دلائل الصدق لنهج الحق - ج ٧

الشيخ محمد حسن المظفر

دلائل الصدق لنهج الحق - ج ٧

المؤلف:

الشيخ محمد حسن المظفر


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ دمشق
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ دمشق
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-360-8
الصفحات: ٦٠٠

الحجة وإتمامها على وجه يرتضيه الشرع ، فلا طعن.

وأمّا عدم سماع شهادة أُمّ أيمن ـ إنْ صحّ ـ ؛ فلأنّها قاصرةٌ عن نصاب الشهادة ؛ فإنّها شهدت مع عليّ ، وهو من باب شهادة رجل وامرأة ، وكان لا بُد من التكميل ، ولا طعن على الحاكم إذا راعى ظاهر الشرع في الأحكام ، وأبو بكر ليس أقلّ قدراً من شريح ـ وقد عمل مع أمير المؤمنين في أيّام خلافته مثل هذا ـ وهو كان قاضياً لأمير المؤمنين ، فكيف يتصوّر الطعن؟!

فأما غضب فاطمة ، فهو من العوارض البشرية ، والبشر لا يخلو من الغضب ، والغاضب على الغير قد يغضب لغرض ديني ، لقصور المغضوب عليه في أداء حقّ الله ، وهذا الغضب من باب العداوة الدينية ، وما ذكر من الحديث : «إنّ الله يغضب لغضب فاطمة» فالظاهر أنّ المرادَ هذا الغضب.

٨١

وأقول :

ما زعمه من أنّ فدك قرية من قرى خيبر ، مخالف للضرورة ، ومناف ـ أيضاً ـ لأخبارهم.

روى الطبري في «تاريخه» ، بحوادث سنة سبع من الهجرة (١) ، من حديث قال فيه : «حاصر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أهل خيبر في حصنيهم الوَطيح (٢) والسُّلالِم (٣) ، حتّى إذا أيقنوا بالهلكة سألوه أن يُسيّرهم ويحقن دماءهم ، ففعل.

وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قد حاز الأموال كلّها : الشِّقّ (٤) ونَطَاة (٥)

__________________

(١) ص ٩٥ ج ٣ [٢ / ١٣٨]. منه (قدس سره).

(٢) كان في الأصل : «الوطيس» ، وهو تصحيف ، وما أثبتناه من المصدر.

والوَطيح : حصن من حصون خيبر ، كان أعظمها وآخر حصون خيبر فتحاً هو والسُّلالم ، فيه مزارع وأموال ، سمّي بالوطيح بن مازن ، رجل من ثمود ؛ انظر : معجم ما استعجم ٣ / ٥٢١ مادّة «خيبر» وج ٤ / ١٣٨٠ مادّة «الوطيح» ، معجم البلدان ٥ / ٤٣٦ رقم ١٢٥٣٨ ، لسان العرب ١٥ / ٣٣٥ مادّة «وطح».

(٣) السّلالِم : حصن بخيبر ، وكان من أحصنها وآخرها فتحاً على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ؛ انظر : معجم ما استعجم ٢ / ٥٢١ مادّة «خيبر» وج ٣ / ٧٤٥ مادّة «سُلالم» ، معجم البلدان ٣ / ٢٦٤ رقم ٦٥١٣.

(٤) الشِّق ـ بالكسر ، ويفتح كذلك ـ : حصن من حصون خيبر ، وقيل : عينٌ أو واد به ، وقيل : قرية من قرى فدك ؛ انظر : معجم ما استعجم ٢ / ٥٢٢ مادّة «خيبر» وج ٣ / ٨٠٥ مادّة «الشِّقّ» ، معجم البلدان ٣ / ٤٠٣ رقم ٧٢٠١ ، تاج العروس ١٣ / ٢٤٦ مادّة «شقق».

(٥) نطاة : حصن بخيبر ، وقيل : عين ماء بقرية من قرى خيبر ، وقيل : واد بها ؛ انظر : معجم ما استعجم ٢ / ٥٢٢ مادّة «خيبر» وج ٤ / ١٣١٢ مادّة «نطاة» ، معجم البلدان ٥ / ٣٣٦ رقم ١٢٠٤٢ ، لسان العرب ١٤ / ١٩١ مادّة «نطا».

٨٢

والكتيبة (١) ، وجميع حصونهم ، إلاّ ما كان من ذَينِكَ الحصنَين ، فلمّا سمع بهم أهل فدك قد صنعوا ما صنعوا ، بعثوا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يسألونه أن يسيّرهم ويحقن دماءهم ويخلّوا [له] لأموال ، ففعل ، ـ إلى أن قال : ـ فلمّا نزل أهل خيبر على ذلك سألوا رسول الله أن يعاملهم بالأموال على النصف ... فصالحهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على النصف ... وصالحه أهل فدك على مثل ذلك ، فكانت خيبر فيئاً للمسلمين ، وكانت فدك خالصة لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ؛ لأنّهم لم يُجلِبوا عليها بخَيل ولا رِكاب» .. الحديث.

وروى الطبري أيضاً (٢) ، قال : «كانت المقاسم على أموال خيبر على الشِّقّ ونَطَاة والكَتيبة ، فكانت الشِّقّ ونَطَاة في سُهْمان المسلمين (٣) ، وكانت الكتيبة خمس الله وخمس النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وسهم ذي القربى ـ إلى أن قال : ـ ولمّا فرغ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من خيبر قذف الله الرعب في قلوب أهل فدك حين بلغهم ما أوقع الله بأهل خيبر ، فبعثوا إلى رسول الله يصالحونه على النصف من فدك ... فقبل ذلك منهم ، فكانت فدك لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)

__________________

(١) الكتِيبة : هو حصن من حصون خيبر ، وقيل : الكتَيبة ـ مصغّرة ـ : اسم لبعض قُرى خيبر ؛ انظر : معجم ما استعجم ٢ / ٥٢١ مادّة «خيبر» وج ٤ / ١١١٥ مادّة «الكتيبة» ، معجم البلدان ٤ / ٤٩٥ رقم ١٠١٣٠ ، لسان العرب ١٢ / ٢٥ مادّة «كتب».

