دلائل الصدق لنهج الحق - ج ٧

الشيخ محمد حسن المظفر

دلائل الصدق لنهج الحق - ج ٧

المؤلف:

الشيخ محمد حسن المظفر


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ دمشق
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ دمشق
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-360-8
الصفحات: ٦٠٠

ولو أعرضنا عن ذلك ، فقد كان يمكنهم منع بيعة الأنصار والاختلاف الناشئ منها بأن يقول عمر : لا تجوز البيعة من دون مشورة المسلمين ؛ لأنّها فلتةٌ يُخاف شرُّها ، فانتظروا ريثما نفرغ من جهاز النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ويجتمع المسلمون ، فإنّ لهم حقاً في الرأي.

أترى أنّ ذلك لا يُرضي الأنصار ، ولم يكن أقرّ لعيونهم من بيعة أبي بكر رغماً على سعد وقومه؟!

بل تأخيرها إلى الاجتماع هو المتعيّن ؛ لأنّ مسارعتهم إلى بيعة أبي بكر في حال طلب الأنصار بيعة سعد أَوْلى بخوف الفتنة وذهاب الإسلام.

ثمّ إنّ ما ذكره الخصم من زيغ القلوب عن الإسلام ، لا وجه له ؛ لأنّ مَن حضر المدينة عدول كلّهم عند السنة ، ومَن لم يحضرها لم تُعلم حالهم عند وفاة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ، والقسم الوافر منهم من الصحابة ، وهم عدول ..

فمن أين عَلِمَ الشيخان زيغ القلوب حتّى ينشأ من الاختلاف حينئذ ذهابُ الإسلام؟!

ولو تنزّلنا عن ذلك كلّه وقلنا بصحّة مسارعة عمر لبيعة أبي بكر ، فنهيه عن البيعة بعد موته من دون مشورة المسلمين خطأ ؛ لأنّ الحاجة حينئذ إلى المسارعة أشد ؛ لكثرة المسلمين ، وعدم تيسر اتّفاق آرائهم أو رؤسائهم ، فإذا وقعت البيعة لواحد وجب إتمامها على مذهب السنة ؛ لقولهم بانعقاد البيعة وثبوت الإمامة ولو بالواحد والاثنين (١).

ومنه تعلم أنّ إيجابَ عمرَ لضربِ عنقِ مَن يبايع فلتةٌ أُخرى ،

__________________

(١) انظر : تمهيد الأوائل : ٤٦٧ ـ ٤٦٨ ، غياث الأُمم : ٨٥ ـ ٨٩ ، المواقف : ٤٠٠ ، شرح المواقف ٨ / ٣٥٢.

وراجع : ج ٤ / ٢٦٠ وما بعدها ، من هذا الكتاب.

٤١

وحكمه بعدمِ انعقاد بيعته ظلمٌ له ، ومناف لقولهم بانعقادها ، ووجوبِ ضربِ عنقِ مَن نازعه ، ولزومِ الوفاءِ ببيعة الأوّل فالأوّل (١).

ولعمري ، إنّ من تأمّل الحقيقة ، ونظر بعين الإنصاف إلى تلك المسارعة في حال الاختلاف والنزاع الشديد بينهم وبين الأنصار ، عرف منهم عدم المبالاة بذهاب الإسلام في سبيل احتمال تحصيل الإمرة!

ثمّ إنّ الوجه في قول المصنّف لارتكاب أحدهما ما يوجب القتل ، ظاهر ؛ لأنّ حكم عمر بوجوب القتل وبطلان البيعة إنْ طابق الواقع ، كان أبو بكر مستوجبَ القتل غيرَ صحيح الإمامة ، وإلاّ كان عمر هو المستوجب للقتل ؛ لقوله تعالى : (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأُولئك هم الكافرون) (٢).

وحكمه ليس عن خطأ ، بل تبعٌ لهواه ، ولأنّه بايع أبا بكر على النحو الذي حكم هو بوجوب قتل المبايع!

__________________

(١) قوله (قدس سره) : «ووجوبِ ضربِ عنقِ ...» معطوفٌ على قوله : «بانعقادها» ؛ والمعنى : أنّ الحكم بعدم انعقاد البيعة فيه ظلم ومنافاة بين قولهم الأوّل بعدم الانعقاد ، وبين قولهم الثاني بالانعقاد ووجوب ضرب عنق من ينازع ولزوم الوفاء بالبيعة.

