دلائل الصدق لنهج الحق - ج ٧

الشيخ محمد حسن المظفر

دلائل الصدق لنهج الحق - ج ٧

المؤلف:

الشيخ محمد حسن المظفر


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ دمشق
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ دمشق
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-360-8
الصفحات: ٦٠٠

نعم ، هو أَوْلى بالاحتجاج عليهم لو تعلّقت صحاحهم الستّةُ بالسيرة بعد النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وإنّما تتعلّق بالأحكام ، وبالسيرة النبويّة في الجملة.

وأما دعواه اتّفاق أرباب التواريخ على أنّ عثمان ختم في الليلة التي قُتل في صبيحتها القرآنَ في الركعتين ..

فمن كذباته ، فإنّي لم أجده في تاريخ!

على أنّه كيف يختم القرآن في صلاة الصبح ـ كما يظهر من كلامه ـ والوقت لا يتّسع ، وكذا لو أراد ركعتين من صلاة الليل؟!

نعم ، لو أراد ركعتين قطع بهما الليل كان ممكناً ؛ كما روى في «الاستيعاب» ، عن امرأة عثمان : «أنّه كان يحيي الليل بركعة يجمع فيها القرآن» (١).

لكنّه كذبٌ أيضاً ؛ لأنّ عثمان لو كان يحفظ القرآن لجمع الناس على مصحفه ولم يلتجئ إلى زيد بن ثابت وغيره (٢).

مع أنّه كان كعمر ، ممّن حكي عنه سوء الحفظ ، وكثرة النسيان (٣) ؛ ولذا كان قليل العلم والرواية على طول أيامه.

كما لا ريب بوضعِ سقوطِ قطرة من دمه على قوله : (فسيكفيكهمُ

__________________

(١) الاستيعاب ٣ / ١٠٤٠.

(٢) راجع الصفحة ٤٦٥ ، من هذا الجزء.

(٣) كتعلّم عمر سورةَ البقرة في اثنتي عشرة سنة ؛ انظر : شعب الإيمان ٢ / ٣٣١ رقم ١٩٥٧.

ونسيانه عدد الركعات التي يصلّيها حتّى جعل خلفه رجلا يلقّنه ؛ انظر : مناقب عمر ـ لابن الجوزي ـ : ١٨٦.

وكذا فعل عثمان ، فجعل غلاماً خلفه يفتح عليه إذا أخطأ ؛ انظر : تاريخ دمشق ٣٩ / ٢٣٤.

٥٠١

الله) (١) ، كما صرّح به ابن حجر (٢) نقلا عن الذهبي.

ولو صحّ سقوطها عليها ، فالأَوْلى أن يكون بشارةً لقاتله ؛ لأنّه هو الذي كفاه الله إياه بقتله.

فإذا علمت أنّ تلك العبادة مكذوبة ، ارتفع وجه استبعاد الفضل لتكفير حذيفة وزيد إياه.

على أنّه لا دليل على علمهم بها لو وقعت ، فكيف يستبعد تكفيرهم له لأجلها؟!

ولو فرض أنّهم رأوا منه تلك العبادة في ليلة قتله ، فلعلّهم يعرفون منه المكيدة لسبق إحداثه وتوبته منها بلا حقيقة ، كما علم مكيدته محمّد ابن أبي بكر عندما دعاه إلى العمل بالقرآن لمّا دخل عليه لقتله ، فقال له محمّد : (الآنَ وقد عصيتَ قبلُ وكنتَ من المفسدين) (٣) (٤).

وكيف يستبعد من حذيفة وزيد تكفير عثمان وقد كفّره ابن مسعود ، كما سمعت الرواية فيه (٥)؟!

وكفّره عمّار ، الطيّبُ ، الذي يزول مع الحقّ حيث يزول ، ولم ينازع في وجود رواية تكفير عمّار له قاضي القضاة وأبو عليّ في كلامهما الذي

__________________

(١) سورة البقرة ٢ : ١٣٧.

(٢) الصواعق ، في الفصل الثالث من الباب السابع [ص ١٧١]. منه (قدس سره).

وقال الذهبي في «التلخيص» : «كذب بحت» ؛ انظر : المستدرك على الصحيحين ٣ / ١١٠ ح ٤٥٥٥.

(٣) سورة يونس ١٠ : ٩١.

(٤) انظر : أنساب الأشراف ٦ / ٢٠٢.

(٥) راجع الصفحة ٤٦٦ ، من هذا الجزء.

٥٠٢

نقله في «شرح النهج» (١).

نعم ، استبعد أبو عليّ تكفير عمّار لعثمان ، فقال : «وممّا يبعّد صحّة ذلك أنّ عمّاراً لا يجوز أن يكفّره ولمّا يقع منه ما يستوجب به الكفر ؛ لأنّ الذي يكفَّر به الكافر معلومٌ ؛ ولأنّه لو كان قد وقع ذلك لكان غيره من الصحابة أَوْلى بذلك ، ولوجب أن يجتمعوا على خلعه ، ولوجب أن لا يكون قتله لهم مباحاً ، بل يجب أن يقيموا إماماً ليقتله ...

إلى أن قال : وقد روي أنّ عمّاراً نازع الحسن بن عليّ ، فقال عمّار : قُتل عثمان كافراً ؛ وقال الحسن : قُتل مؤمناً ؛ وتعلّق بعضهما ببعض ، فصارا إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) ، فقال : ماذا تريد من ابن أخيك؟!