(٢) ص ٩٧ ج ٣ [٢ / ١٤٠ حوادث سنة ٧ هـ]. منه (قدس سره).

(٣) كان في الأصل : «سهمين للمسلمين» ، وهو تصحيف ، صوابه ما أثبتناه في المتن من المصدر.

والسّهْمان ، جمعٌ واحده : السّهْمُ : وهو الحظُّ والنصيب ، ويجمع كذلك على : أَسهُم وسِهام ؛ انظر مادّة «سهم» في : الصحاح ٥ / ١٩٥٦ ، النهاية في غريب الحديث والأثر ٢ / ٤٢٩ ، لسان العرب ٦ / ٤١٢.

٨٣

خاصة ؛ لأنّه لم يوجف عليها بخَيل ولا رِكاب».

وروى ابن الأثير في «الكامل» نحو هذين الخبرين (١) ، ثمّ قال (٢) : «لمّا انصرف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من خيبر بعث ... إلى أهل فدك يدعوهم إلى الإسلام ... فصالحوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على نصف الأرض ، فقبل منهم ذلك ، وكان نصف فدك خالصاً لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ؛ لأنّه لم يُوجف عليه بخَيل ولا رِكاب».

وروى البخاري (٣) ومسلم (٤) : «أنّ فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أرسلت إلى أبي بكر تسأله ميراثها من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ممّا أفاء الله عليه بالمدينة وفدك وما بقي من خمس خيبر.

فقال أبو بكر : إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : لا نُورَث ما تركناه (٥) صدقة ، إنّما يأكل آل محمّد في هذا المال ؛ وإنّي والله لا أُغيّر شيئاً من صدقة رسول الله عن حالها التي كانت عليها في عهد رسول الله ، ولأعملنّ فيها بما عمل به رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

فأبى أبو بكر أن يدفع إلى فاطمة شيئاً» (٦) .. الحديث.

وروى مسلم أيضاً (٧) : «أنّ فاطمة سألت أبا بكر بعد وفاة

__________________

(١) ص ١٠٦ و ١٠٧ من الجزء الثاني [٢ / ١٠٢ ـ ١٠٤ حوادث سنة ٧ هـ]. منه (قدس سره).

(٢) ص ١٠٨ [٢ / ١٠٤ ـ ١٠٥ حوادث سنة ٧ هـ]. منه (قدس سره).

(٣) في غزوة خيبر [٥ / ٢٨٨ ح ٢٥٦]. منه (قدس سره).

(٤) في باب قول النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) : «لا نُورَث ما تركناه صدقة» ، من كتاب الجهاد [٥ / ١٥٣ ـ ١٥٤]. منه (قدس سره).

(٥) في المصدرين : «تركنا».

(٦) وانظر : الطبقات الكبرى ـ لابن سعد ـ ٢ / ٢٤٠.

(٧) في الباب المذكور [٥ / ١٥٥ ـ ١٥٦]. منه (قدس سره).

٨٤

رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يَقْسِم لها ميراثها ممّا ترك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ممّا أفاء الله عليه ؛ فقال لها أبو بكر : إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : لا نُورَث ما تركناه (١) صدقة ...

وكانت فاطمة تسأل أبا بكر نصيبها ممّا ترك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من خيبر وفدك وصدقته بالمدينة ، فأبى أبو بكر عليها ذلك وقال : لستُ تاركاً شيئاً كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يعمل به إلاّ عملت به ، إنّي أخشى إنْ تركت شيئاً من أمره أن أزيغ.

فأمّا صدقته بالمدينة ، فدفعها عمر إلى عليّ وعبّاس فغلبه عليها عليٌّ.

وأما خيبر وفدك ، فأمسكهما عمر وقال : هما صدقة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، كانتا لحقوقه التي تَعرُوه ونوائبِه ، وأمرُهما إلى مَن وَلِيَ الأمرَ.

قال : فهما على ذلك إلى اليوم».

ونحوه في «صحيح البخاري» (٢) ، و «مسند أحمد» (٣).

وذكر البخاري ـ في هذا الحديث ـ أنّها غضبت فهجرت أبا بكر ، ولم تزل مهاجرته حتّى توفّيت (٤).

وذكر هو ومسلم ـ في الحديث الأوّل ـ أنّها وَجَدتْ (٥) على أبي بكر

__________________

(١) في المصدر : «تركنا».

(٢) في باب فرض الخمس من كتاب الجهاد [٤ / ١٧٧ ـ ١٧٨ ح ٢]. منه (قدس سره).

(٣) ص ٦ و ٩ من الجزء الأوّل. منه (قدس سره).

(٤) صحيح البخاري ٤ / ١٧٨ ح ٢ وج ٨ / ٢٦٦ ح ٣.

(٥) وَجَد عليه ـ في الغضب ـ يَجُد ويَجِد وَجْداً وجِدةً وموْجَدةً ووِجْداناً : غَضِبَ ؛ انظر : لسان العرب ١٥ / ٢١٩ مادّة «وجد».

٨٥

في ذلك فهجرته ، فلم تكلّمه حتّى توفّيت ، وعاشت بعد النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ستّة أشهر ، فلمّا توفّيت دفنها عليٌّ ليلا ، ولم يُؤْذِن بها أبا بكر ، وصلّى عليها (١).

