دلائل الصدق لنهج الحق - ج ٧

الشيخ محمد حسن المظفر

دلائل الصدق لنهج الحق - ج ٧

المؤلف:

الشيخ محمد حسن المظفر


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ دمشق
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ دمشق
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-360-8
الصفحات: ٦٠٠

ما في تحت يدي ، وأدّوا ما أخذت من بيت المال إلى عمر ليصرفه في مصالح المسلمين ؛ فإنّي لا أُريد أن آخذ بهذا العمل شيئاً.

فلمّا أدّى ما أخذه من بيت المال بعث إلى عمر إجّانة (١) ، وحِلْساً (٢) ، وأثواباً عتيقة كانت عنده ، فلمّا رآها عمر بكى وقال : لقد أتعب مَن بعده (٣).

وأوصى أبو بكر أن يكفّن في أثوابه التي لبسها أيّام حياته ، وقال : إنّ الحيّ بالجديد أجدر (٤).

هكذا كان سيرتهم في الخلافة.

ثمّ إنّ ابن المطهّر الأعرابي أخذ يكتب لهم المطاعن ، فَلُعن من مشوم طاعن.

هذا ما ذكره من مطاعن الصدّيق وشيخ المهاجرين ، والحمد لله الذي وفّقنا لإبطال مطاعنه على وجه يرتضيه المؤمن الموافق ، ويتسلّمه المخالف المشاقق ؛ لظهور حجّته وبُهور (٥) برهانه.

__________________

(١) الأَجانةُ والإجانةُ والإنجانةُ ـ وقد منع الجوهري الأخيرة هذه ـ ، وأفصحها : إجانةٌ : وهي واحدة الأَجاجين ، أو المرْكَن ، وهو ما يُغسل به الثياب.

انظر مادّة «أجن» في : الصحاح ٥ / ٢٠٦٨ ، لسان العرب ١ / ٨٢ ؛ ومادّة «ركن» في الصحاح ٥ / ٢١٢٦ ، لسان العرب ٥ / ٣٠٦.

(٢) الحلسُ والحلسُ : كلّ شيء وَلِيَ ظهر البعير والدابّة ، تحت الرحل والقتَب والسرج ، وهي بمنزلة المرشحة تكون تحت اللبد ، وقيل : كساء رقيق يكون تحت البَرْذَعة ؛ والجمع : أحلاس وحلُوس.

انظر مادّة «حلس» في : الصحاح ٣ / ٩١٩ ، لسان العرب ٣ / ٢٨٢ ـ ٢٨٣.

(٣) انظر : تاريخ الطبري ٢ / ٣٥٤ ، الكامل في التاريخ ٢ / ٢٧١.

(٤) انظر : الكامل في التاريخ ٢ / ٢٦٧.

(٥) البَهْر : الغلَبَة ؛ وبَهَرَهُ يَبهَرُهُ بَهْراً : قهَرَهُ وعَلاهُ وغلَبَهُ ، وبَهَرَ القمرُ النجومَ بُهُوراً : غمرها بضوئه ؛ انظر : لسان العرب ١ / ٥١٥ مادّة «بهر».

١٤١

ثمّ بعد هذا يذكر مطاعن الفاروق ؛ ونحن على ما وعدنا قبل هذا ، نذكر أوّلا شيئاً يسيراً من فضائل أمير المؤمنين حيث ما ثبت في الصحاح ، فنقول وبالله التوفيق (١) :

أمير المؤمنين عمر بن الخطّاب ... بن عديّ بن كعب بن لؤيّ ، ونسبه يتّصل برسول الله في كعب بن لؤيّ.

وهو كان قبل البعثة من أكابر قريش وصناديدها.

وأُمه كانت مخزوميّةً أُختَ وليد بن المغيرة.

وكان عمر ـ في الجاهلية ـ مهيباً معظّماً ، مقبول القول.

ورئاسة شُبّان قريش ، والاستيلاء والقوّة ، انتهت إلى عمر وأبي جهل وأبي الحكم بن هشام (٢).

ولمّا بُعث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) واستولى الكفّار على المسلمين ، وضعف أمر الإسلام ، واختفى رسول الله في بيت الأرقم ، مخافة سطوة الكفّار ، ولم يقدر أحد أن يُظهر الإسلام ، دعا رسول الله : اللّهمّ أعزّ

__________________

(١) انظر ـ مثلا ـ في تفصيل ما رووه من ترجمته : الطبقات الكبرى ـ لابن سعد ـ ٣ / ٢٠١ رقم ٥٦ ، معرفة الصحابة ـ لأبي نُعيم ـ ١ / ٣٨ رقم ٢ ، الاستيعاب ٣ / ١١٤٤ رقم ١٨٧٨ ، أُسد الغابة ٣ / ٦٤٢ رقم ٣٨٢٤ ، الإصابة ٤ / ٥٨٨ رقم ٥٧٤٠.

(٢) كذا في الأصل ، وليس هذا بعجيب من ابن روزبهان ؛ إذ لا يخفى أنّ أبا جهل وأبا الحكم هما شخص واحد ، والكنيتان كلتاهما له ، وهو : عمرو بن هشام بن المغيرة المخزومي ، وقد اشتُهر عند قريش بأبي الحكم ، وكنّاه المسلمون أبا جهل.

انظر : المغازي ـ للواقدي ـ ١ / ٨٦ ـ ٨٧ ، السيرة النبوية ـ لابن هشام ـ ٣ / ١٧١ ، الكامل في التاريخ ١ / ٥٩٤.

١٤٢

الإسلام بأبي الحكم بن هشام أو بعمر بن الخطّاب (١).