فقال : إنّي قلتُ كذا ، وقال كذا.

فقال له أمير المؤمنين (عليه السلام) : أتكفر بربّ كان يؤمن به عثمان؟!

فسكت عمّار».

وقد يجاب بأنّ عثمان لم يكفر كفراً صريحاً مشهوراً بين الناس حتّى يجتمع المسلمون على تكفيره وخلعه ، وإنّما اتّفق مَن بالمدينة مِن أهل الأمصار والصحابة على خلعه ؛ لأحداثه الموجبة للخلع وجور ولاته ، وإن لم يُخلع قتل ، فقتلوه.

ولكن قال بعض الصحابة بكفره ، كعمّار ، فإنّ المرويّ أنّه كفّره لحكمه بغير ما أنزل الله تعالى ، واستشهد بقوله سبحانه : (ومَن لم يحكم

__________________

(١) ص ٢٣٨ مجلّد ١ [٣ / ٤٨]. منه (قدس سره).

وانظر : المغني ـ للقاضي عبد الجبّار ـ ٢٠ ق ٢ / ٥٤.

٥٠٣

بما أنزل الله فأُولئك هم الكافرون) (١) (٢).

وما رواه أبو عليّ من تنازع الحسن وعمّار ، فهو غيرُ دافع لتكفير عمار لعثمان ، بل هو دليلٌ له.

وهو ـ أيضاً ـ لا يدلّ على عدم تكفير أمير المؤمنين (عليه السلام) له ؛ لأنّ الكفر لا ينحصر بإنكار الله تعالى (٣).

بل عدول أمير المؤمنين (عليه السلام) عن التصريح بإيمان عثمان إلى قوله : «أتكفر بربّ كان يؤمن به عثمان؟!» شاهدٌ بصحّة قول عمّار ، وإنّما لم يوافقه ظاهراً لجهة راعاها ، وهي التي دعت الحسن (عليه السلام) إلى خلاف عمّار ، وقد فهمها عمّار فسكت ، وإلاّ فهو إنّما يقول بكفره ؛ لأنّه يحكم بغير ما أنزل الله ، لا لأنّه لم يؤمن بالله حتّى يردّه كلامُ أميرِ المؤمنين (عليه السلام)!

وأما ما ذكره الخصم من رواية : «ما على عثمان ما فعل بعد اليوم» ..

فليست حجةً علينا ، وقد عرفتَ بطلانها معنىً ، وضعفها سنداً ، عندما ذكرها الخصمُ في فضائله (٤).

__________________

(١) سورة المائدة ٥ : ٤٤.

(٢) شرح نهج البلاغة ٣ / ٥٠ ـ ٥١.

وانظر : الشافي ٤ / ٢٩١ ـ ٢٩٢ ، تفسير العياشي ١ / ٣٥٢ ح ١٢٣.

(٣) فإنّ الكفر له أنواع كثيرة ، منها : الشرك بالله تعالى فهو كفرٌ ، أو إثبات شريك للنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) في نبوّته ، أو نبيّ من بعده كالإيمان بنبوّة مسيلمة الكذّاب ، أو إنكار أصل من أُصول الدين أو فروعه أو إحدى ضروريات الدين ممّا يرجع إلى تكذيب الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ؛ وغيرها.

(٤) راجع ما ذكره الفضل في الصفحة ٣٦٨ ، وردّ الشيخ المظفّر (قدس سره) عليه في الصفحات ٤٠٤ ـ ٤٠٧ و ٤٤٥ ، من هذا الجزء.

٥٠٤

نفي عثمان لأبي ذرّ

قال المصنّف ـ قدّس الله روحه ـ (١) :

ومنها : إنّه أقدم على أبي ذرّ رحمه الله تعالى ـ مع تقدّمه في الإسلام ـ حتّى ضربه ، ونفاه إلى الربذة (٢).

أجاب قاضي القضاة باحتمال أنّه اختار لنفسه ذلك (٣).

اعترضه المرتضى بأنّ المتواتر من الأخبار خلاف ذلك ؛ لأنّ المشهور أنّه نفاه أوّلا إلى الشام ، فلما اشتكى معاوية منه استقدمه إلى المدينة ، ثمّ نفاه منها إلى الربذة.

وروي أنّ عثمان قال يوماً : أيجوز للإمام أن يأخذ من المال ، فإذا أيسر قضى؟

فقال كعب الأحبار : لا بأس بذلك.

فقال له أبو ذرّ : يا ابن اليهودية! أتعلّمنا ديننا؟!

فقال عثمان : قد كثر أذاك لي وتولّعك بأصحابي ، إلحق بالشام!

__________________

(١) نهج الحقّ : ٢٩٨ ـ ٣٠١.

(٢) انظر : صحيح البخاري ٢ / ٢١٩ ح ١١ وج ٦ / ١٢٥ ح ١٨١ ، السنن الكبرى ـ للنسائي ـ ٦ / ٣٥٤ ح ١١٢١٨ ، تفسير الطبري ٦ / ٣٦١ ـ ٣٦٢ ح ١٦٦٨٦ ـ ١٦٦٨٩ ، أنساب الأشراف ٦ / ١٦٦ ـ ١٦٧ و ١٦٨ ، تاريخ اليعقوبي ٢ / ٦٨ ـ ٦٩ ، مروج الذهب ٢ / ٣٤١ ، الملل والنحل ـ للشهرستاني ـ ١ / ١٥ ، شرح نهج البلاغة ٣ / ٥٢ الطعن التاسع.