فأنت ترى أنّ هذه الأخبار صريحة الدلالة على أنّ فدك غير خيبر ، ومثلها في أخبارهم كثير (٢) ، فكيف زعم الخصم أنّها من قُراها؟!

وبهذه الأخبار التي ذكرناها يُعلم أنّ فدك وكلّ ما لم يُوجف عليه بخيل أو رِكاب ملكٌ لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خاصة ..

فقول الخصم : «وكان تحت يد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كما يكون أموال الفيء تحت أيدي الأئمة» (٣) ، باطل ؛ فإنّ ظاهره أنّه للمصالح العامة لا للنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) خاصّة ، وهو مخالف للأخبار السابقة وضرورة الإسلام.

ولعلّه أخذ هذه الدعوى من قول أبي بكر في الحديث الأوّل : «إنّي والله لا أُغيّر شيئاً من صدقة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن حالها التي كانت عليها ، ولأعملنّ فيها بما عمل» (٤).

وقوله في الحديث الثاني : «لستُ تاركاً شيئاً كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يعمل به» (٥).

__________________

(١) صحيح البخاري ٥ / ٢٨٨ ح ٢٥٦ ، صحيح مسلم ٥ / ١٥٤.

(٢) انظر : سنن أبي داود ٣ / ١٤٢ ـ ١٤٣ ح ٢٩٦٨ ـ ٢٩٧٠ ، سنن النسائي ٧ / ١٣٧ ، المعجم الأوسط ٥ / ٤٤١ ح ٥٣٣٩ ، مسند أبي عوانة ٤ / ٢٥٠ ـ ٢٥٣ ح ٦٦٧٧ و ٦٦٧٩ ـ ٦٦٨٤ ، الإحسان بترتيب صحيح ابن حبّان ٧ / ١٥٦ ح ٤٨٠٣ وج ٨ / ٢٠٥ ـ ٢٠٦ ح ٦٥٧٣.

(٣) تقدّم آنفاً في الصفحة ٧٦.

(٤) تقدّم آنفاً في الصفحة ٨٤.

(٥) تقدّم آنفاً في الصفحة ٨٥.

٨٦

فإنّ هذين القولين دالاّن على أنّ متروكات النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) كانت صدقة في أيامه.

وفيه : إنّ كلام أبي بكر متناقضٌ ، فلا ينبغي أن يُعتمد عليه ؛ لأنّ متروكات النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) إنْ كانت من الصدقات في أيامه لم يكن محلٌّ لروايته أنّ الأنبياء لا يُورَثون ؛ إذ لا ميراث حتّى يحتاج لرواية هذا الحديث.

وإنْ كانت ملكاً لرسول الله ، كان خوف أبي بكر من مخالفة عمل النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) تقشّفاً كاذباً ؛ لأنّ عمل النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث وقع كان بنحو الملك ، فلا يلزم أبا بكر أن يعمل كعمله ، وقد صارت بزعمهم صدقة من سائر صدقات المسلمين التي يجوز تخصيص بعضهم فيها ، كما خصّ هو عليا بسلاح النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وبغلته بعنوان الصدقة ـ كما ادّعاه الخصم (١) ـ ، وخصّ عمر عليا والعبّاس بصدقة المدينة.

وأما ما زعمه من أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) كان ينفق على عياله من فدك ، فيكذّبه ما رواه البخاري (٢) ومسلم (٣) ، أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) كان ينفق على أهله نفقة سنة من أموال بني النضير ، وما بقي يجعله في الكرَاع والسلاح.

ويكذّبه ـ أيضاً ـ الحديث الذي أشار إليه الخصم ، المشتمل على قصّة منازعة عليّ والعبّاس في مال بني النضير ؛ فإنّ عمر قال فيه : «كان

__________________

(١) انظر ما تقدّم آنفاً في الصفحة ٧٩.

(٢) في تفسير سورة الحشر [٦ / ٢٦٠ ح ٣٧٨]. منه (قدس سره).

وانظر كذلك : صحيح البخاري ٤ / ١٠٧ ح ١١٦.

(٣) في باب حكم الفيء من كتاب الجهاد [٥ / ١٥١]. منه (قدس سره).

٨٧

رسول الله ينفق على أهله نفقة سنتهم من هذا المال» (١).

وما رواه البغوي في «المصابيح» ، في باب الفيء ، من الحسان ، عن عمر ، قال : «كان لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ثلاث صَفايا (٢) : بنو النضير ، وخيبر ، وفدك.

فأما بنو النضير ؛ فكانت حبساً لنوائبه (٣).

وأما فدك ؛ فكانت حبساً لأبناء السبيل.

وأما خيبر ، فجزّأها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ثلاثة أجزاء : جزءَين بين المسلمين ، وجزءاً نفقة لأهله ، فما فضل عن نفقة أهله جعله بين فقراء المهاجرين» (٤).

فإنّ هذه الأخبار مُكذّبة لِما ادّعاه الخصم من أنّ نفقة عيال النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) من فدك ، كما أنّها متكاذبة فيما بينها ؛ لدلالة الخبرين الأوّلين على أنّها من بني النضير ؛ ودلالة خبر البغوي على أنّها من خيبر!

على أنّه لو كانت فدك محلّ نفقة عيال النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) في سنين ، لَما خفي ذلك على عياله والمسلمين ، ولا سيّما أنّ الفاضل عن نفقتهم ـ بزعم الخصم ـ يصرف في الكرَاع والسلاح ، فكيف يمكن لفاطمة (عليها السلام) دعوى

__________________

(١) انظر : صحيح البخاري ٤ / ١٧٩ ـ ١٨١ ح ٣ وج ٨ / ٢٦٦ ـ ٢٦٧ ح ٥ ، صحيح مسلم ٥ / ١٥٢ ، سنن أبي داود ٣ / ١٤٠ ـ ١٤١ ح ٢٩٦٣ ـ ٢٩٦٥.