فوقع الدعاء له ، فأسلم عمر صبيحة ليلة دعا فيها رسول الله ، ودخل على رسول الله وهو كمل الأربعين ؛ لأنّ بإسلامه تُكمِّل عدد المسلمين بأربعين (٢) ؛ وقال لرسول الله : يا رسول الله! اللات والعزّى يُعبدان علانية ويُعبد الله سرّاً؟!

فخرج هو والنبيّ وسائر الأصحاب ـ ويقدمهم حمزة ، وعمر ـ ، حتّى دخلوا المسجد وصلّوا في الحرم وطافوا وخرجوا إلى بيتهم ، وقال أصحاب رسول الله : ما زلنا في عزّ منذ أسلم عمر.

ثمّ كان وزيراً لرسول الله طول حياته ، لا يصدر عن أمر إلاّ برأيه ومشاورته.

وكان ينطق السكينة على لسانه ، كما روي في الصحاح ، عن ابن عمر ، قال : قال رسول الله : «وُضع الحقّ على لسان عمر وقلبه» (٣).

وفي الصحاح ، عن عتبة بن عامر ، قال : قال النبيّ : «لو كان بعدي نبيّ لكان عمر بن الخطّاب» (٤).

__________________

(١) انظر : سنن الترمذي ٥ / ٥٧٦ ح ٣٦٨١ ، مسند أحمد ٢ / ٩٥.

(٢) نقول : هذا خلاف ما رواه علماء الجمهور ، فإنّهم رووا أنّ إسلامه كان بعد أربعين أو نيّف وأربعين ، بل بعد أكثر من خمسين ، رجالا ونساءً ، قد أسلموا قبله!

انظر : الطبقات الكبرى ـ لابن سعد ـ ٣ / ٢٠٣ ـ ٢٠٤ ، الاستيعاب ٣ / ١١٤٥ ، أُسد الغابة ٣ / ٦٤٣.

(٣) انظر : سنن الترمذي ٥ / ٥٧٦ ـ ٥٧٧ ح ٣٦٨٢ ، سنن أبي داود ٣ / ١٣٩ ح ٢٩٦٢ ، سنن ابن ماجة ١ / ٤٠ ح ١٠٨ ، مسند أحمد ٢ / ٥٣.

(٤) انظر : سنن الترمذي ٥ / ٥٧٨ ح ٣٦٨٦ وفيه : «عقبة» بدل «عتبة».

١٤٣

وكان مهيباً يخافه المنافقون والكفّار وأرباب الفساد.

روي في الصحاح ، عن سعد بن أبي وقّاص ، قال : «استأذن عمر ابن الخطّاب على رسول الله وعنده نسوة من قريش تكلِّمنهُ عالية أصواتُهُنّ.

فلمّا استأذن عمر قُمن فتبادرن الحجابَ ، فدخل عمر ـ ورسول الله يضحك ـ فقال : أضحك الله سنك يا رسول الله ، ممّ تضحك؟!

فقال النبيّ : عجبت من هؤلاء اللواتي كنّ عندي ، فلمّا سمعن صوتك ابتدرن الحجاب.

قال عمر : يا عدوّاتِ أنفسهنّ! أتهَبنني ولا تهَبن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟!

فقلن : نعم ، أنت أفظّ وأغلظ.

فقال رسول الله : يا بن الخطّاب! والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان سالكاً فجاً إلاّ سلك غير فجّك» (١).

وهذا حديث نقله جمهور أرباب الصحاح ، ولا شكّ في صحّته لأحد.

وهذا حجّة على الروافض حيث يقولون : إنّ بيعة أبي بكر كان باختيار عمر بن الخطّاب ..

فإنّه لو صحّ ما ذكروا أنّه باختياره ، فهو حقّ لا شكّ فيه بدليل هذا الحديث ؛ لأنّه سلك فجّاً يسلك الشيطان فجّاً غيره ، وكلّ فجّ يكون مقابلا ومناقضاً لفجّ الشيطان فهو فجّ الحقّ لا شكّ.

__________________

(١) انظر : صحيح البخاري ٤ / ٢٥٥ ـ ٢٥٦ ح ١٠٢ وج ٥ / ٧٦ ح ١٨٠ ، صحيح مسلم ٧ / ١١٥ ، مسند أحمد ١ / ١٧١.

١٤٤

وهذا من الإلزاميات العجيبة ، التي ليس لهم جواب عن هذا ألبتّة.

وفضائله لا تُعدّ ولا تُحصى ، وقد كان راسخاً في العلم ، متصلّباً في الدين ، من الأشدّاء على الكفّار ، كما هو مشهور معلوم ، لا ينكره إلاّ الروافض الجهلة.

روي في الصحاح أنّه قال : «بينا أنا نائم رأيت الناس يُعرضون علَيَّ وعليهم قُمُص ، منها ما يبلغ الثدي ، ومنها ما دون ذلك ، وعُرض علَيَّ عمر بن الخطّاب وعليه قميص يجرّه.

قالوا : فما أوّلته يا رسول الله؟

قال : الدين» (١).

ثمّ إنّه أقدمُ بصحبة رسول الله ، وحضر معه في جميع غزواته ، وكان صاحب المشاورة ، وكثيراً ما كان يقول لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : افعل ، ولا تفعل ؛ وكان رسول الله يعمل برأيه ، وينزل القرآن على تصديقه.

روي في الصحاح ، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، أنّه قال : «لقد كان في ما قبلكم من الأُمم محدَّثون ، فإن يك في أُمّتي أحد فإنّه عمر» (٢).

