دلائل الصدق لنهج الحق - ج ٧

الشيخ محمد حسن المظفر

دلائل الصدق لنهج الحق - ج ٧

المؤلف:

الشيخ محمد حسن المظفر


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ دمشق
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ دمشق
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-360-8
الصفحات: ٦٠٠

وقال الفضل (١) :

هذا الحديث مذكور في الصحاح ، ولكنّه ألحق شيئاً وغيّره.

والصحيح أنّه لمّا طلب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الدواة والكتف ، قال عمر : إنّ رسول الله قد غلبه الوجع ، وعندنا كتاب الله.

فقال بعضهم : أحضروا ما طلب ؛ وقال بعضهم : لا تُحضروا ؛ ووقع الاختلاف.

فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : قوموا عنّي ، فلا ينبغي عندي التنازع (٢).

وأما قوله : «إنّ نبيّكم ليهجر» ، فليس في «البخاري».

وإنْ سلّمنا صحّة الرواية ، فالهجر : هو الكلام الذي يقوله المريض ، فيكون المعنى موافقاً لِما هو في بعض الصحاح.

والمراد : أنّه يتكلّم بكلام المرضى وهو متوجّع ، فلا إساءة أدب في هذا.

وأما منع عمر عن كتابة الكتاب ، فقال العلماء :

إنّ عمر خاف أن يكتب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) شيئاً لا يفهمه المنافقون ؛ لغلبة وجعه ، فيقع الاختلاف بين المسلمين (٣).

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن «إحقاق الحقّ» ـ : ٥٢٥ الطبعة الحجرية.

(٢) صحيح البخاري ١ / ٦٥ ـ ٦٦ ح ٥٥ وج ٦ / ٢٩ ح ٤٢٣ وج ٧ / ٢١٩ ح ٣٠ ، صحيح مسلم ٥ / ٧٦.

(٣) انظر : الشفا ـ للقاضي عياض ـ ٢ / ١٩٤ ، فتح الباري ٨ / ١٦٩ ، شرح صحيح مسلم ـ للنووي ـ ٦ / ٧٧ و ٧٨ ، إرشاد الساري ٩ / ٤٧٠.

١٨١

وقال بعضهم : إنّ رسول الله تكلّم بكلام المرضى ، لا أنّه يريد الكتابة ، كما يقول المريض : ناولوني فلاناً وفلاناً وهو لا يريد (١).

والأوّل أظهر ؛ لأنّ عمر في أيّام صحّة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كثيراً ما يقول له : إفعل فلاناً ولا تفعل فلاناً ؛ وكان رسول الله يوافقه في رأيه (٢).

فكان له هذا المنصب والمقام عند رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أيام الصحة ، فجرى على عادته ؛ لأنّ الكتابة لم تكن من رأيه كما ذكرنا.

ومَن علم أحوال عمر مع رسول الله طول صحبته لم يتعجّب من هذا.

ثمّ ما ذكر أنّه أراد أن ينصّ حال موته على خلافة عليّ ؛ فهذا من باب الإخبار بالغيب.

ولِمَ لا يريد أن ينصّ بخلافة أبي بكر؟! وقد وافق هذا ما روينا عن عائشة ، أنّه قال : ادعي لي أبا بكر أباك حتّى أكتب له كتاباً (٣).

ثمّ هذا مناقض لِما ادّعاه من النصّ في غدير خُمّ ؛ فإنّه يدّعي النصّ في ذلك المشهد ، ثمّ يقول : إنّه أراد أن ينصّ.

وهذا نِعمَ اعتراف منه بعدم النصّ.

__________________

(١) انظر مؤدّاه في : فتح الباري ٨ / ١٦٨.

(٢) انظر : صحيح البخاري ٦ / ١٢٩ ـ ١٣١ ح ١٩٠ ـ ١٩٢.

(٣) مسند أحمد ٦ / ٤٧.

١٨٢

وأقول :

قد جاء في بعض أخبارهم نسبة الهجر إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بنحو الجزم والإخبار ، كما في «صحيح مسلم» (١) ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عبّاس ، قال : «يوم الخميس! وما يوم الخميس؟! ثمّ جعل تسيل دموعه حتّى رأيتُ على خدّيه كأنّها نظام اللؤلؤ ، قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : ائتوني بالكتف والدواة أكتب لكم كتاباً لن تضلّوا بعده أبداً.

فقالوا : إنّ رسول الله يهجر».

وهذا هو الذي أراده المصنّف (رحمه الله).

ومثله في «مسند أحمد» (٢).

بل روى البخاري الحديث بلفظ الإخبار بالهجر في باب «جوائز الوفد» (٣) ، عن ابن جبير ، عن ابن عبّاس ، قال : «يوم الخميس! وما يوم الخميس؟! ثمّ بكى حتّى خضب دمعُه الحصباء ، فقال : اشتدّ برسول الله

__________________

(١) في آخر كتاب الوصيّة [٥ / ٧٥ ـ ٧٦]. منه (قدس سره).

(٢) ص ٣٥٥ من الجزء الأوّل. منه (قدس سره).

وانظر : الطبقات الكبرى ـ لابن سعد ـ ٢ / ١٨٧ و ١٨٨ ، أنساب الأشراف ٢ / ٢٣٦ ، تاريخ الطبري ٢ / ٢٢٩ ، سرّ العالمين ـ المطبوع ضمن مجموعة رسائل الغزّالي ـ : ٤٥٣ ، الشفا بتعريف حقوق المصطفى ٢ / ١٩٢ ، الكامل في التاريخ ٢ / ١٨٥ أحداث سنة ١١ هـ ، البداية والنهاية ٥ / ١٧٣ أحداث سنة ١١ هـ ، نسيم الرياض ٤ / ٣٠٨.

