دلائل الصدق لنهج الحق - ج ٧

الشيخ محمد حسن المظفر

دلائل الصدق لنهج الحق - ج ٧

المؤلف:

الشيخ محمد حسن المظفر


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ دمشق
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ دمشق
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-360-8
الصفحات: ٦٠٠

وقيام شهر رمضان أيّامَ الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ثابتٌ عندنا ، لكن على سبيل الانفراد ، وإنّما أنكرنا الاجتماع على ذلك ، ومدّعيه مكابرٌ ؛ لم يقل به أحد ، ولو كان كذلك لم يقل عمر : إنّها بدعة.

فهذه البدع بعض ما رواه الجمهور ، فإنْ كانوا صادقين في هذه الروايات ، فكيف يجوز الاقتداء بمن طُعن فيه بهذه المطاعن؟!

وإن كانوا كاذبين ، فالذنب لهم والوزر عليهم ، وعلى مَن يقلّدهم ، حيث عَرفَ كذبَهم ونَسب رواياتهم إلى الصحّة ، وجعلوها واسطة بينهم وبين الله تعالى.

٣٦١

وقال الفضل (١) :

ذكر من مطاعنه في هذا الفصل ثلاثة أشياء :

الأوّل : إنّه أبدع في الدين ما لا يجوز ؛ مثل التراويح ؛ والجماعةُ إنّما تكون في الفريضة.

فنقول : قد ثبت في «الصحاح» ، عن زيد بن ثابت : «أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) اتّخذ حجرة في المسجد من حصير ، فصلّى فيها ليالي حتّى اجتمع إليه ناس ، ثمّ فقدوا صوته ليلة ، وظنّوا أنّه قد نام ، فجعل بعضهم يتنحنح ليخرج إليهم ، فقال : ما زال بكم والذي (٢) رأيتُ من صنيعكم حتّى خشيت أن يُكتب عليكم ، ولو كُتب عليكم ما قمتم به ، فصلّوا ـ أيّها الناس ـ في بيوتكم ؛ فإنّ أفضل صلاة المرء في بيته إلاّ الصلاةُ المكتوبةُ» (٣).

وعن أبي هريرة ، قال : «كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يُرغِّب في قيام رمضان من غير أن يأمرهم فيه بعزيمة ، فيقول : من قام رمضان إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدّم من ذنبه.

فتوفّي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والأمر على ذلك ، ثمّ كان الأمر على ذلك

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن «إحقاق الحقّ» ـ : ٥٥٥ الطبعة الحجرية.

(٢) كذا في الأصل وإحقاق الحقّ ، وفي المصادر التي نقلت الخبر : «الذي» بدون واو ؛ ويبدو أنّ إثباتها من أغلاط ابن روزبهان ؛ وعلى فرض وجودها ، فيمكن تقدير الجملة هكذا مثلا : «ما زال بكم هذا الأمر ، والذي رأيتُ من صنيعكم» ؛ فلاحظ!

(٣) صحيح البخاري ٨ / ٥٢ ذ ح ١٣٧ ، مسند أحمد ٥ / ١٨٢ ، سنن النسائي ٣ / ١٩٨ ، السنن الكبرى ـ للبيهقي ـ ٢ / ٤٩٤ وج ٣ / ١٠٩.

٣٦٢

في خلافة أبي بكر وصدراً من خلافة عمر» (١).

وعن أبي ذرّ ، قال : «صمنا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فلم يقم بنا شيئاً من الشهر حتّى بقي سبع ، فقام بنا حتّى ذهب شطر الليل ، فقلت : يا رسول الله! لو نفلتنا قيامَ هذه الليلة؟

فقال : إنّ الرجل إذا صلّى مع الإمام حتّى ينصرف حُسب له قيامُ ليلة.

