دلائل الصدق لنهج الحق - ج ٧

الشيخ محمد حسن المظفر

دلائل الصدق لنهج الحق - ج ٧

المؤلف:

الشيخ محمد حسن المظفر


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ دمشق
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ دمشق
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-360-8
الصفحات: ٦٠٠

__________________

لنا : تكرّر العمل به كثيراً من الصحابة والتابعين شائعاً ذائعاً من غير نكير ...

قد ثبت جواز التعبّد بخبر الواحد ، وهو واقع ، بمعنى أنّه يجب العمل بخبر الواحد ، وقد أنكره القاساني والرافضة وابن داود ، والقائلون بالوقوع قد اختلفوا في طريق إثباته ، والجمهور على أنّه يجب بدليل السمع ، وقال أحمد والقفّال وابن سريج وأبو الحسين البصري بدليل العقل.

لنا : إجماع الصحابة والتابعين ؛ بدليل ما نقل عنهم من الاستدلال بخبر الواحد ، وعملهم به في الوقائع المختلفة التي لا تكاد تحصى ، وقد تكرّر ذلك مرّة بعد أُخرى ، وشاع وذاع بينهم ، ولم ينكر عليهم أحد ، وإلاّ نُقل ، وذلك يوجب العلم العادي باتّفاقهم كالقول الصريح ، وإنْ كان احتمال غيره قائماً في كلّ واحد واحد ؛ فمن ذلك : أنّه عمل أبو بكر بخبر المغيرة في ميراث الجدّة ، وعمل عمر ... وعمل الصحابة بخبر أبي بكر : (الأئمّة من قريش) ، و (الأنبياء يُدفنون حيث يموتون) ، و (نحن معاشر الأنبياء لا نورث).

إلى غير ذلك ممّا لا يجدي استيعاب النظر فيه إلاّ التطويل».

وقال الرازي : «المسلك الرابع : الإجماع ، العمل بخبر الواحد الذي لا يُقطع بصحّته مجمَع عليه بين الصحابة ، فيكون العمل به حقاً.

إنّما قلنا : (مجمَع عليه بين الصحابة) ؛ لأنّ بعض الصحابة عمل بالخبر الذي لا يُقطع بصحّته ، ولم ينقل عن أحد منهم إنكارٌ على فاعله ، وذلك يقتضي حصول الإجماع.

وإنّما قلنا : (إنّ بعض الصحابة عمل به) ؛ لوجهين :

الأوّل : وهو أنّه روي بالتواتر ، أنّ يوم السقيفة لمّا احتجّ أبو بكر (رضي الله عنه) على الأنصار بقوله عليه الصلاة والسلام : (الأئمّة من قريش) ، مع أنّه مخصّصٌ لعموم قوله تعالى : (أطِيعُوا اللهَ وأطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولي الأمْرِ مِنْكُمْ) ، قبلوه ولم ينكر عليه أحد ...

الثاني : الاستدلال بأُمور لا ندّعي التواتر في كلّ واحد منها ، بل في مجموعها.

وتقريره : أن نبيّن أنّ الصحابة عملوا على وفق خبر الواحد ، ثمّ نبيّن أنّهم إنّما عملوا به لا بغيره.

١٠١

__________________

أمّا المقام الأوّل ، فبيانه من وجوه :

الأوّل : رجوع الصحابة إلى خبر الصدّيق في قوله عليه الصلاة والسلام : (الأنبياء يدفنون حيث يموتون) ، وفي قوله : (الأئمّة من قريش) ، وفي قوله : (نحن معاشر الأنبياء لا نورث) ...».

وقال الغزّالي : «وكلام من ينكر خبر الواحد ولا يجعله حجّةً في غاية الضعف ، ولذلك تُرك توريث فاطمة ـ رضي الله عنها ـ بقول أبي بكر : (نحن معاشر الأنبياء لا نورث) الحديث.

فنحن نعلم أنّ تقدير كذب أبي بكر وكذب كلّ عدل ، أبعد في النفس من تقدير كون آية المواريث مسوقة لتقدير المواريث ، لا للقصد إلى بيان حكم النبيّ عليه الصلاة والسلام ...».

وقال الآمدي ـ في مبحث حجّيّة خبر الواحد ـ : «ويدلّ على ذلك ما نقل عن الصحابة من الوقائع المختلفة الخارجة عن العدّ والحصر ، المتّفقة على العمل بخبر الواحد ووجوب العمل به ، فمن ذلك ما روي عن أبي بكر الصدّيق (رضي الله عنه) أنّه عمل بخبر المغيرة و ... ومن ذلك عمل جميع الصحابة بما رواه أبو بكر الصدّيق من قوله : (الأئمّة من قريش) ، ومن قوله : (الأنبياء يدفنون حيث يموتون) ومن قوله : (نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة) ...».

وقال علاء الدين البخاري : «وكذلك أصحابه عملوا بالآحاد وحاجّوا بها في وقائع خارجة عن العدّ والحصر ، من غير نكير منكر ، ولا مدافعة دافع ... ومنها : رجوعهم إلى خبر أبي بكر (رضي الله عنه) في قوله (عليه السلام) : (نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة) ...».

وقال عبد العلي الأنصاري : «ولنا ثانياً : إجماع الصحابة على وجوب العمل بخبر العدل ... فمن ذلك : أنّه عمل الكلّ من الصحابة بخبر خليفة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أبي بكر الصديق (رضي الله عنه) : (الأئمة من قريش) ، و (نحن معاشر الأنبياء لا نورث) ...».

وقال نظام الدين الأنصاري ـ في مبحث وجوب قبول خبر الواحد ، من (شرح المنار في علم الأُصول) ـ : «ولهم أيضاً : الإجماع ، وتفصيله ـ على ما في التحرير ـ أنّه تواتر عن الصحابة ـ رضوان الله تعالى عليهم ـ في وقائع خرجت عن

١٠٢

__________________

الإحصاء يفيد مجموعها إجماعهم على وجوب القبول ... فلنعدّ جملةً ، منها : عمل أمير المؤمنين أبي بكر الصدّيق بخبر المغيرة ...

وأيضاً : إنّ الإجماع قد ثبت على قبول خبر أبي بكر : (الأئمة من قريش) و (نحن معاشر الأنبياء لا نورث) ...

وها هنا دغدغة : فإنّ ذلك يستلزم أن يُنسخ الكتاب بخبر الواحد ، فإنّه قبل انعقاد الإجماع كان خبراً واحداً محضاً ، وفي الكتاب توريث البنت مطلق.