(٢) سورة المائدة ٥ : ٤٤.

٤٢

قول أبي بكر : أقيلوني

قال المصنّف ـ أعلى الله مقامه ـ (١) :

ومنها : قول أبي بكر : «أقيلوني! فلستُ بخيركم ، (٢) وعليٌّ فيكم» (٣).

فإنْ كان صادقاً لم يصلح للإمامة ، وإلاّ لم يصلح لها أيضاً!

__________________

(١) نهج الحقّ : ٢٦٤.

(٢) جاء في المصدر هنا عبارة : «وزِيْد في بعض الأخبار : ...».

(٣) لم ينكر ابن روزبهان ذيل الكلام ، وقد ورد الخبر بتمامه في : الصراط المستقيم ٢ / ٢٩٤ نقلا عن الطبري في تاريخه ، والبلاذري في «أنساب الأشراف» ، والسمعاني في «الفضائل» ، وأبي عبيدة ؛ فلاحظ!

كما ورد بدون جملة «وعليٌّ فيكم» بألفاظ متقاربة في : الإمامة والسياسة : ٣١ ، أنساب الأشراف ٢ / ٢٧٠ ، سرّ العالمين ـ المطبوع ضمن مجموعة رسائل الغزّالي ـ : ٤٥٣ ، تاريخ دمشق ٣٠ / ٣٠٦ ، شرح نهج البلاغة ١٦٨ ـ ١٦٩ ، الرياض النضرة ١ / ٢٥٢ ، الصواعق المحرقة : ٧٦ الشبهة ١٤.

٤٣

وقال الفضل (١) :

إنْ صحّ هذا ، فهو من باب التواضع وتأليف قلوب التابعين ، وحقّ الإمام أن لا يُفضل نفسه على الرعيّة ولا يتكبّر عليهم.

وقد قيل : إنّه قال هذا بعدما شكا بعض أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) استئثاره للخلافة من غير انتظار لحضورهم ، فقال : أقيلوني ، فإنّي لا أُريد الخلافة ، وليس هي عندي شيء لا أقدر على طرحها ؛ وهذا من باب الاستظهار بترك الإيالة (٢) والحكومة.

كما روي أنّ أمير المؤمنين كان يقول : لا تسوي الخلافة عندي نعلا مخصوفاً (٣).

ومن حمل من أمثال هذه الكلام على خلاف ما ذكرناه وجعلها من المطاعن ، فهو جاهل بعرف الكلام.

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن «إحقاق الحقّ» ـ : ٤٩٢ الطبعة الحجرية.

(٢) الإيالة : السياسة ؛ انظر مادّة «أول» في : الصحاح ٤ / ١٦٢٨ ، لسان العرب ١ / ٢٦٥.

(٣) انظر : الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد ١ / ٢٤٧ ، نهج البلاغة : ٧٦ الخطبة رقم ٣٣.

٤٤

وأقول :

تشكيكه في صحّة الرواية مناف لِما سيأتي منه من ثبوت القول المذكور في الصحاح (١) ، فقد حكاه عنها عند جوابه عن قول المصنّف : «ومنها : إنّه طلب هو وعمر إحراق بيت أمير المؤمنين (عليه السلام)» (٢).

وقد روى نصير الدين (رحمه الله) في «التجريد» استقالة أبي بكر باللفظ الذي ذكره المصنّف (رحمه الله) ، ولم يناقش القوشجي في «الشرح» بصحّتها (٣).

ورواها أبو عبد الله القاسم ، مصنّف كتاب «الأموال» ، كما نقل السيّد السعيد عنه (٤).

وروى أيضاً استقالته جماعةٌ ..

منهم : ابن قتيبة في كتاب «الإمامة والسياسة» ، لكن لم يذكر إلاّ قوله : «أقلتُكم بيعتي» (٥) أو : «أقيلوني بيعتي» (٦).

ومنهم : أبو نُعيم ، كما حكاه عنه في كتاب الخلافة من «كنز العمال» (٧) ، ولفظه هكذا : «هي لكم ردٌّ ، ولا بيعةَ لكم عندي».

__________________

(١) سيأتي في الصفحة ١٣٩ ، من هذا الجزء.

(٢) سيأتي في الصفحة ١٣٢ ، من هذا الجزء.