فلمّا كانت الرابعة ، لم يقم حتّى بقي ثلث الليل ، فلمّا كانت الثالثة جمع أهله ونساءه والناس ، فقام بنا حتّى خشينا أن يفوتنا الفلاح ـ يعني : السحور ـ ثمّ لم يقم بنا بقيّة الشهر» (٢).

هذه الأخبار كلّها في «الصحاح» ، وهذا يدلّ على أنّ رسول الله كان يصلّي التراويح بالجماعة أحياناً ، ولم يداوم عليها ؛ مخافة أن تُفرض على المسلمين فلم يطيقوا ، فلمّا انتهى هذه المخافة جمعهم عمر وصلّى التراويح.

وأمّا قوله : «اعترف بأنّها بدعة ، وكلّ بدعة ضلالة» ..

فنقول : البدعة قد تقال ويراد بها : ما ابتُدِع من الأعمال التي لم يكن خصوصها في زمان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وإن كانت موافقةً للقواعد ، مأخوذةً من الأُصول الشرعيّة التي تقرّر في زمانه.

مثلا : عمل المؤذّن (٣) بدعة مستحبّة ـ وإن لم يكن في زمن

__________________

(١) سنن الترمذي ٣ / ١٧١ ح ٨٠٨ ، سنن أبي داود ٢ / ٥٠ ح ١٣٧١ ، سنن النسائي ٤ / ١٥٤ ـ ١٥٥ ، السنن الكبرى ـ للبيهقي ـ ٢ / ٤٩٢ و ٤٩٣.

(٢) انظر : سنن ابن ماجة ١ / ٤٢٠ ح ١٣٢٧ ، سنن الترمذي ٣ / ١٦٩ ح ٨٠٦ ، سنن أبي داود ٢ / ٥١ ح ١٣٧٥ ، سنن النسائي ٣ / ٨٣ ـ ٨٤ ، مسند أحمد ٥ / ١٦٣.

(٣) كذا في الأصل ، وفي إحقاق الحقّ : الماذن.

٣٦٣

رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ؛ لأنّ أصله ـ وهو الإعلان بالأذان وتشهيره ـ مأخوذٌ من استحباب الشرع ، وموافقٌ للأُصول الدينية.

وهذه البدعة قد تكون مستحبّة ، وقد تكون مباحة ، كما صرّح به العلماء (١).

فقول عمر : «بدعةٌ ونِعْمَتِ البدعةُ» ؛ أراد به : أنّه لم يتقرّر أمرها في زمان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وهذا لا ينافي كونها معمولة في بعض الأوقات ، فاندفع اعتراضُ المرتضى عن قاضي القضاة.

وأمّا ما ذكره من أنّ أمير المؤمنين منعه في أيّام خلافته في الكوفة ، فإن صحّ جازَ أن يؤدّي اجتهاده إلى المنع ؛ لأنّ المقام مقام الاجتهاد ، ولا اعتراض على المجتهد إذا خالف مجتهداً آخر.

الثاني : إنّه أبدع وَضْعَ الخراج ، ورسولُ الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يضعِ الخراجَ.

والجواب : إنّ الخراج إنّما يوضَع على الأراضي التي فُتحت صُلحاً ، ولم يُفتح في زمان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مدينة من المدائن صلحاً ، بل أسلم أهلها ، أو فُتح عنوةً ، فلهذا لم يوضع الخراج ، ولم يتقرّر أمره.

ثمّ لمّا فتح بلاد كسرى ـ وكان عمل الملوك فيها الخراج ـ اقتضى رأيه الخراج ، فشاور الأصحاب وأجمعوا عليه ، فعمل بالخراج ؛ للإجماع.

وكان أمير المؤمنين من أهل ذلك الإجماع ، ولم يقدر أحد أن يروي أنّ أمير المؤمنين اعترض على عمر في وضع الخراج ، بل رضي به ، ولو كان غيرَ صالح لكان يعترض عليه ، كما اعترض عليه في حدّ الحامل (٢) ،

__________________

(١) انظر : النهاية في غريب الحديث والأثر ١ / ١٠٦ ـ ١٠٧ مادّة «بدع» ، إرشاد الساري ٤ / ٦٥٦ ـ ٦٥٧.