نعم ، إنّ أبا بكر إذ سمع من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فلا شبهة عنده ، فإنّه أتمّ من التواتر ، فصحّ له ذلك مخصّصاً أو نسخاً ، بخلاف مغيرة ، فإنّه إنّما خصّ أو نسخ بخبر الواحد. وبعد الإجماع فإنّما الإنساخ والتقييد بخبر الواحد عند المحقّقين.

والجواب : إنّ عمل أمير المؤمنين أبي بكر بمنزلة قوله وقول غيره من الصحابة : إنّ هذا منسوخ ؛ وهو حجّة في النسخ ، مع أنّ طاعة أُولي الأمر واجبة».

وقال القاضي الإيجي وشارحه الشريف الجرجاني : «شرائط الإمامة ما تقدّم ، وكان أبو بكر مستجمعاً لها ، يدلّ عليه كتب السير والتواريخ ، ولا نسلّم كونه ظالماً.

قولهم : كان كافراً قبل البعثة ؛ تقدّم الكلام فيه ، حيث قلنا : الظالم من ارتكب معصيةً تسقط العدالة بلا توبة وإصلاح ، فمن آمن عند البعثة وأصلح حاله لا يكون ظالماً.

قولهم : خالف الآية في منع الإرث.

قلنا : لمعارضتها بقوله (عليه السلام) : (نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة).

فإن قيل : لا بُد لكم من بيان حجّيّة ذلك الحديث الذي هو من قبيل الآحاد ، ومن بيان ترجيحه على الآية.

قلنا : حجّيّة خبر الواحد والترجيح ممّا لا حاجة لنا إليه ها هنا ؛ لأنّه (رضي الله عنه) كان حاكماً بما سمعه من رسول الله ، فلا اشتباه عنده في سنده».

وقال سعد الدين التفتازاني : «فممّا يقدح في إمامة أبي بكر (رضي الله عنه) أنّه خالف كتاب الله تعالى في منع إرث النبيّ ، بخبر رواه ، وهو : (نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة) ، وتخصيص الكتاب إنّما يجوز بالخبر المتواتر دون الآحاد.

١٠٣

فإذا عرفت أنّ أبا بكر متفرّد بهذه الرواية ، عرفت أنّه لا يصحّ التعويل عليها ؛ إذ لا يمكن أن يُخفي نبيُّ الرحمة والهدى هذا الحكم عمّن هو محلُّ الابتلاء به ـ وهم ورثته ـ ، ويعرّف به أجنبيا واحداً ، حتّى يصير سبباً للفتنة والخلاف بين ابنته الطاهرة ومَن يلي أمر الأُمة إلى أن ماتت غضبى عليه ، وهو قد قال في حقّها : «إنّ الله يغضب لغضبها ، ويرضى لرضاها» (١) ..

و «يؤذيني ما يؤذيها» (٢).

__________________

والجواب : إنّ خبر الواحد ـ وإن كان ظنّيّ المتن ـ قد يكون قطعي الدلالة ، فيخصّص به عامّ الكتاب ؛ لكونه ظنّيّ الدلالة وإن كان قطعيّ المتن ، جمعاً بين الدليلين ، وتمام تحقيق ذلك في أُصول الفقه ، على أنّ الخبر المسموع من فم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إن لم يكن فوق المتواتر فلا خفاء في كونه بمنزلته ، فيجوز للسامع المجتهد أن يخصّص به عامّ الكتاب».

انظر ما تقدّم من النصوص في : تاريخ الخلفاء : ٨٦ ، تاريخ دمشق ٣٠ / ٣١١ ، الصواعق المحرقة : ٢٠ ، شرح مختصر ابن الحاجب ٢ / ٥٨ ـ ٥٩ ، المحصول في علم الأُصول ٢ / ١٨٠ ـ ١٨١ ، كشف الأسرار في شرح أُصول البزدوي ٢ / ٦٨٨ ، فواتح الرحموت شرح مسلّم الثبوت ـ في هامش «المستصفى» ـ ٢ / ١٣٢ ، شرح المواقف ٨ / ٣٥٥ ، شرح المقاصد ٥ / ٢٧٨.

هذا ، وقد عالج السيّد عليّ الحسيني الميلاني ـ حفظه الله ـ قضية فدك خاصة وميراث النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) عامة بأُسلوب جديد متقن في كتابه «مسألة فدك» ؛ فراجعه!

(١) تقدّم تخريجه في الصفحة ٧٥ هـ ٢ من هذا الجزء ؛ فراجع!

(٢) انظر : صحيح البخاري ٧ / ٦٦ ذ ح ١٥٩ ، صحيح مسلم ٧ / ١٤١ ، سنن الترمذي ٥ / ٦٥٥ ح ٣٨٦٧ وص ٦٥٦ ح ٣٨٦٩ ، سنن أبي داود ٢ / ٢٣٣ ح ٢٠٧١ ، سنن ابن ماجة ١ / ٦٤٤ ذ ح ١٩٩٨ ، خصائص الإمام عليّ (عليه السلام) ـ للنسائي ـ : ١٠١ ـ ١٠٢ ح ١٢٨ و ١٢٩ ، مسند أحمد ٤ / ٥ و ٣٢٨ ، المعجم الكبير ٢٢ / ٤٠٤ ح ١٠١٠ و ١٠١١ وص ٤٠٥ ح ١٠١٣ ، المستدرك على الصحيحين ٣ / ١٧٣ ح ٤٧٥٠

١٠٤

فكان هذا البيان لفضلها مع ذلك الإخفاء عنها ، سبباً لاختلاف أُمته والعداوة بينهم إلى الأبد ؛ لأنّهم بين ناصر لها وقاطع بصوابها ، وبين ناصر لأبي بكر وراض بعمله.

وكيف يُتصوّر أن يُخفيَ هذا الحكم عن أخيه (١) ، ونفسه (٢) ، وباب مدينة عِلمه (٣) ، ومَن عندَه عِلم الكتاب (٤) ، ويُظهره لغيره (٥)؟!

ليت شعري! ألم تكن لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) رأفةٌ على بضعته فيعلمها حكمها ويصونها عن الخروج إلى المحافل مطالبة بما لا تستحقّ ، وتعود بالفشل راغمةً مهضومة؟!