وفي قصّة أُسارى بدر ، أنّه لمّا شاور رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أبا بكر ، فاختار الفداء ، وشاور عمر ، فاختار قتلهم ، فمال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى قول أبي بكر واختار الفداء وأنزل الله : (ما كان لنبيّ أن يكون له أسرى حتّى يُثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز

__________________

(١) صحيح البخاري ٥ / ٧٩ ح ١٨٧ ، سنن النسائي ٨ / ١١٣ ـ ١١٤.

(٢) صحيح البخاري ٥ / ٧٨ ح ١٨٥ ، صحيح مسلم ٧ / ١١٥.

١٤٥

حكيم) (١) (٢).

فصار في المشاورة قول عمر مختاراً عند الله.

ثمّ إنّ الأعرابي ابن المطهّر لم يصوّب رأيه في اختيار خلافة أبي بكر.

ثمّ لمّا توفّي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يوافق أبي (٣) بكر في تهيئة الجيوش ، وإقامة مراسم الدين والجهاد ، فلمّا انتهت إليه الخلافة قام بأعبائها عشر سنين ، وفتح جميع أقطار البلاد ، وأخذ المُلك من قيصر وكسرى ، وعمل ما هو أغنى من أن يُذكر.

ولولا عمر لم تكن قواعد الإسلام والسنة قائمة ، وسيرته في الخلافة غنيّة عن الذِكر والتعريف ، حتّى إنّ بعض العلماء قال : سِيَر عمر في الخلافة كثيرة ، وأجلّها أنّه لبث في الخلافة مدّة عشر سنين ، ولم يمرّ عليه يوم واحد إلاّ وقد فتح الله للمسلمين مدينة أو عسكراً ، فلم يمض يوم واحد جديد إلاّ عن فتح جديد وغنيمة جديدة.

ومع هذا لم يغيّر عمر سيرته وطريقته ، ولبس الخشن ، وأكل الخشن ، وكان كأحد من المسلمين في تواضعه ، وتردّده في الأسواق ، ولبسه الألبسة الخَلِقَةَ ، وكان يحمل الطعام على رقبته لأيامى الغزاة ، وأولاد الشهداء.

__________________

(١) سورة الأنفال ٨ : ٦٧.

(٢) انظر : صحيح مسلم ٥ / ١٥٧ ، مسند البزّار ١ / ٣٠٧ ح ١٩٦ ، مصنّف ابن أبي شيبة ٨ / ٤٧٤ ح ٣٢.

(٣) كذا. منه (قدس سره).

والصحيح لغةً : أبا.

١٤٦

وبالجملة : الأخبار في هذا أكثر من أن تُحصى ، ثمّ جاء في آخر الزمان أعرابيّ سكودن (١) النجس ابن المطهّر فوضع عليه المطاعن ، وها نحن نجري على عادتنا في نقل كلامه والردّ عليه ، فنقول وبالله التوفيق ، ومنه الإعانة وعليه التكلان.

__________________

(١) كذا في الأصل ، ولعلّه تصحيف : مكوْدَن ؛ والكوْدَن ـ جمعها : الكَوادِنُ ـ : البَليدُ ، على التشبيه هنا.

وفي اللغة : الكَدانةُ : الهُجنةُ ؛ والكوْدَنُ والكوْدَنيُّ : الفرسُ أو البِرْذَوْنُ الهَجين ، والبِرْذَوْن الثقيل من الدوابّ ، وقيل : هو الفيل ، وقيل : البغل.

انظر مادّة «كدن» في : الصحاح ٦ / ٢١٨٧ ، لسان العرب ١٢ / ٤٨ ، تاج العروس ١٨ / ٤٧٥ و ٤٧٦.

١٤٧

وأقول :

من الصلف نسبة افتراء هذا الخبر إلى الشيعة ، مع رواية الكثير من علمائهم وثقاتهم له ، كالّذين نقله المصنّف (رحمه الله) عنهم وغيرهم ، ولكن لم يرووا الإحراق ، وإنّما رووا إرادة الإحراق ؛ ولذا قال المصنّف (رحمه الله) : «طلب هو وعمر إحراقه».

ولكنّ الخصم أراد بنسبة الإحراق تفظيع الخبر ؛ لِتُقرَّب إلى الأذهان استبعاداته التي ذكرها.

وممّن روى هذا الخبر ـ غير من حكاه المصنّف عنهم ـ : ابن أبي شيبة ، كما نقله عنه في «كنز العمّال» (١) ، قال : «أخرج عن أسلم ، أنّه حين بويع أبو بكر بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان عليٌّ والزبير يدخلون على فاطمة ويشاورونها ويرجعون في أمرهم ؛ فلمّا بلغ ذلك عمر خرج حتّى دخل على فاطمة ، فقال : ما من الخلق أحد أحبّ إليَّ من أبيك ، وما من أحد أحبَّ إلينا بعد أبيك منك ، وأيم الله ما ذاك بمانعي إن اجتمع هؤلاء النفر عندك أن آمر بهم أن يُحرق عليهم الباب.

فلمّا خرج عمر جاؤوها ، قالت : تعلمون أنّ عمر قد جاءني ، وقد حلف بالله لئن عدتم ليحرقنّ عليكم الباب ، وأيم الله ليمضينّ لِما حلف عليه ، فانصرفوا راشدين» .. الحديث.

__________________

(١) في كتاب الخلافة والإمارة ، ص ١٤٠ من الجزء الثالث [٥ / ٦٥١ ح ١٤١٣٨]. منه (قدس سره).

وانظر : مصنّف ابن أبي شيبة ٨ / ٥٧٢ ح ٤.