(٢) تقدّم تخريجه مفصلا في الصفحة ٢١٤ هـ ٢ ، من هذا الجزء ؛ فراجع!

٣٦٤

والمجنون (١).

وأيضاً عمل به أمير المؤمنين في زمان خلافته ، وأخذ الخراج من سواد العراق ، ولو كان باطلا في الدين أبطله وأفسده ، وكذا قرّره سائر خلفاء الإسلام.

وقام الدين بالخراج ، وكلّ الناس عيال على الخراج ، والأمر الذي مرّ عليه جميع المجتهدين وأئمّة الإسلام واستحسنوه ، وأيّدوه بالقرآن في قوله تعالى : (أَمْ تسألُهم خَرْجاً فخَراجُ ربّك خيرٌ وهو خيرُ الرازقين) (٢) ، قيل : أُريد به الخراج (٣).

ثمّ جاء البوّالُ الأعرابيُّ ـ الذي سواءٌ قوله وبوله ـ يعترض على إمام الإسلام ، والمُلهَم بالصواب في كلّ مقام!

الثالث : إنّه أبدع ترتيب الجزية ، والسنة تنطق في أنّ الجزية على كلّ حالم دينار.

فالجواب : إنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أخذ من كلّ حالم ديناراً ، على ما رواه معاذ بن جبل ، قال : «بعثني النبيّ إلى اليمن ، فأمر أن نأخذ من كلّ حالم ديناراً» (٤).

وهذا لا يدلّ على نفي الزيادة ، ففي الزيادة مساغٌ للإمام ، وربّما كان أهلُ اليمن فقراءَ ، أخذ منهم أقلّ الجزية.

وأمثال هذا ممّا لا طعن فيه ؛ لأنّ سائر الخلفاء الراشدين بعده تبعوه

__________________

(١) تقدّم تخريجه مفصلا في الصفحة ٢١٤ هـ ٣ ، من هذا الجزء ؛ فراجع!

(٢) سورة المؤمنون ٢٣ : ٧٢.

(٣) انظر : تفسير البغوي ٣ / ٢٦٥ ، تفسير الفخر الرازي ٢٣ / ١١٣ ، الدرّ المنثور ٦ / ١١٠.

(٤) تقدّم تخريجه مفصلا في الصفحة ٣٥٨ هـ ٦ ، من هذا الجزء ؛ فراجع!

٣٦٥

في هذا.

ولو كان الأمر على خلاف السنة لخالفوه الراشدون بعده ، سيّما أمير المؤمنين عليّ ، وإلاّ لكان يقدح في عصمته على رأيهم.

وأمّا ما ذكر ، أنّ مطاعن عمر رواه الجمهور ..

فإن أراد بالجمهور : أصحابه ، فلا يبعد أن يكون صادقاً.

وإن أراد به : أهل السنة ، فلم يروِ واحدٌ من العلماء من أهل السنة والجماعة طعناً في عمر.

وما ذكره من المطاعن ، فقد عرفتَ جواب كلّ واحد على وجه يرتضيه كلُّ عاقل مؤمن ، وينقاد له كلُّ منافق ؛ لظهور حجّته وصحّة بيّنته ، والحمد لله على ذلك.

ثمّ بعد هذا يشرع في مطاعن عثمان بن عفّان ، ونحن قبل المطاعن ـ على ما وعدنا ـ نذكر شَمةً (١) من مناقبه وفضائله ، فنقول : أمير المؤمنين عثمان بن عفّان بن أبي العاص بن أُميّة بن عبد شمس ابن عبد مناف ، يتّصل نسبه برسول الله في عبد مناف.

وكان في الجاهلية من أشراف قريش وصناديدها ، وصاحب الأموال الجمّة ، والعشائر الوافرة.