(٣) على ثلثي كتاب الجهاد ، ص ١١١ ج ٢ [٤ / ١٦٢ ح ٢٥١] ، طبع المطبعة الميمنية بمصر ، شهر محرّم سنة ١٣٢٠ هجرية. منه (قدس سره).

١٨٣

وجعه يوم الخميس فقال : ائتوني بكتاب أكتب لكم كتاباً لن تضلّوا بعده أبداً.

فتنازعوا ، ولا ينبغي عند نبيّ تنازعٌ ، فقالوا : هَجَرَ رسول الله!

قال : دعوني! فالذي أنا فيه خير ممّا تدعوني إليه.

وأوصى عند موته بثلاث : أخرجوا المشركين من جزيرة العرب ، وأجيزوا الوفدَ بنحو ما كنتُ أُجيزهم ، ونسيت الثالثة».

ومن أوضح الأُمور أنّ نسبةَ الهجر إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إساءةُ أدب معه ، بل كفرٌ بمقامه ؛ فإنّه مخالف للعقل والشرع.

أما العقل ؛ فلأنّ الهَجْرَ : هو الهَذَيان ؛ يقال : هَجَرَ النائمُ : إذا هَذَى ، كما في «القاموس» (١).

وهذا ممتنع عقلا على النبيّ في صحّته ومرضه ؛ لأنّ من جاز عليه الهجر ولم يُؤمَنْ عليه الهذيان والخطأ ، أمكن التشكيك في كثير من أقواله وأفعاله ، فلا يكون قوله وفعله حجة ، وهو مناف لمنزلة النبوّة ، وناف لفائدة البعثة.

وأما الشرع ؛ فلقوله تعالى : (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول) (٢) ..

(وما آتاكم الرسول فخذوه) (٣) ..

__________________

(١) القاموس المحيط ٢ / ١٦٤ مادّة «هجر».

وانظر مادّة «هجر» في : غريب الحديث ـ للهروي ـ ٢ / ٦٤ ، الصحاح ٢ / ٨٥١ ، الفائق في غريب الحديث ٤ / ٩٤ ، النهاية في غريب الحديث والأثر ٥ / ٢٤٦ ، لسان العرب ١٥ / ٣٣ ، المصباح المنير : ٢٤٢ ، تاج العروس ٧ / ٦٠٨.

(٢) سورة النساء ٤ : ٥٩ ، سورة النور ٢٤ : ٥٤ ، سورة محمّد ٤٧ : ٣٣ ، سورة التغابن ٦٤ : ١٢.

(٣) سورة الحشر ٥٩ : ٧.

١٨٤

(وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيَرَةُ مِن أمرهم) (١) ..

فإنّ هذه الآيات أطلقت وجوب طاعته والأخذ منه ، ومنعت من مخالفة مطلق ما قضى به.

ومن الواضح : أنّ صدور الهجر يستدعي خلاف ذلك الوجوب والمنع ، وينافي ذلك الإطلاق.

ولقوله تعالى : (إنْ هو إلاّ وحيٌ يُوحى) (٢) ..

فإنّه دالٌّ على أنّ كلّ ما ينطق به من أمر أو منع إنّما هو عن وحي الله تعالى ، وهو لا يجامع الهجر.

ولقوله تعالى : (إنّه لَقولُ رسول كريم) إلى قوله : (ثَمّ أمين * وما صاحبكم بمجنون) (٣) ..

فإنّه ناف للهجر عنه ؛ لأنّ من جاز عليه الهجر ، لم يكن أميناً ، ومَن وقع منه الهجر ، كان مجنوناً ؛ لأنّ الجنون حالة في الإنسان يُستر فيها عقلُه.

غاية الأمر : أنّ من يهجر في حالة خاصّة ليس جنونُه مستحكماً.

ولو سُلّم أنّ الهجر هو الهذيان الحاصل من غير الجنون ـ كما هو الأقرب ـ فهو بحكمه ؛ لأنّ المقصود بالآية ليس هو نفي الجنون من حيث هو ، بل لِما يترتّب عليه من الهذيان ، فينتفي عن النبيّ كلّ هذيان.

وممّا ذكرنا يُعلم أنّه لا فائدة في ما قصدوا به إصلاح هذه

__________________

(١) سورة الأحزاب ٣٣ : ٣٦.

(٢) سورة النجم ٥٣ : ٤.

(٣) سورة التكوير ٨١ : ١٩ ـ ٢٢.

١٨٥

الفرْطة (١) ؛ إذ بدّلوا في بعض أخبارهم لفظ «الهجر» بقولهم : «غلبه الوجع» (٢) ؛ فإنّ النتيجة بهما واحدة ؛ وهي إثبات الهذيان للنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ، حاشاه (٣)!

وأما ما نسبه إلى بعض علمائهم من أنّ عمر خاف أن يكتب النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ما لا يفهمه المنافقون ، فيقع الاختلاف بين المسلمين ؛ فهو أشبه باللغو ؛ إذ كيف يقع ـ بسبب عدم فهم المنافقين لمراد النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ الاختلاف بين المسلمين الّذين يفهمون مراده ، ويعتقدون أنّ ما يكتبه رافعٌ للضلال أبداً.

مع أنّ عمر ـ على هذا ـ قد دفع القبيح بالأقبح ؛ لأنّه خاف الاختلاف فأوقعه بالمخالفة للنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) على أوحش وجه وأكذبه ؛ وهو

__________________

(١) الفرْطةُ : اسمٌ للخروج والسبق والتقدّم ومجاوزة الحدّ ؛ انظر : لسان العرب ١٠ / ٢٣٥ مادّة «فرط».

والمراد هنا ما ارتكبوه واجترحوه من جريرة وكبيرة بإساءة الأدب مع الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم).