(٣) تجريد الاعتقاد : ٢٤٤ ، شرح التجريد : ٤٨٠.

(٤) إحقاق الحقّ : ٤٩٣ الطبعة الحجرية ؛ وانظر : الأموال : ١٢ ح ٨ و ٩.

(٥) الإمامة والسياسة ١ / ٣٣.

(٦) الإمامة والسياسة ١ / ٣١.

(٧) ص ١٣٢ من الجزء الثالث [٥ / ٦١٥ ح ١٤٠٨١]. منه (قدس سره).

وانظر : فضائل الخلفاء الأربعة ـ لأبي نُعيم ـ : ١٥٥ ح ١٩٤.

٤٥

ومنهم : الطبراني في «الأوسط» ، كما حكاه عنه في «الكنز» أيضاً (١) ، ولفظه : «قد أقلتُكم رأيكم ، إنّي لستُ بخيركم».

ومنهم : العشاري ، كما نقله عنه في «الكنز» أيضاً (٢) ، ولفظه : «قد أقلتُكم بيعتكم».

وقال ابن أبي الحديد (٣) ، في شرح قول أمير المؤمنين (عليه السلام) من الخطبة الشقشقيّة : «فيا عجباً! بينما هو يستقيلها في حياته إذ عقدها لآخر بعد وفاته» ..

قال : «اختلف الرواة في هذه اللفظة ، فكثير من الناس رواها : أقيلوني! فلستُ بخيركم».

وذكرها ابن أبي الحديد أيضاً (٤) ، في ما دار بين السيّد المرتضى وقاضي القضاة.

والإشكال فيها من وجهين :

الأوّل : في أصل استقالته.

الثاني : في قوله : «لستُ بخيركم».

أمّا الأوّل :

فقد ذكره المصنّف في «منهاج الكرامة» ، قال : «لو كان إماماً لم يجز

__________________

(١) ص ١٣٥ ج ٣ [٥ / ٦٣١ ح ١٤١١٢]. منه (قدس سره).

وانظر : المعجم الأوسط ٨ / ٣١٦ ح ٨٥٩٧.

(٢) ص ١٤١ ج ٣ [٥ / ٦٥٦ ـ ٦٥٧ ح ١٤١٥٤]. منه (قدس سره).

(٣) ص ٥٦ من المجلّد الأوّل [١ / ١٦٩]. منه (قدس سره).

(٤) ص ١٦٦ ج ٤ [١٧ / ١٥٥ و ١٥٨]. منه (قدس سره).

وانظر : المغني ٢٠ ق ١ / ٣٣٨ ، الشافي ٤ / ١٢٠ و ١٢١.

٤٦

له طلب الإقالة» (١).

وحكاه قاضي القضاة عن الشيعة ، كما ذكره ابن أبي الحديد في المقام الأخير (٢).

وأجاب عنه القاضي وغيره من أصحابه بما حاصله ، أنّه لبيان الزهد في الإمارة (٣).

وأجاب أيضاً ابن أبي الحديد عنه بمنع عدم جواز الاستقالة بناءً على أنّ الإمامة بالاختيار (٤).

ويرد على الأوّل : إنّه خلاف الظاهر ، فلا يُصار إليه بغير دليل ، كيف؟! وقد علّل استقالته بما يقضي بعدم إمامته ؛ وهو قوله : «لستُ بخيركم» ، فلا يتّجه حمله على الزهد فيها!

وحينئذ فلا يقاس على كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) الصريح بالزهد فيها.

ويرد على الثاني : إنّ البناء على الاختيار إنّما هو في أصل انعقادها ، فإلحاق الحلّ به ممّا لا دليل عليه ، بل مخالف لقوله تعالى : (أَوفوا بالعقود) (٥) ونحوه (٦).

__________________

(١) منهاج الكرامة : ١٨٠.

(٢) شرح نهج البلاغة ١٧ / ١٥٥.

(٣) المغني ٢٠ ق ١ / ٣٣٨ ـ ٣٣٩.

(٤) شرح نهج البلاغة ١٧ / ١٦٣.

(٥) سورة المائدة ٥ : ١.

(٦) كقوله تعالى : (وأَوْفوا بالعهد) سورة الإسراء ١٧ : ٣٤.

وقوله تعالى : (أَوْفوا بعهد الله إذا عاهدتم) سورة النحل ١٦ : ٩١.