أسلم في أوائل البعثة ، وهو من أهل السابقة في الإسلام وقدماء المهاجرين ، وزوّجه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بنته رقيّة ، وهاجر إلى الحبشة ،

__________________

(١) شَمَّ الطِّيبَ والشيءَ شَما وشَميماً وتشمّمه واشتمّه : أدناه من أنفه ليجتذب رائحته ؛ والشمّة : مصدرُ المرّة واحدةُ الشمِّ ، على الاستعارة هنا للرائحة الطيّبة ، فكأنّه قال : نذكر رائحة عطرة أو عطراً من مناقبه.

انظر مادّة «شمم» في : لسان العرب ٧ / ٢٠٥ ، تاج العروس ١٦ / ٣٩٢ ـ ٣٩٣.

٣٦٦

ثمّ هاجر إلى المدينة ، وبذل أمواله في سبيل الله ، فهو صاحب الهجرتين ، ومصلّي القبلتين ، وزوج النورين (١).

ثمّ لمّا توفّى [اللهُ] رقيّة ، زوّجه أُمَّ كلثوم بنت رسول الله (٢).

واتّفق جميع أهل الأعصار أنّ هذه فضيلة لم تحصل لأحد من أولاد آدم ، أن يجتمع عنده بنتا نبيّ ، سيّما سيّد النبيّين.

ثمّ لمّا هاجر رسول الله ، هاجر عثمان من الحبشة إلى المدينة ، وبذل أمواله في سبيل الله.

رُوي في «الصحاح» ، عن طلحة بن عبيد الله ، أنّه قال : قال النبيّ : «لكلّ نبيّ رفيق ، ورفيقي في الجنّة عثمان» (٣).

وعن عبد الرحمن بن خبّاب ، قال : «شهدت النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو يحثّ على جيش العسرة ، فقام عثمان فقال : يا رسول الله! علَيَّ مئة بعير بأحلاسها (٤) وأقتابها (٥) في سبيل الله.

ثمّ حضَّ ، فقام عثمان فقال : يا رسول الله! علَيَّ مئتا بعير بأحلاسها

__________________

(١) انظر ذلك في ترجمته من : الطبقات الكبرى ـ لابن سعد ـ ٣ / ٣٩ رقم ١٤ ، الاستيعاب ٣ / ١٠٣٧ رقم ١٧٧٨ ، أُسد الغابة ٣ / ٤٨٠ رقم ٣٥٨٣ ، الإصابة ٤ / ٤٥٦ رقم ٥٤٥٢.

(٢) الطبقات الكبرى ـ لابن سعد ـ ٣ / ٤١ ، الاستيعاب ٣ / ١٠٣٩ ، أُسد الغابة ٣ / ٤٨٢ ، الإصابة ٤ / ٤٥٦ رقم ٥٤٥٢.

(٣) سنن الترمذي ٥ / ٥٨٣ ح ٣٦٩٨ ، سنن ابن ماجة ١ / ٤٠ ح ١٠٩ ، البداية والنهاية ٧ / ١٧٠.

(٤) الحِلْسُ والحلَسُ : كلّ شيء وَِليَ ظهرَ البعير والدابة تحت الرحل والقَتَب والسرج ، وقيل : هو كساء رقيق يكون تحت البرذعة ، والجمع : أحلاس وحُلُوس.

انظر : لسان العرب ٣ / ٢٨٢ ـ ٢٨٣ مادّة «حلس».

(٥) القتَبُ : رَحل صغير على قدْرِ السنام ، والقِتب ـ بالكسر ـ : جميع أداة السانِيَة من أعلاقها وحبالها ؛ انظر : لسان العرب ١١ / ٢٧ ـ ٢٨ مادّة «قتب».

٣٦٧

وأقتابها في سبيل الله.

ثمّ حضَّ ، فقام عثمان فقال : علَيَّ ثلاثُمئة بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله.