(٢) الصفايا ـ جمع : الصفيّة ـ : وهي ما يختاره الرئيس لنفسه من المغنَم قبل القسمة ، من فرس أو سيف أو غيره ؛ انظر : لسان العرب ٧ / ٣٧٠ مادّة «صفا».

(٣) النّوائبُ ـ جمع : نائبة ـ : وهي ما يَنُوبُ الإنسانَ ـ أي : ينزلُ به ـ من المُهمّات والحوادث والمصائب ؛ انظر : لسان العرب ١٤ / ٣١٨ مادّة «نوب».

(٤) مصابيح السنة ٣ / ١١٩ ـ ١٢٠ ح ٣١٠٢ ، وانظر : سنن أبي داود ٣ / ١٤١ ـ ١٤٢ ح ٢٩٦٧.

٨٨

أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) نحلها فدك من يوم ملَكها ، ثمّ يشهد لها بذلك أمير المؤمنين (عليه السلام)؟!

وكيف لا تنعى عليها (١) عائشة هذه الدعوى نصرةً لأبيها؟!

وأمّا قوله : «ولم يكن سعةٌ في أموال الفيء حتّى ينفق الخليفة على أزواجه من سائر جهات الفيء ويترك فدك لفاطمة» ..

فعذرٌ بارد ؛ لأنّ الحقوق الشرعيّة لم تكن تضيق عن نفقة أزواج النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) التي تعوّدن عليها في أيامه.

ولا أظنّ أنّها كانت في ذلك الوقت تبلغ ما أعطاه جابرَ بن عبد الله في أيّام وفاة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) لمّا جاءه مال البحرين ، فإنّه أعطاه ألفاً وخمسمئة درهم ، كما رواه البخاري (٢) ، ومسلم (٣) ، وأحمد في «مسنده» (٤).

وكذا أعطى غيرَه نحو ذلك ..

ففي «كنز العمّال» (٥) ، عن ابن سعد : «سمعت منادي أبي بكر ينادي بالمدينة حين قدم عليه مال البحرين : مَن كانت له عِدَةٌ عند

__________________

(١) نعى عليه الشيء ينعاهُ : قبّحه وعابه عليه ووبّخه ، ونعى عليه ذُنوبه : ذَكرها له وشَهَره بها ، وأَنعى عليه ونَعى عليه شيئاً قبيحاً إذا قاله تشنيعاً عليه ، والناعي : المشنّع ؛ انظر : لسان العرب ١٤ / ٢١٧ مادّة «نعا».

(٢) في باب ما أقطع النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) من مال البحرين ، في أواخر كتاب الجهاد [٤ / ٢١٠ ح ٧] ؛ ورواه أيضاً قبله بيسير ـ من طرق عديدة ـ في باب «ومن الدليل على أنّ الخمس لنوائب المسلمين» [٤ / ١٩٧ ح ٤٤]. منه (قدس سره).

(٣) في كتاب الفضائل في باب ما سُئل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) شيئاً قطّ فقال : لا [٧ / ٧٥ ـ ٧٦]. منه (قدس سره).

(٤) ص ٣١٠ ج ٣. منه (قدس سره).

(٥) ص ١٣٤ ج ٣ [٥ / ٦٢٦ ح ١٤١٠٢]. منه (قدس سره).

وانظر : الطبقات الكبرى ـ لابن سعد ـ ٢ / ٢٤٣.

٨٩

رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فليأت! فيأتيه رجالٌ فيعطيهم.

فجاءه أبو بشير المازني فقال : إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال لي : إذا جاءنا شيء فأتنا ؛ فأعطاه أبو بكر حفنتين أو ثلاثاً ، فوجدها ألفاً وأربعمئة».

بل لم تكن نفقة أزواج النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) إلاّ القليل ممّا وهبه أبو بكر لمعاذ بن جبل ..

روى في «الاستيعاب» ـ بترجمة معاذ ـ ، أنّه مكث باليمن أميراً ، وكان أوّل من اتّجر بمال الله ، فمكث حتّى أصاب ، وحتّى قُبض رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

فلمّا قدم قال عمر لأبي بكر : أرسل إلى هذا الرجل فدع له ما يعيّشه وخذ سائره منه.

إلى أن قال : فقال أبو بكر : لا آخذ منك شيئاً ، قد وهبته لك (١).

ونحوه في «كنز العمال» (٢) ، عن عبد الرزّاق ، وابن راهويه.

كما أنّ نفقتهنّ لا تبلغ إلاّ اليسير ممّا أعطاه لأبي سفيان ..

ففي «شرح النهج» (٣) ، عن الجوهري في «كتاب السقيفة» ، أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بعث أبا سفيان ساعياً ، فرجع من سعايته وقد مات رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فقال : مَن وليَ بعده؟ قيل : أبو بكر ؛ قال : أبو فَصيل (٤)؟! قالوا : نعم.

__________________

(١) الاستيعاب ٣ / ١٤٠٤ ـ ١٤٠٥ رقم ٢٤١٦.

(٢) ص ١٢٦ ج ٣ [٥ / ٥٩١ ـ ٥٩٢ ح ١٤٠٥٤]. منه (قدس سره).

وانظر : مصنّف عبد الرزّاق ٨ / ٢٦٨ ح ١٥١٧٧ ، تاريخ دمشق ٥٨ / ٤٣٢.

(٣) ص ١٣٠ ج ١ [٢ / ٤٤]. منه (قدس سره).

(٤) قالها أبو سفيان احتقاراً وانتقاصاً ومهانةً وإنكاراً ..