(٣) المغني ٢٠ ق ٢ / ٥٤.

٥٠٥

فأخرجه إليها.

فكان أبو ذرّ ينكر على معاوية أشياء يفعلها ، فبعث إليه معاوية بثلاثمئة دينار ، فردّها عليه.

وكان أبو ذرّ يقول : والله لقد حدثت أعمال ما أعرفها ، والله ما هي في كتاب الله ولا سنة نبيّه.

والله إنّي لأرى حقّاً يُطفأ ، وباطلا يُحيا ، وصادقاً مكذَّباً ، وأثرةً بغير تقى ، وصالحاً مستأثَراً عليه.

فقال حبيب بن مسلمة الفهري (١) لمعاوية : إنّ أبا ذرّ لَمُفسدٌ عليكم الشام ، فتدارك أهلَه إن كان لك فيه حاجة.

فكتب معاوية إلى عثمان فيه ، فكتب عثمان إلى معاوية : أمّا بعد ، فاحمل جُندباً إليّ على أغلظ مركب وأوعره.

فوجّهه مع مَن سار به ليلا ونهاراً ، وحمله على بعير ليس عليه إلاّ قتبٌ ، حتّى قدم المدينة وقد سقط لحم فخذيه من الجهد.

فبعث إليه عثمان ، وقال له : إلحق بأيّة أرض شئت!

فقال أبو ذرّ : بمكة؟

قال : لا.

قال : ببيت المقدس؟

__________________

(١) هو : حبيب بن مَسْلَمة بن مالك الأكبر بن وهب بن ثعلبة الفِهري القرشي ، توفّي النبيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وله ١٢ عاماً ، ولم يسمع من الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ، ولم يغز معه شيئاً ، كان مع معاوية في صِفّين ، ولم يزل معه حتّى ولاّه أرمينية ، وتوفّي بها سنة ٤٢ هـ ، وقيل : توفّي بدمشق ولم يبلغ الخمسين عاماً.

انظر : الطبقات الكبرى ـ لابن سعد ـ ٧ / ٢٨٧ رقم ٣٧٢٥ ، أُسد الغابة ١ / ٤٤٨ رقم ١٠٦٨ ، سير أعلام النبلاء ٣ / ١٨٨ رقم ٣٧.

٥٠٦

قال : لا.

قال : بأحد المصرين (١)؟

قال : لا ، ولكن سر إلى الربذة!

فلم يزل بها حتّى مات (٢).

وروى الواقديُّ : أنّ أبا ذرّ لمّا دخل على عثمان قال له : لا أنعم الله بك عيناً يا جُنيدب!

فقال أبو ذرّ : أنا جُنيدب! وسمّاني رسول لله (صلى الله عليه وآله وسلم) عبد الله ، فاخترتُ اسمَ رسول الله الذي سمّاني به على اسمي.

فقال عثمان : أنت الذي تزعم أنّا نقول : إنّ يد الله مغلولةٌ ، وأنّ الله فقيرٌ ونحن أغنياء.

فقال أبو ذرّ : لو كنتم لا تزعمون ، لأنفقتم مال الله في عباده ، ولكنّي أشهدُ لَسمعتُ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول : إذا بلغ بنو أبي العاص ثلاثين رجلا جعلوا مال الله دولا ، وعباده خولا ، ودين الله دخلا (٣).

فقال للجماعة : هل سمعتم هذا من رسول الله؟!

فقال عليٌّ والحاضرون : سمعنا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول : ما أظلّت

__________________

(١) أي : الكوفة والبصرة.

(٢) الشافي ٤ / ٢٩٣ ـ ٢٩٥ ، وانظر : أنساب الاشراف ٦ / ١٦٦ ـ ١٦٧ ، تاريخ اليعقوبي ٢ / ٦٨ ـ ٦٩ ، مروج الذهب ٢ / ٣٣٩ ـ ٣٤١ ، شرح نهج البلاغة ٣ / ٥٤ ـ ٥٥.

(٣) انظر : مسند أحمد ٣ / ٨٠ ، مسند أبي يعلى ٢ / ٣٨٣ ـ ٣٨٤ ح ١١٥٢ وج ١١ / ٤٠٢ ح ٦٥٢٣ ، المعجم الكبير ١٢ / ١٨٢ ـ ١٨٣ ح ١٢٩٨٢ وج ١٩ / ٣٨٢ ح ٨٩٧ ، المعجم الأوسط ٨ / ٣٩ ح ٧٧٨٥ ، المستدرك على الصحيحين ٤ / ٥٢٥ ـ ٥٢٦ ح ٨٤٧٥ و ٨٤٧٦ وص ٥٢٧ ح ٨٤٧٩ و ٨٤٨٠ ، دلائل النبوّة ـ للبيهقي ـ ٦ / ٥٠٧ ـ ٥٠٨.

٥٠٧

الخضراءُ ، ولا أقلّت الغبراءُ ، من ذي لهجة أصدق من أبي ذرّ (١).

فنفاه إلى الربذة (٢).