ما أظنّ مؤمناً برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، عارفاً بشأنه ، يلتزم بصحة هذا

__________________

و ٤٧٥١ ، حلية الأولياء ٢ / ٤٠ رقم ١٣٣ ، الإحسان بترتيب صحيح ابن حبّان ٩ / ٥٣ ح ٦٩١٦ ، الشفا بتعريف حقوق المصطفى ٢ / ٢٣٠ ، شرح نهج البلاغة ٤ / ٦٤ وج ٩ / ١٩٣ ، تفسير الفخر الرازي ٢٧ / ١٦٧ في تفسير آية المودّة.

(١) راجع مبحث حديث المؤاخاة في : ج ٦ / ١٢٢ ـ ١٣٢ ، من هذا الكتاب.

(٢) تقدّمت الإشارة إلى ذلك في الصفحة ٩٩ هـ ٤ ؛ فراجع!

(٣) راجع مبحث حديث مدينة العلم في : ج ٦ / ١٧١ ـ ١٨١ ، من هذا الكتاب.

(٤) بنصّ قوله تعالى : (ويقولُ الّذين كفروا لستَ مرسَلا قل كفى بالله شهيداً بيني وبينكم ومَن عندَه عِلمُ الكتاب) سورة الرعد ١٣ : ٤٣.

راجع مبحث الآية الكريمة في : ج ٥ / ١١٥ ـ ١١٩ ، من هذا الكتاب.

(٥) قال الفخر الرازي في هذا المضمون ما نصه : «إنّ المحتاج إلى معرفة هذه المسألة ما كان إلاّ فاطمة وعليّ والعبّاس ، وهؤلاء كانوا من أكابر الزهّاد والعلماء وأهل الدين ، وأمّا أبو بكر فإنّه ما كان محتاجاً إلى معرفة هذه المسألة ألبتّة ؛ لأنّه ما كان ممّن يخطر بباله أنّه يرث من الرسول عليه الصلاة والسلام ، فكيف يليق بالرسول عليه الصلاة والسلام أن يبلّغ هذه المسألة إلى من لا حاجة به إليها ولا يبلّغها إلى مَن له إلى معرفتها أشد الحاجة؟!».

انظر : تفسير الفخر الرازي ٩ / ٢١٨ في تفسير قوله تعالى : (يوصيكم الله في أولادكم للذَّكر مثل حظّ الأُنثيين).

١٠٥

الخبر مع هذه المفاسد!

وأما ما أجاب به عن السؤال بقوله : «فإن قيل : لا بُد لكم من بيان حجّية هذا الحديث ، ومن بيان ترجيحه على الآية» ..

ففيه : إنّ دعوى الحكومة لأبي بكر في المقام خطأٌ ؛ فإنّه خصم بحت ؛ لاستحقاقه لهذه الصدقة ، وإنْ فُرض غناه ؛ لأنّها من الصدقات بالمعنى الأعمّ الذي ادّعاه الخصم.

بل أبو بكر أظهر الناس خصومةً ؛ لأنّه يزعم أنّ أمر صدقات النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) راجعٌ إلى وليّ الأمر بعده ، وأنّه وليّه.

وليت شعري لِمَ صار أمير المؤمنين (عليه السلام) خصماً لليهودي في الرواية التي ذكرها الفضل ورجع إلى شريح ، وصار أبو بكر هو الحكَم في ما ادّعاه على الزكيّة الطاهرة؟!

ولو سُلّم أنّ له الحكومة وإنْ كان خصماً ، فالحديث الذي استند إليه في الحكم عليها ليس قطعيّ الدلالة ؛ لاحتمال أن يريد به النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) : أنّا لا نترك شيئاً من المال يبقى بعدنا لورثتنا (١) ، بل نصرفه في وجوه البرّ ؛ إذ ليس من شأننا جمع المال كالملوك ، وما نتركه بعدنا إنّما هو من مال الصدقات التي لنا الولاية عليها.

وحينئذ لو اتّفق بقاء مال يملكه النبيّ لسبب يُرجح بقاءه (٢) ، لا يمتنع أن يكون إرثاً لورثته.

__________________

(١) ويؤيّده ما ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال ـ في حديث ـ : «وذاك أنّ الأنبياء لم يورِّثوا درهماً ولا ديناراً ...».

انظر : الكافي ١ / ٣٢ ح ٢ باب صفة العلم وفضله وفضل العلماء.

(٢) كالأشياء التي يحتاج إليها إلى آخر عمره الشريف ؛ كالثياب والسلاح والدابّة ، ونحو ذلك.

١٠٦

وقول الخصم : «لانتفاء الاحتمالات التي يمكن تطرّقها إليه بقرينة الحال ...» إلى آخره ..

رجمٌ بالغيب ؛ إذ لا دليل على وجود قرينة الحال لولا حمل أبي بكر على الصحّة ، وهو ليس أَوْلى بالحمل على الصحّة من أهل البيت الملغين لحديثه!

نعم ، لا ينكر ظهور حديثه في مطلوبه ، لكنّه لو صحّ لا يصلح لمعارضة ظهور الآيات في توريث الأنبياء ، لا سيما ما تعرّض منها لإرث الأنبياء بخصوصهم.

وأمّا ما زعمه من الفرق بين الشهادة والرواية ..

فممنوعٌ إذا كانت الرواة لإثبات الحاكم مدّعاه بروايته ؛ إذ تلحقه التهمة بإرادة جرّ النفع إلى نفسه ، كالشاهد!

وأما ما أجاب به عن آية إرث سليمان ..

فمخالف للظاهر ، بل غير صحيح ؛ لأنّ سليمان كان نبيا في حياة أبيه ، فكيف يرث منه النبوّة؟!

وكذا العلم ؛ لقوله تعالى : (ولقد آتينا داودَ وسليمانَ علماً وقالا الحمد لله الذي فضّلنا على كثير من عباده المؤمنين * وورثَ سليمانُ داودَ) (١) .. الآية.

فإنّه دالٌّ على أنّ كلاًّ منهما قد أُوتي علماً بالأصالة ؛ ولذا قال سبحانه : (ففهّمناها سليمانَ) (٢) ، فيدلّ قوله : (وورثَ) على أنّه ورث منه أمراً آخر غير العلم ، وينصرف إلى المال.

__________________

(١) سورة النمل ٢٧ : ١٥ و ١٦.

(٢) سورة الأنبياء ٢١ : ٧٩.