(٢) انظر : صحيح البخاري ١ / ٦٥ ـ ٦٦ ح ٥٥ وج ٦ / ٢٩ ح ٤٢٣ وج ٧ / ٢١٩ ح ٣٠ وج ٩ / ٢٠٠ ح ١٣٤ ، صحيح مسلم ٥ / ٧٦ ، مسند أحمد ١ / ٣٢٤ ـ ٣٢٥ و ٣٣٦ ، الطبقات الكبرى ـ لابن سعد ـ ٢ / ١٨٨ ، الإحسان بترتيب صحيح ابن حبّان ٨ / ٢٠١ ح ٦٥٦٣ ، الملل والنحل ـ للشهرستاني ـ ١ / ١٢ ، الشفا بتعريف حقوق المصطفى ٢ / ١٩٢ ، الوفا بأحوال المصطفى : ٧٩٤ ح ١٤٦٤ ، الاكتفاء ـ للكلاعي ـ ٢ / ٤٢٧ ، شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ ٦ / ٥١ ، البداية والنهاية ٥ / ١٧٣ أحداث سنة ١١ هـ ، الرحيق المختوم : ٤٢٨ ، سبل الهدى والرشاد ١٢ / ٢٤٧.

(٣) قال ابن حجر في فتح الباري ٨ / ١٦٨ ملخّصاً كلام القرطبي : «الهُجرُ ـ بالضمّ ثمّ السكون ـ : الهَذَيان ، والمراد به هنا ما يقع من كلام المريض الذي لا ينتظم ولا يُعتدّ به لعدم فائدته ؛ ووقوع ذلك من النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) مستحيل ؛ لأنّه معصوم في صحّته ومرضه ؛ لقوله تعالى : (وما ينطق عن الهوى) ، ولقوله (صلى الله عليه وآله وسلم) : (إنّي لا أقول في الغضب والرضا إلاّ حقاً)».

١٨٦

نسبة الهذيان إلى النبيّ!

وليت شعري ، ما عسى أن يفعل المنافقون ـ وهم الأقلّون ـ أكثر من ذلك لمجرّد كتابة النبيّ ما لا يفهمونه.

على أنّه كيف يُتصوّر أن يصف النبيّ كتابه بأنّهم لا يضلّون بعده أبداً ، ثمّ يكتب ما لا يُفهم فيسبب به الاختلاف والضلال على خلاف ما ضَمِنه كتابه؟!

فهل تجويز هذه الكتابة إلاّ تجويز للهجر بوجه آخر؟!

مضافاً إلى أنّ عمر لو كان قاصداً لذلك ، لكان الواجب عليه أنّ يُنبّه النبيّ بعبارة جميلة طالباً فيها توضيح مقصوده ، لا أنّه يمنعه عن أصل الكتاب الرافع للضلال إلى آخر الأبد.

وأيضاً : فقد زعم القوم عدالة الصحابة كلّهم واقعاً إلاّ النادر الخفيّ الحال من المنافقين ، فمن أين يقع الاختلاف بين المسلمين العدول بسبب عدم فهم القليلين المنافقين للكتاب؟!

وما أدري إذا كان الأمر على ما قاله ذلك البعض ، فما الذي أبكى ابن عبّاس حتّى بلّت دموعه الحصباء ، وعدّه الرزيّة كلّ الرزيّة؟!

ألم يكن له عِلم بمقصود عمر ، كما علمه هذا البعض بعد حين ، فيسترّ لهذه المقاصد الشريفة؟!

وأمّا ما زعمه الخصم من أنّ عمر كان يقول للنبيّ : إفعل ولا تفعل ..

فهو كذبٌ وإزراءٌ بحقّ سيّد المرسلين وشأن الرسالة ، كما سبق (١).

ولو سُلّم ، فإنّما يجوز ذلك في مقام الاستشارة ، لا في مقام يقضي

__________________

(١) راجع الصفحات ٦٤ ـ ٦٥ و ١٦٥ ـ ١٧٠ ، من هذا الجزء.

١٨٧

به النبيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ويعزم ، كما في المورد ، فإنّه ليس لأحد فيه الخيَرة ، كما صرّحت به الآية السابقة (١).

وأما قوله : «ومن علم أحوال عمر مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وطول صحبته لم يتعجّب من هذا» ..

فصحيحٌ ؛ لِما نعهده من سوء أدبه مع النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ، ومخالفته له في كثير من المقامات التي يقضي فيها ، وتدخّله في ما ليس له ، كما في الصلاة على ابن أُبَيّ ، والصلح يوم الحديبية ، وغيرهما (٢) ، فيُعرض النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) عنه ، أو يجيبه بما يقتضيه حُسن خُلُقه وعظيم تأليفه ، وإلاّ فالنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أعلى شأناً ، وأرفع مكاناً ، وأظهر عصمة ، وأكبر تأييداً من أن يحتاج إلى الآراء الناقصة ، ويتّبع من لا طريق له إلاّ الظنّ ، والظنّ لا يغني من الحقّ شيئاً.

ثمّ إنّ بعض الرواة قد تصرّف في الحديث فصوّره بصورة الاستفهام ؛ تقليلا للاستهجان ، فروى أنّهم قالوا : «ما شأنُه؟! أَهَجَر؟! استفهموه!» كما رواه البخاري (٣) ، ومسلم (٤) (٥).

وفي لفظ آخر : «ما باله (٦)؟! أَهَجر؟! استفهموه!» كما رواه

__________________

(١) راجع الصفحة ١٨٥ ، من هذا الجزء.

(٢) راجع : ج ٥ / ٢١٣ هـ ٥ ، من هذا الكتاب.

(٣) في باب مرض النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) في أواخر كتاب المغازي [٦ / ٢٩ ح ٤٢٢]. منه (قدس سره).