فأنا رأيت رسول الله ينزل من على المنبر وهو يقول : ما على عثمان ما عمل بعد هذه» (١).

وعن عبد الرحمن بن سمرة ، قال : «جاء عثمان إلى النبيّ بألف دينار في كمّه حين جهّز جيش العسرة ، فنثرها في حجره ، فرأيت النبيّ يقلّبها في حجره ، ويقول : ما ضرّ عثمان ما عمل بعد اليوم ؛ مرّتين» (٢).

وعن أنس ، قال : لمّا أمرنا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ببيعة الرضوان ، كان عثمانُ رسولَ رسولِ الله إلى مكّة ، فبايع الناس.

فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : إنّ عثمان في حاجة الله وحاجة رسوله ؛ فضرب بإحدى يديه على الأُخرى ، وكانت يد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خيراً من أيديهم أنفسهم» (٣).

والأخبار في فضائله كثيرة ، وقد ذكرنا يسيراً منها ..

ثمّ نشرع في دفع المطاعن التي رواها هذا الرافضيّ الضالّ عن شيوخه الضالِّين ، على دأبنا.

__________________

(١) سنن الترمذي ٥ / ٥٨٤ ح ٣٧٠٠ ، مسند أحمد ٤ / ٧٥.

(٢) سنن الترمذي ٥ / ٥٨٥ ح ٣٧٠١ ، المستدرك على الصحيحين ٣ / ١١٠ ح ٤٥٥٣ ، حلية الأولياء ١ / ٥٩.

(٣) سنن الترمذي ٥ / ٥٨٥ ح ٣٧٠٢ ، مصابيح السنة ٤ / ١٦٦ ح ٤٧٥٣ ، تاريخ دمشق ٣ / ١٥ و ٧٦ و ٨٠ ، كنز العمّال ١٣ / ٦٤ ح ٣٦٢٦١.

٣٦٨

وأقول :

يرد على ما أجاب عن الطعن الأوّل أُمور :

الأوّل : إنّ الاستدلال بحديث زيد بن ثابت باطلٌ لجهتين :

الأُولى : دلالته على أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول شيئاً ويفعل خلافه ، ويأمر ولا يأتمر ؛ لأنّه يقول فيه : «أفضل صلاة المرء في بيته إلاّ المكتوبة».

ويتّخذ حجرةً من حصير في المسجد يُصلّي بها النافلة ، وهذا ممتنع على النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فيكون الحديث كاذباً.

ودعوى أنّه أراد التشريع بفعله ، غير صحيحة ؛ لإغناء بيانه القولي عن الفعل المرجوح.

ولو سُلّم صحّة مثل هذا التشريع بالفعل ، كفى فيه أن يصلّي صلاة واحدة ، فكيف يصلّي لياليَ؟!

ثمّ إنّه إذا فُرض أنّ صلاة المرء في بيته أفضل ، فكيف يفرض عليهم المفضول لمجرّد صنيعهم له بوجه الندب؟!

الجهة الثانية : إنّ هذا الحديث غيرُ تامِّ الدلالة ؛ لأنّ اجتماع الناس إليه أعمّ من صلاتهم بصلاته ومنفردين ؛ ولعدم دلالة الحديث على علم النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بصلاتهم معه جماعة حينما صلّى.

ولذا قال البخاري في هذا الحديث ـ عندما رواه ـ في باب «صلاة الليل» : «فلمّا علم بهم جعل يقعد» (١).

__________________

(١) صحيح البخاري ١ / ٢٩٣ ح ١١٩.

٣٦٩

ولا يخفى ما في قوله : «ولو كُتب عليكم ما قمتم به» من الذمّ لهم ، على خلاف ما يراه القوم من عدالتهم.

وأَوْلى منه في ذمّهم ما رواه مسلم في باب «استحباب صلاة النافلة في بيته» ، عن زيد بن ثابت ، قال في حديثه : «فلم يخرج إليهم ، فرفعوا أصواتهم وحصبوا الباب ، فخرج إليهم رسول الله مُغْضَباً ...» (١) .. الحديث.