١٤٨

ومنهم : ابن قتيبة ، في كتاب «الإمامة والسياسة» ، قال في أوائل كتابه ، في كيفية بيعة عليّ : «إنّ أبا بكر تفقّد قوماً تخلّفوا عن بيعته عند عليّ ، فبعث إليهم عمر ، فجاء فناداهم وهم في دار عليّ ، فأبَوْا أن يخرجوا ، فدعا بالحطب وقال : والذي نفس عمر بيده لَتخرجوا أو لأُحرقنّها على مَن فيها.

فقيل له : يا أبا حفص! إنّ فيها فاطمة!

قال : وإنْ!» (١) .. الحديث.

ومنهم : النظّام ـ كما حكاه عنه الشهرستاني في «الملل والنحل» في الفرقة النظّامية ـ ، قال النظّام : «إنّ عمر ضرب بطن فاطمة يوم البيعة حتّى ألقت المحسّن من بطنها ، وكان يصيح : أحرقوها بمن فيها! وما كان في الدار إلاّ عليٌّ وفاطمة والحسن والحسين» (٢).

ومنهم : أحمد بن عبد العزيز الجوهري ، في «كتاب السقيفة» ـ كما نقله عنه ابن أبي الحديد (٣) ـ ، قال : «جاء عمر إلى بيت فاطمة في رجال من الأنصار ، ونفر قليل من المهاجرين ، فقال : والذي نفسي بيده! لتخرجنّ إلى البيعة أو لأُحرقنّ البيتَ عليكم!».

وأما ما زعمه من أنّ الطبري مشهور بالتشيّع ، مهجور الكتب والرواية ، فمناقضٌ لِما سيذكره قريباً في إخراج عثمان أبا ذرّ إلى الربذة ، من أنّه وابن الجوزي من أرباب صحة الخبر (٤).

__________________

(١) الإمامة والسياسة ١ / ٣٠.

(٢) الملل والنحل ١ / ٥١.

(٣) ص ١٩ من المجلّد الثاني [شرح نهج البلاغة ٦ / ٤٨]. منه (قدس سره).

(٤) سيأتي في الصفحة ٥١٠ ، من هذا الجزء.

١٤٩

وكيف يُعدّ الطبري من الشيعة وهو من أعلام علماء السنة ، حتّى عدّه النووي في «تهذيب الأسماء» بطبقة الترمذي والنسائي ، وأثنى عليه ، كما نقله السيّد السعيد عنه (١)؟!

وقال ابن خلّكان بترجمته من «وفيات الأعيان» : «كان إماماً في فنون كثيرة ، وكان من المجتهدين ، لم يقلّد أحداً ، وكان ثقة في نقله ، وتاريخه أصحُّ التواريخ وأثبتها» (٢). انتهى ملخّصاً.

وقال الذهبيّ في ترجمته من «ميزان الاعتدال» : «ثقة صادق ... من كبار أئمة الإسلام المعتمدين».

لكن قال الذهبيّ : «فيه تشيّع [يسير] وموالاة لا تضرّ» (٣).

ولعلّ سببه جمعه لطرق حديث الغدير في كتاب سمّاه

__________________

(١) تهذيب الأسماء واللغات ١ / ٧٨ رقم ٨ ، وانظر : إحقاق الحقّ ٥١٥ الطبعة الحجرية.

ونقول ـ إضافة لِما أفاده الشيخ المظفّر (قدس سره) ـ : إنّ علماء بغداد لم يهجروا الطبريَّ لغلوّه في الرفض أو التشيّع أو التعصّب ؛ بل هجروه لعدم عدِّه أحمدَ بن حنبل من الفقهاء ، ولخلافِه مع أصحاب الحديث في مسائل عقائدية وفقهية ، منها : مسألة اللفظ ، والجلوس على العرش ، وأنّه كان يجيز المسح على الرجلين في الوضوء.

وأمّا اشتهاره بالتشيّع ، فلم يُعرف بها ، إلاّ أنّ كلَّ مَن دوّن فضيلة أو سجّل منقبة لأهل البيت (عليهم السلام) كان يُتّهم بالتشيّع ، ويقولون عنه : إنّه تشيّع.

راجع : تاريخ بغداد ٢ / ١٦٤ رقم ٥٨٩ ، المنتظم ٨ / ٤١ ، معجم الأُدباء ٥ / ٢٤٢ و ٢٥٣ رقم ٨٣٠ ، طبقات الفقهاء الشافعية ـ لابن الصلاح ـ ١ / ١٠٩ رقم ١٢ ، سير أعلام النبلاء ١٤ / ٢٧٧ رقم ١٧٥ ، طبقات الفقهاء الشافعيّين ـ لابن كثير ـ ١ / ٢٢٦ رقم ٢٣ ، البداية والنهاية ١١ / ١٢٤ ـ ١٢٥ حوادث سنة ٣١١ هـ.

(٢) وفيات الأعيان ٤ / ١٩١ رقم ٥٧٠.

(٣) ميزان الاعتدال ٦ / ٩٠ رقم ٧٣١٢.

١٥٠

«الولاية» (١) ، وإلاّ فلا أعرف للرجل عُلقة بالتشيّع ؛ واسمه : محمّد بن جرير بن يزيد ، وهو صاحب التاريخ والتفسير المشهورَين ، وتاريخه مطبوع بمصر ، وذكر فيه الحديث الذي نقله المصنّف عنه (٢) ، قال : «حدّثنا ابن حميد ، قال : حدّثنا جرير ، عن مغيرة ، عن زياد بن كليب ، قال : أتى عمرُ بن الخطّاب منزلَ عليّ وفيه طلحة والزبير ، ورجال من المهاجرين ، فقال : والله لأُحرقنّ عليكم ، أو لتخرجُنّ إلى البيعة.