وقوله تعالى : (والموفون بعهدهم إذا عاهدوا) سورة البقرة ٢ : ١٧٧.

٤٧

وأمّا الإشكال الثاني :

فهو الذي ذكره المصنّف هنا ، وحاصله :

إنّ أبا بكر إنْ كان صادقاً في أنّه ليس خيرهم ، لم يصلح للإمامة ؛ لاشتراطها بالأفضلية ، كما يقتضيه تعليل أبي بكر لاستقالته بنفي خيريّته.

وإنْ كان كاذباً لم يصلح لها أيضاً ؛ إذ لا أقلَّ من منافاة الكذب للعدالة التي هي شرط الإمامة عندهم ؛ لأنّ الكذب من الكبائر.

وأجاب ابن أبي الحديد باختيار الشقّ الأوّل ، وأنّه يجوز تقديم المفضول على الفاضل (١).

وفيه ـ مع ما حقّقناه في ما سبق من اشتراط الأفضلية (٢) ـ : إنّه مناف لتعليل أبي بكر لاستقالته بنفي خيريّته.

وأجاب بعضهم باختيار الشقّ الثاني على أن يكون كذباً في الظاهر مقصود به التواضع ، وهو لا ينافي العدالة ؛ لعدم حرمته مع هذا القصد (٣).

وفيه ـ مع عدم الدليل عليه ـ : إنّه مناف للحلف على عدم خيريّته في رواية الهروي وابن راهويه عن الحسن ، كما حكيناه عن «الكنز» قريباً ..

قال الحسن : إنّ أبا بكر خطب فقال : «أَمَا والله ما أنا بخيركم» (٤) .. الحديث.

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ١ / ٣ و ١٦٩.

(٢) راجع : ج ٤ / ٢٣٧ ـ ٢٤٠ ، من هذا الكتاب.

(٣) كالقوشجي في شرح تجريد الاعتقاد : ٤٨٠.

(٤) كنز العمّال ٥ / ٥٨٩ ـ ٥٩٠ ح ١٤٠٥٠ ؛ وراجع : الصفحة ٢٦ من هذا الجزء.

٤٨

وكيف يُحمل على التواضع وقد قال في بعض الأخبار : «وعليٌّ فيكم»؟!

فإنّ عليا (عليه السلام) إنْ لم يكن معلومَ الفضل عليه ، فلا أقلّ من كونه محلَّ الشكّ ، فكيف يُصرف إلى التواضع؟!

والظاهر أنّه إنّما نصّ على عليّ (عليه السلام) عند استقالته ونفي خيريّته ؛ لأنّه يريد تهييج الرأي العامّ على أمير المؤمنين (عليه السلام) ، وتحريض أعوانه عليه ليبلغ أحد الأمرين :

إمّا انفراد عليّ (عليه السلام) ، أو قتله ؛ فيأمَن بذلك على مستقبله.

ثمّ إنّ إقراره بأنّه ليس بخيرهم لا يختصّ بمقام الاستقالة ، بل أقرّ به في مقام آخر ..

فإنّه خطب بأوّل ولايته فقال : «وُلِّيتُ عليكم ولستُ بخيركم» ، كما رواه الطبري في «تاريخه» (١) ، وابن الأثير في «كامله» (٢).

وحكاه في «كنز العمال» (٣) ، عن البيهقي ، عن الحسن.

وعن ابن إسحاق في «السيرة» (٤) ، عن أنس ؛ وقال : ابن كثير : «إسناده صحيح».

__________________

(١) ص ٢٠٣ من الجزء الثالث [٢ / ٢٣٧ ـ ٢٣٨]. منه (قدس سره).

وانظر : أنساب الأشراف ٢ / ٢٧٣ و ٢٧٤ ، الفتوح ـ لابن أعثم ـ ١ / ١٤ ، المنتظم ٣ / ١٧ ، البداية والنهاية ٥ / ١٨٨ و ١٨٩ ، تاريخ الخلفاء : ٨٢ و ٨٤.

(٢) ص ١٦٠ من الجزء الثاني [٢ / ١٩٤]. منه (قدس سره).

(٣) ص ١٢٨ ج ٣ [٥ / ٥٩٩ ـ ٦٠٠ ح ١٤٠٦٢]. منه (قدس سره).

وانظر : السنن الكبرى ـ للبيهقي ـ ٦ / ٣٥٣.