ورواه البخاري ـ أيضاً ـ في كتاب «الأدب» ، في «باب ما يجوز من الغضب والشدّة لأمر الله عزّ وجلّ» (٢).

الأمر الثاني : إنّ حديث أبي هريرة لا دلالة فيه على مدّعى الخصم ، بل هو دالٌّ على الخلاف ؛ لأنّ المراد بترغيب النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) في قيام رمضان : هو الترغيب في قيامه فرادى ؛ إذ لا يمكن أن يُرغِّب في قيامه جماعةً في المسجد وهو يقول : «أفضل صلاة المرء في بيته» ، فإنّهما متضادّان.

فإذا توفّي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والأمر على ذلك إلى صدر من إمارة عمر ؛ كان عمر بأمره في قيام رمضان في المسجد جماعةً مُبدعاً ، وهو المطلوب!

الثالث : إنّ ما حمل عليه لفظ البدعة ، غير صحيح ؛ لأنّه إذا زعم أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يصلّي بهم أحياناً ، لم يصحّ منه القول بأنّ خصوصها لم يكن في زمان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، إلاّ أن يريد أنّها لم تكن متعارفة في زمانه وإنْ ثبت أصلها ، لكن لا يحتاج حينئذ إلى القول بأنّها مأخوذة من

__________________

(١) صحيح مسلم ٢ / ١٨٨.

(٢) صحيح البخاري ٨ / ٥٢ ذ ح ١٣٧.

٣٧٠

الأُصول الشرعيّة ؛ لفرض ثبوت أصلها وأنّ النبيّ صلاّها.

وبالجملة : إن قلنا : إنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) صلاّها ورغّب فيها ، كان أصلها وخصوصها ثابتاً ، ولم يكن معنىً لإطلاق عمر عليها البدعة.

وإنْ لم نقل ذلك ، منعنا موافقتها للقواعد ؛ إذ لا نعرف قاعدة تقتضي جواز أن تُصلّى النافلة جماعةً ، بل القاعدة المنع ؛ لأنّها تستلزم تفويت القراءة بلا دليل.

وكيف كان ، لا يمكن إنكار دلالة جملة من الأخبار على أنّها من مبتدعات عمر التي لم تكن في زمن النبيّ.

وما دلَّ على أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) فعلها أحياناً في المسجد غير حجّة ؛ لأنّه ـ مع الغضّ عن سنده ـ إنّما هو من رواية الخصوم ، ومحلّ التهمة في حقّ عمر ، ولمعارضته بما هو حجة عليهم.

وكيف يمكن أن يدّعي أنّها ليست من مبتدعاته ، وقد عدّها أولياؤه من أوّلياته ، كما في «تاريخ الطبري» (١) ، و «كامل» ابن الأثير (٢) ، و «تاريخ الخلفاء» للسيوطي (٣) ، وعن ابن سعد (٤) ، وابن الشحنة (٥)؟!

وقال في «الاستيعاب» بترجمة عمر : «هو الذي نوّر شهر الصوم بصلاة الإشفاع» (٦).

__________________

(١) ص ٢٢ ج ٥ [٢ / ٥٦٩ ـ ٥٧٠]. منه (قدس سره).

(٢) ص ٢٤١ ج ٢ [٢ / ٤٥٤]. منه (قدس سره).

(٣) في الفصل الذي عقده لخلافة عمر [ص ١٥٤]. منه (قدس سره).

(٤) ترجمة عمر ، ج ٣ من الطبقات [٣ / ٢١٣]. منه (قدس سره).

(٥) فى ذكر وفاة عمر بحوادث سنة ٢٣ في تاريخه «روضة الناظر». منه (قدس سره).

(٦) الاستيعاب ٣ / ١١٤٥ رقم ١٨٧٨.