٩٠

إلى أن قال : فكلّم عمر أبا بكر فقال : إنّ أبا سفيان قد قدِم ، وإنّا لا نأمن شرّه ، فَدعْ (١) له ما في يده ؛ فتركه ، فرضيَ.

وأنت تعلم أنّ مال السعاية التي يوجّه بها أبو سفيان ، ويرشى به في أمر الخلافة ، ويرضيه ممّن ازدراه واستصغره ؛ لهو من أكثر الأموال!

فإذا وسع مال الله هذه العطيات ونحوها ، فكيف يضيق عن نفقة أزواج النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)؟!

ولو فرض أنّه يضيق عنها ، فقد كان من شرع الإحسان وحفظ الذمام لسيّد المرسلين أن يضيّقوا على أنفسهم وينفقوا على الأزواج من مال الله ، أو يضمّ أبو بكر وعمر ابنتيهما إلى عيالهما ويطيّبوا نفس بضعة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بإعطائها فدك التي أفاء الله بها عليه ، ولا يلجِئُها إلى النزاع في تلك المقامات ويغضبوها حتّى الممات.

أترى أنّ من بنى لقومه بيت شرف ومجد ، وجعل لهم مملكة يزاحمون بها الممالك العظمى ، ثمّ مات وخلّف بينهم بنتاً واحدة ، ومالا يقوم بكفايتها ، فهل يحسن منهم أن ينتزعوا منها ذلك المال قهراً بحجة أنّه يعود إلى المملكة؟!

وهل ترى مَن يفعل ذلك معدوداً من حافظي حقّ الأب وذمامه ، أو معدوداً من المضيّعين لحقّه وأعدائه؟!

__________________

فالبَكرُ : الفَتِيّ من الإبل ، بمنزلة الغلام من الناس ؛ انظر : لسان العرب ١ / ٤٧٢ مادّة «بكر».

والفَصيلُ : وَلَدُ الناقة إذا فُصِلَ عن أُمّه ، أي فُطم عن الرضاعة ؛ انظر مادّة «فصل» في : لسان العرب ١٠ / ٢٧٣ ، تاج العروس ١٥ / ٥٧٤.

(١) كان في الأصل : «فدفع» ، وهو تصحيف ، وما أثبتناه من المصدر.

٩١

فكيف بسيّد النبيّين ، الذي بنى لهم شرف الدنيا والدين ، وأخرجهم من الظلمات إلى النور ، وهداهم ـ لو آمنوا ـ إلى الصراط المستقيم ، وما خلّف بينهم إلاّ بنتاً وصفها بأنّها بضعته ، وأنّها سيّدة نساء العالمين ، وأنّها (١) يغضبه ما يُغضبها؟!

وأمّا قوله : «فعمل أبو بكر في فدك مثل عمل النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فكان ينفق [منها] على أزواج النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وفاطمة وأولادها» ..

فكذب ظاهر ؛ إذ ـ مع أنّ نفقة الأزواج بحسب أخبارهم السابقة كانت من مال بني النضير أو خيبر ـ إنّ سيّدة النساء لم تقم بين أظهرهم إلاّ مدّة يسيرة ساخطة عليهم ، فمتى أخذت من أيديهم؟!

مضافاً إلى ما رواه البخاري (٢) ، ومسلم (٣) ، عن أبي هريرة ، أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : «لا يقتسم ورثتي ديناراً ، ما تركت بعد نفقة نسائي ومؤنة عاملي فهو صدقة» ..

فإنّه لم يستثن إلاّ نفقة نساء النبيّ ومؤنة عامله ، فلا تكون نفقة فاطمة (عليها السلام) وأولادها منها!

والظاهر أنّ فدك صارت من مختصّات أبي بكر وعمر ، كما عن السيوطي في «تاريخ الخلفاء» (٤).

ويدلّ عليه ما رواه أبو داود في «سننه» في «باب صفايا رسول الله»

__________________

(١) كذا ، والصواب لغةً : «أنّه».

(٢) في باب نفقة أزواج النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ، من كتاب الجهاد [٤ / ١٨١ ح ٥]. منه (قدس سره).

(٣) في باب قول النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) : «لا نورَث ما تركناه صدقة» ، من كتاب الجهاد [٥ / ١٥٦]. منه (قدس سره).

(٤) تاريخ الخلفاء : ١٠٣ الحديث الثلاثون من الأحاديث المسندة إلى أبي بكر.

٩٢

من «كتاب الخراج» ، عن أبي الطفيل ، قال : «جاءت فاطمة إلى أبي بكر تطلب ميراثها من النبيّ ، فقال أبو بكر : سمعت رسول الله يقول : إنّ الله عزّ وجلّ إذا أطعم نبيا طُعمةً فهي للذي يقوم بعده» (١).

ونحوه في «كنز العمّال» (٢) ، عن أحمد ، وأبي داود ، وابن جرير ، والبيهقي.

بل الظاهر أنّ خيبر أيضاً مختصّة بهما وصارت طعمة لهما ؛ لِما سبق عن البخاري ، ومسلم ، وأحمد ، أنّ عمر أمسك خيبر وفدك وقال : هما صدقة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كانتا لحقوقه التي تعروه ، وأمرُهما إلى مَن وليَ الأمر (٣) ..

فإنّه دالٌّ على أنّ عمر وأبا بكر قد اتّخذا فدك وخيبر لحقوقهما ونوائبهما طعمةً لهما ، وهو ممّا يزيد في اللوم والتقريع لهما في منع فاطمة (عليها السلام) فدكاً وسهمها من خيبر.

وأمّا قوله : «فلمّا انتهى أمر الخلافة إلى عمر ـ إلى قوله : ـ ردّ سهم بني النضير إلى عليّ وعبّاس» ..