(٤) ص ١٢٩ ج ٣ [٥ / ٦٠٠ ـ ٦٠١ ح ١٤٠٦٤]. منه (قدس سره).

وانظر : السيرة النبويّة ـ لابن هشام ـ ٦ / ٨٢ ، السيرة النبويّة ـ لابن كثير ـ ٤ / ٤٩٣.

٤٩

وعن ابن سعد ، والخطيب ، والمحاملي في «أماليه» ، عن عروة (١).

وعن الهروي ، عن قيس بن أبي حازم (٢).

ونقله في «الصواعق» (٣) ، عن الخطيب ، وابن سعد أيضاً.

__________________

(١) ص ١٣٠ ج ٣ [٥ / ٦٠٧ ـ ٦٠٨ ح ١٤٠٧٣]. منه (قدس سره).

وانظر : الطبقات الكبرى ـ لابن سعد ـ ٣ / ١٣٦ ، السيرة النبوية ـ لابن هشام ـ ٦ / ٨٢ ، تثبيت الإمامة : ١٠٢ ذ ح ١٠٢ ، الفصل في الملل والأهواء والنحل ٣ / ٥٧ ، الرياض النضرة ١ / ٢٥٤ ، السيرة النبوية ـ لابن كثير ـ ٤ / ٤٩٣.

(٢) ص ١٣٦ ج ٣ [٥ / ٦٣٦ ح ١٤١١٨]. منه (قدس سره).

(٣) في الفصل الأوّل من الباب الأوّل [ص ٢٢]. منه (قدس سره).

وانظر : الطبقات الكبرى ـ لابن سعد ـ ٣ / ١٣٦.

٥٠

تشكيك أبي بكر

في حقّ الأنصار بالخلافة

قال المصنّف ـ طاب ثراه ـ (١) :

ومنها : قوله عند موته : «ليتني كنت سألت رسول الله هل للأنصار في هذا الأمر حق؟» (٢).

وهذا شكٌّ في صحّة ما كان عليه وبطلانه ، وهو الذي دفع الأنصار لمّا قالوا : «منّا أمير ومنكم أمير» بقوله : «الأئمة في قريش» (٣).

فإن كان الذي رواه حقاً ، فكيف حصل له الشكّ؟! وإلاّ فقد دفع بالباطل!

__________________

(١) نهج الحقّ : ٢٦٥.

(٢) انظر : المعجم الكبير ١ / ٦٢ ـ ٦٣ ح ٤٣ ، مروج الذهب ٢ / ٣٠٢ ، المغني ٢٠ ق ١ / ٣٤٠ ، تاريخ دمشق ٣٠ / ٤١٨ و ٤٢٠ و ٤٢٢ و ٤٢٣ ، شرح نهج البلاغة ١٢ / ٢٦٣ وج ١٧ / ١٦٤ ، الخلفاء الراشدون ـ للذهبي ـ : ٧٣ ، ميزان الاعتدال ٥ / ١٣٦ رقم ٥٧٦٩ ، مجمع الزوائد ٥ / ٢٠٣.

(٣) الأخبار الموفّقيّات : ٤٧٢ و ٤٧٣ ، أنساب الأشراف ٢ / ٢٦٣ ـ ٢٦٤ و ٢٦٦ ، تاريخ الطبري ٢ / ٢٣٣ و ٢٣٤ و ٢٤٢ ، العقد الفريد ٣ / ٢٧١ ـ ٢٧٢ ، تاريخ دمشق ٣٠ / ٢٨٦ ، شرح نهج البلاغة ٦ / ٣٠ و ٣٨ ، المواقف : ٤٠١ ، البداية والنهاية ٥ / ١٨٦ ـ ١٨٨ ، السيرة الحلبية ٣ / ٤٨٠ ـ ٤٨١.

٥١

وقال الفضل (١) :

إنْ صحّ هذا فمن باب الاحتياط وزيادة الإيقان ، وأنّه لمّا دفع الأنصار عن الخلافة كان تقواه تدعو إلى طلب النصّ.

فأمّا حديث : «الأئمّة في قريش» فلم يروه أبو بكر ، بل رواه غيره من الصحابة ، وكان هو لا يعتمد على خبر الواحد ، وكان تمنّى أن يسمع هو بنفسه عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عدم حقّية الأنصار في الخلافة.

وهذا من غاية تقواه وحرصه على زيادة العلم والإيقان.