٣٧١

إلى غيرهم من المؤرّخين والمترجمين (١).

ولو أعرضنا عن هذا كلّه ، كفى في إبداع عمر جعلها في المساجد سنةً ، وتفضيلها على الفرادى في البيوت ، خلافاً لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذ يقول : «أفضل صلاة المرء في بيته إلاّ المكتوبة» (٢).

وقد روي في «كنز العمّال» (٣) ، أنّ «فضل صلاة التطوّع في البيت على فِعلها في المسجد كفضل الجماعة على المنفرد».

وأمّا ما أجاب به عن الطعن الثاني ، ففيه :

أوّلا : إنّ قوله : «إنّ الخراج إنّما يوضع على الأراضي التي فُتحت صُلحاً» ، مناف لمطلوبه ، ومصحِّحٌ للطعن في عمر ؛ لأنّه وضع الخراج على سواد العراق ونحوه ممّا فتح عنوةً لا صُلحاً (٤).

ثانياً : إنّ قوله : «لم يُفتح في زمن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مدينةٌ من المدائن صلحاً» ، خطأٌ واضح ؛ لِما سبق من فتح فدك وغيرها صلحاً ؛ ولذا كانت من الأنفال المختصة به (صلى الله عليه وآله وسلم) (٥).

وثالثاً : إنّ قوله : «اقتضى رأيه الخراج» ، مسلّم ؛ لكنّ الكلام في صحة رأيه ومشروعيّة حكمه.

كيف ، وقد رووا أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قسّم حصون خيبر التي فتحها

__________________

(١) صحيح البخاري ٣ / ٩٧ ـ ٩٨ ح ١١٦ ، السيرة النبوية ـ لابن حبّان ـ : ٤٦٤ ، الأوائل ـ للعسكري ـ : ١٠٥ ، البداية والنهاية ٧ / ١٠٨ ، تاريخ أبي الفداء ١ / ١٦٥.

وراجع ما مرّ تخريجه مفصّلا في الصفحة ٣٥٨ هـ ٢ ، والصفحة ٣٦٠ هـ ١.

(٢) تقدّم تخريجه في الصفحة ٣٦٢ هـ ٣.

(٣) ص ١٢٠ ج ٤ [٧ / ٥٥٦ ح ٢٠٢٣٢]. منه (قدس سره).

(٤) الخراج ـ لأبي يوسف ـ : ٢٥ ، شرح نهج البلاغة ١٢ / ٢٨٧ ـ ٢٨٨.

(٥) راجع الصفحة ٨٢ وما بعدها ، من هذا الجزء.

٣٧٢

عنوة بعدما أخذ منها الخمس ، كما سبق في مسألة منع الزهراء إرثها (١)؟!

وروى البخاري (٢) ، أنّ عمر قال : «لولا آخرُ المسلمين ما فَتحتُ قريةً إلاّ قسَمتُها كما قسَم النبيُّ خيبر».

وقوله : «شاوَر الأصحاب وأجمعوا عليه» ..

ممنوعٌ ، وهل هو إلاّ كدعوى المشاورة على تغيير حكم الله ومخالفة كتابه الموجِب للخمس في الغنيمة؟!

وقوله : «لم يقدر أحد أن يروي أنّ أمير المؤمنين اعترض على عمر ...» إلى آخره ..

لو سُلّم ، فوجهُه ظاهر ، كما في سائر الأحكام السياسيّة التي يراعيها عمر في ملكه ، بل والغالب من غيرها.

أتُرى أنّ أمير المؤمنين يعترض على عمر ويقول له : سلّم إلينا الخمس ولا تأخذ الخراج ؛ وهو يعلم أنّه قد قبض هو وأبو بكر قبله خمس خيبر الذي قسمه النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) لهم ، فكيف يعطيهم ما فتحه هو ويمتنع من أخذ الخراج؟!