(٤) في آخر كتاب الوصيّة [٥ / ٧٥]. منه (قدس سره).

(٥) وانظر : مسند أحمد ١ / ٢٢٢ ، مصنّف عبد الرزّاق ٦ / ٥٧ ح ٩٩٩٢ ، الطبقات الكبرى ـ لابن سعد ـ ٢ / ١٨٧ ، تاريخ الطبري ٢ / ٢٢٨ ، البدء والتاريخ ٢ / ١٣٦ ، الاكتفاء ـ للكلاعي ـ ٢ / ٤٢٦ ـ ٤٢٧ ، سبل الهدى والرشاد ١٢ / ٢٤٧.

(٦) في المصدر : «ما له».

١٨٨

البخاري أيضاً (١).

وليت شعري ، كيف يُستفهم عن الهجر من احتُمِل في حقّه الهجر؟!

وكيف يكون عمر مستفهماً وهو يقول : «حسبنا كتاب الله» ، الذي هو كلامُ معارِض لا مستفهِم ، حتّى لو حُمل استفهامه على الإنكار كما زعمه بعضهم؟!

وهل يُجامع الإنكارَ قولُه : «أَهَجَر؟! استفهموه!»؟! فإنّه لو أُريد به الإنكار على قائل لتعلّق به الاستفهام الإنكاري لا بالنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ، ولَمَا كان مورد لقوله : «حسبنا كتاب الله»!

على أنّه لم يسبق أحد عمرَ إلى نسبة الهجر إلى النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) حتّى يُنكر عمرُ عليه ، بدليل ما رواه البخاري (٢) ومسلم (٣) ، عن ابن عبّاس ، قال : «لمّا حُضِرَ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطّاب ، قال : هلُمّ أكتب لكم كتاباً لن تضلّوا بعده.

قال عمر : إنّ النبيّ غلبه الوجع وعندكم القرآن ، فحسبنا كتاب الله!

واختلف أهل البيت واختصموا ، فمنهم من يقول : قرّبوا يكتب لكم رسول الله كتاباً لن تضلّوا بعده ؛ ومنهم من يقول ما قال عمر ، فلمّا أكثروا

__________________

(١) في أواخر كتاب الجهاد ، في باب إخراج اليهود من جزيرة العرب [٤ / ٢١١ ـ ٢١٢ ح ١٠]. منه (قدس سره).

وانظر : الشفا بتعريف حقوق المصطفى ٢ / ١٩٢ ، نسيم الرياض ٤ / ٣٠٧.

(٢) في باب كراهية الخلاف من كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة [٩ / ٢٠٠ ح ١٣٤] ، وفي باب قول المريض : «قوموا عنّي» من كتاب المرضى [٧ / ٢١٩ ح ٣٠]. منه (قدس سره).

(٣) في آخر كتاب الوصيّة [٥ / ٧٦]. منه (قدس سره).

١٨٩

اللغط (١) والاختلاف عند النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : قوموا عنّي!».

وروى أحمد في «مسنده» (٢) ، عن جابر ، أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) دعا عند موته بصحيفة ليكتب كتاباً لا يضلّون بعده ، فخالف عمر بن الخطّاب حتّى رفضها.

ومن العجب شدّة تحفّظهم على شأن عمر ؛ فإنّهم إذا رووا لفظ «الهجر» لم يُعيّنوا قائله (٣) ، وإذا عيّنوا عمر قالوا : «قال : غلبه الوجع» (٤) ، أو : «خالف حتّى رفضها» (٥).

وإذا تُليت عليهم الأدلّة الواضحة على امتناع وصمة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بالهجر والهذيان ردّوها بجدّهم ، وخذلوا رسولَ الله ونصروا عمرَ بجهدهم ، وأساؤوا القول في مَن ينتقده ؛ وإنْ آذى نبيّهم وأغضبه وغمه ، وسبب

__________________

(١) اللّغطُ واللّغطُ : الأصوات المبهمة المختلطة والجَلَبَةُ لا تُفهَم ، وصوتٌ وضجّة لا يُفهم معناه ، وقيل : هو الكلام الذي لا يَبين.

انظر : لسان العرب ١٢ / ٢٩٧ مادّة «لغط».

(٢) ص ٣٤٦ من الجزء الثالث. منه (قدس سره).

وانظر : الطبقات الكبرى ـ لابن سعد ـ ٢ / ١٨٧ و ١٨٨.

(٣) كما في رواية صحيح البخاري ٤ / ١٦٢ ح ٢٥١ وص ٢١١ ـ ٢١٢ ح ١٠ وج ٦ / ٢٩ ح ٤٢٢ ، صحيح مسلم ٥ / ٧٥ ـ ٧٦ ، مسند أحمد ١ / ٢٢٢ و ٣٥٥ ، مصنّف عبد الرزّاق ٦ / ٥٧ ح ٩٩٩٢ ، الطبقات الكبرى ـ لابن سعد ـ ٢ / ١٨٧ ـ ١٨٨ ، أنساب الأشراف ٢ / ٢٣٦ ، تاريخ الطبري ٢ / ٢٢٨ و ٢٢٩ ، البدء والتاريخ ٢ / ١٣٦ ، الشفا بتعريف حقوق المصطفى ٢ / ١٩٢ ، الكامل في التاريخ ٢ / ١٨٥ أحداث سنة ١١ هـ ، الاكتفاء ـ للكلاعي ـ ٢ / ٤٢٦ ـ ٤٢٧ ، البداية والنهاية ٥ / ١٧٣ أحداث سنة ١١ هـ ، سبل الهدى والرشاد ١٢ / ٢٤٧ ، نسيم الرياض ٤ / ٣٠٧.

