دلائل الصدق لنهج الحق - ج ٧

الشيخ محمد حسن المظفر

دلائل الصدق لنهج الحق - ج ٧

المؤلف:

الشيخ محمد حسن المظفر


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ دمشق
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ دمشق
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-360-8
الصفحات: ٦٠٠

فليس عندي ؛ ولكنّي رأيت مجلساً قبيحاً ، وسمعت نَفَساً حثيثاً وانبهاراً (١) ، ورأيتُه متبطنها.

فقال : أرأيته يدخل ويخرج كالميل في المكحلة؟

قال : لا.

قال أبو الفرج : وروى كثير من الرواة أنّه قال : رأيته رافعاً برجليها ، ورأيت خصيتيه متردّدتين بين فخذيها ، وسمعت حفزاً شديداً ، وسمعت نفَساً عاليا.

فقال عمر : أرأيته يدخله ويخرجه كالميل في المكحلة؟

قال : لا.

فقال عمر : الله أكبر! قم يا مغيرة إليهم فاضربهم»!

إلى أن قال : «وأعجبَ عمرَ قولُ زياد ، ودرأ الحدّ عن المغيرة.

فقال أبو بكرة بعد أن ضُرب : أشهد أنّ المغيرة فعل كذا وكذا.

فهمَّ عمر بضربه ، فقال عليٌّ : إنْ ضربته رجمتُ صاحبَك! ونهاه عن ذلك.

قال أبو الفرج : يعني : إنْ ضربته تصير شهادته شهادتين ، فيوجب بذلك الرجمَ على المغيرة».

إلى أن قال : «فلمّا ضُربوا الحدّ قال المغيرة : الله أكبر! الحمد لله الذي أخزاكم.

فقال عمر : اسكت! أخزى الله مكاناً رأَوْكَ فيه».

__________________

(١) البُهْر : تتابع النّفَس أو انقطاع النّفَس من الإعياء ؛ انظر : لسان العرب ١ / ٥١٦ مادّة «بهر».

٢٦١

إلى أن قال : «وحجّ عمر بعد ذلك مرّةً ، فوافق الرقطاء بالموسم فرآها ، وكان المغيرة يومئذ هناك ، فقال عمر للمغيرة : ويحك! أتتجاهل علَيّ؟! والله ما أظنّ أنّ أبا بكرة كذَب عليك ، وما رأيتُك إلاّ خِفتُ أن أُرمى بحجارة من السماء.

قال : وكان عليٌّ بعد ذلك يقول : إنْ ظفرتُ بالمغيرة لأُتبعنّه الحجارة».

ثمّ إنّ رواية الطبري وابن الأثير ، وإن لم تشتمل على تلويح عمر إلى زياد بترك الشهادة ، لكنّها لا تنافي الروايات الكثيرة المصرّحة بتلويحه ، وقد سمعتَ بعضها.

ومنها : ما نقله في «كنز العمال» (١) ، عن البيهقي ، عن قَسَامة (٢) ابن زهير ، قال : لمّا كان من شأن أبي بكرة والمغيرة الذي كان ، ودعا الشهود فشهِد أبو بكرة ، وشهِد ابن معبد ، ونافع ، فشقّ على عمر حين شهِد هؤلاء الثلاثة.

فلمّا قام زياد قال عمر : [إنّي] أرى غلاماً كيساً لن يشهد إن شاء الله إلاّ بحق.

قال زياد : أما الزنا فلا أشهد به ، ولكن قد رأيت أمراً قبيحاً.

__________________

(١) في كتاب الحدود ص ٨٨ ج ٣ [٥ / ٤٢٣ ح ١٣٤٩٧]. منه (قدس سره).

وانظر : السنن الكبرى ـ للبيهقي ـ ٨ / ٢٣٤ ـ ٢٣٥.

(٢) كان في الأصل : «أُسامة» ، وهو تصحيف ؛ والصواب ما أثبتناه من المصدر ؛ وهو : قَسَامة بن زهير المازني التميمي البصري ، تابعي ، روى له أبو داوود والترمذي والنسائي ، توفّي في أيام الحجّاج.

انظر : تهذيب الكمال ١٥ / ٢٧٩ رقم ٥٤٦٥ ، تهذيب التهذيب ٦ / ٥١٠ رقم ٥٧٣٩.

٢٦٢

قال عمر : الله أكبر! حُدوهم!

فجلدوهم ؛ فقال أبو بكرة : أشهد أنّه زان.

فهمّ عمر أن يُعيد عليه الحدّ فيها ، فنهاه عليٌّ وقال : إنْ جَلَدتَهُ فارجم صاحبَك ؛ فتركه ولم يجلده».

ومنها : ما نقله في «الكنز» أيضاً (١) ، عن عبد الرزّاق ، عن أبي عثمان النهدي ، قال : «شهد أبو بكرة ، ونافع ، وشبل بن معبد على المغيرة ، أنّهم نظروا إليه كما يُنظَرُ المِرودُ في المكحلة.

فجاء زياد ، فقال عمر : جاء رجلٌ لا يشهد إلاّ بحقّ.

فقال : رأيت مجلساً قبيحاً ، وابتهاراً ؛ فجلدهم عمر الحدّ».