وروى الواقديُّ ، أنّ أبا الأسود الدؤلي قال : كنتُ أُحبُّ لقاء أبي ذرّ لأسأله عن سبب خروجه ، فنزلت الربذة فقلتُ له : ألا تخبرني خرجتَ من المدينة طائعاً ، أم أُخرِجت؟

فقال : كنتُ في ثغر من ثغور المسلمين أُغني عنهم ، فأُخرجت إلى المدينة ، فقلتُ ، أصحابي ودارُ هجرتي ، فأُخرجت منها إلى ما ترى.

ثمّ قال : بينا أنا ذات ليلة نائمٌ في المسجد إذ مرّ بي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فضربني برجله ، وقال : لا أراك نائماً في المسجد؟!

قلتُ : بأبي أنت وأُمي ، غلبتني عيني فنمتُ فيه.

فقال : كيف تصنع إذا أخرجوك منه؟

قلت : إذاً ألحقُ بالشام ، فإنّها أرضٌ مقدّسةٌ ، وأرضُ بقيّة الإسلام ، وأرض الجهاد.

فقال ، كيف تصنع إذا أخرجوك منها؟

__________________

(١) انظر : سنن الترمذي ٥ / ٦٢٨ ح ٣٨٠١ و ٣٨٠٢ ، سنن ابن ماجة ١ / ٥٥ ح ١٥٦ ، مسند أحمد ٢ / ١٦٣ و ١٧٥ و ٢٢٣ وج ٥ / ١٩٧ وج ٦ / ٤٤٢ ، مسند البزّار ٦ / ٤٤٩ ـ ٤٥٠ ح ٢٤٨٨ وج ٩ / ٤٥٨ ح ٤٠٧٢ ، مصنّف ابن أبي شيبة ٧ / ٥٢٦ ب ٣٢ ح ١ ـ ٣ ، الطبقات الكبرى ـ لابن سعد ـ ٤ / ١٧٢ ، مسند عبد بن حميد : ١٠٠ ح ٢٠٩ ، التاريخ الكبير ـ للبخاري ـ ٨ / ٢٣ رقم ١٨١ كتاب الكنى ، تهذيب الآثار ٤ / ١٥٨ ـ ١٦١ ح ٢٥٩ ـ ٢٦١ ، الإحسان بترتيب صحيح ابن حبّان ٩ / ١٣٢ ح ٧٠٨٨ ، المستدرك على الصحيحين ٣ / ٣٨٥ ـ ٣٨٦ ح ٥٤٦٠ ـ ٥٤٦٢ وج ٤ / ٥٢٦ ـ ٥٢٧ ح ٨٤٧٨ ، حلية الأولياء ٤ / ١٧٢ ، الاستيعاب ١ / ٢٥٥ ـ ٢٥٦ وج ٤ / ١٦٥٥ ، مصابيح السنة ٤ / ٢٢٠ ـ ٢٢١ ح ٤٨٩٧ و ٤٨٩٨ ، تاريخ دمشق ٦٦ / ١٩٠.

(٢) انظر : الشافي ٤ / ٢٩٥ ـ ٢٩٦ ، شرح نهج البلاغة ٣ / ٥٥ ـ ٥٦.

٥٠٨

قلت : أرجع إلى المسجد.

فقال : كيف إذا أخرجوك منه؟

قلت : آخذ سيفي فأضربُ به.

فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) : ألا أدلّك على خير من ذلك؟! إنسق معهم حيثُ ساقوك ، وتسمع وتطيع.

فسمعتُ وأطعتُ ، وأنا أسمعُ وأُطيع ، واللهِ (ليقتُلَنّ اللهُ عثمانَ) (١) وهو آثمٌ في جنبي (٢).

فكيف يجوز ـ مع هذه الروايات ـ الاعتذار بما قال القاضي؟!

__________________

(١) كذا في الأصل ، وفي المصدر : «لَيَلْقيَنّ اللهَ عثمانُ».

(٢) انظر : الشافي ٤ / ٢٩٨ ، شرح نهج البلاغة ٣ / ٥٧ ـ ٥٨.

٥٠٩

وقال الفضل (١) :

خروج أبي ذرّ على ما ذكره أرباب «الصحاح» ، وذكره الطبريُّ ، وابن الجوزيّ ، من أرباب صحّة الخبر ، أنّه ذهب إلى الشام ، وكان مذهبُ أبي ذرّ أنّ قوله تعالى : (والّذين يكنزون الذهب والفضّة) (٢) محكَم غير منسوخ ، وكنز الذهب والفضة حرامٌ وإن أخرجوا زكاته.

ومذهب عامة الصحابة والعلماء أنّها منسوخةٌ بالزكاة (٣).

فكان أبو ذرّ تقرّر مذهبه ، واتّفق أنّه حضر عند معاوية ، وكان كعبُ الأحبار حاضراً عند معاوية ـ وكان أبو ذرّ تقرّر مذهبه في الآية ـ ، فقال كعب الأحبار : هذه منسوخةٌ بالزكاة.

فأخذ لَحْيَ (٤) بعير وضرب به رأس كعب الأحبار ، فشجّه مُوضِحةً (٥).

فكتب معاوية إلى عثمان يشكو أبا ذرّ ، فكتب عثمان إلى أبي ذرّ

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن «إحقاق الحقّ» ـ : ٥٧٥ الطبعة الحجرية.

(٢) سورة التوبة ٩ : ٣٤.

(٣) انظر : الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه : ٣١٤ ، مجمع البيان ٥ / ٤٤ ـ ٤٥.