١٠٧

وإنّما بيّن سبحانه إرثه للمال ؛ للدلالة على أنّه بقيَ بعده ، وأنّ الأنبياء تُورِّث المالَ وترثُ منه.

وأما ما ذكره بالنسبة إلى دعاء زكريا (عليه السلام) ..

فيَرِدُ عليه أوّلا : منعُ اتّفاق العلماء على إرادة النبوّة والحبورة ؛ لمخالفة أهل البيت وشيعتهم جميعاً (١) ، وأكثر علماء التفسير من العامة (٢) ..

قال الرازي في تفسير الآية : «اختلفوا في المراد بالميراث على وجوه :

أحدها : إنّ المراد بالميراث في الموضعين : هو وراثة المال ؛ وهذا قول ابن عبّاس والحسن والضحاك.

وثانيها : إنّ المراد في الموضعين : وراثة النبوّة ؛ وهو قول أبي صالح (٣).

وثالثها : يرثني المال ، و [يرث] من آل يعقوب النبوّة ؛ وهو قول السدي ومجاهد والشعبي ، وروي أيضاً عن ابن عبّاس والحسن والضحاك (٤).

ورابعها : يرثني العِلمَ ، ويرث من آل يعقوب النبوّة ؛ وهو مرويٌّ عن

__________________

(١) انظر : مجمع البيان ٦ / ٣٧٦ ، نهج البيان ٣ / ٣٠٣.

(٢) انظر مثلا : تفسير الطبري ٨ / ٣٠٨ ح ٢٣٤٩٢ ـ ٢٣٤٩٤ ، تفسير الثعلبي ٦ / ٢٠٦ ، تفسير الماوردي ٣ / ٣٥٥ ، تفسير البغوي ٣ / ١٥٨ ، زاد المسير ٥ / ١٥٤ ، تفسير القرطبي ١١ / ٥٤ ، تفسير ابن كثير ٣ / ١٠٩.

(٣) وكذا هو قول الحسن والسُّدي ، انظر : تفسير الحسن البصري ٢ / ١٠٦ ـ ١٠٧ ، تفسير السُدي الكبير : ٣٣٨ ، تفسير عبد الرزّاق ٢ / ٣.

(٤) وكذا هو قول الثوري ؛ انظر : تفسير سفيان الثوري : ١٨١ رقم ٥٥٤.

١٠٨

مجاهد» (١).

وحكى السيوطي في «الدرّ المنثور» ، عن الفريابي ، أنّه أخرج عن ابن عبّاس ، قال : «كان زكريّا لا يُولد له ، فسأل ربّه فقال : ربّ هب (لي من لَدنك وليا * يرثني ويرثُ من آل يعقوبَ) (٢).

قال : يرثني مالي ، ويرث من آل يعقوب النبوّة» (٣).

ويَرِدُ عليه ثانياً : إنّ دعواه الإجماع على أنّ يحيى قُتل قبل أبيه باطلة ؛ لأنّها من قبيل دعوى الإجماع على خلاف ما أنزل الله تعالى ، قال سبحانه : (إنّي خِفتُ المواليَ من ورائي ... فهب لي مِن لَدنك وليا * يَرثني ...) (٤).

فإنّه يستلزم بمقتضى استجابة دعاء زكريّا أن يكون يحيى قد بقيَ بعد أبيه ؛ لأنّ الوراثة تستدعي بقاء الوارث بعد الموروث.

وثالثاً : إنّه لا بُد من حمل الآية على ميراث المال لا النبوّة ؛ لأُمور :

الأوّل : إنّ يحيى (عليه السلام) كان نبيا في حياة أبيه وهو صبيّ ، فلا معنى لأن يكون وارثاً للنبوّة من أبيه ، مع أنّ النبوّة لا تحصل بالميراث إلاّ بالتجوّز ، وهو خلاف الظاهر.

الثاني : إنّ الموالي كانوا شرار بني إسرائيل ، كما في «الكشّاف» (٥) ،

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ٢١ / ١٨٥ ، وانظر : تفسير مجاهد : ٤٥٣.

(٢) سورة مريم ١٩ : ٥ و ٦.

(٣) الدرّ المنثور ٥ / ٤٨٠.

(٤) سورة مريم ١٩ : ٥ و ٦.

(٥) الكشّاف ٢ / ٥٠٢.

١٠٩

وغيره (١) ، فلا يجوز أن يرثوا النبوّة حتّى يخافهم من ورائه ، ويدعوَ أن يهب الله له وارثاً غيرَهم.

ولو فُرض إمكان نبوّتهم ، فلا وجه لخوفه من إرثهم للنبوّة إلاّ البخل بنعمة الله على الغير ، وهو كما ترى ، بل ينبغي سروره بذلك لخروجهم من الضلال إلى الهدى.

ودعوى أنّه ما خاف أن يرثوا النبوّة ، بل خاف أن يُضيّعوا الدين ويغيّروه ، فدعا ربّه أن يهب له ولداً حافظاً للدين ، مانعاً لهم عن الفساد ، ممنوعة ؛ لبعدها عن سوق الآيات وخصوصيّات الكلام ، التي منها أنّه طلب وليّاً ، وهو لا خصوصيّة له في تحصيل هذا الغرض ، وطلب أن يكون رضيّاً من دون قيد التمكّن من دفعهم عن الفساد.

الثالث : إنّه لو كان المراد : ولداً وارثاً للنبوّة ، لكان دعاؤه أن يجعله رضيا ، فضولا ؛ إذ لا تكون النبوّة إلاّ لرضيّ ، والحال أنّ ظاهره التقييد.

كما يشهد له ما حكاه السيوطي في «الدرّ المنثور» ، عن ابن أبي حاتم ، أنّه أخرج عن محمّد بن كعب ، قال : «قال داود : يا ربّ! هبْ لي ابناً ؛ فوُلد له ابنٌ خرج عليه ، فبعث له داودُ جيشاً ..

إلى أن قال : ربّ إنّي سألت أن تهب لي ابناً ، فخرج علَيَّ؟!

قال : إنّك لم تستثنِ!

قال محمّد بن كعب : لم يقل كما قال زكريا : (واجعله ربّ

__________________

(١) تفسير الماوردي ٣ / ٣٥٥ ، تفسير البيضاوي ٢ / ٢٧ ، روح المعاني ١٦ / ٨٨ ، مجمع البيان ٦ / ٣٧٥.

١١٠

رضيا) (١)» (٢).