(٤) تقدّم تخريجه مفصلا في الصفحة ١٨٦ هـ ٢ ، من هذا الجزء.

(٥) تقدّم تخريجه آنفاً في الهامش رقم ٢.

١٩٠

كلّ ضلال إلى يوم القيامة.

فقد روى أحمد الحديث في «مسنده» (١) ، وقال فيه : «فلمّا أكثروا اللغط والاختلاف وغُمّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، قال : قوموا عنّي!».

وحكى ابن أبي الحديد (٢) ، عن الجوهري ، رواية الحديث ، وقال فيه : «فلمّا أكثروا اللغط واللغو والاختلاف غضب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فقال : قوموا عنّي! لا ينبغي لنبيّ أن يُختلف عنده هكذا ؛ فقاموا» .. الحديث.

ويا هل ترى ، إنّا لو قلنا : «إنّ عمر يهجر» في قبال قوله للنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) : «يهجر» ، أكانوا يرضون منّا بدون القتل؟!

والحال أنّ قولنا لو كان حراماً وضلالا لكان بسبب عمر ؛ لمنعه للكتاب الرافع للضلال إلى يوم القيامة ، فكان أَوْلى بما يستحلّونه منّا!

وأعجب من ذلك أنّهم ـ مع نسبة الهجر عندهم إلى النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ يستدلّون على استحقاق أبي بكر الخلافة ؛ بدعوى أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أمره بالصلاة في الناس!

والحال أنّ أمره بها ـ على زعمهم ـ كان في حال شدّة المرض بحيث يُغمى عليه مرّةً ويفيق أُخرى ، كما في بعض روايات البخاري (٣) ، ومسلم (٤) ، وغيرهما (٥).

__________________

(١) ص ٣٢٤ من الجزء الأوّل. منه (قدس سره).

(٢) ص ٢٠ من المجلّد الثاني [٦ / ٥١]. منه (قدس سره).

(٣) صحيح البخاري ١ / ٢٧٨ ح ٧٨.

(٤) صحيح مسلم ٢ / ٢٠ ـ ٢١.

(٥) سنن ابن ماجة ١ / ٣٩٠ ح ١٢٣٤ ، صحيح ابن خزيمة ٣ / ٢٠ ح ١٥٤١ وص ٥٩ ـ ٦٠ ح ١٦٢٤ ، الإحسان بترتيب صحيح ابن حبّان ٣ / ٢٧٨ ح ٢١١٥ وص ٢٨٢ ح

١٩١

وكانت صلاته أيضاً في الناس ـ على زعمهم ـ سبع عشرة صلاة أو نحوها (١) ، وهي بعدُ أمرِ الكتاب ؛ لأنّه كان يوم الخميس والنبيّ توفّي يوم الاثنين ، فكيف كان أمره بالكتاب هجراً ، وأمره بالصلاة دليلا على الخلافة؟!!

بل أعجب من ذلك أنّهم يروون أنّ أبا بكر أمر عثمان أن يكتب : أما بعد ؛ ثمّ أُغمي عليه ، فكتب عثمان : أمّا بعد ، فقد استخلفت عليكم عمرَ بن الخطّاب ولم آلُكُم (٢) خيراً.

ثمّ أفاق أبو بكر فقال : إقرأ! فقرأ عليه.

فقال : أراك خِفْتَ أن يختلف الناس.

قال : نعم ؛ وأقرّها أبو بكر.

رواه الطبري في «تاريخه» (٣) ، وابن الأثير في «كامله» (٤).

فأنت ترى أنّ أبا بكر قد كتب وأمضى وهو في حال يُغشى عليه ، فلم يقولوا : «يهجر»! وسيّد النبيّين (صلى الله عليه وآله وسلم) أمر بالكتابة قبل وفاته بخمسة أيّام ، ولم تكن حاله في الشدّة كحال أبي بكر ، وقالوا : «يهجر»!

فهل الفرق بينهما إلاّ مخالفة وصيّة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) لهوى أُولئك

__________________

٢٢٢١ وج ٨ / ٢٠٣ ح ٦٥٦٨ ، مصنّف عبد الرزّاق ٥ / ٤٢٨ ح ٩٧٥٤ ، الطبقات الكبرى ـ لابن سعد ـ ٢ / ١٦٨ ، البداية والنهاية ٥ / ١٧٧ حوادث سنة ١١ هـ.

(١) الطبقات الكبرى ـ لابن سعد ـ ٢ / ١٧٢ ، دلائل النبوّة ـ للبيهقي ـ ٧ / ١٩٧ ، عيون الأثر ٢ / ٤٢٠ ، البداية والنهاية ٥ / ١٧٩ ، سبل الهدى والرشاد ١٢ / ٢٤٤.

(٢) ألا : ألا يأْلُو أَلواً وأُلُوّاً وأُلِيا وإلِيا وأَلَّى يُؤَلِّي تَأْلِيَةً وَأْتَلى : قصرَ وأَبطأ ؛ انظر : لسان العرب ١ / ١٩١ مادّة «ألا».

(٣) ص ٥٣ من الجزء الرابع [٢ / ٣٥٣ حوادث سنة ١٣ هـ]. منه (قدس سره).

(٤) ص ٢٠٧ من الجزء الثاني [٢ / ٢٧٣ حوادث سنة ١٣ هـ]. منه (قدس سره).

١٩٢

الصحابة ، وموافقة وصيّة أبي بكر لهواهم؟!

وهل تتصوّر أمراً لا تهواه أنفسهم ، ويخالفون النبيّ فيه بالصراحة ، ويجدون في منعه كلّ الجدّ بأقبح المنع ، غير الوصيّة لعليّ (عليه السلام) بالإمامة؟!