ونحوه في «الإصابة» بترجمة شبل بن معبد (٢).

فهذه الأخبار ونحوها صريحة الدلالة على أنّ عمر لوّح لزياد بترك الشهادة ، بل أخافه ؛ لهواه في المغيرة ، كما أشار إليه أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله : «صاحبك».

ودلّ عليه تغيّر حال عمر من شهادتهم ، حتّى كأنّ الرماد نُثر على وجهه.

ولو كان طالباً للحقّ وإزالة المنكر ، لجعل المغيرة عبرةً للأُمراء الّذين بهم قوامُ الدينِ وحِفظُه.

وقول الخصم : «إنْ لوّح ... فهذا مندوب إليه» ..

__________________

(١) ص ٩٥ ج ٣ [٥ / ٤٥٢ ح ١٣٥٨٩]. منه (قدس سره).

وانظر : مصنّف عبد الرزّاق ٧ / ٣٨٤ ـ ٣٨٥ ح ١٣٥٦٦.

(٢) الإصابة ٣ / ٣٧٧ ـ ٣٧٨ رقم ٣٩٦١.

٢٦٣

خطأٌ ؛ لأنّ الله سبحانه قد حظر كتمان الشهادة مع طلب إقامتها (١) ، فيحرم التلويح والدعوة إلى الكتمان حينئذ ؛ لأنّه من الدعوة إلى الحرام ، بلا فرق بين أن تكون الشهادة في موجبات الحدود وغيرها (٢).

نعم ، يُندب الستر على الناس في غير مقام إقامة الشهادة ، وقبل طلبها من الشاهد ، ويُندب أن يلوّح الحاكم إلى المقرّ بالرجوع عن إقراره قبل الثبوت به (٣) ، وهو غير ما نحن فيه.

وأما قوله : «إنّ الإمام يجب عليه درء الحدّ بالشبهات» ..

فممّا لا ربط له بالمقام ؛ لأنّ المراد به : أنّ الفاعل إذا ادّعى شبهةً جائزةً في حقه ؛ كما لو وطأ أجنبية في مكان مظلم من داره ، وادّعى أنّه كان يراها زوجته ، فإنّه حينئذ يُدرأ عنه الحدّ ؛ لجواز الاشتباه في حقه واحتمال صدقه.

وهذا لا يقتضي ندب أن يلوّح الحاكم للشاهد بترك شهادته بما شاهده وحقّقه ، وإن كان الأمر مشتبهاً عند الحاكم.

ومن الظريف تعليله لقوله : «فهذا مندوب إليه» بقوله : «لأنّ الإمام يجب عليه درء الحد بالشبهات» ؛ فإنّ الوجوب لا يكون علّة للندب ،

__________________

(١) كما في قوله سبحانه وتعالى : (ومَن أظلمُ ممّن كتم شهادة عنده مِن الله) سورة البقرة ٢ : ١٤٠.

وقوله تبارك وتعالى : (ولا يأبَ الشهداء إذا ما دُعُوا ... ولا تكتموا الشهادة ومَن يكتمها فإنّه آثمٌ قلبُه) سورة البقرة ٢ : ٢٨٢ و ٢٨٣.

(٢) انظر : المحلّى ٩ / ٤٢٩ رقم ١٧٩٨ ، شرح فتح القدير ٧ / ٣٦٥ ، المجموع شرح المهذّب ٢٠ / ٢٢٣.

(٣) انظر : الهداية ـ للمرغيناني ـ ٧ / ٣٦٧ ، شرح فتح القدير ٧ / ٣٦٧.

٢٦٤

بل للوجوب (١).

وأما قوله : «وله أن يندب الناس بإخفاء المعاصي» ..

فمسلّم في غير مقام إقامة الشهادة ، وفي غير مقام الجرح والتعديل (٢).

واستدلاله على ذلك بقوله تعالى : (إنّ الّذين يُحبّون أن تشيعَ الفاحشةُ ...) (٣) الآية ، خطأٌ ظاهر ، وإلاّ لانسدَّ باب الشهادة في الحدود ، وباب الجرح.

ولو استدلّ بهذه الآية على ما كان يعمله عمر من التجسّس لكان أصوب!

وقوله : «وأمّا تفضيح الثلاثة ؛ لأنّهم فضحوا أميراً من أُمراء الإسلام» ..

خطأٌ آخر ؛ لأنّهم لم يفضحوه ، بل هو فضح نفسه ، وفضح الإسلام بعمله.

وفضيحتهم له بالشهادة موافقةٌ لقانون الإسلام ، فلا إنكار عليها بوجه.

وأما قوله : «وكان عمر يعرف غرضهم» ..

فمِن الرجم بالغيب!

نعم ، ذكر القوم أنّ بين بعضهم ـ وهو أبو بكرة ـ وبين المغيرة

__________________

(١) انظر : الإحكام في أُصول الأحكام ـ للآمدي ـ ٣ / ٢٠٨ ـ ٢٠٩ ، المحصول في أُصول الفقه ٢ / ٣٠٧ ـ ٣٠٨.