(٤) اللّحيان : حائطا الفم ، وهما العظمان اللذان فيهما الأسنان من داخل الفم من كلّ ذي لَحْي ، يكون للإنسان والدابّة.

انظر : لسان العرب ١٢ / ٢٥٩ مادّة «لحا».

(٥) المُوضِحةُ من الشِّجاج هي التي تَقْشِر الجلدة التي بين اللحم والعظم أو تشقّها حتّى يبدو وَضَحُ العظم ، أي بياضه.

انظر : لسان العرب ١٥ / ٣٢٤ مادّة «وضح».

٥١٠

يطلبه إلى المدينة.

فجاء أبو ذرّ إلى المدينة ، ونصحه عثمان بحسن العشرة مع الناس ، وأنّ الناس اليوم ليسوا كزمن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وفيهم البَرُّ والفاجرُ اليوم.

فقال أبو ذرّ : إنّي أستأذن منك أن ألحق بفلاة من الأرض.

فخرج من المدينة حاجّاً أو معتمراً ، فلمّا قضى نسكه رجع وسكن بالربذة.

هذا حكاية سكون أبي ذرّ بالربذة ، ولا اعتراض فيه على عثمان.

واتّفق أهل «الصحاح» من التواريخ على ما ذكرنا ، فتمّ اعتذار القاضي ؛ لأنّه جرى على ما ذكره عامةُ المؤرّخين.

ومخالفة الواقدي في بعض المنقول لا يقدح في ما ذهب إليه العامةُ.

٥١١

وأقول :

نِعْمَ المَثلُ قول القائل : «الكذوب لا حافظة له» (١) ؛ فإنّ الفضل زعم سابقاً ـ كما تقدّم ص ٤٦ من هذا الجزء (٢) ـ أنّ الطبريّ رافضيٌّ مشهورٌ بالتشيّع ، حتّى هجره علماء بغداد وهجروا كتبه ورواياته ؛ والآن يجعله من أرباب صحة الخبر!

ولا شكّ أنّه لم ير «تاريخ الطبريّ» ، وإنّما سمع شيئاً فزاد فيه ولفّقه ، ونسبه إلى الطبريّ وغيره!

فإنّه ادّعى خروج أبي ذرّ إلى الحجّ أو العمرة ، ولا أثر له في «تاريخ الطبريّ» ، وإنّما جاء في بعض الأخبار خروج الركب الّذين دفنوا أبا ذرّ إلى الحجّ أو العمرة (٣).

وزعم ـ أيضاً ـ حضور كعب الأحبار عند معاوية ، والموجود في «تاريخ الطبريّ» (٤) حضوره عند عثمان ..

قال الطبريُّ ، حكاية عن السَّرِيّ ، في روايته عن شعيب ، عن سيف ،

__________________

(١) لم نعثر لهذا القول على مصدر في الكتب المتقدّمة ، وورد في المؤلّفات المتأخّرة بهذا اللفظ ، وكذا بلفظ : «لا حافظة لكذوب» ؛ ولعلّه مستفاد ومستوحىً من قول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : «لا رأي لكذوب» ؛ انظر : مستدرك الوسائل ٩ / ٨٨ ح ١٠٣٠٠ ، وقول الإمام الصادق (عليه السلام) : «لا مروءة لكذوب» ؛ انظر : الخصال : ١٦٩ ح ٢٢٢ ، من لا يحضره الفقيه ٤ / ٢٨١ ح ٨٣٤.

(٢) تقدّم في الصفحة ١٣٧ ، من هذا الجزء.

(٣) راجع الصفحتين ٤٧٤ و ٤٨٤ ، من هذا الجزء.

(٤) ص ٦٧ ج ٥ [٢ / ٦١٦ حوادث سنة ٣٠ هـ]. منه (قدس سره).

٥١٢

عن محمّد بن عون ، عن عكرمة ، عن ابن عبّاس ، قال : «كان أبو ذرّ يختلف من الربذة إلى المدينة مخافة الأعرابيّة ، وكان يحبُّ الوحدة والخلوة ، فدخل على عثمان وعنده كعب الأحبار ، فقال لعثمان : لا ترضوا من الناس بكفّ الأذى حتّى يبذلوا المعروف ، وقد ينبغي للمؤدّي الزكاة أن لا يقتصر عليها حتّى يُحسن إلى الجيران والإخوان ويصل القرابات.

فقال كعب : مَن أدّى الفريضة فقد قضى ما عليه.

فرفع أبو ذرّ محجنه ، فضربه ، فشجّه» .. الحديث.

واعلم أنّ الطبريّ إنّما اقتصر على هذا الحديث ونحوه ، لا لصحّتها عنده ، بل لكراهة أن يذكر ما فيه طعنٌ بعثمان ومعاوية ؛ فإنّه قال في ابتداء كلامه : «وفي هذه السنة ـ أعني سنة ٣٠ ـ كان ما ذُكر من أمر أبي ذرّ ومعاوية ، وإشخاص معاوية إياه من الشام إلى المدينة ، وقد ذُكر في سبب إشخاصه إياه منها إليها أُمورٌ كثيرةٌ ، كرهتُ ذِكر أكثرها.

فأمّا العاذرون معاوية في ذلك ، فإنّهم رووا في ذلك قصّةً كتب إليّ بها السَّرِيّ».