أو هل تتوهّم أنّ أمراً يُبكي ابن عبّاس فواتُه حتّى يخضب الحصباءَ ، ويتذكّره بعد طول المدّة ، ويجعل الحيلولة دونه كلّ الرزيّة ، غير خلافة أمير المؤمنين (عليه السلام)؟!

أو هل تحتمل أنّ أمراً يتضمّنه الكتاب الصغير يكون مؤمناً من الضلال والاختلاف إلى آخر الأبد ، غير النصّ على أئمّة حفظة للدين ، عِلماً وعملا ، إلى يوم القيامة؟!

وما هم غير عليّ وأولاده الطاهرين ؛ لأنّ الحفظ كذلك لا يتمّ إلاّ بالعصمة ، ولا قائل بعصمة غيرهم.

ولو كان ذلك الحفظ يحصل بأبي بكر وأمثاله لَما وقع الضلال ، وهو واقع بكثرة ساحقة للهدى في طول السنين.

ويشهد لإرادة أئمّتنا (عليهم السلام) قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) : «إنّي مخلّف فيكم الثِّقلَين ، إنْ تمسّكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبداً» (١).

فإنّ مرمى الحديثين واحد ، سوى إنّه يريد أن يكتب بهذا الكتاب تفصيل ما أجمله في حديث الثِّقلَين ، ويذكر الأئمّة بأسمائهم ؛ لتحصل فيه فائدة جديدة.

لكنّ القوم عرفوا مراده فمنعوه ـ كما اعترف به عمر في ما دار بينه

__________________

(١) راجع مبحث حديث الثِّقلَين في : ج ٦ / ٢٣٥ ـ ٢٥٠ ، من هذا الكتاب.

١٩٣

وبين ابن عبّاس ـ كما ذكره ابن أبي الحديد (١) ، ففاجأوه بكلمة جفاء لم تكن في الحُسبان اضطرّته إلى العدول عمّا أراد ؛ إذ لا تبقى بعدها فائدة في كتابه.

ولو أصرّ على مطلوبه لدامت الفتنة والاختلاف في أنّه هجر أو لا؟ و (للجوا في طغيانهم يعمهون) (٢).

وقد علم أنّ شيعة الحقّ غنيّون ـ عن المضيّ عليه ـ بنصّه يوم الغدير (٣) ونصّ القرآن المجيد (٤) ، كما زادهم بصيرة في أضداد خليفته ووصيّه ، فقضت الحكمة أن يعدل بعد ذلك عن الكتاب.

فيا لهف نفسي! يريد نبيُّ الرحمة حياتنا إلى الأبد ، ويطلب أن يكتب لنا كتاباً حقيقياً بأن تتشوّق إليه قلوب المؤمنين ، وتتشوّف إليه عيون المهتدين ، فلا يُتّبع!

ويريد أبو بكر أن يوصي إلى عمر ، ويظهر الشكّ في أمره بما يدعو المسلم العاقل إلى النفرة عنه ، فيُتّبع! ..

قال : «إنّي أستخلف عليكم عمر ، فإن عدل فذلك ظنّي به ، وإن

__________________

(١) ص ٩٧ و ١١٤ من المجلّد الثالث [١٢ / ٢٠ ـ ٢١ و ٧٨ ـ ٧٩]. منه (قدس سره).

وانظر : تاريخ الطبري ٢ / ٥٧٨ ، الكامل في التاريخ ٢ / ٤٥٨ ، شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ ١٢ / ٥٣.

(٢) سورة المؤمنون ٢٣ : ٧٥.

(٣) راجع : ج ١ / ١٩ ـ ٢٢ وج ٤ / ٣٢٠ وما بعدها ، من هذا الكتاب.

(٤) إشارة إلى قوله تعالى : (يا أيّها الرسول بلّغ ما أُنزل إليك من ربّك ...) سورة المائدة ٥ : ٦٧ ، وقوله تعالى : (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً) سورة المائدة ٥ : ٣.

راجع مبحث الآيتين الكريمتين في : ج ٤ / ٣١٤ وما بعدها ، من هذا الكتاب.

١٩٤

بدّل فلكلّ امرئ ما اكتسب ، ولا أعلم الغيب».

كما ذكره في «الصواعق» (١).

ورواه جماعة ؛ كابن قتيبة (٢) ، وابن عبد ربّه (٣) ، وغيرهما (٤).

ويا بأبي وأُمّي ، الشفيق على أُمّته! أيّةُ كلمة ودّعوه بها ، وهو في فراش الموت بينهم؟! وأيّةُ إساءة أساؤوه بها وهو يريد الإحسان إليهم؟!

فقد ثبت بما بيّنّا أنّ مراد النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بالكتاب : هو النصّ على أمير المؤمنين وأبنائه المعصومين.

وقول الخصم : «هذا من باب الإخبار بالغيب» ..

خطأٌ ؛ فإنّه من باب اتّباع الدليل ـ كما عرفت (٥) ـ مع القرائن القاضية به ؛ كسبق النصوص عليه في الكتاب والسنة ؛ فيكون هذا الكتاب من باب تأكيد النصّ ، فما زعمه الخصم من مناقضة مقاصد المصنّف ساقط ؛ إذ أيُّ عارف يقول : إنّ في تأكيد النصّ مناقضة؟!

كما تحقّق ممّا بيّنّا أنّه لا يمكن أن يريد النصّ على أبي بكر ، ولو أدركه عمر لكتب الكتاب بيده ، وعجّل إليه في يومه قبل غده ، واستغنى عن التزوير يوم السقيفة ، والهجوم على دار فاطمة الشريفة.

وقد ظهر من الأحاديث أنّهم لم يأتوا بمجرّد إساءة الأدب مع

__________________

(١) في الفصل الثاني من الباب الرابع [ص ١٣٥]. منه (قدس سره).

(٢) الإمامة والسياسة ١ / ٣٧.