(٢) انظر : المدوّنة الكبرى ٤ / ١٠٤ ـ ١٠٥ ، بحر الدم : ٣٣ ـ ٣٧.

(٣) سورة النور ٢٤ : ١٩.

٢٦٥

منافرة عند ما يكون منه (١).

وهي ـ لو صحت ـ إنّما كانت لأعمال المغيرة المنكَرة ، التي ينبغي أن ينافره عليها كلّ مسلم.

وبالجملة : إنّ عمر قد دعا إلى كتمان الشهادة في مقام طلب إقامتها ، وهو ممّا حرّمه الله تعالى ؛ وفضَحَ جماعةً من المسلمين ـ يعلم هو وكلُّ من اطّلع على ذِكر الواقعة بصدق شهادتهم ، وعدم استحقاقهم للفضيحة ـ مراعاةً للمغيرة ، فتجنّبَ أن يفضح مستحقاً للفضيحة ، وفضح وضرب غير مستحقّين ؛ ولذا كان يقول إذا رأى المغيرة : «خفت أن أُرمى بحجارة من السماء» (٢).

وهل يشكّ عاقل في أنّ زياداً إنّما ترك الشهادة لأجل عمر؟!

أتراه جاء من البصرة إلى المدينة ، وقطع تلك الفيافي الشاسعة لأجل أداء تلك الشهادة التي أقامها؟!

أو أنّ أصحابه عزموا على الشهادة ، وجاؤوا بصحبته حتّى أدّوا شهادتهم في الملأ ، وهم لم يعلموا أنّه يشهد بما شهدوا به ، وغرّروا بأنفسهم؟!

ولو أعرضنا عن هذا كلّه ، فلا ريب أنّه قد ثبت عند عمر ـ بشهادة الأربعة ـ أنّ المغيرة جلس من المرأة مجلس الفاحشة ، وأنّه تبطنها وجلس بين فخذيها ، وحفز عليها ، إلى نحو ذلك ، فهلاّ ضمّ إلى جلد الثلاثة تعزير المغيرة ، ولو بخفيف التعزير؟!

__________________

(١) انظر : تاريخ الطبري ٢ / ٤٩٣ ، الكامل في التاريخ ٢ / ٣٨٤.

(٢) انظر : الأغاني ١٦ / ١٠٩ ، وفيات الأعيان ٦ / ٣٦٦ ، شرح نهج البلاغة ١٢ / ٢٣٨.

٢٦٦

وهو ـ أعني عمر ـ قد حد الصائم حد شارب الخمر ، معلّلا بجلوسه مع السكارى ، كما نقله في «كنز العمّال» (١) ، عن أحمد بن حنبل ، في الأشربة ، فلِمَ لا عزّر المغيرة بفعله الشنيع كما فعل عليّ (عليه السلام)؟!

نقل في «الكنز» (٢) ، عن عبد الرزّاق ، عن أبي الضحى ، أنّه شهد ثلاثة نفر على رجل وامرأة بالزنا ، وقال الرابع : رأيتهما في ثوب واحد ؛ فجلد عليٌّ الثلاثة وعزّر الرجل والمرأة.

وهذا التعزير واجب عند أحمد بن حنبل ؛ لأنّه يرى وجوب التعزير في كلّ معصية لا حدّ فيها ولا كفّارة ، كما حكاه عنه الشعراني في باب التعزير من كتاب «الميزان» (٣).

فيكون عمر عاصياً بترك تعزير المغيرة بمذهب أحمد ، بل وبمذهب الشافعي أيضاً ؛ فإنّ الشعراني وإن نقل عنه عدم الوجوب ، لكن قال بعد ذلك : «هو خاصٌّ برعاع الناس» (٤).

بل وبمذهب مالك وأبي حنيفة أيضاً ؛ لأنّهما قالا كما في «الميزان» بوجوب التعزير إذا غلب على ظنّ الحاكم أنّه لا يصلح العاصي إلاّ الضرب (٥) ؛ كما هو كذلك في المغيرة ؛ لأنّه فاجر عند عمر.

فقد روى ابن عبد ربّه في أوائل «العقد الفريد» ، تحت عنوان : «اختيار السلطان لأهل عمله» ، أنّه لمّا قدم رجالٌ [من الكوفة] على عمر

__________________

(١) في كتاب الحدود ص ١٠١ ج ٣ [٥ / ٤٧٧ ح ١٣٦٧٢]. منه (قدس سره).

(٢) ص ٩٦ ج ٣ [٥ / ٤٥٨ ح ١٣٦٠٢]. منه (قدس سره).

وانظر : مصنّف عبد الرزّاق ٧ / ٣٨٥ ح ١٣٥٦٨.

(٣) ص ١٤٩ ج ٢ طبع مصر سنة ١٣٠٦ هجرية [٢ / ٢٧٩]. منه (قدس سره).

(٤) الميزان الكبرى ٢ / ٢٧٩.

(٥) الميزان الكبرى ٢ / ٢٧٩.

٢٦٧

يشكون سعد بن أبي وقّاص ، قال : مَن يعذرني من أهل الكوفة؟! إنْ ولّيتهم التقيّ ضعّفوه ، وإنْ ولّيتهم القويّ فجّروه!

