطمة والحسن والحسين وجاريتهم فضة (وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً * وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ) يقول على شهوتهم للطعام ، وإيثارهم مسكينا من مساكين المسلمين ويتيما من يتامى المسلمين ، وأسيرا من أسارى المشركين ، ويقولون إذا

__________________

(١) النسخ : سير يضفر على هيئة أعنة النعال تشدّ به الرحال.

(٢) تفسير القرطبي : ١٩ / ١٣٤. ومناقب الخوارزمي : ٢٧٠.

١٠١

أطعموهم (إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً * إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً) قال : والله ما قالوا لهم هذا بألسنتهم ، ولكنهم أضمروه في نفوسهم ، فأخبر الله سبحانه بإضمارهم يقولون : (لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً) ، فيتمنون علينا به ولكنا أعطيناكم لوجه الله وطلب ثوابه قال الله سبحانه : (فَوَقاهُمُ اللهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً) في الوجوه (وَسُرُوراً) في القلوب (وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً) يسكنونها (وَحَرِيراً) يلبسونه ويفترشونه (مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً).

قال ابن عباس : وبينا أهل الجنة في الجنة إذا رأوا ضوءا كضوء الشمس وقد أشرقت الجنان لها فيقول أهل الجنة : يا رضوان قال : ربّنا عزوجل (لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً) فيقول : لهم رضوان : ليست هذه بشمس ولا قمر ولكن هذه فاطمة وعلي ضحكا ضحكا أشرقت الجنان من نور ضحكهما ، وفيهما أنزل الله سبحانه : (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ) إلى قوله : (وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً).

وأنشدت فيه :

أنا مولى لفتى

أنزل فيه هل أتى (١)

وعلى هذا القول تكون السورة مدنية ، وقد اختلف العلماء في نزول هذه السورة فقال مجاهد وقتادة : هي كلّها مدنية ، وقال الحسن وعكرمة : منها آية مكيّة وهي قوله سبحانه : (وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً) والباقي مدني ، قال الآخرون : هي كلّه مكيّة والله أعلم.

(وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً (١٤) وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا (١٥) قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً (١٦) وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً (١٧) عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً (١٨) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً (١٩) وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً (٢٠) عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً (٢١) إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً (٢٢) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً (٢٣) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً (٢٤))

(وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها) أي قريبة منهم ظلال أشجارها ، وفي نصب الدانية أوجه : أحدها العطف بها على قوله (مُتَّكِئِينَ) ، والثاني على موضع قوله : (لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً) ويرون دانية ، والثالثة على المدح ، وأتت دانية لأن الظلال جمع وفي قراءة عبد الله ودانيا عليهم ليقدم الفعل ، وفي حرف أبيّ ودان رفع على الاستئناف.

(وَذُلِّلَتْ) سخّرت وقرّبت (قُطُوفُها) ثمارها (تَذْلِيلاً) يأكلون من ثمارها قياما وقعودا ومضطجعين ينالونها ويتناولونها كيف شاءوا على أي حال كانوا.

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١٩ / ١٣٨.

١٠٢

أخبرنا عبد الله بن حامد قال : أخبرنا حامد بن محمد قال : حدّثنا موسى بن إسحاق قال : حدّثنا أبي قال : حدّثنا سفيان عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال : أرض الجنة من ورق وترابها مسك وأصول شجرها ذهب وفضّة وأفنانها لؤلؤ وزبرجد وياقوت ، والورق والثمر تحت ذلك فمن أكل قائما لم يؤذه [ومن أكل جالسا لم يؤذه] ومن أكل مضطجعا لم يؤذه فذلك قوله سبحانه : (وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً).

(وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا * قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ) قال المفسرون : أراد بياض الفضة في صفاء القوارير فصفاؤها صفاء الزجاج وهي من فضة (١).

أخبرنا محمد بن عبد الله بن حمدون قال : أخبرنا مكّي قال : حدّثنا عبد الرحمن بن بشر قال : حدّثنا سفيان وأخبرنا عبد الله بن حامد قال : حدّثنا محمد بن حمدويه قال : حدّثنا محمود ابن آدم قال : حدّثنا سفيان عن عمرو عن عكرمة عن ابن عباس في قوله سبحانه : (قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ) قال : لو أخذت فضة من فضة الدنيا فضربتها حتى جعلتها مثل جناح الذباب لم تر الماء من ورائها ، ولكن قوارير الجنة في بياض الفضة في صفاء القارورة.

وقال الكلبي والثمالي : إن الله سبحانه جعل قوارير كلّ قوم من تراب أرضهم وإن تراب الجنة من فضة فجعل من تلك الفضة قوارير يشربون فيها. (قَدَّرُوها تَقْدِيراً) على قدر رتبهم لا يزيد ولا ينقص ، وقال الربيع والقرطبي : على قدر الكفّ ، وقراءة العامّة بفتح القاف والدال قدرها لهم السقاة الذين يطوفون بها عليهم.

وأخبرني بن فنجويه قال : حدّثنا ابن شنبه قال : حدّثنا أبو حامد المستملي قال : أخبرنا محمد بن حاتم الرقي قال : أخبرنا هشام قال : أخبرنا إسماعيل بن سالم عن الشعبي قال : سمعته قرأها قُدِّرُوها بضم القاف وكسر الدال أي قدرت عليهم فلا زيادة فيها ولا نقصان. قال : وسمعت غيره قدّروها في أنفسهم فأتتهم على ما قدروا لا يزيد ولا ينقص.

(وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً) سوق ومطرب من غير لدع ، والعرب تستحب الزنجبيل قال شاعرهم :

كأن جنيا من الزنجبيل خالط

فاها وأريا مشورا (٢)

وقيل : هو عين في الجنّة توجد منها طعم الزنجبيل.

قال قتادة : شربها المقرّبون صرفا ويمزج لسائر أهل الجنة.

(عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً) قال قتادة : سلسة منقادة لهم يصرفونها حيث شاءوا ، وقال

__________________

(١) المصنّف لابن أبي شيبة : ٨ / ٦٧ ، وتفسير القرطبي : ١٩ / ١٣٩ مورد الآية.

(٢) كتاب العين للفراهيدي : ٦ / ٢٨٠ والبيت للأعشى.

١٠٣

مجاهد : حديدة الجرية (١). يمان : طيبة الطعم والمذاق ، تقول العرب : هذا شراب سلس وسلسل وسلسبيل ، أبو العالية ومقاتل بن حيان : سميت سلسبيلا ؛ لأنها يتسيل عليهم في الطرق وفي منازلهم تنبع من أصل العرش من جنة عدن الى أهل الجنان على برد الكافور وطعم الزنجبيل وريح المسك ، ومعنى (تُسَمَّى) توصف ؛ لأن أكثر العلماء على أن سلسبيل صفة الإسم.

(وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً * وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً) وهو أن أدناهم ـ يعني أهل الجنة ـ منزلة ينظر من ملكه في مسيرة ألف عام يرى أقصاه كما يرى أدناه ، وقيل : هو استئذان الملائكة عليهم ، وقيل : (وَمُلْكاً) لا زوال له.

قال أبو بكر الورّاق : ملكا لا يتعقبه هلك ، وقال محمد بن علي الترمذي : يعني ملك التكوين إذا أراد شيئا كان.

(عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ) قرأ قتادة ومجاهد وابن سيرين وعون العقيلي وابن محيص وأبو جعفر ونافع والأعمش وحمزة وأيوب عالِيهُمْ بتسكين الياء على أنه اسم موصوف بالفعل يقول علاهم فهو عاليهم ، واختاره أبو عبيد اعتبارا بقراءة ابن مسعود وابن وثاب وغيرهما (عاليتهم) ، وتفسير ابن عباس : أما رأيت الرجل عليه ثياب يعلوها أفضل منها ، وقرأ الباقون بنصب الياء على الصفة أي فوقهم وهو نصب على الظرف ، وقيل : هو كقوله : (لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ) (٢) وقد مضى ، ذكرنا تقديم الصفة على الموصوف ، وقيل : معناه عاليا لهم ثيابها كقوله : (هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ) (٣) ونحوها.

(خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ) اختلف القراء فيهما فقرأ ابن كثير وابو بكر والمفضل خُضْرٍ بالخفض على نعت السندس والإستبرق بالرفع على نعت الثياب ، وقرأ أبو جعفر وابن عامر وأبو عمرو ويعقوب بضده واختاره أبو عبيد وأبو حاتم ، وقرأ نافع وأيوب وحفص كليهما بالرفع ، وقرأ يحيى والأعمش وحمزة والكسائي وخلف كليهما بالجر.

(وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً) طاهر من الأقذار لم تدنسه الأيدي ولم تدنسه الأرجل كخمر الدنيا قال أبو قلابة وإبراهيم : يعني أنه لا يصير نجسا ولكنه يصير رشحا في أيديهم كريح المسك ، وأن الرجل من أهل الجنة يقسم له شهوة مائة رجل من أهل الدنيا وأكلهم ونهمتهم ، فإذا أكل ما شاء سقي شرابا طهورا فيطهر بطنه ويصير ما أكل رشحا يخرج من جلده أطيب ريحا من المسك الأذفر ويضمر بطنه وتعود شهوته ، وقيل : يطهرهم من الذنوب والأدناس والأنجاس ويرشحهم للجنّة.

__________________

(١) تفسير الطبري : ٢٩ / ٢٧١ ، وتفسير القرطبي : (١٩ / ١٤٢) وفيه : حديدة الجرية تسيل في حلوقهم انسلالا.

(٢) سورة الأنبياء : ٣.

(٣) سورة المائدة : ٩٥.

١٠٤

وقال جعفر : يطهّرهم به عن كلّ شيء سواه ، إذ لا طاهر من تدنّس شيء من الأكوان.

وقال أبو سليمان الداراني سقاهم ربّهم على حاشية بساط الود ، فأرواهم من صحبة الخلق وأراهم رؤية الحقّ ، ثمّ أقعدهم على منابر القدس وحيّاهم بتحيّة المزمّل وأمطر التأييد ، فسالت عليهم أودية الشوق فكفاهم هموم الفرقة وحيّاهم بسرور القربة.

وسمعت أبا القاسم الحبيبي يقول : سمعت أبا عبد الله محمّد بن علي الشاشي يقول : سمعت الحسن بن علوية الدامغاني يقول سئل أبو يزيد البسطامي عن قوله سبحانه (وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً) قال : طهّرهم به عن محبّة غيره ثم قال : إنّ لله شرابا ادّخره لأفاضل عباده يتولى سقيهم فإذا شربوا طاشوا وإذا طاشوا طاروا وإذا طاروا وصلوا وإذا وصلوا اتّصلوا فهم (فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ).

وسمعت أبا عبد الرحمن السلمي يقول : سمعت أبا بكر الرازي يقول : سمعت طيّب الحمّال يقول : صلّيت خلف سهل بن عبد الله العتمة فقرأ قوله : (وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً) فجعل يحرّك فمه كأنّه يمصّ ، فلمّا فرغ من صلاته قيل له : أتشرب أم تقرأ؟ قال : والله لو لم أجد لذّته عند قراءته كلذّتي عند شربه ما قرأته.

وأخبرني الحسين قال : حدّثنا هارون قال : حدّثنا حازم بن يحيى الحلواني قال حدّثنا محمّد ابن عبد الله بن عمار الموصلي قال : حدّثنا عفيف بن سالم عن أيّوب بن عتبة عن عطاء عن ابن عمر قال : جاء رجل من الحبشة إلى النبي عليه‌السلام عليه‌السلام يسأله فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «سل واستفهم».

فقال : يا رسول الله فضلتم علينا بالصور والألوان والنبوّة أفرأيت إن آمنت بمثل ما آمنت به وعملت بمثل ما عملت به أأني لكائن معك في الجنّة؟ قال : «نعم» ثمّ قال النبي عليه‌السلام: «والذي نفسي بيده ليرى بياض الأسود في الجنّة مسيرة ألف عام» ، ثمّ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قال لا إله إلّا الله كان له بها عهد عند الله ومن قال سبحان الله وبحمده كتب له مائة ألف حسنة وأربعة وعشرون ألف حسنة».

قال رجل : كيف نهلك بعدها يا رسول الله؟

قال : «إنّ الرجل ليأتي يوم القيامة لو وضع على جبل لأثقله ، قال : فتقوم النعمة من نعم الله سبحانه فيكاد أن تستنفد ذلك كلّه إلّا أن يتطوّل (١) الله تعالى برحمته» قال : ثمّ نزلت (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ) إلى قوله (وَمُلْكاً كَبِيراً) الآيات.

قال الحبشي : وإن عيني لتريان ما ترى عيناك في الجنّة.

__________________

(١) عند ابن كثير : يتغمده ، وعند القرطبي : يلطف.

١٠٥

قال النبي عليه‌السلام : «نعم» فاشتكى الحبشي حتى فاضت نفسه. فقال ابن عمر : لقد رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدليه في حفرته بيده [٨١] (١).

(إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً * إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً) قال ابن عبّاس : متفرّقا آية بعد آية ولم ينزله جملة فلذلك قال (نَزَّلْنا)) ...

(فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً) يعني وكفورا. الألف صلة ، وقال الفرّاء : أو معنى [....] (٢) كقول الشاعر :

لا وجد ثكلى كما وجدت ولا

وجد عجول أضلها ربع (٣)

أو وجد شيخ أضلّ ناقته

يوم توافي الحجيج فاندفعوا

أراد : ولا وجد شيخ.