(٣) العقد الفريد ٣ / ٢٧٩.

(٤) انظر : الطبقات الكبرى ـ لابن سعد ـ ٣ / ١٤٩ ، أُسد الغابة ٣ / ٦٦٥ ، الرياض النضرة ١ / ٢٦٠.

(٥) راجع ما تقدّم آنفاً في الصفحتين ١٩٣ ـ ١٩٤.

١٩٥

النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ، بل آذوه أيضاً ، وأغضبوه ، وغموه ، فكانوا مصداقاً لقوله تعالى : (الّذين يُؤذون رسولَ الله لهم عذابٌ أليم) (١) وقوله سبحانه : (الّذين يؤذون اللهَ ورسولَه لعنهم اللهُ في الدنيا والآخرة) (٢).

وأيضاً خالفوا أمر الله عزّ وجلّ بطاعة نبيّه الكريم (٣) ، ونهيه عن رفع أصواتهم فوق صوته ، وأن يجهروا له بالقول كجهر بعضهم لبعض (٤) ، وسببوا كلّ ضلال إلى يوم القيامة.

وما أعجب قول عمر : «حسبُنا كتاب الله!» ؛ فإنّه من أكذب القول ؛ ضرورةَ عدمِ علمهم منه بكلّ ما تحتاج إليه الأُمة ؛ ولذا قرنه النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بعترته فقال : «ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا بعدي».

وروى الترمذي في «صحيحه» (٥) ، وحسنه ، عن أبي الدرداء ، قال : «كنّا مع النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فشخص ببصره إلى السماء ، ثمّ قال : هذا أوانٌ يُختلس العلمُ من الناس حتّى لا يقدروا منه على شيء.

فقال زياد بن لبيد الأنصاري (٦) : كيف يُختلس العلمُ منّا وقد قرأنا

__________________

(١) سورة التوبة ٩ : ٦١.

(٢) سورة الأحزاب ٣٣ : ٥٧.

(٣) إشارة إلى قوله تعالى : (أَطيعوا اللهَ وأَطيعوا الرسولَ ...) كما في سورة النساء ٤ : ٥٩ ، سورة المائدة ٥ : ٩٢ ، وآيات كريمة كثيرة في سور أُخر ؛ انظر مادّتَي «أَطيعُوا» و «أَطيعُونِ» في «المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم».

(٤) إشارة إلى قول الله تعالى : (يا أيّها الّذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبيّ ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون) سورة الحجرات ٤٩ : ٢.

(٥) في أبواب العلم [٥ / ٣١ ح ٢٦٥٣]. منه (قدس سره).

(٦) هو : أبو عبد الله زياد بن لبيد بن ثعلبة بن سنان بن عامر الخزرجي الأنصاري

١٩٦

القرآن؟! فوالله لنَقرأنّه ولنُقرئنّه نساءنا وأبناءنا.

قال : ثكلتك أُمّك يا زياد! إنْ كنتُ لاََعُدك من فقهاء أهل المدينة ، هذه التوراة والإنجيل عند اليهود والنصارى ، فماذا تُغني عنهم؟!».

ونحوه في «مسند أحمد» (١) ، عن أبي أُمامة.

وروى أبو داود في «صحيحه» (٢) ، عن العرباط (٣) ، من حديث قال النبيّ فيه : «أيحسب أحدُكم متّكئاً على أريكته قد يَظنّ أنّ الله لم يحرّم شيئاً إلاّ ما في القرآن ، ألا وإنّي قد وعظت ، وأمرت ، ونهيت عن أشياء ، إنّها لمثل القرآن أو أكثر».

وروى أبو داود أيضاً (٤) ، عن أبي رافع ، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، قال :

__________________

البياضي ؛ خرج إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بمكة فأقام معه حتّى هاجر ، فكان يقال له : مهاجريّ أنصاريّ ، شهد العقبة وبدراً والمشاهد كلّها مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، واستعمله رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على حضرموت.

توفّي في أوّل أيام معاوية ، وقيل : سنة ٤١ هـ.

انظر : الطبقات ـ لخليفة بن خياط ـ : ١٧٠ رقم ٦١٨ ، معرفة الصحابة ٣ / ١٢٠٤ رقم ١٠٤٦ ، الاستيعاب ٢ / ٥٣٣ رقم ٨٣٤ ، أُسد الغابة ٢ / ١٢١ رقم ١٨٠٩ ، الإصابة ٢ / ٥٨٦ رقم ٢٨٦٦ ، تهذيب التهذيب ٣ / ٢٠٢ رقم ٢١٦٧.

(١) ص ٢٦٦ ج ٥. منه (قدس سره).

(٢) في ج ٢ في باب تعشير أهل الذمة ص ٦٤ [٣ / ١٦٧ ح ٣٠٥٠]. منه (قدس سره).

(٣) كذا في الأصل ، وهو تصحيف ، صوابه : «العرباض» ، وهو : أبو نجيح عرْباض ابن سارية السُلَمي ، كان من أهل الصفة ، ونزل حمص ، قيل : مات في فتنة ابن الزبير ، وقيل : مات سنة ٧٥ هـ.

انظر : معرفة الصحابة ٤ / ٢٢٣٤ رقم ٢٣٤٣ ، تهذيب التهذيب ٥ / ٥٣٨ رقم ٤٦٨٧.

(٤) في الجزء الثاني ص ٢٥٦ [٤ / ١٩٩ ح ٤٦٠٥]. منه (قدس سره).

١٩٧

«لا أُلفينّ أحدَكم متّكئاً على أريكته ، يأتيه الأمرُ من أمري ، ما أمرتُ به أو نهيتُ ، عنه فيقول : لا ندري ، ما وجدناه في كتاب الله اتّبعناه!».