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن «إحقاق الحقّ» ـ : ٤٩٤ الطبعة الحجرية.

٥٢

وأقول :

روى الطبري من طريقين (١) ، أنّ أبا بكر قال في مرض موته :

«لا آسى على شيء من الدنيا إلاّ على ثلاث فعلتُهنّ ووددت أنّي تركتُهنّ ، وثلاث تركتُهنّ ووددت أنّي فعلتُهنّ ، وثلاث وددتُ أنّي سألتُ عنهن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ..

فأمّا الثلاث التي وددتُ أنّي تركتُهنّ : فوددتُ أنّي لم أكشف بيت فاطمة عن شيء وإن كانوا قد أغلقوه على الحرب.

ووددتُ أنّي يوم السقيفة كنتُ قذفتُ الأمر في عنق أحد الرجلين ـ يريد عمر وأبا عبيدة ـ ، فكان أحدهما أميراً وكنتُ وزيراً.

إلى أن قال : ووددتُ أنّي سألتُ رسول الله لمن هذا الأمر؟ فلا ينازعه أحد (٢).

ووددتُ أنّي سألتُه : هل للأنصار في هذا الأمر نصيب؟

ووددتُ أنّي كنتُ سألتُه عن ميراث ابنة الأخ والعمة ، فإنّ في نفسي منها شيئاً.

ونحوه في «الإمامة والسياسة» (٣) ..

__________________

(١) ص ٥٢ من الجزء الرابع [تاريخ الطبري ٢ / ٣٥٣ ـ ٣٥٤]. منه (قدس سره).

(٢) نقول : وا عجباً!! كيف يُصدق في قوله هذا وقد بايع الإمام عليا (عليه السلام) يوم غدير خمّ؟!

راجع : ج ١ / ١٩ ـ ٢١ ، من هذا الكتاب.

(٣) الإمامة والسياسة ١ / ٣٦ ـ ٣٧.

٥٣

و «العقد الفريد» (١).

وكذا في «كنز العمال» (٢) ، عن أبي عبيد في كتاب «الأموال» ، والعقيلي ، وخيثمة بن سليمان الطرابلسي ، والطبراني ، وابن عساكر ، وسعيد بن منصور ، قال : «وقال : إنّه حديث حسن».

فأنت تراه صريحاً في الشكّ والشبهة ؛ لتمنّيه السؤال وقوله : «إنّ في نفسي منها شيئاً».

وحمله على زيادة الإيقان يحتاج إلى صارف قويّ ، وهو مفقود.

فإن قلت : لا يصحّ حمل كلامه على الشكّ في خلافته ؛ إذ لا قائل بأنّ الخلافة مقصورة على الأنصار ؛ وإنّما الكلام في أنّها مخصوصة بقريش ، أو هي فوضى ، فتكون خلافته على كلا الأمرين صحيحة ولا يتصوّر الشكّ فيها.

هذا محصل كلام ابن أبي الحديد (٣).

قلت : أصل الشكّ متعلّق بجهة دفعه للأنصار ، وهو يحصل على تقدير القول بأنّها فوضى ، ولا يتوقّف على القول باختصاصها بالأنصار.

فإذا شكّ في صحّة دفعه لهم ، كان شاكاً في صحّة خلافته ؛ لأنّها فرعٌ عن صحة دفع الأنصار.

__________________

(١) ص ٦٨ ج ٣ [٣ / ٢٧٩ ـ ٢٨٠ استخلاف أبي بكر لعمر]. منه (قدس سره).

(٢) ص ١٣٥ ج ٣ [٥ / ٦٣١ ـ ٦٣٣ ح ١٤١١٣]. منه (قدس سره).

وانظر : المعجم الكبير ١ / ٦٢ ـ ٦٣ ح ٤٣ ، كتاب الأموال : ١٧٤ ح ٣٥٣ ، الضعفاء الكبير ـ للعقيلي ـ ٣ / ٤٢١ ضمن رقم ١٤٦١ ترجمة علوان بن داود البَجلي ، تاريخ دمشق ٣٠ / ٤١٧ ـ ٤٢٣.

(٣) شرح نهج البلاغة ١٧ / ١٦٧.