قال قتادة : الآثم : الكفور ، نهى الله سبحانه وتعالى نبيّه عن طاعة أبو جهل لما فرضت على نبيّ الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الصلاة ، وهو يومئذ بمكّة نهاه أبو جهل عنها وقال : لئن رأيت محمدا يصلي لوطأت على عنقه. فأنزل الله سبحانه هذه الآية.

وقال مقاتل : (وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ) يعني من مشركي مكّة أنها تعني عتبة بن ربيعة قال للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن كنت صنعت ما صنعت من أجل النساء فقد علمت قريش أن بناتي من أجملها بنات فأنا أزوّجك بنتي وأسوقها إليك بغير مهر وأرجع عن هذا الأمر (٤).

(أَوْ كَفُوراً) يعني الوليد بن المغيرة قال للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا محمد إن كنت صنعت من أجل المال فقد علمت قريش أني من أكثرهم مالا فأنا أعطيك من المال حتى ترضى فارجع عن هذا الأمر ، فأنزل الله سبحانه (وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ [آثِماً]) أنها تعني عتبة (أَوْ كَفُوراً) تعني ولا كفورا وهو الوليد بن المغيرة.

(وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٢٥) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً (٢٦) إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً (٢٧) نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً (٢٨) إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (٢٩) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (٣٠) يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (٣١))

__________________

(١) تفسير ابن كثير : ١ / ٥٣٦ ، وتفسير القرطبي : ١٩ / ١٤٨.

(٢) غير مقروءة في المخطوط.

(٣) العجول من النساء التي فقد ولدها.

(٤) تفسير القرطبي : ١٩ / ١٤٩ وله تكملة.

١٠٦

(وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ) تعني صلاتي العشاء (وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً) يعني التطوّع (إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ) أمامهم وقدّامهم كقوله : (وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ) (١) وقوله سبحانه : (وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ) (٢).

(يَوْماً ثَقِيلاً) وهو يوم القيامة ، (نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا). قوّينا وحكمنا. (أَسْرَهُمْ) قال مجاهد وقتادة ومقاتل : خلقهم ، وهي رواية عطية عن ابن عباس يقال : رجل حسن الاسّر أي الخلق ، وفرس شديد الأسّر ، وقال أبو هريرة والربيع : مفاصلهم ، وقال الحسن : أوصالهم بعضها إلى بعض بالعروق والعصب وروى عبد الوهاب بن مجاهد عن أبيه (وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ) قال : الشرج وأصل الأسر الشكّ يقال : ما أحسن ما أسر قتبه أي شدّه ، ومنه قولهم : خذه بأسره إذا أرادوا أن يقولوا : هو لك كلّه كأنهم أرادوا بعكة وشدة لم تفتح ولم تنقص منه. قال لبيد :

ساهم الوجه شديد اسّره

مغبط الحارك محبوك الكفل (٣)

وقال الأخطل :

من كلّ مجتنب شديد أسره

سلس القياد تخاله مختالا (٤)

(وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً إِنَّ هذِهِ) السورة (تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) أي وسيلة بالطاعة. (وَما تَشاؤُنَ). بالياء ابن كثير وأبو عمرو ومثله روى هشام عن أهل الشام ، غيرهم بالتاء. (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) لأن الأمر إليه لا إليكم وفي أمره عند الله إلّا ما شاء الله ، (إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ) ، وقرأ أبان بن عثمان والظالمون (أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً).

__________________

(١) سورة الكهف : ٧٩.

(٢) سورة المؤمنون : ١٠٠.

(٣) تاج العروس : ٥ / ١٩١.

(٤) مجنتب : من الجنيبة وهي الفرس تقاد ولا تركب ، تفسير القرطبي : ١٩ / ١٥١.

١٠٧

سورة المرسلات

مكّية ، وهي ثمان مائة وستة عشر حرفا ،

ومائة واحدى وثمانون كلمة ، وخمسون آية

أخبرني محمد بن القاسم الفقيه قال : حدّثنا محمد بن زيد العدل قال : حدّثنا أبو يحيى البزاز قال : حدّثنا منصور قال : حدّثنا محمد بن عمران قال : حدّثنا أبي عن مخالد عن علي بن زيد عن زر بن حبيش عن أبيّ بن كعب قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ سورة والمرسلات كتب أنه ليس من المشركين» [٨٢] (١).

وروى الأسود بن يزيد عن عبد الله بن مسعود : قرأت (وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً) على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلة الجن ونحن نسير (٢).

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً (١) فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً (٢) وَالنَّاشِراتِ نَشْراً (٣) فَالْفارِقاتِ فَرْقاً (٤) فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً (٥) عُذْراً أَوْ نُذْراً (٦) إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ (٧) فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (٨) وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ (٩) وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ (١٠) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (١١) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (١٢) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (١٣) وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ (١٤) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١٥) أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (١٦) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (١٧) كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (١٨) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١٩) أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (٢٠) فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ (٢١) إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (٢٢) فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ (٢٣) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٢٤) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً (٢٥) أَحْياءً وَأَمْواتاً (٢٦) وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً (٢٧) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٢٨) انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢٩) انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ (٣٠) لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللهَبِ (٣١) إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (٣٢))

(وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً) يعني الرياح بعضها بعضا كعرف الفرس ، وقيل كثيرا. يقول العرب : الناس إلى فلان عرف واحد إذا توجهوا إليه فأكثروا ، وهذا معنى قول مجاهد وقتادة ، ورواية أبي العبيد عن ابن مسعود ، والعوفي عن ابن عباس ، وقال أبو صالح ومقاتل : يعني الملائكة التي أرسلت بالمعروف اسم واحد من أمر الله ونهيه ، وهي رواية مسروق عن ابن مسعود.

__________________

(١) تفسير مجمع البيان : ١٠ / ٢٢٧.

(٢) تفسير القرطبي : ١٩ / ١٥٣.

١٠٨

(فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً) يعني الرياح الشديدات الهبوب.

(وَالنَّاشِراتِ نَشْراً) يعني الرياح اللينة وقال أبو صالح هي المطرق. قال الحسن : هي الرياح يرسلها الله نشرا بين يدي رحمته اقسم الله بالرياح ثلاث مرات ، مقاتل : هم الملائكة ينشرون الكتب.

(فَالْفارِقاتِ فَرْقاً) قال ابن عباس وأبو صالح ومجاهد والضحاك : يعني الملائكة التي تفرّق بين الحقّ والباطل ، وقال قتادة والحسن وابن كيسان : يعني آي القرآن فرّقت بين الحلال والحرام ، وقيل : يعني السحابات الماطرة تشبيها بالناقة الفارق ، وهي الحامل التي تجزع حين تضع ، ونوق فراق.

(فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً) يعني الملائكة التي تنزل بالوحي نظيره قوله سبحانه : (تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ) (١). (عُذْراً أَوْ نُذْراً) يعني الأعذار والإنذار واختلف القرّاء فيهما فخففهما الأعمش وأبو عمرو وحمزة والكسائي واختاره أبو عبيد قال : لأنهما في موضع مصدرين أنما هو الأعذار والإنذار وليس بجمع فيثقّلا ، وثقلهما الحسن ، وهي رواية الأعشى والجعفي عن أبي بكر عن عاصم ، والوليد عن أهل الشام ، وروح عن يعقوب الياقوت بتثقيل النذر وتخفيف العذر وهما لغتان ، وقرأ إبراهيم التيمي وقتادة عذرا ونذرا بالواو العاطفة ولم يجعلا ألف بينهما.

(إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ * فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ) محي نورها ، (وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ) شقت (وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ) قلعت من أماكنها ، (وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ) جمعت لميقات يوم معلوم ، واختلف القراء فيه فقرأ ابو عمرو وقّتت بالواو وتشديد القاف وعلى الأصل ، وقرأ أبو جعفر بالواو والتخفيف ، وقرأ عيسى بن عمر الثقفي : أُقِتَتْ بالألف وتخفيف القاف ، وقرأ الآخرون بالألف والتشديد وهي اختيار أبي عبيد وأبي حاتم ، والعرب تعاقب بين الواو والهمزة كقولهم وكّدت واكّرت وورّخت الكتاب وأرّخته وودّشت من القوم وأرّشت ووشاح وأشاح وأكاف ووكاف ووسادة وأسادة ، وقال النخعي : رعدت.

(لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ) أي وقتت من الأجل وقيل : أخّرت (لِيَوْمِ الْفَصْلِ وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ. وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ. أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ) من الأمم المكذّبين في قديم الدهر (ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ) السالكين سبيلهم في الكفر والتكذيب ، وقرأ الأعرج نُتْبِعْهُمُ بالجزم وقرأ ابن مسعود سنتبعهم.

(كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ. وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ. أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ. فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ. إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ) وهو وقت الولادة (فَقَدَرْنا) قرأ عليّ والحسن

__________________

(١) سورة القدر : ٤.

١٠٩

والسلمي وطلحة وقتادة وأبو إسحاق وأهل المدينة وأيوب بالتشديد من التقدير وهي اختيار الكسائي ، وقرأ الباقون بالتخفيف من القدرة واختاره أبو عبيد وأبو حاتم لقوله (فَنِعْمَ الْقادِرُونَ) ويجوز أن يكون التشديد والتخفيف بمعنى واحد كقوله سبحانه وتعالى (نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ) (١) فهي بالتخفيف والتشديد ، (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ. أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً) وعاء (أَحْياءً وَأَمْواتاً) تجمعهم أحياء على ظهرها فإذا ماتوا ضمتهم إليها في بطنها وقال [بنان الصفّار] : خرجنا في جبانة مع الشعبي فنظر إلى الجبانة فقال : هذه الأموات ، ثم نظر إلى البيوت فقال : هذه كفات الأحياء.

وأصل الكفت : الجمع والضمّ ، وكانوا يسمّون بقيع الغرقد كفتة لأنه مقبرة تضمّ الموتى ، ومثله قول النبي عليه‌السلام «خمروا آنيتكم وأوّكوا أسقيتكم وأجيفوا الأبواب وأطفئوا المصابيح واكفتوا صبيانكم فإنّ للشيطان انتشارا وخطفة» [٨٣] (٢) يعني بالليل ، ويقال للأرض : كافتة.

(وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً) عذبا (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) ثم أخبر أنه يقال لهم يوم القيامة : (انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) في الدنيا (انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ) يعني دخان جهنم إذا ارتفع أشعب ، وقيل : أنها عنق يخرج من النار فينشعب ثلاث شعب فأمّا النور فيقف على رؤوس المؤمنين والدخان يقف على رؤس المنافقين واللهب الصافي يقف على رؤس الكافرين ، وقال مقاتل : هو السرادق والظل من يحموم.

(لا ظَلِيلٍ) لا كنين (وَلا يُغْنِي مِنَ اللهَبِ إِنَّها) يعني جهنم (تَرْمِي بِشَرَرٍ) ، وهي ما تطاير من النار إذا التهبت واحدتها شررة (كَالْقَصْرِ) وقرأ عيسى بشرار وهي لغة تميم واحدها شرارة.

(كَالْقَصْرِ) وقرأه العامّة بسكون الصاد ، وقال ابن مسعود : يعني الحصون والمدائن وهو واحد القصر وهي رواية الوالي عن ابن عباس قال : كالقصر العظيم ، وقال القرظي : إنّ على جهنم سورا فما خرج من وراء السور مما يرجع إليه في عظم القصر ولون النار.

وروى سعيد عن عبد الرحمن بن عابس قال : سألت ابن عباس عن قوله سبحانه : (إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ) قال هي الخشب العظام المقطعة وكنا نعمد إلى الخشب فنقطعها ثلاثة أذرع وفوق ذلك ودونه ندّخره للشتاء فكنّا نسمّيها القصر ، وقال مجاهد : هي حزم الشجر ، وقال سعيد ابن جبير والضحاك : هي أصول النخل والشجر العظام واحدتها قصرة مثل تمرة وتمر وجمر وقرأ علي بن أبي طالب وابن عباس : كَالْقَصَرِ بفتح الصاد أراد أعناق النخل ، والقصرة العنق وجمعها قصر وقصرات ، وقرأ سعيد بن جبير كَالْقِصَرِ بكسر القاف وفتح الصاد قال أبو حاتم : ولعله لغة ونظيرها في الكلام حاجة وحوج ، كأنه ردّ الكناية إلى اللفظ.

__________________

(١) سورة الواقعة : ٦٠.

(٢) الفائق في غريب الحديث : ١ / ٣٤٢.

١١٠

(كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ (٣٣) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٣٤) هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ (٣٥) وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (٣٦) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٣٧) هذا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (٣٨) فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (٣٩) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٠) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ (٤١) وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٤٢) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٤٣) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٤٤) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٥) كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (٤٦) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٧) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ (٤٨) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٩) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (٥٠))

كأنه جمالات قرأ ابن عباس جمالات بضم الجيم كأنها جمع جماله وهي الشيء المجمّل ، وقرأ حمزة والكسائي وخلف (جِمالَتٌ) بكسر الجيم من غير ألف على جمع الجمل مثل حجر وحجارة ، وقرأ يعقوب جُمالة بضم الجيم من غير ألف أراد الأشياء العظام المجموعة ، وقرأ الباقون جِمالات بالألف وكسر الجيم على جمع الجمال ، وقال ابن عباس وسعيد بن جبير : هي جبال السفن يجمع بعضها إلى بعض حتى تكون كأوساط الرجال ، (صُفْرٌ) جمع الأصفر يعني لون النار ، وقال بعض أهل المعاني : أراد سودا ، لأنّ في الخبر أن شرر نار جهنم سود كالقير ، والعرب يسمي السود من الإبل صفرا ، وقال الشاعر :

تلك خيلي منه وتلك ركابي

هن صفرا أولادها كالزبيب (١)

أي سودا.