ومثله في «صحيح الترمذي» ، وحسنه (١).

وعن الحاكم في «مستدركه» ، وابن ماجة ، وابن حبّان في «صحيحيهما» (٢).

.. إلى نحوها من الأحاديث الكثيرة (٣).

فكيف يردّ عمر أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالكتابة ويقول : «حسبنا كتاب الله»؟!

فيا عجباً!! أكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يعلم بمكان كتاب الله منهم ، أو أنّهم أعلم منه بما فيه وبفوائده ، حتّى يزيّف عمر طلبه للكتاب بقوله : «حسبنا كتاب الله» كما يزيّف أحدُنا رأيَ مثلِه؟!

ثمّ إنّ المصنّف (رحمه الله) أشار بقوله : «فقال أهله : لا ينبغي عند النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) هذه الغوغاء» إلى أخبار رواها القوم تدلّ على ذلك ..

منها : ما رواه أحمد في «مسنده» (٤) ، عن طاووس ، عن ابن عبّاس ، قال : «لمّا حُضِر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : ائتوني بكتف أكتب لكم فيه كتاباً لا يختلف منكم رجلان بعدي.

__________________

(١) في باب ما نُهي عنه من أبواب العلم [٥ / ٣٦ ح ٢٦٦٣]. منه (قدس سره).

(٢) المستدرك على الصحيحين ١ / ١٩٠ ح ٣٦٨ ، سنن ابن ماجة ١ / ٦ ـ ٧ ح ١٣ ، الإحسان بترتيب صحيح ابن حبّان ١ / ١٠٧ ـ ١٠٨ ح ١٣.

(٣) انظر : سنن الترمذي ٥ / ٣٧ ح ٢٦٦٤ ، سنن الدارقطني ٤ / ١٦٣ ح ٤٧٢٣ ، المستدرك على الصحيحين ١ / ١٩١ ـ ١٩٢ ح ٣٦٩ ـ ٣٧١ ، السنن الكبرى ـ للبيهقي ـ ٧ / ٧٦.

(٤) ص ٢٩٣ ج ١. منه (قدس سره).

١٩٨

فأقبل القوم في لغطهم ، فقالت المرأة : وَيحكمْ! عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)!».

ومنها : ما في كتاب الشمائل في «كنز العمّال» (١) ، عن ابن سعد ، بسنده عن عمر ، قال : «كنّا عند النبيّ وبيننا وبين النساء حجاب ، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : اغسلوني بسبع قِرَب ، وائتوني بصحيفة ودواة أكتب لكم كتاباً لن تضلّوا بعده أبداً.

فقالت النسوة : ائتوا رسولَ الله بحاجته.

فقلتُ : اسكتن! فإنّكنّ صواحبُه ، إذا مرض عصرتُنّ أعينكُنّ ، وإذا صحّ أخذتُنّ بعنقه.

فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : هنّ خير منكم».

ومنها : ما في كتاب «الخلافة والإمارة» من «الكنز» أيضاً (٢) ، عن الطبراني في «الأوسط» ، عن عمر ، قال : «لمّا مرض النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : ادعوا لي بصحيفة ودواة أكتب لكم كتاباً لا تضلّوا بعده أبداً.

قال النسوة من وراء السِتر : ألا تسمعون ما يقول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟!

فقلتُ : إنّكنّ صويحبات يوسف ، إذا مرض رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عصرتُنّ أعيُنكنّ ، وإذا صحّ ركبتنّ عُنقه.

فقال رسول الله : دعوهنّ! فإنّهنّ خير منكم».

__________________

(١) ص ٥٢ ج ٤ [٧ / ٢٤٣ ح ١٨٧٧١]. منه (قدس سره).

وانظر : الطبقات الكبرى ـ لابن سعد ـ ٢ / ١٨٨.

(٢) ص ١٣٨ ج ٣ [٥ / ٦٤٤ ح ١٤١٣٣]. منه (قدس سره).

وانظر : المعجم الأوسط ٥ / ٤٤٠ ح ٥٣٣٨.

١٩٩

إيجابه بيعة أبي بكر

وقصد بيت النبوّة بالإحراق

قال المصنّف ـ أعلى الله مقامه ـ (١) :

ومنها : إيجاب بيعة أبي بكر على جميع الخلق ، ومخاصمته على ذلك (٢) ، وقصد بيت النبوّة ، وذرّيّة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ الّذين فرض الله مودّتهم ، وأكّد النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) عدّة مرار موالاتهم ، وأوجب محبّتهم ، وجعل الحسن والحسين ودائع الأُمة ، فقال : اللّهمّ هذان وديعتي عند أُمّتي (٣) ـ بالإحراق بالنار (٤).

وكيف يحلّ إيجاب شيء على جميع الخلق من غير أن يوجبه الله ، أو نبيّه (صلى الله عليه وآله وسلم) ، أو يأمران به؟!

أترى عمر كان أعلم منهما بمصالح العباد؟!

أو كان قد استناباه في نصب أبي بكر إماماً؟!

أو فوّضت الأُمة بأسرها إليه ذلك وحكّموه على أنفسهم؟!

فليرجع العاقل المنصف من نفسه ، وينظر : هل يستجيز لنفسه

__________________

(١) نهج الحقّ : ٢٧٥.

(٢) راجع : ج ٤ / ٢٤١ ، من هذا الكتاب.

(٣) انظر : المعجم الكبير ٥ / ١٨٥ ح ٥٠٣٧ ، تاريخ دمشق ١٤ / ١٧٠ ، كنز العمّال ١٢ / ١٠١ ح ٣٤١٨٥ وص ١١٩ ح ٣٤٢٨١.

(٤) راجع الصفحة ١٣٢ وما بعدها ، من هذا الجزء.

٢٠٠