فقال له المغيرة : إنّ [التقيّ] الضعيف له تقواه وعليك ضعفه ، والقويّ الفاجر لك قوّته وعليه فجوره.

قال : صدقت ، فأنت القوي الفاجر ، فاخرج إليهم!

فلم يزل عليهم أيام عمر (١).

وبالجملة : لا ريب بمعصية عمر في ترك تعزير المغيرة ولو ببعض المذاهب السنيّة!

ولو سُلّم عدم وجوب تعزيره ، فلا شكّ برجحانه ، ولا أقلّ من رجحان إهانته!

فما لعمر أبقى المغيرة في محلّ الكرامة عنده ، وهو يعلم فجوره حتّى ولاّه البصرة ثانياً بعد عتبة ، وأبي موسى ، كما ذكره الطبري ـ قولا ـ في آخر حوادث سنة سبع عشرة (٢) ، وابن الأثير (٣)؟!

ولو فرض أنّه لم يُعده إلى البصرة ، فلا ريب أنّه ولاّه الكوفة إلى أن مات ، كما سمعته في رواية ابن عبد ربّه.

وذكره ابن حجر في «الإصابة» بترجمة المغيرة (٤).

وقال ابن عبد البرّ في «الاستيعاب» ، بترجمة المغيرة أيضاً : «لمّا شُهِد عند عمر عزله عن البصرة وولاّه الكوفة ، فلم يزل عليها إلى أن قُتل

__________________

(١) العقد الفريد ١ / ٣٦ ـ ٣٧.

(٢) ص ١٥٢ ج ٤ [٢ / ٤٩٩]. منه (قدس سره).

(٣) ص ٢٤٠ ج ٢ [٢ / ٣٨٤]. منه (قدس سره).

(٤) الإصابة ٦ / ١٩٨ رقم ٨١٨٥.

٢٦٨

عمر» (١).

ونحوه في «تاريخ الطبري» (٢) ، وفي «كامل» ابن الأثير (٣).

فلاحظ وتدبّر (٤)!

__________________

(١) الاستيعاب ٤ / ١٤٤٦ رقم ٢٤٨٣.

(٢) ص ٢٦٢ ج ٤ [٢ / ٥٨٧ و ٥٩٠]. منه (قدس سره).

(٣) ص ١٦ ج ٣ [٢ / ٤٣٨ و ٤٦٨ و ٤٧٥]. منه (قدس سره).

(٤) وراجع في قضيّة درء عمر الحد عن المغيرة ، ما كتبه السيّد عليّ الحسيني الميلاني ـ حفظه الله ـ في كتابه : شرح منهاج الكرامة ٣ / ٦٠ ـ ٧٢ ، ردّاً على تمحلات ابن تيميّة في كتابه «منهاج السنة».

٢٦٩

مفارقات عمر في الأحكام

قال المصنّف ـ طيّب الله رمسه ـ (١) :

ومنها : إنّه كان يتلوّن في الأحكام ، حتّى روي عنه أنّه قضى في الجدّ بسبعين (٢) قضيّة ، وروي مئة قضيّة (٣).

وإنّه كان يفضّل في الغنيمة (٤) والعطاء ، وقد سوّى الله بين الجميع (٥).

وإنّه قال في الأحكام من جهة الرأي والحدس والظنّ (٦).

__________________

(١) نهج الحقّ : ٢٨٠ ـ ٢٨١.

(٢) في «المغني» : «تسعين».

(٣) انظر : مصنّف عبد الرزّاق ١٠ / ٢٦١ ـ ٢٦٢ ح ١٩٠٤٣ ، المغني ـ للقاضي عبد الجبّار ـ ٢٠ ق ٢ / ١٨.

(٤) في «المغني» : «القسمة».

(٥) راجع الصفحة ٢٤٥ وما بعدها ، من هذا الجزء.

(٦) انظر : مصنّف عبد الرزّاق ١٠ / ٢٦٣ ح ١٩٠٥١ و ١٩٠٥٢ وص ٢٦٥ ح ١٩٠٥٨ ، سنن الدارمي ٢ / ٢٤٢ ح ٢٩١١ ، المغني ـ للقاضي عبد الجبّار ـ ٢٠ ق ٢ / ١٨ ، المستدرك على الصحيحين ٤ / ٣٧٧ ـ ٣٧٨ ح ٧٩٨٣ ، السنن الكبرى ـ للبيهقي ـ ٦ / ٢٤٧.

٢٧٠

وقال الفضل (١) :

أمّا تلوّنه في الأحكام ؛ فلو صحّ فإنّه من باب تغيّر الاجتهادات ، وهو كان إماماً ، ولم تتقرّر الأحكام الاجتهادية بعدُ في زمانه ، وقد عُلم علماً يقينيا أنّه كان لا يعمل برأي إلاّ بمشاورة الصحابة.

وأمير المؤمنين عليٌّ كرّم الله وجهه قد كان يتغيّر اجتهاده ، كما في أُمّ الولد أنّه قال : «اجتمع رأيي ورأي عمر في أُمّ الولد ، أن لا تباع ، وأنا اليوم أقول ببيعهنّ» (٢).