فمن الجهل الواضح ؛ لأنّه يدلّ على زعمه اتّحاد سهم بني النضير وفدك ؛ لأنّ كلامه في فدك وتحقيقِ أمرِها ، وهما بالضرورة مختلفان ،

__________________

(١) سنن أبي داود ٣ / ١٤٤ ح ٢٩٧٣.

(٢) ص ١٣٠ ج ٣ [٥ / ٦٠٥ ح ١٤٠٧١]. منه (قدس سره).

وانظر : مسند أحمد ١ / ٤ ، السنن الكبرى ـ للبيهقي ـ ٦ / ٣٠٣ كتاب قسم الفيء والغنيمة ، باب بيان مصرف خمس الخمس.

(٣) تقدّم قريباً في الصفحتين ٨٤ ـ ٨٥ عن : صحيح البخاري ٤ / ١٧٨ ـ ١٨١ ح ٣ وج ٨ / ٢٦٦ ـ ٢٦٨ ح ٥ ، صحيح مسلم ٥ / ١٥٥ ـ ١٥٦ ، مسند أحمد ١ / ٦ ـ ٧ و ٩.

٩٣

والنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) فتح بني النضير في سنة أربع (١) ، وفدك في سنة سبع (٢).

على أنّ عمر لم يردّ شيئاً من فدك وسهم بني النضير ، وإنّما زعموا أنّه ردّ صدقته بالمدينة ، كما سبق في حديث البخاري ومسلم وأحمد (٣).

لكنّ الظاهر أنّ الخصم أخذ دعوى ردّ عمر لسهم بني النضير من الخبر المشتمل على منازعة أمير المؤمنين والعبّاس ، فإنّه دالٌّ على ذلك ، فيتناقض مع ما دلّ على أنّه إنّما ردّ صدقته بالمدينة!

فقد ظهر ممّا ذكرنا أنّ ما بيّنه الخصم في تاريخ فدك ، جهلٌ في كذب!

وهل هو أعلم بحقيقتها من الطاهرة العالمة؟!

وأمّا ما يظهر منه من التشكيك في دعوى فاطمة (عليها السلام) ، فمن الغرائب!

ليت شعري ، إذا لم تدع أحدهما ، فما هذا الذي وقع بينها وبين أبي بكر ، ممّا ملأ العالم ذِكرُه ، وشوّه وجه التاريخ أمرُه؟!

ولنتكلّم في الدعويين :

أمّا دعوى الإرث ، فقد اشتملت عليها صحاح أخبارهم ، وقد سمعت بعضها ، ولشهرتها ووضوحها لا نحتاج إلى تطويل الكلام بإثباتها ، ولمّا ادّعت الميراث ، ردّها أبو بكر بالحديث الذي رواه ، فكذّبته وقالت من خطبة طويلة : «يا بن أبي قحافة! أترث أباك ولا أرث أبي؟! لقد

__________________

(١) انظر مثلا : تاريخ الطبري ٢ / ٨٣ ، الكامل في التاريخ ٢ / ٦٤.

(٢) انظر مثلا : تاريخ الطبري ٢ / ١٣٨ ، الكامل في التاريخ ٢ / ١٠٢.

(٣) راجع الهامش رقم ٣ من الصفحة السابقة.

٩٤

جئتَ شيئاً فريا» كما ذكره ابن أبي الحديد (١) ، واستدلّت (عليها السلام) بالآيات التي ذكرها المصنّف (رحمه الله).

كما استدلّ أمير المؤمنين (عليه السلام) أيضاً بآيتَي سليمان ويحيى (٢) ، كما في «كنز العمّال» (٣) ، عن ابن سعد.

وأمّا قوله : «الحديث إذا صحّ بشرائطه [فهو] يُخصّص حكم الكتاب» ..

فصحيحٌ ، لكنّ الكلام في حصول الشرائط ـ كما ستعرف ـ على أنّ آيتَي إرث سليمان ويحيى خاصّتان ، فلا يعارضهما الحديث وإنْ صحّ.

وأما تكذيبه للمصنّف في دعوى تفرّد أبي بكر ، فباطل ؛ لأنّ المصنّف لم يستبدّ بهذه الدعوى ، بل سبقته إليها عائشة ، وكانت أعلمَ بتفرّد أبيها!

فقد نقل في «كنز العمال» (٤) ، في فضائل أبي بكر ، عن البغوي ، وأبي بكر في «الغيلانيّات» ، وابن عساكر ؛ عن عائشة ، قالت : «لمّا توفّي

__________________

(١) ص ٩٣ من المجلّد الرابع [١٦ / ٢١٢]. منه (قدس سره).

وانظر : بلاغات النساء ـ لابن طيفور ـ : ٥٨ وما بعدها ، الصراط المستقيم ٢ / ٢٨٣ وما بعدها نقلا عن البخاري.

(٢) هما قوله تعالى : (وورث سليمانُ داودَ) سورة النمل ٢٧ : ١٦.

وقوله تعالى : (يرثني ويرثُ من آل يعقوب) سورة مريم ١٩ : ٦.

(٣) ص ١٣٤ من الجزء الثالث [٥ / ٦٢٥ ح ١٤١٠١]. منه (قدس سره).

وانظر : الطبقات الكبرى ـ لابن سعد ـ ٢ / ٢٤١.

(٤) ص ٣١٣ من الجزء السادس [١٢ / ٤٨٨ ح ٣٥٦٠٠]. منه (قدس سره).

وانظر : مصابيح السنة ٤ / ١٣٣ ـ ١٣٤ ح ٤٦٦٩ ، الغيلانيّات ١ / ٦٦٠ ـ ٦٦٣ ح ٨٩٩ ـ ٩٠٧ ، تاريخ دمشق ٣٠ / ٣١١ ـ ٣١٤.