٥٤

ومن السخف قول الخصم : «و [أنّه] لمّا دفع الأنصار عن الخلافة كان تقواه تدعو إلى طلب النصّ» ؛ فإنّ من تدعوه تقواه إلى طلب النصّ ويتشوّق إلى معرفته ، كيف لا تدعوه إلى التوقّف عن الخلافة حدوثاً واستمراراً ، وعن تعيين عمر بعده؟!

وأمّا ما ذكره مِن أنّ حديث : «الأئمّة من قريش» لم يروه أبو بكر ..

فصحيح ؛ إذ لم يروه هو ولا غيره يوم السقيفة ، وإنّما قالوا : «إنّ قريشاً عشيرة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ، والعرب لا تطيع سواهم ، ولا يصلح هذا الأمر إلاّ لقريش ؛ أو نحو ذلك ، من دون أن يرووه عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، كما سبق بيانه في المبحث الثالث من مباحث الإمامة (١).

لكن لا ريب أنّ أبا بكر وأعوانه دفعوا الأنصار بشيء ، فإنْ كان حقاً فكيف حصل الشكّ؟!

وإنْ كان باطلا ، فقد دفع بالباطل ، كما ذكره المصنّف (رحمه الله).

ودعوى عروض الشكّ له أخيراً في ما كان يراه حقاً تستدعي أن لا يستمرّ على الخلافة ، وأن لا يعقدها لعمرَ بعده.

وأمّا قوله : «وكان هو لا يعتمد على خبر الواحد» ..

فهو أَوْلى بتقريع أبي بكر ، فإنّه اعتمد على ما ليس حجّةً ، ودفع الأنصار عن دعواهم بلا برهان!

__________________

(١) راجع : ج ٤ / ٢٦٩ ـ ٢٧٠ ، من هذا الكتاب.

٥٥

تمنّيات أبي بكر

قال المصنّف ـ طيّب الله رمسه ـ (١) :

ومنها : قوله في مرضه : «ليتني كنت تركت بيت فاطمة لم أكشفه.

وليتني في ظلّة بني ساعدة كنت ضربت يدي على يد أحد الرجلين ، فكان هو الأمير ، وكنتُ الوزير» (٢).

__________________

(١) نهج الحقّ : ٢٦٥.

(٢) المعجم الكبير ١ / ٦٢ ح ٤٣ ، الأموال ـ لأبي عبيد ـ : ١٧٤ ح ٣٥٣ ، تاريخ الطبري ٢ / ٣٥٣ حوادث سنة ١٣ هـ ، الإمامة والسياسة ١ / ٣٦ ، العقد الفريد ٣ / ٢٧٩ و ٢٨٠ ، مروج الذهب ٢ / ٣٠١ ـ ٣٠٢ ، تاريخ دمشق ٣٠ / ٤١٨ و ٤٢٠ ـ ٤٢٣ ، شرح نهج البلاغة ٢ / ٤٦ ـ ٤٧ وج ٦ / ٥١ وج ١٧ / ١٦٤ ، ميزان الاعتدال ٥ / ١٣٥ رقم ٥٧٦٩ ترجمة علوان بن داود البجلي ، كنز العمّال ٥ / ٦٣٢ ـ ٦٣٣ ح ١٤١١٣ ، مجمع الزوائد ٥ / ٢٠٣.

نقول : أما ابنُ تيميّة فإنّه لم ينفِ هجوم القوم على بيت فاطمة الزهراء (عليها السلام) واعتداءهم عليها وعلى مَن في الدار ، إلاّ أنّه برّر ذلك بعذر ساقط بلا حياء ، فقال : «إنّه كبس البيت لينظر هل فيه شيء من مال الله الذي يقسمه ، وأن يعطيه لمستحقّه ، ثمّ رأى أنّه لو تركه لهم لجاز ، فإنّه يجوز أن يعطيهم من مال الفيء»!

انظر : منهاج السنة ٨ / ٢٩١.

٥٦

وقال الفضل (١) :

إنْ صحّ هذا فهو من باب التبرّي عن الإيالة والخلافة ، كما هو دأب العارفين بالله ، ويكون تحذيراً لمن يأتي بعده ؛ ليعلموا أنّ أمر الخلافة صعب ، ولا يطمع فيه كلّ مهَوَّس (٢) ، وهذا من باب الشفقة على الأُمّة ، سيّما الخلفاء وأرباب الرايات ، ولا يُتصوّر فيه طعن.

وأمّا ما ذكره من كشف بيت فاطمة ، فلم يصحّ بهذا رواية قطعاً.