هذا ، ولا يُستبعد من زكريّا أن يطلب وارثاً لماله ، وإن لم يدخل المال تحت نظر الأنبياء ؛ لأنّه خاف أن يرث الموالي ماله فيستعينون به على معاصي الله تعالى.

ولا يُشكَل بأنّه إذا خاف ذلك أمكنه أن يتصدّق بماله فيحصل له ثواب الصدقة ويتمّ غرضه ؛ وذلك لأنّه لا يرجح أن يُفقِر الإنسانُ نفسَه باختياره ابتداءً منه ، وكلّما نال مالا أخرجه في آنه ، قال تعالى : (ولا تبسُطها كلَّ البسطِ فتقعدَ ملوماً محسوراً) (٣).

على أنّ طلب الولد الصالح الذي يتعاهد أباه بماله ونتائجه وعمله أَوْلى من الصدقة.

وأما ما أجاب به عن مناقضة فعل أبي بكر لروايته في توريث السيف والعمامة ، فيبتني ردّه على الإحاطة بأخبارهم الحاكية لكيفيّة وصول السيف والعمامة لأمير المؤمنين (عليه السلام) ، ولم يتيسّر لي الآن ذلك (٤).

__________________

(١) سورة مريم ١٩ : ٦.

(٢) الدرّ المنثور ٥ / ٤٨١.

(٣) سورة الإسراء ١٧ : ٢٩.

(٤) نقول : روى أصحابنا في كتبهم خبرَ إعطاءِ رسولِ الله (صلى الله عليه وآله وسلم) سيفَه ودرعَه وخاتَمَه وجميعَ لامتِه لعليّ (عليه السلام) ، من طريق عديدة ، منها عن أبي رافع ، وابن عبّاس ، وعليّ (عليه السلام) ، جاء فيه أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : يا عبّاس! يا عمّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)! تقبل وصيّتي وتنجز عِدَتي وتقضي ديني؟

قال العبّاس : يا رسول الله! عمّك شيخ كبير ذو عيال كثيرة ، وأنتَ تباري الريح سخاءً وكرماً ، وعليك من العِدات ما لا ينهض به عمّك!

فأقبل على عليّ (عليه السلام) وقال : يا أخي! تقبل وصيّتي وتنجز عِدَتي وتقضي ديني؟

١١١

ولكن لأبي بكر مناقضة أُخرى اطّلعتُ عليها في «مسند أحمد» (١) ..

فقد أخرج عن ابن عبّاس ، أنّه قال : «لمّا قُبض رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) واستُخلِف أبو بكر ، خاصم العبّاسُ عليا في أشياء تركها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ؛ فقال أبو بكر : شيء تركه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فلم يحرّكه ، فلا أُحرّكه» .. الحديث.

ومثله في «كنز العمّال» في أوّل كتاب الخلافة (٢) ، عن أحمد والبزّار ، وقال : «حسن الإسناد».

فإنّ هذا الحديث صريح في أنّهما اختصما بأشياء من متروكات

__________________

فقال : نعم يا رسول الله!

فقال : ادنُ منّي!

فدنا منه ، فضمّه إليه ، ونزع خاتمه من يده ، فقال : خذ هذا فضعه في يدك ؛ ودعا بسيفه ودرعه وجميع لامته ... الخبر.

انظر : مناقب الإمام أمير المؤمنين ـ للكوفي ـ ١ / ٣٨٢ ح ٣٠٠ وص ٣٩٧ ح ٣٢١ وص ٤٣٢ ح ٣٣٦ ، الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد ١ / ١٨٥ ، مناقب آل أبي طالب ٣ / ٦٠ الذي نقل الإجماع على حديث ابن عبّاس ، نهج الإيمان : ٢٢٩ عن «نخب المناقب» لأبي عبد الله الحسين بن جبر.

وانظر كذلك : ينابيع المودّة ٢ / ٢٩٩ ح ٨٥٦ نقلا عن «مودّة القربى» للهمداني.

فالذي أعطى السيف والعمامة هو رسول الله (عليه السلام) وليس أبو بكر ، ولم يكن صدقة!

ثمّ كيف يمكن عدّه من جملة مال مَن لا وارث له؟! أليس يناقض قوله : «نحن معاشر الأنبياء لا نورَث» لو كان له وارث فعلا؟!

فتدبّر!

(١) ص ١٣ من الجزء الأوّل. منه (قدس سره).

(٢) ص ١٢٥ من الجزء الثالث [٥ / ٥٨٦ ـ ٥٨٧ ح ١٤٠٤٤]. منه (قدس سره).

وانظر : مسند أحمد ١ / ١٣ ، مسند البزّار ١ / ٦٧ ح ١٤ ، مسند أبي يعلى ١ / ٣٤ ح ٢٦ ، المعجم الكبير ١ / ٦٣ ح ٤٤.

١١٢

النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ، ومقتضى رواية أبي بكر أن تكون هذه المتروكات من الصدقات ، فكيف كان على أبي بكر أن لا يحرّكها؟!

وأيُّ تحريك أكبر من حكم النبيّ بأنّها صدقة؟!

وأمّا قوله : «ولو كان ميراثاً لكان العبّاس وارثاً أيضاً ؛ لأنّه العمّ» ..

فمردودٌ بأنّ العمّ لا يرث مع البنت ؛ لبطلان التعصيب (١) على الأحقّ ، ولو سُلّم فقد زعم بنو العبّاس أنّهم ورثوا البردة والقضيب ، ولعلّهم يرون أنّهما كانا سهم العبّاس من الميراث.

هذا كلّه في دعوى الإرث.

وأمّا دعوى النِّحلة ، فلا ريب بصدورها من سيّدة النساء (عليها السلام) ، وهي مسلّمةٌ من الصدر الأوّل إلى الآن.

__________________

(١) التعصيب : هو إعطاء ما فضل من التركة من أصحاب الفروض إلى عَصَبَة الميّت ـ وهم بنوه وقرابته لأبيه ، الّذين يرثون الرجلَ عن كلالة ، من غير والد ولا ولد ـ ، فكلّ مَن لم تكن له فريضة مسمّاة ، يأخذ من الميراث إنْ بقي شيء بعد قسمة الفرائض.