ثمّ قال في آخر كلامه : «وأمّا الآخرون ، فإنّهم رووا في سبب ذلك أشياء كثيرة ، وأُموراً شنيعةً ، كرهت ذِكرها» (١).

أقول :

الظاهر أنّ هذه الأُمور من نحو ما ذكره المرتضى (رحمه الله) (٢).

__________________

(١) تاريخ الطبري ٢ / ٦١٥ ـ ٦١٦.

(٢) انظر : الشافي ٤ / ٢٩٣ ـ ٢٩٩.

٥١٣

كما أشار إليها ابن الأثير في «كامله» (١) ، قال : «وفي هذه السنة [يعني سنة ٣٠] كان ما ذُكر في أمر أبي ذرّ ، وإشخاص معاوية إيّاه من الشام إلى المدينة.

وقد ذُكر في سبب ذلك أُمورٌ كثيرةٌ ، من سبّ معاوية إيّاه ، وتهديده بالقتل ، وحمله إلى المدينة من الشام بغير وطاء ، ونفيه من المدينة على الوجه الشنيع ، لا يصحّ النقل به ، ولو صحّ ، لكان ينبغي أن يُعتذر عن عثمان ؛ فإنّ للإمام أن يؤدِّب رعيّته ، وغير ذلك من الأعذار ، لا أن يجعل ذلك سبباً للطعن عليه ؛ كرهتُ ذِكرها.

وأمّا العاذرون ، فإنّهم قالوا ...» ، ثمّ ذكر ما نقله الطبريُّ عن السَّرِيّ ، وسمعتَ بعضه.

والكلام هنا يقع في أمرين :

الأوّل : في ما نسبوه إلى أبي ذرّ رضوان الله عليه ، من أنّه يرى حرمة كنز الذهب والفضة وإن أُخرجت زكاتهما ، أي : حرمة إبقاء ما يفضل على الحاجة ، وعدم إنفاقه على الفقراء.

وهذه النسبة ظاهرةُ الكذب ؛ لجهات :

الأُولى : إنّ أبا ذرّ أتقى لله ، وأطوع لرسوله ، من أن يخالف أحكامهما ؛ فإنّه رأى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعينه ، وبقي معه إلى حين وفاته ، ورأى وجود الأغنياء من المسلمين في أيّامه ، من دون أن يوجب في أموالهم من الصدقات غير الزكاة ، فكيف يصدر من أبي ذرّ الحكم المخالف لِما وجد عليه الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)؟!

__________________

(١) ص ٥٥ ج ٣ ، وفي طبعة أُخرى ص ٤٣ [٣ / ١٠]. منه (قدس سره).

٥١٤

الثانية : إنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) لم يكن يرى هذا الرأي ، بإقرار الخصوم (١) ، فهل يمكن أن يترك هداية أبي ذرّ (رضي الله عنه) إلى حكم الله ورسوله حتّى يقع في ما وقع فيه؟!

أو يمكن أن يكون أبو ذرّ لا يسمع من أمير المؤمنين (عليه السلام) هدايتَه وتعليمَه ، وهو أشدّ الناس اتّباعاً له ، وأعرفهم بمنزلته؟!

الثالثة : إنّ الغنى لم يحدث في الناس أيّام عثمان ، بل كان من أيّام النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وتضاعف في أيّام أبي بكر ، وفاضت الأموال في أيّام عمر (٢) ، ولم تصدر من أبي ذرّ ـ في وقت ـ إشارةٌ إلى تلك الفتوى التي نسبوها إليه (٣).

فهل كان مدّخراً لها إلى أيام عثمان ، فرواها لنا العاذرون لعثمان ومعاوية؟!

تالله ليس الأمر كذلك ، ولكنّ أبا ذرّ رأى نهمة بني أُميّة في مال الله ، فجعل يتلو تلك الآية الكريمة في الطرقات ، إنكاراً على جعلهم مال الله وفيء المسلمين كنوزاً لهم ، ودولةً بين الأغنياء والجبابرة.

فكانت ثورته عليهم ، لا على الأغنياء ، كما هو واضحٌ لمن أنصف.

الرابعة : إنّ السنة وجّهوا الخلاف بين أبي ذرّ وغيره ـ كما ذكره الخصم ـ بالنسخ وعدمه ، فزعموا أنّ أبا ذرّ لا يرى آية تحريم الكنز منسوخة بالزكاة ، وأنّ غيره يرى أنّها منسوخهٌ بها.

__________________

(١) انظر : الحاوي الكبير ٤ / ٢٥٨ و ٢٦٦.

(٢) انظر : الطبقات الكبرى ـ لابن سعد ـ ٣ / ٢١٣ ـ ٢١٤.

(٣) راجع ما قرّره الفضل انفاً في الصفحة ٥١٠.

٥١٥

وهذا من السخف ؛ إذ لا معنى لنسخ الآية بالزكاة ؛ لعدم التنافي بينهما ؛ إذ يمكن أن تجب الزكاة والزائد على الحاجة معاً بلا منافاة ..

كما قد تجب الزكاة دون الزائد ؛ لتعلّقها بمال الفقير ..

أو يجب الزائد دون الزكاة ؛ لعدم كون مال الغنيّ من الزكويّات ..

فما معنى النسخ؟!

وهل يصحّ وقوع الخلاف فيه بين الصحابة؟!

الخامسة : إنّه كيف يمكن أن يضرب أبو ذرّ كعبَ الأحبار ، فيشجّه موضِحةً ، لمجرّد مخالفته له في فتوى اتّفق عليها كلُّ الصحابة؟!