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن «إحقاق الحقّ» ـ : ٤٩٤ الطبعة الحجرية.

(٢) الهَوْسُ : الإفساد ؛ والهَوَسُ : طرَفٌ من الجنون ، وهو مهَوَّسٌ ـ كمعظَّم ـ أي برأسه دورانٌ ودويّ ، وقد يطلق على الذي به المالِخُولْيا والوساوس ، وهو المراد به هنا ؛ انظر مادّة «هوس» في : لسان العرب ١٥ / ١٥٩ ، تاج العروس ٩ / ٤٦ ـ ٤٧.

٥٧

وأقول :

كونه من باب التبرّي عن الإيالة غير صحيح ، وإلاّ لَما تمنّى منصباً آخر ، ولا سيّما ما هو قريب من الإمامة ، وهو الوزارة.

بل يدلّ على صعوبة أمر الخلافة عليه فتمنّى أنّه لم يتولّها ، كما فهمه قاضي القضاة ، ولكن قال : «لا ذمّ على أبي بكر فيه ؛ فإنّ من اشتدّ عليه التكليف فهو يتمنّى خلافه» (١).

واعترض عليه السيّد المرتضى (رحمه الله) بأنّ ولاية أبي بكر إذا كانت هي التي اقتضاها الدين والنظر للمسلمين في تلك الحال ، وما عداها كان مفسدة ومؤدّياً إلى الفتنة ، فالتمنّي لخلافها لا يكون إلاّ قبيحاً (٢).

وأجاب عنه ابن أبي الحديد (٣) بأنّ أبا بكر ما تمنّى أن يكون الإمام غيره مع استلزام ذلك للمفسدة ، بل تمنّى أن يليَ الأمر غيره وتكون المصلحة بحالها.

وأقول :

يَرِدُ عليه : إنّ التقييد بأن تكون المصلحة بحالها غير مفهوم من كلام أبي بكر ، وإنّما تمنّى أن يقذف الأمر بعنق أحد الرجلين على الحال

__________________

(١) انظر : المغني ٢٠ ق ١ / ٣٤١ ، شرح نهج البلاغة ١٧ / ١٦٥.

(٢) انظر : الشافي ٤ / ١٣٩ ـ ١٤٠ ، شرح نهج البلاغة ١٧ / ١٦٦.

(٣) ص ١٧٠ من المجلّد الرابع [١٧ / ١٦٨]. منه (قدس سره).

٥٨

نفسها يوم السقيفة ؛ فيتمّ اعتراض المرتضى (رحمه الله).

وأما قول الخصم : «وهذا من باب الشفقة على الأُمّة ، سيّما الخلفاء وأرباب الرايات» ..

فباطل ؛ لأنّ من يريد تحذير هؤلاء ويشفق عليهم لا يختار الوزارة التي هي أقرب المناصب إلى الخلافة ، بل يختار العزلة.

وأمّا كشف بيت فاطمة (عليها السلام) ، فقد عرفت في المطلب السابق رواية الجماعة له (١) ، وسيأتي تفصيله قريباً إن شاء الله تعالى (٢).

__________________

(١) راجع ما تقدّم قريباً في الصفحات ٥٣ ـ ٥٤ ، وانظر كذلك ما مرّ آنفاً في الصفحة ٥٦ هـ ٢ ، وذكرنا فيه اعتراف ابن تيميّة بذلك ، فكيف يشكّ في ذلك؟!

(٢) سيأتي في مبحث : طلب إحراق بيت عليّ (عليه السلام) ، في الصفحات ١٣٢ ـ ١٧٧ ، من هذا الجزء ؛ فراجع!

٥٩

أبو بكر لم يُوَلَّ شيئاً من الأعمال

قال المصنّف ـ أعلى الله مقامه ـ (١) :

ومنها : إنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يولّهِ شيئاً من الأعمال وولّى غيره ، وأنفذه لأداء سورة براءة ثمّ ردّه (٢).

فمن لم يُستصلَح لأداء آيات ، كيف يُستصلَح للرئاسة العامة المتضمنة لأداء الأحكام إلى عموم الرعايا في سائر البلاد؟!

__________________

(١) نهج الحقّ : ٢٦٥.

(٢) انظر : ج ٦ / ٦١ و ٦٦ ، من هذا الكتاب.

٦٠