فخرج عليه الزبير مُصْلِتاً بالسيف ، فعثر فسقط السيف من يده ، فوثبوا عليه فأخذوه».

كما إنّ ما نقله المصنّف (رحمه الله) عن ابن عبد ربّه موجود في كتابه (٣).

وأما ما ذكره من الوجوه فغير تامة ..

أما الستّة الأُوَل ؛ فلأنّها مبنيّة على وقوع الإحراق ، وقد ذكرنا أنّ المرويَّ هو قصد الإحراق ، ولعلّ عمر إذا بلغ الأمر إلى الإحراق لم يفعل ؛ لجواز أن يكون قاصداً للتهديد فقط.

على أنّ إحراق بيت فاطمة (عليها السلام) لا يستلزم إحراق غيره ؛ لوجود الآجر والطين فيمكن الإطفاء قبل السراية.

ومن عرف سيرة عمر وغلظته مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قولا وفعلا ،

__________________

(١) ويؤيّد ذلك ما قاله ابن حجر في لسان الميزان ٥ / ١٠٠ رقم ٣٤٤ ، قال : «إنّما نُبز بالتشيّع ؛ لأنّه صحح حديث غدير خمّ».

(٢) ص ١٩٨ من الجزء الثالث [٢ / ٢٣٣]. منه (قدس سره).

وراجع الصفحة ١٣٢ ، من هذا الجزء.

(٣) العقد الفريد ، ص ٦٣ من الجزء الثالث ، طبع مصر سنة ١٣٣١ هجرية ، والمجزّأ أربعة أجزاء [٣ / ٢٧٣]. منه (قدس سره).

وراجع الصفحة ١٣٤ ، من هذا الجزء.

١٥١

لا يستبعد منه وقوع الإحراق فضلا عن مقدّماته!

وقوله في الوجه الثاني : «أتُراهم طرحوا الغيرة وتركوا الحميّة؟! ...» إلى آخره ..

يَرِدُ عليه ـ مع ما عرفت من ابتنائه على وقوع الإحراق ـ : أنّ الزبير قد أراد قتالهم لكن لم يبلغ مراده ، وأمير المؤمنين (عليه السلام) مأمور بالصبر والسلم ..

أخرج أحمد في «مسنده» (١) ، عن عليّ (عليه السلام) ، قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : «سيكون بعدي اختلافٌ أو أمرٌ ، فإنِ استطعتَ أن تكون السلمَ فافعل».

وأما بقيّة الهاشميّين فأَمرُهم تبعٌ لأمير المؤمنين ، وكذا مثل المقداد ، وسلمان ، وأبي ذرّ ، وعمّار ؛ ولا أدري مَن يعني بأشراف بني عبد مناف وصناديد قريش الّذين زعمهم مع عليّ (عليه السلام)؟!

وأما ما ذكره في الوجه الثالث ، من وجوب دفع الصائل ..

وفي الوجه الرابع ، أنّه يدلّ على العجز القادح في صحة الإمامة ..

فإنّما يَرِدان على عثمان حيث ألقى بيده ولم يدافع عن نفسه!

وأمّا أمير المؤمنين (عليه السلام) فلم يبلغ الأمر معه إلى ذلك ، ولو بلغ لعلموا مَن العاجز! فإنّه إنّما أُمر بالسلم حيث يستطيعه.

وأما ما ذكره في الخامس ، من أنّ أُمراء الأنصار وأكابر الصحابة كانوا مسلّمين منقادين محبّين ... إلى آخره ..

__________________

(١) ص ٩٠ من الجزء الأوّل. منه (قدس سره).

١٥٢

فهو ـ لو سُلّم ـ غير وارد ؛ إذ لم يُعلم حضور أكثرهم ، ومن حضر كان على رأي الشيخين ، أو مضطرب الحال.

على أنّ الإحراق لو وقع ليس بأعظم من غصب الخلافة ، ومخالفة نصّ الغدير ، وغيره.

ولو سُلّم ، فقد تدرّج الأمر من غصب الخلافة ، إلى غصب ميراث بضعة الرسول ونحلتها ، إلى إحراق البيت ، فهانَ!

وبالجملة : إذا رأى الناسُ مقاومةَ أُولي الأمر لأهل البيت وشدّتهم عليهم وعلى أوليائهم ، لم يُستبعد سكوت الرعيّة ، ولا سيّما أنّ جُلّ الأُمراء والأكابر أعوانٌ لهم في الاعتداء على أمير المؤمنين (عليه السلام) ومَن يتعلّق به ، والتجاهر في عداوتهم.

وأما ما ذكره في الوجه السادس ، فلو فُرض وقوع الإحراق لم يُستغرب ترك مؤرّخي السنة لذِكره ؛ إذ من المعلوم محافظتهم على شأن الشيخين ، بل وشؤون أنفسهم ، فإنّ رواية ما يُشعِر بالطعن بهما ، فضلا عن مثل هذا العمل الوحشي ، ممّا يوجب وهن الرجل وكتابه بأنظار قومه ، بل يوجب التغرير بنفسه وعرضه ، كما فعل هو نفسه بالطبريّ ـ كما رأيت ـ وهو ذو الفضيلة عندهم ؛ لمجرّد سماعه أنّه روى قصْدَ الإحراق!

وكما فعل الشهرستاني بالنظّام ، وهو من أكابر معتزلة السنة ؛ إذ نسبه إلى الميل إلى الرفض لتلك الرواية التي سمعتها (١)!