وهذا ليس من سيماء العدالة ، ولا من أخلاق عيسى ، الذي شبّهه به رسولُ الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، كما رواه في «الاستيعاب» و «المستدرك» ، ونقله في «كنز العمّال» عن جماعة (١).

فلا بُد أن يكون ضربه له لإفتائه بما يخالف الدين والملّة ، كإحلاله للخليفة مال الله باسم القرض ، أو أخذ الزائد ـ من بيت المال ـ على عطاء المسلمين ، كما في بعض الأخبار (٢).

فيكون كعبُ الأحبار مبيحاً لعثمان وبني أُميّة أن يجعلوا مال الله دولا وكنوزاً ، فاستحقّ من أبي ذرّ الضرب.

السادسة : إنّ الأخبار التي رواها الطبريُّ ، واتّخذها السنةُ سنداً

__________________

(١) انظر : الاستيعاب ١ / ٢٥٥ ، المستدرك على الصحيحين ٣ / ٣٨٥ ح ٥٤٦٠ ، كنز العمال ١١ / ٦٦٦ ح ٣٣٢١٩ و ٣٣٢٢٠ و ٣٣٢٢٢ وص ٦٦٧ ح ٣٣٢٢٥ و ٣٣٢٢٦ و ٣٣٢٢٨ وص ٦٦٨ ح ٣٣٢٢٩ ـ ٣٣٢٣١.

(٢) انظر : أنساب الأشراف ٦ / ١٦٦ ، مروج الذهب ٢ / ٣٤٠ ، شرح نهج البلاغة ٨ / ٢٥٦.

٥١٦

لهم ، لا دلالة فيها على ما نسبوه إلى أبي ذرّ من إيجاب بذل الأغنياء أموالهم إلى الفقراء ؛ إذ غايةُ ما تدلُّ عليه رجحانُ عدم اقتصار الأغنياء على الزكاة ، وهو مما لا ريب فيه لكلّ مسلم.

فكيف صار به أبو ذرّ مخالفاً للأُمّة ، وخاف منه بنو أُميّة على مملكتهم ، واقتُضي تسييره؟!

ولو سُلّم ظهورها في الوجوب ، وحرمة كنز الزائد على الزكاة والحاجة ، فهي من روايات السَّرِيّ ، وهو ـ على الظاهر ـ : ابنُ عاصم بن سهل ، مؤدّبُ المعتزِّ بالله ، وهو من النواصب المعاندين ، كما تشهد به رواياته التي يكتب بها إلى الطبريّ في «تأريخه» ، وكان ـ أيضاً ـ من الكذّابين (١) ..

فقد حكى الذهبيّ في «ميزان الاعتدال» تكذيبه عن ابن خِراش ، وحكى عن ابن عديّ أنّه وهّاه وقال : يسرق الحديث (٢).

مع أنّه قد روى تلك الأخبار عمّن هو أسوأ منه ، كسيف (٣)

__________________

(١) انظر : المجروحين ـ لابن حبّان ـ ١ / ٣٥١ ، تاريخ بغداد ٩ / ١٩٣ رقم ٤٧٧٠.

(٢) ميزان الاعتدال ٣ / ١٧٤ رقم ٣٠٩٢ ، وانظر : الكامل في ضعفاء الرجال ـ لابن عديّ ـ ٣ / ٤٦٠ رقم ١٤٢ / ٨٧٤.

(٣) هو : سيف بن عمر الضبّي التميمي ؛ ضعّفه ابن معين وأبو داوود وأبو حاتم والنسائي والعقيلي والدارقطني وابن الجوزي ، واتُّهم بوضع الحديث والزندقة.

انظر : تاريخ ابن معين ١ / ٣٣٦ رقم ٢٢٦٢ ، الجرح والتعديل ٤ / ٢٧٨ رقم ١١٩٨ ، الضعفاء والمتروكين ـ للنسائي ـ : ١٢٣ رقم ٢٧١ ، المجروحين ـ لابن حبّان ـ ١ / ٣٤١ ، الضعفاء الكبير ـ للعقيلي ـ ٢ / ١٧٥ رقم ٦٩٤ ، الضعفاء والمتروكين ـ للدارقطني ـ : ١٠٤ رقم ٢٨٣ ، الضعفاء والمتروكين ـ لابن الجوزي ـ ٢ / ٣٥ رقم ١٥٩٤ ، ميزان الاعتدال ٣ / ٣٥٣ ، تهذيب التهذيب ٣ / ٥٨٣ رقم ٢٨٠٠.

٥١٧

وعكرمة (١) وأشباههم (٢).

على أنّها معارضة بما هو أكثر عدداً ، وأقوى سنداً ، وأقربُ إلى الاعتبار صحّةً ، ولو من حيث إنّه مِن رواية مَن لا يُتّهم على عثمان ومعاوية ، بخلاف روايات السَّرِيّ وأشباهه ، من المتّهمين في إرادة تبرئتهما وعذرهما.

الأمر الثاني : في أنّ خروج أبي ذرّ عن المدينة ليس باختياره ، بل قهراً من ولاة الأمر ؛ لأنّ ما دلّ عليه أكثرُ وأصحُّ وأبعدُ عن التهمة ، ممّا دلّ على خروجه باختياره ورغبته ، حتّى أرسله علماء العامّة إرسال المسلّمات ، كالشهرستاني في «الملل والنحل» (٣) ، وعليّ بن برهان الدين الحلبي في «السيرة الحلبيّة» (٤) ، وابن حجر في «الصواعق» (٥) ، كما سبقت كلماتهم (٦).