وإنّما سمّيت سود الإبل صفرا لأنه يشوب سوادها بشيء من صفرة ، كما قيل لبيض الظباء : أدم ، لأن بيضها يعلوه كدرة.

(وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ * هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ * وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ) رفع عطف على قوله (يُؤْذَنُ) ...

(وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) قال أبو عثمان : أمسكتهم رؤية الهيبة وحياء الذنوب ، وقال الحسن : وهي عذر لمن أعرض عن منعمه وجحده وكفر بنعمه. (هذا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ * إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ) جمع الظل وقرأها الأعرج في ظلل على جمع الظلة (وَعُيُونٍ وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ) ويقال لهم : (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ * كُلُوا وَتَمَتَّعُوا) في الدنيا (قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ) مشركون مستخفون للعذاب ، (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ * وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا) صلّوا (لا يَرْكَعُونَ) لا يصلّون ، قال مقاتل : نزلت في ثقيف حين

__________________

(١) لسان العرب : ١ / ٣٥٥.

١١١

أمرهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالصلاة فقالوا لا نحني فإنها مسبّة علينا فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا خير في دين ليس فيه ركوع ولا سجود» [٨٤] (١) ، وقال ابن عباس : إنما يقال لهم : هذا يوم القيامة حين (يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ).

(وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ * فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ) أي بعد القرآن (يُؤْمِنُونَ) إذا لم يؤمنوا به ، وقال أهل المعاني : ليس قوله : (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) تكرارا غير مفيد لأنه أراد بكلّ قول منه غير ما أراد بالقول الاخر كأنه ذكر شيئا ثم قال : ويل للمكذّبين بهذا والله أعلم.

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١٩ / ١٦٨.

١١٢

سورة النبأ

مكّية ، وهي سبع مائة وسبعون حرفا ، ومائة وثلاث وسبعون كلمة ، وأربعون آية أخبرني ابن المعزي قال : أخبرنا ابن مطرّز قال : حدثنا ابن شريك قال : حدّثنا ابن يونس قال : حدّثنا سلام قال : حدّثنا هارون بن كثير عن زيد بن أسلم عن أبيه عن أبيّ أمامة عن أبي قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ (عَمَّ يَتَساءَلُونَ) سقاه الله سبحانه وتعالى برد الشراب يوم القيامة» [٨٥] (١).

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(عَمَّ يَتَساءَلُونَ (١) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (٢) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (٣) كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (٤) ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (٥) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً (٦) وَالْجِبالَ أَوْتاداً (٧) وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً (٨) وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً (٩) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً (١٠) وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً (١١) وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً (١٢) وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً (١٣) وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً (١٤) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً (١٥) وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً (١٦) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً (١٧) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً (١٨) وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً (١٩) وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً (٢٠) إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً (٢١) لِلطَّاغِينَ مَآباً (٢٢) لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً (٢٣) لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً (٢٤) إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً (٢٥) جَزاءً وِفاقاً (٢٦) إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً (٢٧) وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً (٢٨) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً (٢٩) فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذاباً (٣٠))

(عَمَّ يَتَساءَلُونَ) يعني عن أي شيء يتساءلون هؤلاء المشركين وذلك أنهم اختلفوا واختصموا في أمر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما جاءهم به ، (عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ) قال مجاهد هو القرآن. دليله قوله سبحانه (قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ) (٢) [الآية] وقال قتادة : هو البعث ، (الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ) فمصدّق ومكذّب (كَلَّا سَيَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ) وهذا وعيد لهم ، وقال الضحاك (كَلَّا سَيَعْلَمُونَ) يعني الكافرين ، (ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ) يعني المؤمنين ، وقراءة العامة بالياء فيهما ، وقرأ الحسن ومالك بن دينار بالتاء فيهما.

__________________

(١) تفسير مجمع البيان : ١٠ / ٢٣٧.

(٢) سورة ص : ٦٧.

١١٣

(أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً * وَالْجِبالَ أَوْتاداً * وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً) أصنافا ذكورا وإناثا.

(وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً) راحة لأبدانكم ، والنائم مسبوت لا يعلم ولا يعقل كأنّه ميّت ، (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً) غطاء وغشاء يلبس كل شيء بسواده (وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً) سببا لمعاشكم والتصرّف في مصالحكم فسمّاه به كقول الشاعر :

وأخو الهموم إذا الهموم تحضّرت

[جنح] الظلام وساده لا يرقد (١)

فجعل الوسادة هي التي لا ترقد والمعنى لصاحب الوسادة.

(وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً * وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً) مضيئا منيرا وقّادا حارّا وهي الشمس. (وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ) قال مجاهد ومقاتل وقتادة : يعني الرياح التي تعصر السحاب ، وهي رواية العوفي عن ابن عباس ومجازه على هذا التأويل بالمعصرات (مِنَ) بمعنى الباء كقوله سبحانه : (مِنْ كُلِّ أَمْرٍ سَلامٌ) (٢) وكذلك كان عكرمة يقرأها وأنزلنا بالمعصرات وروى الأعمش عن المنهال عن ابن عمرو وعن قيس بن سكن قال : قال عبد الله في قوله : (وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً) قال : بعث الله سبحانه الريح فحمل الماء من الماء فتدرّ كما تدر اللقحة (٣) ثم يبعث الماء كأمثال العزالي فتضرب به الرياح فينزل متفرّقا (٤).

قال المؤرّخ : المعصرات : ذوات الأعاصير ، وقال أبو العالية والربيع والضحاك : هي السحاب التي تجلب المطر ولم تمطر كالمرأة المعصر ، وهي التي دنا حيضها ، قال أبو النجم : قد أعصرت أو قد دنا اعصارها.

وهذه رواية الوالي عن ابن عباس. قال المبرّد : المعصرات الفاطرات ، وقال ابن كيسان : المغيثات من قوله (يَعْصِرُونَ) وقال أبي بن كعب والحسن وسعيد بن جبير وزيد بن أسلم ومقاتل بن حيان : (مِنَ الْمُعْصِراتِ) أي من السموات.

(ماءً ثَجَّاجاً) أي صبابا ، وقال مجاهد : مدرارا ، قتادة : متتابعا يتلوا بعضه بعضا ، وقال ابن زيد : كثيرا.

(لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً) مجتمعه ملتفة بعضه ببعض وواحدها ألفّ في قول [نحاة] البصرة وليس بالقوى وفي قول الآخرين واحدها لف ولفيف وقيل : هو جمع الجمع يقال : جنّة لفا [وبنت] لف وجنان لف بضم اللام ثم تجمع اللف ألفافا.

__________________

(١) تفسير الطبري : ٣٠ / ٦ مورد الآية.

(٢) سورة القدر : ٤ ـ ٥.

(٣) في نسخة المصدر : ناقة.

(٤) السنن الكبرى للبيهقي : ٣ / ٣٦٤.

١١٤

(إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً) لما وعد الله سبحانه (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً) [...] (١) ، وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن شنبه ، قال : حدّثنا عبد الله بن أحمد بن منصور الكسائي قال : حدّثنا محمد بن عبد الجبار قال : أخبرنا محمد بن زهير عن محمد بن المهتدي عن حنظلة الدّوري عن أبيه عن [البزا] بن عازب قال : كان معاذ بن جبل جالسا قريبا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في منزل أبي أيوب الأنصاري فقال معاذ : يا رسول الله أرأيت قول الله تعالى : (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً) فقال : «معاذ سألت عن عظيم من الأمر ، ثم أرسل عينيه ثم قال : تحشرون عشرة أصناف من أمتي أشتاتا قد ميّزهم الله تعالى من جماعة المسلمين وبدّل صورهم فبعضهم على صور القردة وبعضهم على صورة الخنازير وبعضهم منكبّين أرجلهم فوق ووجوههم أسفل يسحبون عليها ، وبعضهم عمي يتردّدون ، وبعضهم (صُمٌّ بُكْمٌ) (... لا يَعْقِلُونَ) ، وبعضهم يمضغون ألسنتهم وهي مدلّاة على صدورهم يسيل القيح من أفواههم يقذّرهم أهل الجمع ، وبعضهم مقطعة أيديهم وأرجلهم ، وبعضهم مصلّبين على جذوع من نار ، وبعضهم أشدّ نتنا من الجيف ، وبعضهم يلبسون جبابا سابغة من قطران لازقة بجلودهم ، فأما الذين على صورة القردة فالقتّات من الناس ـ يعني النّمام ـ وأما الذين على صورة الخنازير فأهل السحت ، والمنكسين على وجوههم فأكلة الربا ، والعمي من يجور في الحكم ، والصمّ والبكم المعجبون بأعمالهم ، والذين يمضغون ألسنتهم فالعلماء والقصاص الذين خالف قولهم أعمالهم ، والمقطّعة أيديهم وأرجلهم الذين يؤذون الجيران ، والمصلّبين على جذوع من نار فالسعاة بالناس إلى السلطان ، والذين هم أشد نتنا من الجيف فالذين يتمتعون بالشهوات واللذات ومنعوا حق الله سبحانه من أموالهم ، والذين يلبسون الجباب فأهل الكبر والفخر والخيلاء» [٨٦] (٢).

(وَفُتِحَتِ السَّماءُ) قرأ أهل الكوفة بالتخفيف وغيرهم بالتشديد. (فَكانَتْ أَبْواباً) أي شقت لنزول الملائكة ، وقيل : شقت حتى جعلت كالأبواب قطعا ، وقيل : تنحلّ وتتناثر حتى تصير فيها أبواب وطرق وقيل : إنّ لكل عبد بابين في السماء : باب لعمله وباب لرزقه ، فإذا قامت القيامة انفتحت الأبواب.

(وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ) عن وجه الأرض (فَكانَتْ سَراباً) كالسراب (إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً) طريقا وممرا فلا سبيل إلى الجنة حتى تقطع النار ، وقال مقاتل : محبسا (لِلطَّاغِينَ) للكافرين (مَآباً لابِثِينَ) قرأه العامة بالألف وقرأ علقمة وحمزة : لبثين بغير ألف وهما لغتان (فِيها أَحْقاباً) جمع حقب والحقب جمع حقبة كقول متمم :

وكنا كندماني جذيمة حقبة

من الدهر حتى قيل لن يتصدّعا (٣)

__________________

(١) كلمة غير مقروءة في المخطوط.

(٢) الدر المنثور : ٦ / ٣٠٧.

(٣) تاج العروس : ٣ / ١١٩.

١١٥

واختلف العلماء في معنى الحقب فقال قوم : هو اسم للزمان والدّهر وليس له حدّ ، وروى أبو الضحى عن ابن مسعود قال : لا يعلم عدد الأحقاب إلّا الله عزوجل ، وقال آخرون : هو محدود. ثم اختلفوا في مبلغ مدّته فقال طارق بن عبد الرحمن : دعاني شيخ بين الصفا والمروة فإذا عنده كتاب عبد الله بن عمرو (لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً) ان الحقب أربعون سنة كلّ يوم منها ألف سنة ، وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا موسى بن محمد وابن حسن قالا : حدّثنا محمد بن عمران قال : حدّثنا ابن المقري وأبو عبيد الله قالا : حدّثنا [محمد بن يحيى] العرني عن سفيان عن عمّار الدهني قال : قال علي بن أبي طالب لهلال الهجري : ما يجدون في الحقب في كتاب الله المنزل قال : يجده في كتاب الله ثمانين سنة كل سنة اثنا عشر شهرا لكل شهر ثلاثون يوما كل يوم ألف سنة.

وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا محمد بن عبد الله بن محمد بن الفتح قال : حدّثنا أبو حامد محمد بن هارون الحضرمي قال : حدّثنا زياد بن أبي يزيد قال : حدّثنا سليمان بن مسلم عن سليمان الحتمي عن نافع عن [ابن عمر] عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «والله لا يخرج من النار من دخلها حتى يكونوا فيها أحقابا ، والحقب بضع وثمانين سنة ، والسنة ثلاثمائة وستون ويوما ، كل يوم ألف (سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) ، فلا يتّكلنّ أحد على أن يخرج من النار» [٨٧] (١).

وقال أبي بن كعب : بلغني أن الحقب ثلاثمائة سنة كل سنة ثلاثمائة وستون يوما كلّ يوم ألف سنة ، وقال الحسن : إنّ الله سبحانه لم يذكر شيئا إلّا وجعل له مدّة ينقطع إليها ولم يجعل لأهل النار مدّة بل قال : (لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً) فو الله ما هو إلّا أنه إذا مضى حقب دخل آخر ثم آخر ثم آخر كذلك إلى أبد الآبدين فليس للأحقاب عدة إلّا الخلود في النار ولكن قد ذكروا أن الحقب الواحد سبعون ألف سنة كل يوم منها ألف سنة ممّا نعده ، وقال مقاتل بن حيان : الحقب الواحد سبع عشرة ألف سنة ، وقال وهذه الآية منسوخة (فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً) (٢) يعني أن العدد قد ارتفع والخلود قد حصل ، وقال بعض العلماء مجاز الآية (لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً) : لا يذوقون في تلك الأحقاب (إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً) ثم يلبثون أحقابا يذوقون حرّ الحميم ، والغساق من أنواع العذاب ، فهو توقيت لأنواع العذاب لا بمكثهم في النار.

(لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً) يشفيهم من الحر إلّا الغسّاق وهو الزمهرير ، وقيل صديد أهل السعير ، وقال الثمالي : دموعهم ، وقال شهر بن حوشب : الغسّاق واد في النار فيه ثلاثمائة وثلاثون شعبا في كل شعب ثلاثمائة وثلاثون بيتا في كل بيت أربع زوايا في كلّ زاوية شجاع كأعظم ما خلقه الله سبحانه من خلقه في رأس كل شجاع سم.

__________________

(١) الدر المنثور : ٦ / ٣٠٨.

(٢) سورة : النبأ : ٣٠.

١١٦

(وَلا شَراباً) يرويهم من العطش ، (إِلَّا حَمِيماً) وأنبأني عبد الله بن حامد قال : أخبرنا حامد بن محمد قال : حدّثنا عبد الله بن أحمد بن حماد قال : حدّثنا محمد بن علي الحسن الشقيقي قال : سألت أبا معاذ النحوي الفضل بن خالد المروزي يقول في قوله سبحانه : (لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً) قال : البرد : النوم ، ومثله قال الكسائي وأبو عبيده وانشدوا فيه :

بردت مراشفها عليّ فصدّني

عنها وعن قبلاتها البرد (١)

والعرب تقول : منع البرد البرد ، يعني أذهب البرد النوم ، قال الفراء : إنّ النوم ليبرّد صاحبه وإنّ العطشان لينام فيبرد غليله ؛ فلذلك سمي النوم بردا ، قال الشاعر :

وان شئت حرّمت النساء سواكم

وان شئت لم أطعم نقاخا (٢) ولا بردا (٣)

وقال الحسن وعطاء : (لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً) أي روّحا وراحة.

(جَزاءً) نصب على المصدر ، مجازه : جازيناهم جزاء.

(وِفاقاً) وافق أعمالهم وفاقا كما نقول : قاتل قتالا عن الأخفش ، وقال الفراء : هو جمع وفق والوفق واللفق واحد ، قال الربيع : جزاء بحسب أعمالهم ، الضحاك : على قدر أعمالهم ، مقاتل : وافق العذاب الذنب فلا ذنب أعظم من الشرك ولا عذاب أعظم من النار ، الحسن وعكرمة : كانت أعمالهم سيئة فأثابهم الله بما يسوءهم.

(إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ) يخافون (حِساباً وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً) تكذيبا قال الفراء : هي لغة يمانية فصيحة ، يقولون : كذّب كذّابا ، وخرّقت القميص خرّاقا ، كل فعّلت فمصدرها فعّال في لغتهم مشدّد ، قال : وقال لي إعرابي منهم : علي المروّة ستفتيني الحلاق أحب إليك أم القصاب وأنشدني بعض بني كلاب :

لقد طال [ما ثبطتني] عن صحابي

وعن حوج قضاؤها من شفائنا (٤)

(وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً * فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً) أخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا السنّي قال : أخبرني ابن منجويه قال : حدّثنا أبو داود الحراني قال : حدّثنا شعيب بن حيان قال : حدّثنا مهدي بن ميمون قال : حدّثنا وسمعت الحسن بن دينار سأل الحسن عن أشد آية في القرآن على أهل النار فقال الحسن : سألت أبا برزة الأسلمي فقال : سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً».

__________________

(١) جامع البيان للطبري : ٣٠ / ١٧.

(٢) النقاخ : الماء البارد الصافي.

(٣) الصحاح : ٢ / ٤٤٦.

(٤) تفسير الطبري : ٣٠ / ٢٢.

١١٧

(إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً (٣١) حَدائِقَ وَأَعْناباً (٣٢) وَكَواعِبَ أَتْراباً (٣٣) وَكَأْساً دِهاقاً (٣٤) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً (٣٥) جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً (٣٦) رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً (٣٧) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً (٣٨) ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً (٣٩) إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً (٤٠))

(إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً) فوزا ونجاة من النار الى الجنة ، وقال ابن عباس والضحاك : متنزّها.

(حَدائِقَ وَأَعْناباً * وَكَواعِبَ) نواهد قد تكعبت ثديهنّ واحدتها كاعب ، قال بشر بن أبي حازم :

[وكم من حصان قد حوينا كريمة]

ومن كاعب لم تدر ما البؤس معصر (١)

(أَتْراباً) مستويات في السنّ (وَكَأْساً دِهاقاً) قال الحسن وابن عباس وقتادة وابن زيد : مترعة مملوة ، وقال سعيد بن جبير ومجاهد : متتابعة (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً) تكذيبا وهي قراءة العامة ، وخفّفه الكسائي وهي قراءة أمير المؤمنين علي كرّم الله وجهه ، وهما مصدران للتكذيب.

وقال قوم : الكذاب بالتخفيف مصدر الكاذبة وقيل : هو الكذب ، قال الأعشى :

فصدقتها وكذبتها

والمرء تنفعه كذابه

وإنّما خففها هنا لأنها ليست بمقيّدة بفعل يصيّرها مصدرا له ، وشدد قوله : (وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً) لأن كذبوا يقيد الكذاب بالمصدر (٢).

(جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً) كثيرا كافيا وافيا يقال : أحسبت فلانا أي أعطيته ما يكفيه حتى قال : حسبي. قال الشاعر :

ونقفي وليد الحيّ إن كان جائعا

ونحسبه إن كان ليس بجائع (٣)

أي يعطيه حتى يقول حسبي.

وقيل : جزاء بقدر أعمالهم وقرأ أبو هاشم (عَطاءً حِساباً) بفتح الحاء وتشديد السين على وزن فعّال أي كفافا. قال الأصمعي : تقول العرب حسّبت الرجل بالتشديد إذا أكرمته ، وأنشد :

إذا أتاه ضيفه يحسّبه

من حاقن (٤) أو من صريح يحلبه (٥)

__________________

(١) سقط في المخطوط واستدركناه عن تفسير القرطبي : ١٩ / ١٨٣.

(٢) في تفسير القرطبي (١٩ / ١٨٤) : يقيد المصدر بالكذاب.

(٣) تفسير القرطبي : ١٩ / ١٨٤.

(٤) حقن اللبن : جمعه في السقاء.

(٥) تفسير مجمع البيان : ١٠ / ٢٤٦.