والمجتهدون لا يخلون عن هذا.

وأمّا التفضيل في العطاء ؛ فهذا أمر يتعلّق برأي الإمام ، والنبيّ أعطى صناديد العرب في غنائم حُنين مئة ، واعترض عليه ذو الخويصرة الخارجي (٣) كما يعترض هذا الرافضيُّ على عمر.

وأمّا الأحكام من جهة الرأي والحدس والظنّ ؛ فهو من شأن المجتهد ، والفقه من باب الظنون.

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن «إحقاق الحقّ» ـ : ٥٤٥ الطبعة الحجرية.

(٢) انظر : مصنّف عبد الرزّاق ٧ / ٢٩١ ح ١٣٢٢٤ ، السنن الكبرى ـ للبيهقي ـ ١٠ / ٣٤٨ ، جامع بيان العلم ٢ / ١٠٨ ، كنز العمّال ١٠ / ٣٤٦ ـ ٣٤٧ ح ٢٩٧٤٥.

(٣) انظر : تاريخ الطبري ٢ / ١٧٦ ، الكامل في التاريخ ٢ / ١٤٣ ، البداية والنهاية ٤ / ٢٩١.

٢٧١

وأقول :

حكى في «كنز العمّال» (١) ، عن ابن أبي شيبة ، والبيهقي ، وابن سعد ، وعبد الرزّاق ، عن عبيدة السلماني ، قال : «لقد حفظت من عمر في الجد مئة قضيّة مختلفة [كلّها ينقض بعضها بعضاً]».

وأما رواية السبعين ، فقد ذكرها ابن أبي الحديد (٢) ، ولم يُنكر صحتها هو ولا قاضي القضاة!

وهذا ممّا يدلّ على عدم تورّعه في الفتيا ، وأنّه لم يرجع فيها إلى ركن وثيق ، بل يقول مِن غير علم ، كما يشهد له ما في «الكنز» قبل الحديث المذكور ، عن عبد الرزّاق ، والبيهقي ، وأبي الشيخ ـ في الفرائض ـ ، عن سعيد بن المسيّب ، عن عمر ، قال : «سألت النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) كيف قسم الجد؟

قال : ما سؤالك عن ذلك يا عمر؟! أظنّك تموت قبل أن تعلم ذلك!

قال سعيد : فمات عمر قبل أن يعلم ذلك» (٣).

__________________

(١) في كتاب الفرائض ص ١٥ ج ٦ [١١ / ٥٨ ح ٣٠٦١٣]. منه (قدس سره).

وانظر : مصنّف ابن أبي شيبة ٧ / ٣٦٢ ب ٦٠ ح ٢ ، السنن الكبرى ـ للبيهقي ـ ٦ / ٢٤٥ ، الطبقات الكبرى ـ لابن سعد ـ ٢ / ٢٥٦ ، مصنّف عبد الرزّاق ١٠ / ٢٦١ ـ ٢٦٢ ح ١٩٠٤٣.

(٢) ص ١٦٥ مجلّد ٣ [١٢ / ٢٤٦ ـ ٢٥٠]. منه (قدس سره).

وانظر : المغني ـ للقاضي عبد الجبّار ـ ٢٠ ق ٢ / ١٨.

(٣) كنز العمّال ١١ / ٥٧ ح ٣٠٦١١ ، وانظر : المعجم الأوسط ٤ / ٤٨٢ ـ ٤٨٣ ح ٤٢٤٥ ، مجمع الزوائد ٤ / ٢٢٧.

٢٧٢

وبالضرورة أنّ من يسمع هذا من النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ فضلا عمّا يجده من جهل نفسه ، وكان عنده أدنى حرمة للدين ـ لم يحكم في الجدّ بقضيّة واحدة فضلا عن مئة قضيّة مختلفة.

ويشهد لعدم عنايته بالدين والأحكام ، ما في «الكنز» في قرب الخبر الأوّل ، عن (عبد الرزّاق ، وابن أبي شيبة ،) (١) عن عبيدة السلماني ، قال : «كان عليٌّ (٢) يُعطي الجدّ مع الإخوة الثلث ، وكان عمر يُعطيه السُدس.

فكتب عمر إلى عبد الله : إنّا نخاف أن نكون قد أجحفنا بالجدّ ، فأعطه الثُلث» (٣).

ونحوه عن ابن أبي شيبة ، والبيهقي ، وسعيد بن منصور ، عن عبيد ابن نضلة (٤).

فأنت ترى أنّ هذا لمجرّد التشهّي والاستحسان ، من غير ابتناء على دليل ، فكأنّ الله تعالى قد أوكل الأحكام إلى رغبته ولم يبعث بها رسولا ، أو بعث بها رسولا لكن قدّم هوى عمر!

ومن هذا الباب ما في «الكنز» أيضاً (٥) ، عن ابن أبي شيبة ، عن عبد الرحمن بن غنم ، قال : «إنّ أوّل جدّ وَرثَ في الإسلام عمرُ بن

__________________

(١) كذا في الأصل ، وهو سهو ، والصواب ما في المصدر : «البيهقي».