انظر : الحاوي الكبير ١٠ / ٢٨٨ ، المبسوط ـ للسرخسي ـ ٢٩ / ١٥٧ وج ٣٠ / ١٣ ، بداية المجتهد ٥ / ٤٠٢ ـ ٤٠٦ ، المغني ـ لابن قدامة ـ ٧ / ٧ ، المجموع شرح المهذّب ١٦ / ٩٧ ، الشرح الكبير على المقنع ـ لابن قدامة المقدسي ـ ٧ / ٥٣ ، اللباب في شرح الكتاب ٤ / ١٩٣ ، لسان العرب ٩ / ٢٣٢ مادّة «عصب».

نقول : لقد أجمعت الطائفةُ الحقة الإماميّة الاثنا عشرية على بطلان التعصيب وعدم جوازه ، فلا ميراث للعصبَة عند الإماميّة على تقدير زيادة الفريضة عن السهام ؛ مستدلّين بعمومِ قوله تعالى : (وأُولو الأرحام بعضُهم أَوْلى ببعض في كتاب الله) سورة النساء ٤ : ٧٥ ، وإجماعِ أهل البيت (عليهم السلام) وتواترِ أخبارهم بذلك ، فيُردّ فاضلُ التركة بعد توزيع السهام على الوارث الأوّل.

انظر مثلا : الكافي ٧ / ٧٥ ح ١ ، تهذيب الأحكام ٩ / ٢٥٩ ـ ٢٦٧ ، وسائل الشيعة ٢٦ / ٨٥ ـ ٨٩ ح ٣٢٥٤٣ ـ ٣٢٥٥٣ باب بطلان التعصيب من كتاب الفرائض والمواريث ، الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية ٨ / ٧٩ ـ ٨١.

١١٣

قال قاضي القضاة ـ في ما حكاه عنه ابن أبي الحديد (١) ـ : «أكثر ما يروون في هذا الباب غير صحيح ، ولسنا ننكر صحة ما روي من ادّعائها فدك ، فأما أنّها كانت في يدها فغير مسلّم».

فأنت ترى أنّه لم ينازع إلاّ في كون فدك بيدها الذي هو محلّ الكلام في الصدر الأوّل ، ولم ينكر صحّة ما روي من ادّعائها النحلة.

وحكى ابن أبي الحديد ، عن كتاب «السقيفة وفدك» لأحمد بن عبد العزيز الجوهري أخباراً كثيرة في ادّعائها نِحلة فدك (٢).

وذكر في «المواقف» وشرحها ، في المقصد الرابع من مقاصد الإمامة ، أنّها ادّعت النحلة وشهد لها عليٌّ والحسنان ، وأضاف في «المواقف» : أُمَّ كلثوم ، وقال في شرحها : «الصحيح : أُمّ أيمن» (٣).

ولم يناقش أحدهما في وقوع دعوى النحلة ، وصدور شهادة الشهود بها ، وإنّما أجابا بتصويب أبي بكر في ردّ شهادتهم!

وقال ابن حجر في «الصواعق» (٤) : «ودعواها أنّه (صلى الله عليه وآله وسلم) نحلها فدكاً ، لم تأت عليها إلاّ بعليّ ، وأُمّ أيمن ، فلم يكمل نصاب البيّنة ؛ على أنّ في قبول شهادة الزوج لزوجته خلافاً بين العلماء ، وعدم حكمه بشاهد ويمين ، إمّا (لعلّه لكونه) (٥) ممّن لا يراه ، ككثير من العلماء ، أو أنّها لم تطلب

__________________

(١) ص ٩٩ من المجلّد الرابع [١٦ / ٢٦٩]. منه (قدس سره).

وانظر : المغني ـ للقاضي عبد الجبّار ـ ٢٠ ق ١ / ٣٣٣ ـ ٣٣٤ ، الشافي في الإمامة ٤ / ٩٠.

(٢) شرح نهج البلاغة ١٦ / ٢١١ ـ ٢٢٠ و ٢٢٨ و ٢٣٠ ـ ٢٣٤.

(٣) المواقف : ٤٠٢ ، شرح المواقف ٨ / ٣٥٥ ـ ٣٥٦.

(٤) في الشبهة السابعة من الفصل الخامس من الباب الأوّل [ص ٥٧]. منه (قدس سره).

(٥) كذا في الأصل ، وهو تصحيف ، صوابه ما في المصدر : «لعلّة كونه».

١١٤

الحلف مع مَن شهد لها.

وزعمهم أنّ الحسن والحسين وأُمّ كلثوم شهدوا لها ، باطل ؛ على أنّ شهادة الفرع والصغير غير مقبولة» ؛ انتهى.

فإنّه لم يُنكر صدور الدعوى منها وشهادة أمير المؤمنين (عليه السلام) وأُمّ أيمن لها ، وإنّما أنكر شهادة الحسنين وأُمّ كلثوم.

وقال الشهرستاني في أوائل «الملل والنحل» : «الخلاف السادس : في أمر فدك والتوارث عن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ، ودعوى فاطمة وراثةً تارةً ، وتمليكاً أُخرى ، حتّى دُفعت عن ذلك بالرواية المشهورة عن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) : نحن معاشر الأنبياء لا نورَث ما تركناه صدقة» (١).

فإذا عرفت هذا فنقول : لا ريب عندنا أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) نحلها فدك ، وأنّ اليد لها عليها من يوم أفاء الله تعالى بها عليه ، وكان بأمر الله سبحانه حيث قال له : (وآتِ ذا القربى حقه) (٢).

وأنّ أبا بكر قبضها قهراً ، وطلب منها البيّنة على خلاف حكم الله تعالى ؛ لأنّه هو المدّعي.

وقد حاجّه أمير المؤمنين (عليه السلام) في ذلك ، فما كان جوابهم إلاّ أن قال عمر : «لا نقوى على حجتك ، ولا نقبل إلاّ أن تُقيم فاطمة البيّنة» ، كما صرّحت به أخبارنا (٣) ، وشهدت به أخبارهم (٤) ..

__________________

(١) الملل والنحل ١ / ١٣.

(٢) سورة الإسراء ١٧ : ٢٦.

(٣) انظر : كتاب سُليم ٢ / ٦٧٧ ـ ٦٧٨ و ٨٦٨ ، تفسير القمّي ٢ / ١٣٣ ـ ١٣٤ ، الاحتجاج ١ / ٢٣٧ ـ ٢٣٨.

(٤) كما دلّت عليه الأخبار التي تقدّمت في هذا المبحث ، وكذا ما سيأتي منها.