٩٥

رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) اشرأبَّ (١) النفاق ، وارتدّت العرب ، وانحازت الأنصار ، فلو نزل بالجبال الراسيات ما نزل بأبي لَهاضها (٢) ، فما اختلفوا بنقطة إلاّ طار أبي بغنائها وفصلها ؛ قالوا : أين يُدفن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ فما وجدنا عند أحد من ذلك علماً ؛ فقال أبو بكر : سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول : ما من نبيّ يُقبض إلاّ دُفن تحت مضجعه الذي مات فيه.

واختلفوا في ميراثه ، فما وجدوا عند أحد من ذلك علماً ، فقال أبو بكر : سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول : إنّا معاشر الأنبياء لا نورَث ما تركناه صدقة».

ونقله ابن حجر في «الصواعق» (٣) عن هؤلاء الجماعة.

ويدلّ ـ أيضاً ـ على تفرّد أبي بكر ، ما رواه أحمد في «مسنده» (٤) ، عن عمر ، قال في جملة كلامه : «حدّثني أبو بكر ـ وحلف بأنّه لصادق ـ أنّه سمع النبيّ يقول : إنّ النبيّ لا يورَث ، وإنّما ميراثه في فقراء المسلمين والمساكين».

وقال ابن أبي الحديد (٥) : «أكثر الروايات أنّه لم يروِ هذا الخبر إلاّ أبو بكر وحدَه ، ذكر ذلك معظم المحدّثين ، حتّى إنّ الفقهاء أطبقوا على

__________________

(١) اشرَأَبَّ الرجلُ للشيء وإلى الشيء : مَد عنُقه إليه ، وقيل : هو إذا ارتفع وعلا ؛ انظر : لسان العرب ٧ / ٦٩ مادّة «شرب».

والمعنى هنا كناية عن ظهور النفاق بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) واستيلائه على الأُمور.

(٢) الهَضُّ والهَضضُ : كسْرٌ دونَ الهَد وفوق الرَّضِّ ، وقيل : هو الكسر عامّة ، والدقُّ ؛ انظر : لسان العرب ١٥ / ٩٨ ـ ٩٩ مادّة «هضض».

(٣) في الشبهة ٤ ، من الفصل ٥ ، من الباب ١ [ص ٥٢]. منه (قدس سره).

(٤) ص ١٣ من الجزء الأوّل. منه (قدس سره).

(٥) ص ٨٥ من المجلّد الرابع [١٦ / ٢٢٧]. منه (قدس سره).

٩٦

ذلك في احتجاجهم في الخبر برواية الصحابي الواحد.

وقال شيخنا أبو عليّ : لا يُقبل في الرواية إلاّ رواية اثنين ، كالشهادة ، فخالفه المتكلّمون والفقهاء كلّهم ، واحتجّوا بقبول الصحابة رواية أبي بكر وحده : (نحن معاشرَ الأنبياء لا نُورَث) ، حتّى إنّ بعض أصحاب أبي عليّ تكلّف لذلك جواباً ، فقال : قد رُوي أنّ أبا بكر يوم حاجّ فاطمة قال : أنشُد الله امرَأً سمع من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في هذا شيئاً؟

فروى مالك بن أوس بن الحدثان أنّه سمعه من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)»!

وأمّا استدلال الخصم لعدم تفرّد أبي بكر بقول عمر بمحضر عليّ والعبّاس وغيرهما ، فهو مما رواه البخاري (١) من طرق ، ومسلم (٢) ، والألفاظ متقاربة ، وهو من الكذب الصريح ؛ لأُمور :

الأوّل : إنّه يصرّح بأنّ عمر ناشد القوم ـ ومن جملتهم عثمان ـ ، فشهدوا بأنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : «لا نُورَث» ، وهو مناف لِما رواه البخاري (٣) عن عائشة ، أنّها قالت : «أرسل أزواجُ النبيّ عثمانَ إلى أبي بكر يسألنه ثُمنهنَّ ممّا أفاء الله على رسوله ، فكنت أنا أردّهُنّ» .. الحديث.

فإنّه يقتضي أن يكون عثمان جاهلا بذلك ، وإلاّ لامتنع أن يكون رسولا لهنّ إلاّ أن يظنّ القومُ فيه السوء!

الثاني : إنّه لو كان القوم الّذين ناشدهم عمر عالمين بما رواه أبو بكر ، لَما تفرّد أبو بكر بروايته عند منازعة فاطمة (عليها السلام) له.

__________________

(١) في أوائل كتاب النفقات [٧ / ١١٢ ـ ١١٤ ح ٩٣] ، وفي باب فرض الخمس من كتاب الجهاد [٤ / ١٧٨ ـ ١٨١ ح ٣] ، وفي باب حديث بني النضير من كتاب المغازي [٥ / ٢٠٦ ـ ٢٠٧ ح ٧٨]. منه (قدس سره).

(٢) في باب حكم الفيء من كتاب الجهاد [٥ / ١٥١ ـ ١٥٣]. منه (قدس سره).

(٣) في أثر حديث بني النضير [٥ / ٢٠٨ ذ ح ٧٨]. منه (قدس سره).

٩٧

فهل تراهم ذخروا شهادتهم لعمر ، وأخفوها عن أبي بكر وهو إليها أحوج؟!

الثالث : إنّ أحاديث البخاري صريحةٌ في أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) والعبّاس طلبا من عمر الميراث ، حيث يقول في أحدها : «جئتماني وكلِمتكما واحدة ، [وأمركما واحد] ، جئتني يا عبّاس تسألني نصيبك من ابن أخيك ، وجاءني هذا يريد نصيب امرأته من أبيها ، فقلت لكما : إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : لا نورَث ما تركناه صدقة» (١).