(٢) كان في الأصل : «أبو بكر» ، وهو سهو ، والصواب ما أثبتناه في المتن من المصدر.

(٣) كنز العمّال ١١ / ٦٠ ح ٣٠٦٢٠ ، وانظر : السنن الكبرى ـ للبيهقي ـ ٦ / ٢٤٩.

(٤) كنز العمّال ١١ / ٦٦ ح ٣٠٦٣٧ ، وانظر : مصنّف ابن أبي شيبة ٧ / ٣٥١ ب ٤٤ ح ١ ، السنن الكبرى ـ للبيهقي ـ ٦ / ٢٤٩ ، سنن سعيد بن منصور ١ / ٤٩ ح ٥٩.

(٥) ص ١٧ ج ٦ [١١ / ٦٦ ح ٣٠٦٣٨]. منه (قدس سره).

وانظر : مصنّف ابن أبي شيبة ٧ / ٣٥٣ ح ١٣.

٢٧٣

الخطّاب ، فأراد أن يَحتازَ المالَ ، فقلت له : يا أمير المؤمنين! إنّهم شجرةٌ دونك ؛ يعني : بني بنيه».

وليس ميراث الجدّ أوّل جهالاته وعدم مبالاته في الحكم ، بل له أمثال ذلك ..

ففي «الكنز» (١) ، عن عبد الرزّاق ، وابن أبي شيبة ، والبيهقي ، عن الحكم بن مسعود ، قال : «قضى عمر في امرأة توفّيت ، وتركت زوجها ، وأُمّها ، [وإخوتَها لأُمّها ،] وإخوتَها لأبيها وأُمّها ، فأشرك عمر بين الإخوة للأُمّ والإخوة للأب والأُمّ في الثلث.

فقال له رجل : إنّك لم تشرك بينهما عامَ كذا وكذا.

فقال عمر : تلك على ما قضينا يومئذ ، وهذا على ما قضيناه».

وفيه أيضاً (٢) : عن سعيد بن منصور ، عن إبراهيم ، «أنّ رجلا عرف أُختاً له سبيت في الجاهلية ، فوجدها ومعها ابن لها لا يُدرى مَن أبوه ، فاشتراهما ثمّ أعتقهما.

وأصاب الغلام مالا ثمّ مات ، فأتوا ابن مسعود فذكروا له ذلك ، فقال : ائتِ أمير المؤمنين عمر فسَلْه عن ذلك ، ثمّ ارجع فأخبرني بما يقول لك.

فأتى عمر فذكر ذلك له ، فقال : ما أراك عُصبةً ، ولا بذي فريضة.

__________________

(١) ص ٦ ج ٦ [١١ / ٢٥ ـ ٢٦ ح ٣٠٤٨١]. منه (قدس سره).

وانظر : مصنّف عبد الرزّاق ١٠ / ٢٤٩ ح ١٩٠٠٥ ، مصنّف ابن أبي شيبة ٧ / ٣٣٤ ب ١٧ ح ١ ، سنن الدارمي ١ / ١١٢ ح ٦٤٨ ، السنن الكبرى ـ للبيهقي ـ ٦ / ٢٥٥.

(٢) ص ٨ ج ٦ [١١ / ٣٣ ح ٣٠٥١٣]. منه (قدس سره).

وانظر : سنن سعيد بن منصور ١ / ٦٩ ح ١٥٧ باب العمّة والخالة.

٢٧٤

فرجع إلى ابن مسعود فأخبره ، فانطلق ابن مسعود حتّى دخل على عمر فقال : كيف أفتيتَ الرجل؟

قال : لم أره عصبةً ، ولا بذي فريضة.

فقال عبد الله : لم تُورِّثه مِن قِبل الرحم ، ولا ورّثته مِن قِبل الولاء!

قال : ما ترى؟!

قال : أراه ذا رحم ، ووليَّ النعمة ، وأرى أن تورّثه.

فورّثه».

وفيه أيضاً (١) : عن عبد الرزّاق ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، قال : «جاء ابنَ عبّاس رجلٌ فقال : رجلٌ توفّي وترك ابنته وأُخته ـ إلى أن قال : ـ فقال الرجل : إنّ عمر قضى بغير ذلك ، قد جعل للأُخت النصف ، وللبنت النصف.

فقال ابن عبّاس : أأنتم أعلمُ أم الله؟!

قال طاووس : قال ابن عبّاس ، قال الله تعالى : (إنِ امرؤٌ هلك ليس له وَلدٌ وله أُختٌ فلها نصفُ ما تَرك) (٢) ، فقلتم أنتم : لها النصف وإنْ كان له ولد».

ولأجل هذا ونحوه قال ابن عبّاس ـ كما في «الكنز» أيضاً عن سعيد بن منصور ، وعبد الرزّاق ـ : «وددت أنّي وهؤلاء الّذين يخالفوني

__________________

(١) ص ١١ ج ٦ [١١ / ٤٤ ح ٣٠٥٥٨]. منه (قدس سره).

وانظر : مصنّف عبد الرزّاق ١٠ / ٢٥٤ ـ ٢٥٥ ح ١٩٠٢٣ ، السنن الكبرى ٦ / ٢٣٣.