وقال في «الاستيعاب» ، بترجمة أبي ذرّ ـ باسمه ـ : «استقدمه عثمان بشكوى معاوية ، وأسكنه الربذة ، فمات بها» (٧).

__________________

(١) راجع وصف حاله في : ج ١ / ١٩١ رقم ٢٢٤ ، من هذا الكتاب.

(٢) مثل : شعيب بن إبراهيم الكوفي ، راوية كتب سيف بن عمر عنه ؛ قال علماء الجرح والتعديل عنه : إنّ فيه جهالة.

انظر : الكامل في ضعفاء الرجال ٤ / ٤ رقم ٨٨٥ ، ميزان الاعتدال ٣ / ٣٧٧ رقم ٣٧٠٩ ، لسان الميزان ٣ / ١٤٥ رقم ٥١٧.

ومحمّد بن عون ؛ راجع وصف حاله في : ج ١ / ٢٤٣ رقم ٢٩٤ ، من هذا الكتاب.

(٣) الملل والنحل ١ / ١٥.

(٤) السيرة الحلبية ٢ / ٢٧٢.

(٥) الصواعق المحرقة : ١٧٦.

(٦) راجع الصفحتين ٤٤٨ و ٤٥٢ ، من هذا الجزء.

(٧) الاستيعاب ١ / ٢٥٣ رقم ٣٣٩.

٥١٨

قال ابن الأثير في «أُسد الغابة» ، بترجمة أبي ذرّ ـ بكنيته ـ : «فضربَ الدهرُ ضربةً ، وسُيّر أبو ذرّ إلى الربذة» (١).

.. إلى غير ذلك من كلمات علمائهم (٢).

بل أرسل القوشجيُّ في «شرح التجريد» ضرب عثمان لأبي ذرّ إرسال المسلّمات (٣).

وكيف يحتمل في أبي ذرّ أن يترك جوار النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وصحبة الوصيّ باختياره؟!

وقال ابن أبي الحديد (٤) : «إعلم أنّ الذي عليه أكثر أرباب السير ، وعلماء الأخبار والنقل ، أنّ عثمان نفى أبا ذرّ أوّلا إلى الشام ، ثمّ استقدمه إلى المدينة لمّا شكا منه معاوية ، ثمّ نفاه من المدينة إلى الربذة لمّا عمل بالمدينة نظير ما كان يعمل بالشام». ثمّ ذكر ما نقله المصنّف هنا عن المرتضى (رحمه الله) (٥).

ونقل عن الجاحظ في «كتاب السفيانية» قول معاوية لأبي ذرّ : «يا عدوّ الله وعدوّ رسوله! لو كنتُ قاتلَ رجل من أصحاب محمّد من غير إذن أمير المؤمنين عثمان لقتلتك!».

وقول أبي ذرّ لمعاوية : «ما أنا بعدوّ لله ولا لرسوله ، بل أنت

__________________

(١) أُسد الغابة ٥ / ١٠١ رقم ٥٨٦٢.

(٢) راجع ـ مثلا ـ ما تقدّم عن ابن عبد ربّه في «العقد الفريد» ، في الصفحة ٤٤٩ ، من هذا الجزء.

(٣) شرح تجريد الاعتقاد : ٤٨٥.

(٤) ص ٣٧٦ مجلّد ٢ [٨ / ٢٥٥ ـ ٢٥٦]. منه (قدس سره).

(٥) شرح نهج البلاغة ٨ / ٢٥٦.

٥١٩

وأبوك عدوّان لله ولرسوله ، أظهرتما الإسلام وأبطنتما الكفر ، ولقد لعنك رسولُ الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ودعا عليك مرّات أن لا تشبع».

إلى أن قال الجاحظ : «فكتب عثمان إلى معاوية : أن احمل إليّ جندباً على أغلظ مركب وأوعره.

فوجّه به مع من سار به الليل والنهار ، وحمله على شارف (١) ليس عليها إلاّ قتبٌ ، حتّى قدم به المدينة وقد سقط لحمُ فخذيه من الجَهْد.

فلمّا قدم بعث إليه عثمان : إلحق بأيّ أرض شئت!

قال : بمكّة.

قال : لا.

قال : ببيت المقدس.

قال : لا.

قال : بأحد المصرين.

قال : لا ، ولكنّي مسيّرك إلى الربذة.

فسيّره إليها ، فلم يزل بها حتّى مات» (٢).

وروى أحمد في «مسنده» (٣) ، عن أبي ذرّ ، «قال : أتاني نبيّ الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأنا نائمٌ في مسجد المدينة ، فضربني برجله ، فقال : لا أراك نائماً فيه؟!

قلت : يا نبيّ الله! غلبتني عيني.

__________________

(١) الشارِفُ : الناقة التي قد أَسنتْ ، ولا يقال للجمل شارِف ؛ انظر : لسان العرب ٧ / ٩٢ مادّة «شرف».

(٢) شرح نهج البلاغة ٨ / ٢٥٧ ـ ٢٥٨.

(٣) ص ١٥٦ ج ٥. منه (قدس سره).

٥٢٠