وقريب منه ما في حديثيه الآخرَين (٢).

فكيف يُتصوّر أن يطلبا من عمر الميراث وهما يعلمان أنّ النبيّ لا يُورَث؟!

وهو من الكذب الفظيع ؛ لمنافاته لدينهما وشأنهما ، وكونه من طلب المستحيل عادة ؛ لأنّ أبا بكر قد حسم أمره ، وكان أكبرَ أعوانِه عليه عمر ، فكيف يطلبان منه الميراث؟!

ومع ذلك ، فكيف دفع لهما عمر مال بني النضير ليعملا به عمله وعمل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأبي بكر ، وهما قد جاءاه يطلبان الميراث مخالفين لعلمهما ، غير مباليَين بحكم الله ورسوله ـ حاشاهما ـ ، فيكون قدحاً في عمر؟!

الرابع : إنّ أمير المؤمنين والعبّاس لو سمعا من النبيّ ما رواه أبو بكر حتّى أقرّا به لعمر ، فكيف يقول لهما عمر ـ كما في حديث مسلم ـ : «رأيتما أبا بكر كاذباً آثماً غادراً خائناً ؛ ورأيتماني كاذباً آثماً غادراً

__________________

(١) صحيح البخاري ٤ / ١٨٠ ح ٣.

(٢) صحيح البخاري ٥ / ٢٠٧ ح ٧٨ وج ٧ / ١١٤ ح ٩٣.

٩٨

خائناً» (١)؟!

الخامس : إنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) لو سمع ذلك فلِمَ ترك بضعة الرسول أن تطالب بما لا حقّ لها فيه؟!

أأخفى ذلك عنها راضياً بأن تغصب مال المسلمين ، أو أعلمها فلم تُبالِ وَعَدتْ على ما ليس لها فيه حقّ ، فيكون الكتاب كاذباً أو غالطاً بشهادته لهما بالطهارة (٢)؟!

فلا مندوحة لمن صدّق الله وكتابه ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يقول بكذب هذه الأحاديث.

السادس : إنّه ذكر في حديث مسلم ـ ويعزُّ علَيَّ نقله ، وإنْ كان ناقل الكفر ليس بكافر ـ ، أنّ العبّاس قال لعمر : «اقضِ بيني وبين هذا الكاذب الآثم الغادر الخائن» (٣).

وهذا ممّا لا يتصوّر صدوره من العبّاس ؛ إذ كيف ينسب لعليّ الكذب والأثم والغدر والخيانة وهو يعلم أنّه نفس النبيّ الأمين (٤) ، وأنّ الله سبحانه شهد له بالطهارة؟!

__________________

(١) انظر : صحيح مسلم ٥ / ١٥٢.

(٢) بنصّ آية التطهير : (إنّما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيراً) سورة الأحزاب ٣٣ : ٣٣.

راجع مبحث الآية الكريمة في : ج ٤ / ٣٥١ ـ ٣٨٠ ، من هذا الكتاب.

(٣) صحيح مسلم ٥ / ١٥٢.

(٤) بنصّ آية المباهلة : (فمن حاجّك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندعُ أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثمّ نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين) سورة آل عمران ٣ : ٦١.

راجع مبحث الآية الكريمة في : ج ٤ / ٣٩٩ ـ ٤١٠ ، من هذا الكتاب.

٩٩

وكيف يسبه وقد علم أنّ من سبه سب الله ورسوله (١)؟!

اللّهمّ إلاّ أن يكون كافراً مخالفاً لِما عُلم وثبت بالضرورة! والعبّاس أجلّ قدراً وأعلى شأناً من ذلك ، فلا بُد أن يكون هذا القول مكذوباً على العبّاس من المنافقين الّذين يريدون سب الإمام الحقّ ، ووضعوا هذا الحديث لإصلاح حال أبي بكر وعمر من دون فهم ورويّة!

وأما حديث أبي هريرة ـ الذي استدلّ به الخصم ـ لعدم تفرّد أبي بكر ، فهو من الكذب المجمَع عليه ؛ لمخالفته لمذهبنا كما هو ظاهر ، ولمذهبهم ؛ لأنّهم يزعمون أنّ ما تركه النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) صدقةٌ كلُّه ، فلا وجهَ لاستثناء نفقة نسائه.

وليس هذا الكذب إلاّ من أبي هريرة ؛ تزلّفاً لأهل الخلاف بلا معرفة (٢).

__________________

(١) راجع تفصيل ذلك في : ج ٦ / ٤٣٢ هـ ٣ ، من هذا الكتاب.

(٢) نقول : إنّ علماء الجمهور ـ من المحدّثين والأُصوليّين والمتكلّمين ـ قد اتّفقوا على أنّ هذا الخبر قد تفرّد أبو بكر بروايته عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ؛ وتصريحهم بذلك هو ردٌّ ونقض لكلام أبي هريرة ، وفي ما يلي جملة من نصوص عباراتهم المشتملة على إقرارهم بذلك :

قال الحافظ السيوطي : «أخرج أبو القاسم البغوي وأبو بكر الشافعي في (فوائده) وابن عساكر ، عن عائشة ، قالت : اختلفوا في ميراثه (صلى الله عليه وسلم) ، فما وجدوا عند أحد من ذلك علماً ، فقال أبو بكر : سمعت رسول الله عليه الصلاة والسلام يقول : إنّا معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة».

وقال ابن حجر الهيتمي المكّي : «اختلفوا في ميراث النبيّ (صلى الله عليه وسلم) ، فما وجدوا عند أحد في ذلك علماً ، فقال أبو بكر : سمعت رسول الله ...».

وقال القاضي عضد الدين الإيجي : «يجب العمل بخبر الواحد العدل خلافاً للقاساني و ...

١٠٠