(٢) سورة النساء ٤ : ١٧٦.

٢٧٥

في الفريضة نجتمع فنضع أيدينا على الركن ، ثمّ نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين ، ما حَكَمَ الله بما قالوا» (١).

وأفضح من ذلك جهل عمر بمعنى الكلالة (٢) ، وقوله فيها بغير علم ..

فقد نقل في «الكنز» (٣) ، عن سعيد بن منصور ، وعبد الرزّاق ، وابن أبي شيبة ، والدارمي ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والبيهقي ، عن الشعبيّ ، قال : سُئل أبو بكر عن الكلالة ، فقال : إنّي أقول فيها برأيي ، فإن كان صواباً ، فمِن الله وحده لا شريك له ، وإن كان خطأً ، فمنّي ومن الشيطان ، والله منه بريء ؛ أراه ما خلا الوالد والولد.

فلما استُخلِف عمر قال : الكلالة ما عدا الولد ـ وفي لفظ : مَن لا ولد له ـ.

فلمّا طُعن عمر قال : إنّي لأستحيي من الله أن أُخالف أبا بكر ، أرى أنّ الكلالة ما عدا الوالد والولد».

فانظر إلى هذه الملاعب في الدين ، والتقوّل في أحكام ربّ العالمين ، لمجرّد الهوى والميل النفسي ، فكأنّ الله سبحانه أوكل إلى

__________________

(١) كنز العمّال ١١ / ٤٤ ح ٣٠٥٥٩ ، وانظر : سنن أبي سعيد ١ / ٤٤ ح ٣٧ ، مصنّف عبد الرزّاق ١٠ / ٢٥٥ ح ١٩٠٢٤.

(٢) الكلالة : الرجل الذي لا ولد له ولا والد ، وقيل : ما لم يكن من النسب لَحّاً فهو كَلالة ؛ انظر مادّة «كلل» في : لسان العرب ١٢ / ١٤٣ ، مجمع البحرين ٥ / ٤٦٤.

(٣) ص ٢٠ ج ٦ [١١ / ٧٩ ح ٣٠٦٩١]. منه (قدس سره).

وانظر : مصنّف عبد الرزّاق ١٠ / ٣٠٤ ح ١٩١٩١ ، مصنّف ابن أبي شيبة ٧ / ٤٠٢ ب ١١٣ ح ٢ ، سنن الدارمي ٢ / ٢٤٩ ح ٢٩٦٨ ، السنن الكبرى ـ للبيهقي ـ ٦ / ٢٢٣ و ٢٢٤ كتاب الفرائض.

٢٧٦

رغبات نفوسهم أحكامه ، وإلى جهالاتهم وآرائهم الناقصة نظامه ، مع إقرارهم بالجهل وعدم المعرفة كما سمعت.

وحكى في «الكنز» (١) ، عن ابن راهويه ، وابن مردويه ـ وقال : هو صحيح ـ ، أنّ عمر سأل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كيف يُورَثُ الكلالة؟

قال : أَوَليس قد بيّن الله ذلك؟! ثمّ قرأ : (وإنْ كان رجلٌ يُورَثُ كلالةً أوِ امرأةٌ ...) (٢) الآية.

فكأنّ عمر لم يفهم ، فأنزل الله : (يستفتونك قُلِ الله يُفتيكم في الكلالة) (٣) الآية.

فكأنّ عمر لم يفهم ، فقال لحفصة : إذا رأيت من رسول الله طيب نفس فاسأليه عنها.

فقال : أبوكِ ذكر لكِ هذا؟! ما أرى أباك يعلمها أبداً!

فكان يقول : ما أراني أعلمها أبداً وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ما قال».

فليت شعري ، إذا علم أنّه لا يعلم الكلالة أبداً ، فكيف خالف أبا بكر مرّةً ووافقه أُخرى؟!

ولِمَ لم يرجع إلى مَن عنده عِلمُ الكتاب وقرينه؟!

وأظهر من ذلك في الحكم على حسب الهوى ، ما في «الكنز» أيضاً (٤) ، عن سعيد بن المسيّب ، «أنّ عمر بن الخطّاب لم يورِّث أحداً

__________________

(١) ص ٢٠ ج ٦ [١١ / ٧٨ ح ٣٠٦٨٨]. منه (قدس سره).

(٢) سورة النساء ٤ : ١٢.

(٣) سورة النساء ٤ : ١٧٦.

(٤) ص ٧ ج ٦ [١١ / ٢٩ ح ٣٠٤٩٣]. منه (قدس سره).

وانظر : الموطأ : ٤٦٣ ح ١٤.

٢٧٧

من الأعاجم إلاّ أحداً وُلِدَ في العرب».

وأعجب من عمر أولياؤه حيث يسمّون ذلك اجتهاداً!

فهل من الاجتهاد عندهم القول بما يخالف ضرورة الدين؟!

أو أنّ للمجتهد التلوّن الفاحش في الأحكام من دون علم ورويّة؟!

أو أنّ الله سبحانه لم يُكمل دينه ، وأرسل الرسول بدين ناقص ، واعتمد على عمر وأشباهه في إكمال الدين على حسب أهوائهم ، وسمّاه أصحابه اجتهاداً؟!