ولو قال القائل : إنّهم أحرقوا الباب لم يبعد عن الصواب ؛ لأنّ كثير الاطّلاع منهم ، الذي يريد رواية جميع الوقائع ، لم يسعه أن يهمل هذه

__________________

(١) انظر : الملل والنحل ١ / ٥٠ ـ ٥١.

١٥٣

الواقعة بالكلّية ، فيروي بعض مقدّماتها ؛ لئلاّ يخلّ بها من جميع الوجوه ، وليحصل منه تهوين القضيّة كما فعلوا في قصّة بيعة الغدير (١) وغيرها (٢).

وبالجملة : يكفي في ثبوت قصد الإحراق رواية جملة من علمائهم له ، بل رواية الواحد منهم له ، لا سيّما مع تواتره عند الشيعة (٣) ، ولا يحتاج إلى رواية البخاري ومسلم وأمثالهما ، ممّن أجهده العداء لآل محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) والولاء لأعدائهم ، ورام التزلّفَ إلى ملوكهم وأُمرائهم ، وحُسْنَ السمعة عند عوامّهم.

هذا كلّه في الوجوه الستّة.

وأمّا في السابع ؛ فلأنّ ما زعمه من المنافاة لرواية الصحاح كذب ؛ إذ ليس فيها ما ينافي قصد الإحراق أو وقوعه ، فإنّها لم تشتمل على أنّه لم يتعرّض لهم وتركهم على حالهم ، كما ادّعاه الخصم ، ولا على أنّهم يتردّدون عند أبي بكر ويدخلون في المشاورات ، وتدبير الجيوش ، ولا عذر أبي بكر بخوف الفتنة من الأنصار ، ونحو ذلك.

راجع ما رواه البخاري في غزوة خيبر ، المشتمل على كيفيّة البيعة (٤).

__________________

(١) راجع ذلك مفصلا في : ج ١ / ١٩ ـ ٢٢ ، من هذا الكتاب.

(٢) كحديث الإنذار في يوم الدار ؛ راجع تفصيل ذلك في : ج ٦ / ٢٣ ـ ٤٦ ، من هذا الكتاب.

وحديث دفع الراية يوم خيبر ؛ راجع تفصيل ذلك في : ج ٦ / ٨٩ ـ ١٠١ ، من هذا الكتاب.

(٣) انظر مثلا : كتاب سُليم ٢ / ٥٨٥ ، المسترشد في الإمامة : ٣٧٧ ـ ٣٧٨ ، الأمالي ـ للمفيد ـ : ٤٩ ـ ٥٠ المجلس ٦ ح ٩ ، الشافي ١ / ٢٤١ ، الاحتجاج ١ / ٢٠٢ و ٢١٠.

(٤) صحيح البخاري ٥ / ٢٨٨ ح ٢٥٦.

١٥٤

وما رواه مسلم في باب قول النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) : «لا نورَث ما تركناه صدقة» (١).

وظنّي أنّ غيرهما من صحاحهم لم يشتمل على ما ذكره ؛ إذ لم ينقله عنها ناقل بحسب التتبّع ، بل اشتمل حديث البخاري ومسلم على أنّ عمر خاف على أبي بكر من دخوله وحده على عليّ.

وهذا ممّا يقرّب وقوع الإساءة منهم إليه ، كقصد الإحراق ونحوه.

ومن الجفاء إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) ما اشتمل عليه هذان الحديثان من أنّ المسلمين كانوا «إلى عليّ قريباً حين راجعَ الأمرَ بالمعروف» ؛ فإنّه دالٌّ على أنّه كان فاعلا للمنكر ، مخالفاً للشرع ، لمّا لم يبايع أبا بكر.

وهذا تكذيب لله سبحانه بشهادته له بالطهارة ، وتكذيب للنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بشهادته له بأنّه مع الحقّ والحقّ معه يدور حيث دار.

فتبّاً لأُولئك المسلمين الّذين بعدوا عن سيّدهم ، وعبد الله حقّاً ، وأخي نبيّهم (عليه السلام) ، ووصيّه.

وما زال أُولئك المسلمون بُعداءَ عن ذلك الإمام الأعظم إلى زماننا هذا ، حتّى جاء شاعرهم المصري في وقتنا فافتخر بما قاله عمر من التهديد بإحراق بيت النبوّة وباب مدينة علم النبيّ وحكمته ، وقال [من البسيط] :

وقولة لعليّ قالها عمرُ

أَكرِمْ بسامعها أَكرِمْ (٢) بمُلقيها

__________________

(١) صحيح مسلم ٥ / ١٥٣ ـ ١٥٤ كتاب الجهاد والسير.

(٢) في المصدر : «أَعظِم».

١٥٥

أَحرقْتُ بابَك (١) لا أُبقي عليكَ بها

إنْ لم تبايع وبنتُ المصطفى فيها

مَن كان مِثلُ (٢) أبي حفص يَفوهُ بها

أمامَ فارسِ عدنان وحاميها (٣)

وقد ظنّ هذا الشاعر أنّ هذا من شجاعة عمر ، وهو خطأٌ ، أَوَلَمْ يعلم أنّه لم تثبت لعمر قدمٌ في المقامات المشهورة ، ولم تمتدَّ له يدٌ في حروب النبيّ الكثيرة؟! فما ذلك إلاّ لأمانهِ من عليّ (عليه السلام) بوصيّة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) له بالصبر ، ولو هَمّ به لهام على وجهه واختطفه بأضعف ريشة.