١١٨

وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن حبيش قال : حدّثنا الطهراني قال : أخبرنا يحيى بن الفضل قال : حدّثنا وهب بن عمر قال : أخبرنا هارون بن موسى عن حنظلة عن شهر عن ابن عباس أنه قرأ (عطاء حسنا) بالنون.

(رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ) قرأ ابن مسعود والأشهب وأبو جعفر وشيبة ونافع وأبو عمرو سلام ويعقوب برفع الباء والنون ، وقرأ ابن عامر وعيسى وعاصم كلاهما خفضا واختاره أبو حاتم ، وقرأ ابن كثير ومحيض ويحيى وحمزة والكسائي (رَبِ) خفضا والرحمنُ رفعا ، واختاره أبو عبيد ، وقال : هذه أعدلها عندي أن يخفض الأوّل منهما لقربه من قوله : (جَزاءً مِنْ رَبِّكَ) فتكون نعتا له ونرفع الرحمنُ لبعده منه.

(لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً) كلاما وقال الكلبي : شفاعة إلّا بإذنه.

(يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ) اختلفوا فيه ، فأخبرنا ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن خرجة قال : حدّثنا عبد الله بن العباس الطيالسي قال : حدّثنا أحمد بن عبد الله قال : حدّثنا أبي قال : حدّثنا إبراهيم ابن طهمان عن مسلم الأعور عن مجاهد عن ابن عباس قال : أتى نفر من اليهود رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : أخبرنا عن الروح ما هو؟ قال : «هو جند من جند الله ليسوا بملائكة ، لهم رؤوس وأيد وأرجل يأكلون الطعام ثم قرأ (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا) الآية ، قال : هؤلاء جند وهؤلاء جند» [٨٨] (١).

وقال ابن عباس : هو من أعظم الملائكة خلقا ، وأخبرنا ابن فنجويه قال : حدّثنا موسى قال : حدّثنا ابن علوية قال : حدّثنا إسماعيل قال : حدّثنا المسيب قال : حدّثنا ثابت أبو حمزة عن عامر عن علقمة عن ابن مسعود قال : الروح ملك أعظم من السموات ومن الجبال وأعظم من الملائكة ، وهو في السماء الرابعة تسبح كلّ يوم اثني عشر تسبيحة يخلق من كل تسبحه ملك يجيء يوم القيامة صفا وحده ، وقال الشعبي والضحاك : هو جبريل ، وروى الضحاك عن ابن عباس قال : إنّ عن يمين العرش نهرا من نور مثل السموات السبع والأرضين السبع والبحار السبع يدخل جبريل عليه‌السلام فيه كل فجر فيغتسل فيزداد نورا إلى نوره وجمالا إلى جماله وعظما إلى عظمه ، ثم ينتفض فيخرج الله سبحانه من كل قطرة تقع من ريشه كذا وكذا ألف ملك يدخل منهم كلّ يوم سبعون ألف ملك البيت المعمور في الكعبة سبعون ألفا لا يعودون إليه إلى أن تقوم الساعة ، وقال وهب : إنّ جبريل عليه‌السلام واقف بين يدي الله سبحانه ترعد فرائصه يخلق الله سبحانه وتعالى من كلّ رعدة ألف ملك ، فالملائكة صفوف بين يدي الله منكّسوا رؤوسهم ، فإذا أذن الله سبحانه لهم في الكلام قالوا : لا إله إلّا أنت وهو قوله سبحانه : (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا).

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١٩ / ١٨٧.

١١٩

(لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً) يعني لا إله إلّا الله ، وقال مجاهد : هم خلق على صورة بني آدم يأكلون ويشربون ، أبو صالح : خلق يشبهون الناس وليسوا ، وقال الحسن وقتادة : هم بنو آدم ، قال قتادة : وهذا مما كان يكتمه ابن عباس ، وروى ابن مجاهد عن ابن عباس قال : الروح خلق من الله وصورهم على صور بني آدم وما ينزل من السماء ملك إلّا ومعه واحد من الروح ، عطية : هي أرواح الناس يقوم مع الملائكة فيما بين النفختين قبل أن ترد الأرواح الى الأجساد ، وقال ابن زيد : كان أبي يقول : هو القرآن وقرأ (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا) (١).

(يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا) قال الشعبي : هما سماطا ربّ العالمين يوم القيامة سماطا من الروح وسماطا من الملائكة (لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً) قال : لا إله إلّا الله في الدنيا.

(ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً) مرجعا وسبيلا إلى طاعته ، (إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً) يعني القيامة وقيل القتل ببدر.

(يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً) قال عبد الله بن عمر : إذا كان يوم القيامة مدت الأرض مدّ الأديم وحشرت الدواب والبهائم والوحش ثم يجعل القصاص بين الدواب حتى يقتص للشاة الجماء من الشاة القرناء نطحتها ، فإذا فرغ من القصاص قال لها : كوني ترابا ، فعند ذلك (يَقُولُ الْكافِرُ : يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً). قال مجاهد : يقاد يوم القيامة للمنقورة وللمنطوحة من الناطحة ، وقال المقاتلان : إنّ الله سبحانه وتعالى يجمع الوحوش والهوام والطير كلّ شيء غير الثقلين فيقول : من ربّكم فيقولون : الرحمن الرحيم ، فيقول لهم الرب تبارك وتعالى بعد ما يقضي بينهم حتّى يقتص للجماء من القرناء : أنا خلقتكم وسخّرتكم لبني آدم وكنتم مطيعين أيام حياتكم فارجعوا إلى الذي كنتم كونوا ترابا فيكونون ترابا ، فإذا التفت الكافر إلى شيء صار ترابا يتمنى فيقول : يا ليتني كنت في الدنيا في صورة خنزير رزقي كرزقه وكنت اليوم في الآخرة ترابا. قال عكرمة : بلغني أنّ السباع والوحوش والبهائم إذا رأين يوم القيامة بني آدم وما هم فيه من الغمّ والحزن قلن : الحمد لله الذي لم يجعلنا مثلكم فلا جنّة نرجو ولا نارا نخاف ، وأخبرنا عبد الله بن حامد قال : أخبرنا محمّد بن خالد قال : حدّثنا داود بن سليمان قال : حدّثنا عبد بن حميد قال : حدّثنا الحسن بن موسى قال : حدّثنا يعقوب بن عبد الله قال : حدّثنا جعفر عن عبد الله بن ذكوان أبي الزياد قال : إذا قضي بين الناس وأمر أهل الجنة إلى الجنّة وأهل النار إلى النار قيل لسائر الأمم ولمؤمني الجنّ : عودوا ترابا فيعودون ترابا ، فعند ذلك يقول الكافر حيث يراهم قد عادوا ترابا : (يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً) ، وبه قال ليث بن سليم : مؤمنوا الجن يعودون ترابا ،

__________________

(١) سورة الشورى : ٥٢.

١٢٠