ألم يقل الله تعالى : (اليوم أكملت لكم دينكم) (١).

وما سدّ الله باب العلم بدينه ؛ لأنّه نصب إليه دليلا ، وهو نبيّه وثِقلاه اللذان خلّفهما في أُمّته ، وأمر بالتمسّك بهما.

ثمّ ذمّ سبحانه على اتّباع الظنّ ، فضلا عن الوهم والشكّ ، والقول بمجرّد الهوى ، فقال : (إن يتّبعون إلاّ الظنّ وإنْ هم إلاّ يَخرُصُون) (٢).

وقال سبحانه : (إنّ الظنّ لا يغني من الحقّ شيئاً) (٣).

وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : «إيّاكم والظنَّ! فإنّ الظنَّ أكذبُ الحديث» ، كما رواه البخاري (٤).

ومن أعجب العجب قوله : «ولم تتقرّر الأحكام الاجتهادية بعد في زمانه»!

فإنّه دالٌّ على أنّها تقرّرت بعد في أيام مذاهبهم الأربعة!

__________________

(١) سورة المائدة ٥ : ٣.

(٢) سورة الأنعام ٦ : ١١٦.

(٣) سورة يونس ١٠ : ٣٦.

(٤) في باب تعليم الفرائض من كتاب الفرائض [٨ / ٢٦٥ ـ ٢٦٦ ح ٢]. منه (قدس سره).

٢٧٨

فلا أدري أكانوا أعلم بالكتاب والسنة مِن ثِقل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وصحبه ، أو جاءتهم نبوّةٌ جديدةٌ تقرّرت بها أحكامهم؟!

أو أباح اللهُ لهم أن يُشرّعوا أحكاماً من عند أنفسهم ، ويستبدلوا عن أحكام الله ما شاءته أوهامهم واستحسنته آراؤهم ، ثمّ لا يجوز ذلك لأحد بعدهم؟!

وبما سمعته من الأخبار المذكورة ونحوها ، تعلم بطلان قول الخصم : «وقد عُلم علماً يقينياً أنّه كان لا يعمل برأي إلاّ بمشاورة الصحابة».

فإنّ تلك الأخبار صريحة في استبداده في الأحكام ، وتشريعه لها بمحض الهوى والتشهّي ، ولو أردنا استقصاء ما شرّعه لضاق به الكتاب ، وسيأتي بعضها إن شاء الله تعالى.

وأما ما ذكره من أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) قد كان يتغيّر اجتهاده ، كما في أُمّ الولد ... إلى آخره ..

فكذب ظاهر ؛ إذ لا يجوز هذا في حقّ بابِ مدينة علم النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وأحد الثِّقلَين ، وقرينِ الكتاب ، فإنّ الخطأ والأخذ بالظنّ والوهم شأن غيره من أهل الآراء الناقصة.

وروايتهم ـ مع اختلافها ومخالفتها لِما نعلمه من مذهبه ومنزلته (عليه السلام) ـ لا يمكن أن نحتمل فيها الصحّة ، وهي من الموضوعات التي أحدثوها ؛ حفظاً لشؤون أصحابهم.

وأمّا ما زعمه من أنّ التفضيل في العطاء أمر يتعلّق برأي الإمام ..

فباطل ؛ لمخالفته لعمل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) المنوط بأمر الله تعالى.

ويا هل تُرى أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يكن يعرف الجهات التي تصوّرها

٢٧٩

عمر في تفضيل عائشة وحفصة على وجوه المسلمين ، وتفضيل بعضهم على بعض؟!

وأمّا قياسه على عمل النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) في إعطاء صناديد قريش من غنائم حنين دون غيرهم ..

فخطأٌ ؛ لأنّه ليس من التفضيل ، بل من التخصيص للتأليف في قضيّة خاصة.

وأمّا ما زعمه أنّ الأحكام من جهة الحدس والظنّ من شأنّ المجتهد ..

فمسلّمٌ إذا كان الظنّ ناشئاً من الأدلّة الشرعيّة ، وأمّا إذا نشأ من استحسانات العقول الناقصة والتخمين والهوى ، فهو مرتبة تشريعيّة فوق مرتبة النبوّة ، فإنّ النبيّ مع عظيم مقامه لا ينطقُ عن الهوى ، إنْ هو إلاّ وحيٌ يُوحى (١) ..

وقال تعالى : (ولو تقوّل علينا بعض الأقاويل * لأخذنا منه باليمين * ثمّ لقطعنا منه الوتين) (٢) ..

فكيف يجوز لعمر التقوّل والحكم من عند نفسه بما يقتضيه استحسانه ويرتضيه خياله؟!

وحقاً أقول : لو تمسّك الناس بالثِّقلَين لَما احتاجوا إلى الحدس والتخمين ، بعد أن أكمل الله دينه وأطلع عليه نبيّه ، ووصيّه وباب مدينة علمه.

__________________

(١) اقتباس من سورة النجم ٥٣ : ٣ و ٤.

(٢) سورة الحاقة ٦٩ : ٤٤ ـ ٤٦.

٢٨٠