وأمّا قول الخصم : «فإنّ أصحاب الصحاح اتّفقوا على أنّه لمّا وليَ الخلافة ...» إلى آخره ..

فالظاهر كذبه ؛ إذ لم أجده في ما اطلعت عليه من صحاحهم ، ولا نقله عنها ناقل!

بل المنقول عنها خلافه ..

فإنّ ابن حجر في «الصواعق» ، في آخر كلامه بخلافة أبي بكر نقل عن البخاري ، عن عائشة ، قالت : لمّا استُخلف أبو بكر قال : لقد علم قومي أنّ حرفتي لم تكن تعجز عن مؤنة أهلي ، وشُغِلتُ بأمر المسلمين ، فسيأكل آل أبي بكر من هذا المال ، ويحترف للمسلمين فيه (٤).

__________________

(١) في المصدر : «حرَقتُ دارَكَ».

(٢) في المصدر : «ما كان غيرُ».

(٣) ديوان حافظ إبراهيم ١ / ٨٢.

(٤) الصواعق المحرقة : ١٣١ ب ٣ ف ٤ ، وانظر : صحيح البخاري ٣ / ١٢٠ ح ٢٢.

١٥٦

ونقله أيضاً عنه وعن جماعة آخرين في «كنز العمال» (١).

فإنّه دالٌّ على أنّ أبا بكر هو المريد للأكل من مال المسلمين ، لا أنّ الصحابة أرادوا ذلك!

وأصرح منه في المدّعى ما رواه الطبري في «تاريخه» (٢) ـ من حديث طويل ـ ، قال فيه أبو بكر : «لا والله ما تُصلح أُمور الناس التجارة ، وما يصلحهم إلاّ التفرّغ لهم ، والنظر في شأنهم ، ولا بُد لعيالي ممّا يُصلحهم.

فترك التجارة واستنفق من مال المسلمين ما يصلحه ويصلح عياله يوماً بيوم ويحجّ ويعتمر ، وكان الذي فرضوا له في كلّ سنة ستّة آلاف درهم ...» .. الحديث.

ومثله في «كنز العمّال» (٣) ، عن ابن سعد ..

وفي «كامل» (٤) ابن الأثير.

نعم ، في بعض أخبارهم أنّ عمر هو الذي منعه من التجارة ، وأراد الفرض له ففرض له أبو عبيدة ..

كالذي حكاه ابن حجر في المقام السابق ، عن ابن سعد (٥).

__________________

(١) ص ١٢٧ من الجزء الثالث [٥ / ٥٩٥ ح ١٤٠٥٧]. منه (قدس سره).

وانظر : الأموال ـ لأبي عبيد ـ : ٣٣٩ ح ٦٥٨ ، الطبقات الكبرى ـ لابن سعد ـ ٣ / ١٣٨.

(٢) ص ٣٥ من الجزء الرابع [٢ / ٣٥٤]. منه (قدس سره).

(٣) ص ١٣٠ من الجزء الثالث [٥ / ٦١٠ ـ ٦١١ ح ١٤٠٧٧]. منه (قدس سره).

وانظر : الطبقات الكبرى ـ لابن سعد ـ ٣ / ١٣٩.

(٤) ص ٢٠٧ من الجزء الثاني [٢ / ٢٧٢]. منه (قدس سره).

(٥) الصواعق المحرقة : ١٣١ ب ٣ ف ٤ ، وانظر : الطبقات الكبرى ـ لابن سعد ـ ٣ / ١٣٧ ، كنز العمّال ٥ / ٦٠٣ ح ١٤٠٦٧.

١٥٧

وما حكاه في «كنز العمال» (١) ، عن البيهقي ، إلاّ أنّ عمر قال فيه : «نفرض بالمعروف» ولم يُعيّن من فرض له.

ثمّ قال الراوي : «فأنفق في سنتين وبعض أُخرى ثمانية آلاف درهم».

ولم أجد في شيء من أخبارهم أنّ أمير المؤمنين وأكابر الصحابة عيّنوا لأبي بكر ما ينفقه في عياله.

وأين أمير المؤمنين عنه حتّى يهتمّ لنفقته وهو مشغول بجهاز النبيّ وفقده ، وباتّفاق القوم على غصبه؟!

ليت شعري ، ما لأبي بكر أصبح مهتمّاً لأمر الدنيا ـ والنبيّ لم يُقبر ـ وهو عندهم موسِر ، حتّى أوصى بردّ جميع ما أخذه من بيت المال ؛ وهو ثمانية آلاف أو نحوها أو ما يزيد على اثني عشر ألفاً (٢)؟!

ولم أجد في أخبارهم أنّ فرضَ أبي بكر كان ألفَي درهم فقط ، بل في بعض أخبارهم أنّهم جعلوا له ألفين ، فقال : «زيدوني! فإنّ لي عيالا وقد شغلتموني عن التجارة ؛ فزادوه خمسمئة».

كما نقله في «الصواعق» في المقام المذكور (٣) ، وفي «كنز العمّال» (٤) ؛ كلاهما عن ابن سعد ، عن ميمون بن مهران (٥).

__________________

(١) ص ١٢٨ ج ٣ [٥ / ٥٩٩ ح ١٤٠٦٢]. منه (قدس سره).

وانظر : السنن الكبرى ـ للبيهقي ـ ٦ / ٣٥٣.

(٢) انظر : تاريخ الطبري ٢ / ٣٥٥.

(٣) الصواعق المحرقة : ١٣١.

(٤) ص ١٢٩ ج ٣ [٥ / ٦٠٣ ح ١٤٠٦٨]. منه (قدس سره).