١١٥

قال السيوطي في «الدرّ المنثور» ، في تفسير قوله تعالى : (وآت ذا القربى حقه) من سورة بني إسرائيل : «أخرج البزّار ، وأبو يعلى ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، عن أبي سعيد الخُدري ، قال : لمّا نزلت هذه الآية : (وآت ذا القربى حقه) ، دعا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فاطمة فأعطاها فدك» (١).

قال : «وأخرج ابن مردويه ، عن ابن عبّاس ، قال : لمّا نزلت : (وآت ذا القربى حقه) أقطع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فاطمة فدكاً» (٢).

ونقل السيوطي ـ أيضاً ـ الحديثين في «لباب النقول» ، وذكر أنّ الطبراني أخرج ـ أيضاً ـ الحديث الأوّل عن أبي سعيد ، لكن قال : «قال ابن كثير : هذا مُشكل ، فإنّه يُشعر بأنّ الآية مدنيّة ، والمشهور خلافه» (٣).

وفيه ـ مع أنّه يكفينا موافقة البعض ـ : أنّ الشهرة لو سُلّمت إنّما هي على كون السورة مكّية ، وهو باعتبار أغلبها ، فلا يُنافي نزول آية منها بالمدينة.

وحكى في «كنز العمّال» (٤) ، عن ابن النجّار ، والحاكم في «تاريخه» ، عن أبي سعيد ، قال : «لما نزلت : (وآتِ ذو القربى حقه) قال النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) : يا فاطمة! لكِ فدك».

__________________

(١) الدرّ المنثور ٥ / ٢٧٣ ، وانظر : مسند أبي يعلى ٢ / ٣٣٤ ح ١٠٧٥ وص ٥٣٤ ح ١٤٠٩.

(٢) الدرّ المنثور ٥ / ٢٧٤.

(٣) انظر : لباب النقول : ١٣٦ ؛ وراجع : مجمع الزوائد ٧ / ٤٩ وقال الهيثمي : «رواه الطبراني» ، تفسير ابن كثير ٣ / ٣٦.

(٤) في صلة الرحم من كتاب الأخلاق ، ص ١٥٨ ج ٢ [٣ / ٧٦٧ ح ٨٦٩٦]. منه (قدس سره).

١١٦

وحينئذ ، فتكون مطالبة أبي بكر للزهراء بالبيّنة خلافَ الحقّ وظلماً محضاً ؛ لأنّها صاحبة اليد وهو المدّعي.

ويدلّ على أنّ اليد لها ، لفظُ الإيتاء في الآية ، والإقطاعُ والإعطاءُ في الأخبار المذكورة ، فإنّها ظاهرة فى التسليم والمناولة.

كما يشهد لكون اليد لها ، دعواها النِحلة ـ وهي سيّدة النساء وأكملهنّ (١) ـ ، وشهادةُ أقضى الأُمّة بها (٢) ؛ لأنّ الهبة لا تتمّ بلا إقباض (٣).

فلو لم تكن صاحبة اليد لَما ادّعت النِحلة ، ولردّ القوم دعواها بلا كلفة ، ولم يحتاجوا إلى طلب البيّنة.

ولو سُلّم عدم معلوميّة أنّ اليد لها ، فطلبُ أبي بكر منها البيّنةَ جورٌ أيضاً ؛ لأنّ أدلّة الإرث تقضي بملكيّتها لفدك ، ودعواها النِحلة لا تجعلها مدّعية لِما تملك.

بل مَن زَعَمَ الصدقة هو المدعي ، وعليه البيّنة ، ولا تكفي روايته في إثبات ما يدعي ؛ لأنّه الخصم ـ كما عرفت ـ ، كما لا يُقبل ـ أيضاً ـ حكم الخصم على خصمه.

على أنّ البيّنة طريق ظنّي مجعول لإثبات ما يحتمل ثبوته وعدمه ، فلا مورد لها مع القطع واليقين المستفاد في المقام من قول سيّدة النساء التي طهّرها الله تعالى وجعلها بضعةً من سيّد أنبيائه ؛ لأنّ القطع طريق

__________________

(١) تقدّم تفصيل ذلك في : ج ٦ / ٤٣٩ ـ ٤٤٥ ، من هذا الكتاب ؛ فراجع!

(٢) تقدّم تخريج حديث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : «أقضاكم عليّ» ، في : ج ٦ / ٣١٩ هـ ٣ ، من هذا الكتاب ؛ فراجع!

(٣) انظر : كتاب الأُمّ ٤ / ٧٤ ـ ٧٥ ، الحاوي الكبير ٩ / ٣٩٩ ـ ٤٠٥ ، بداية المجتهد ٥ / ٣٦٣ ، المغني ـ لابن قدامة ـ ٦ / ٢٤٦ ، نتائج الأفكار ٩ / ١٩ ـ ٢٠ ، شرح العناية على الهداية ٩ / ١٩ ، حاشية الچلبي على الهداية ٩ / ١٩.

١١٧

ذاتي إلى الواقع ، لا بجعل جاعل (١) ، فلا يمكن رفعُ طريقيّته ، أو جعلُ طريق ظاهريّ على خلافه.

ولذا كان الأمر في قصة شهادة خُزيمة (٢) للنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ، هو ثبوت ما ادّعاه النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بلا بيّنة مع مخاصمة الأعرابي له ، فإنّ شهادة خزيمة فرع عن قول النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وتصديق له ، فلا تفيد أكثر من دعوى النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم).

بل كان اللازم على أبي بكر والمسلمين أن يشهدوا للزهراء ، تصديقاً

__________________

(١) بخلاف البيّنة ؛ فهي أمارة ، والأمارة طريق ظنّي إلى الواقع ، وما كان ظنّاً لا يعارض القطع.

(٢) هو : أبو عُمارة خزيمة بن ثابت بن الفاكه بن ثعلبة الخَطْمي الأوسي الأنصاري ، ولقّب بذي الشهادتين ؛ لأنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) جعل شهادته بشهادة رجلين في حادثة مشهورة.

فقد روي في سبب تسميته ب «ذي الشهادتين» : إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) اشترى فرساً من أعرابي ، ثمّ إنّ الأعرابي أنكر البيع ، فأقبل خزيمة بن ثابت الأنصاري ففرج الناسَ بيده حتّى انتهى إلى النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فقال : أشهدُ يا رسولَ الله لقد اشتريتَه منه! فقال الأعرابي : أتشهد ولم تحضرنا؟! قال النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) : أشهِدتَنا؟ قال : لا يا رسول الله! ولكنّي علمتُ أنّك قد اشتريت ، أفأُصدّقك بما جئتَ به من عند الله ، ولا أُصدّقك على هذا الأعرابي الخبيث؟!

قال : فعجب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وقال : يا خزيمة! شهادتك شهادة رجلين.

شهد بدراً وما بعدها من المشاهد ، وكان ورجل آخر يكسّران أصنام بني خَطْمة ، وكانت راية بني خَطْمة بيده يوم فتح مكة ، وشهد حربَي الجمل وصِفّين مع الإمام أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام) ، واستُشهد بصِفّين سنة ٣٧ هـ.

انظر : سنن أبي داود ٣ / ٣٠٦ ـ ٣٠٧ ح ٣٦٠٧ ، مصنّف عبد الرزّاق ٨ / ٣٦٦ ـ ٣٦٧ ح ١٥٥٦٥ ـ ١٥٥٦٨ ، المعجم الكبير ٤ / ٨٧ ح ٣٧٣٠ ، الطبقات الكبرى ـ لابن سعد ـ ٤ / ٢٧٩ رقم ٥٨٤ ، معرفة الصحابة ـ لأبي نُعيم ـ ٢ / ٩١٣ رقم ٧٩٤ ، الاستيعاب ٢ / ٤٤٨ رقم ٦٦٥ ، تاريخ دمشق ١٦ / ٣٦٦ ـ ٣٦٨ ، أُسد الغابة ١ / ٦١٠ رقم ١٤٤٦ ، سير أعلام النبلاء ٢ / ٤٨٥ رقم ١٠٠.

١١٨

لها ، كما فعل خزيمة مع النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وأمضى النبيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم) فِعلَه.

ولكن يا للأسف! مَن اطّلع على أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) نحلها فدك أخفى شهادته ؛ رعايةً لأبي بكر ، كما في الأكثر ..

أو خوفاً منه ومن أعوانه ؛ لِما رأوا من شدتهم على أهل البيت (عليهم السلام) ..

أو عِلما بأنّ شهادتهم تُردّ ؛ لِما رأوه من ردّ شهادة أمير المؤمنين (عليه السلام) ، واجتهاد الشيخين في غصب الزهراء ؛ ولذا لم يشهد أبو سعيد وابن عبّاس ، مع أنّهم علموا ورووا أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أعطى فاطمة فدك.

ولا يبعد أنّ سيّدة النساء لم تطلب شهادة ابن عبّاس وأبي سعيد وأمثالهما ؛ لأنّها لم تُرِد ـ واقعاً ـ بمنازعة أبي بكر إلاّ إظهارَ حالِه وحالِ أصحابه للناس إلى آخر الدهر ، (ليهلك مَن هلك عن بيّنة ويحيى مَن حَيَّ عن بيّنة) (١).

وإلاّ فبضعة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أجلُّ قدراً وأعلى شأناً من أن تحرص على الدنيا ، ولا سيّما أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أخبرها بقرب موتها وسرعة لحاقها به.

ولو سُلّم أنّ قول الزهراء وحده لا يفيد القطع ، فهل يبقى مجال للشكّ بعد شهادة أمير المؤمنين (عليه السلام)؟!

ولو سُلّم حصول الشكّ ، فقد كان اللازم على أبي بكر أن يعرض عليها اليمين ـ حينئذ ـ ولا يتصرّف بفدك قبله ؛ لوجوب الحكم بالشاهد

__________________

(١) سورة الأنفال ٨ : ٤٢.

١١٩

واليمين ، كما رواه مسلم في أوّل «كتاب الأقضية» ، عن ابن عبّاس ، قال : «قضى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بيمين وشاهد» (١).

ونقل في «كنز العمّال» (٢) ، عن ابن راهويه ، عن عليّ (عليه السلام) ، قال : «نزل جبرئيل على النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) باليمين مع الشاهد».

ونقل في «الكنز» ـ أيضاً (٣) ـ ، عن الدارقطني ، عن ابن عمر (٤) ، قال : «قضى الله في الحقّ بشاهدين ، فإن جاء بشاهدين أخذ حقّه ، وإن جاء بشاهد واحد حلف مع شاهده».

ونقل ـ أيضاً (٥) ـ ، عن البيهقي ، عن عليّ (عليه السلام) ، قال : «اليمين مع الشاهد ، فإن لم تكن له بيّنةٌ فاليمين على المدّعى عليه» .. الحديث.

مع أنّهم قد رووا أنّ أبا بكر وعمر وعثمان يقضون باليمين مع الشاهد ، كما نقله في «الكنز» ـ أيضاً (٦) ـ ، عن الدارقطني والبيهقي ، عن

__________________

(١) صحيح مسلم ٥ / ١٢٨ ، وانظر : سنن الترمذي ٣ / ٦٢٧ ـ ٦٢٨ ح ١٣٤٣ ـ ١٣٤٥ وفي ذيل الحديث الأوّل المرويّ عن أبي هريرة ما لفظه : «وفي الباب عن عليّ وجابر وابن عبّاس وسُرَّقَ» ، سنن ابن ماجة ٢ / ٧٩٣ ح ٢٣٧٠ ، سنن أبي داود ٣ / ٣٠٧ ح ٣٦٠٨ ، سنن الدارقطني ٤ / ١١٥ ـ ١١٦ ح ٤٤٤٨ ، مصنّف ابن أبي شيبة ٧ / ٥ ح ١٢.

(٢) في كتاب الخلافة ، ص ١٧٨ من الجزء الثالث [٥ / ٨٢٦ ح ١٤٤٩٨]. منه (قدس سره).

(٣) في كتاب الشهادات ص ٤ من الجزء الرابع [٧ / ١٦ ح ١٧٧٥٣]. منه (قدس سره).

وانظر : سنن الدارقطني ٤ / ١١٥ ح ٤٤٤٢.

(٤) كذا في الأصل ، وفي المصدر : «عمرو».

(٥) ص ٦ ج ٤ [٧ / ٢٣ ح ١٧٧٨٤]. منه (قدس سره).

وانظر : السنن الكبرى ـ للبيهقي ـ ١٠ / ١٨٤ كتاب الشهادات ، باب النكول وردّ اليمين.

(٦) ص ١٧٨ ج ٣ [٥ / ٨٢٥ ح ١٤٤٩٦]. منه (قدس سره).

١٢٠