(٥) انظر : الطبقات الكبرى ـ لابن سعد ـ ٣ / ١٣٨.

١٥٨

وأمّا قوله : «وأوصى أن يُكفّن في أثوابه التي لبسها في أيّام حياته ، وقال : إنّ الحيّ بالجديد أجدر».

فهو لو صحّ دلّ على جهل أبي بكر بسنة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ..

روى مسلم (١) ، عن جابر : «أنّ النبيّ خطب يوماً فذكر رجلا من أصحابه قُبض فكُفّنَ بكفن غير طائل وقُبر ليلا ، فزجر النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يُقبر الرجل بالليل حتّى يُصلّى عليه ، إلاّ أن يضطرّ إنسانٌ إلى ذلك ؛ وقال النبيّ : إذا كفّنَ أحدُكم أخاه فليحسن كفنه».

بل تدلّ وصيّة أبي بكر بتكفينه بالعتيق على طلب مخالفة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ؛ إذ كُفّن بالجديد ، ولم يُوصِ بالتكفين بالعتيق.

ففي «كنز العمّال» (٢) ـ عند ذِكر وفاة أبي بكر ـ ، عن أبي يعلى ، وأبي نُعيم ، والدغولي ، والبيهقي ، بأسانيدهم عن عائشة ، قالت ـ في حديثها عن موت أبيها ـ : قال : [في] كم كفّن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟

قلت : كفنّاه في ثلاثة أثواب سُحُوليّة (٣) بيض جُدد ...

__________________

(١) في باب تحسين كفن الميّت من كتاب الجنائز [٣ / ٥٠]. منه (قدس سره).

(٢) ص ٣٢٤ من الجزء السادس [١٢ / ٥٣٦ ح ٣٥٧٢٣]. منه (قدس سره).

وانظر : مسند أبي يعلى ٧ / ٤٢٩ ـ ٤٣١ ح ٤٤٥١ وص ٤٦٩ ح ٤٤٩٥ ، السنن الكبرى ـ للبيهقي ـ ٣ / ٣٩٩ وج ٤ / ٣١.

(٣) السّحُوليّة والسّحُوليّة ـ بضمّ السين أو فتحها ـ : فإن كانت بالضمّ ، فهي جمع «سَحْل» وهو الثوب الأبيض النقي ، ولا يكون إلاّ من قطن.

وإنْ كانت بالفتح ، فهي نسبة إلى السَّحُول ، وهو القَصَّار ؛ لاة نّه يَسحَلُها ، أي يَغْسِلُها ؛ أو نسبة إلى «سَحُول» أو «سُحُول» قبيلة من اليمن ، أو قرية باليمن يُحمل منها ثياب قطن بيض تدعى السّحُوليّة أو السّحُوليّة.

انظر مادّة «سحل» في : النهاية في غريب الحديث والأثر ٢ / ٣٤٧ ، معجم البلدان ٣ / ٢٢٠ رقم ٦٣٠٣ ، لسان العرب ٦ / ١٩٦.

١٥٩

فقال : اغسلوا ثوبي [هذا] ـ وبه رَدْعٌ (١) من زعفران ـ ، واجعلوا معه ثوبين جديدين.

فقلت : إنّه خَلِقٌ.

فقال : الحيُّ أحوجُ إلى الجديد من الميّت ، إنّما هو للمُهْلة (٢).

وأقول : لو أوصى أن يُدفن عارياً لكان أَوْلى بمراعاة الأحياء ، مع أنّ الكفن للمهْلة والصديد!

وأمّا ما ذكره من أنّ عمر كان من أكابر قريش وصناديدها ؛ فمحلُّ نظر ..

قال عمرو بن العاص ـ كما في أوائل «العقد الفريد» (٣) ـ : «قبّح الله زماناً ، عمرُو بن العاص لعمرَ بنِ الخطّاب [فيه] عامل ، واللهِ إنّي لأعرف الخطّاب يحمل فوق رأسه حُزمة حطب وعلى ابنه مِثلُها ، وما منهما إلاّ في نَمرة (٤) لا تبلغ رُسغيه».

__________________

(١) الرَّدْعُ : أثر الخلُوق والطِّيب والزعفران والدم في الجسد أو الثوب ، أو اللطخ بالزعفران ، وبالثوب رَدْعٌ من زعفران : أي شيء يسير في مواضع شتّى ، ولطخٌ لم يَعُمه كلّه.

انظر مادّة «ردع» في : النهاية في غريب الحديث والأثر ٢ / ٢١٥ ، لسان العرب ٥ / ١٨٧.

(٢) المهْلُ والمهْلُ والمهْلةُ والمهْلةُ : القيح والصديد ؛ ويراد به هنا : صديد الميت وقيحه ، الذي يذوب فيسيل من الجسد ؛ وصديد الجرح : ماؤه الرقيق المختلط بالدم قبل أن تغلظ المِدَّة.

انظر : لسان العرب ١٣ / ٢٠٩ ـ ٢١٠ مادّة «مهل» وج ٧ / ٢٩٨ مادّة «صدد».

(٣) تحت عنوان ما يأخذ به السلطان من الحزم والعزم [١ / ٥٦]. منه (قدس سره).

(٤) النّمرَةُ : بُرْدَةٌ من صوف يلبسها الأعراب ؛ وكلُّ شَمْلَة أو حبَرَة مخَططَة من مآزِرِ الأعراب ، فهي نمرَةٌ ؛ لاختلاف ألوان خطوطها بيض وسود ؛ انظر : لسان العرب ١٤ / ٢٩٠ مادّة «نمر».

١٦٠