وإنّما أخذ أمير المؤمنين (عليه السلام) الخراج ؛ لعدم تيسّر مخالفة عمر ؛ فإنّه لو أخذ الخمس واختصّ به هو وأهله وترك الخراج ، لأدّى الحال إلى الهرج والمرج ، وانتقض عليه أمره.

وقد كان (عليه السلام) غير مستقرّ الأمر ، ولم يتمكّن من تغيير غالب مبتدعات

__________________

(١) راجع الصفحة ٨٢ وما بعدها ، من هذا الجزء.

(٢) في باب أوقاف أصحاب النبيّ وأرض الخراج من كتاب الوكالة [٣ / ٢١٤ ح ١٥] ، وباب الغنيمة لمن شهد الواقعة من كتاب الجهاد [٤ / ١٩٠ ح ٣٣]. منه (قدس سره).

٣٧٣

عمر التي ليست في الأهمّية مثل هذا ، فكيف يقدر على تغييره والناس كما قال الخصم : «عيال على الخراج»؟!

على أنّ النقض علينا بفِعل أمير المؤمنين (عليه السلام) غير صحيح ؛ لأنّا نرى أنّه الإمام الحقّ ، وأنّ كلّ ما غنمه المسلمون بغير إذنه هو له خاصّة.

فحينئذ إذا أخذ الخراج من سواد العراق ونحوه ، فقد أخذ بعض حقّه وما إليه أمرُه ، فلا نقضَ.

وأمّا بقيّة السلاطين فلا عبرة بهم ؛ لأنّهم أمثال عمر ، وعنه أخذوا ؛ كعلمائهم ، وبه أكلوا وتملّكوا.

وأمّا ما أيّد به مطلوبه من قوله تعالى : (أَمْ تسألُهم خَرْجاً فخَراجُ ربّك خيرٌ وهو خيرُ الرازقين) (١) ..

فليس في محلّه ؛ لأنّه إن أُريدَ فيه بالخراج ما هو محلّ الكلام ، فقد دلّت الآية على أخذ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) له وارتزاقه منه ، فكانت دليلا لا مؤيِّداً ، وهو خلاف الواقع بالاتّفاق.

وإنْ أُريدَ به الرزق ، لم تصلح الآية للتأييد ؛ لعدم ارتباطها حينئذ بمحلّ الكلام ؛ حيث إنّ المعنى : أم تسألهم أجراً على ما جئتهم به ، فأجر ربّك ورزقه خير.

وأمّا جوابه عن الطعن الثالث ، بأنّ حديث معاذ «لا يدلّ على نفي الزيادة» ، فممنوع ؛ لظهوره في أنّ الجزية خصوص الدينار على كلّ حالم ؛ لمساواة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بين الجميع فيه ، ويمتنع عادة أن لا يكون فيهم غنيٌّ ولا متوسّطُ الحال.

__________________

(١) سورة المؤمنون ٢٣ : ٧٢.

٣٧٤

ولو سُلّم عدم ظهوره في ذلك ، فاستباحةُ الزائد على الدينار محتاجةٌ إلى دليل ، وهو مفقود عندهم.

ولو سُلّم جوازه بمقتضى القاعدة ، فقوله : «ففي الزيادة مساغٌ للإمام» ، ظاهر في أنّ للإمام الحكمَ بما يشاء ، ولا يتقيّد بكتاب وسنة ، كما جرت به سيرة عمر ، وقضى به اعتذارهم عنه بالاجتهاد الذي يريدون به هذا المعنى في كثير من الموارد ، وهو التشريعُ المحرّمُ والنبوّةُ الجديدة!

ولو سُلّم عدم التشريع منه في ذلك ، فهناك مطاعنُ أُخرُ غيرُه كثيرةٌ ..

منها : إنّه أبدع وضع العشور ..

روى في «الكنز» (١) ، عن أبي عبيد ، وابن سعد ، عن أنس ، قال : بعثني عمر وكتب لي أن آخذ من أموال المسلمين ربعَ العُشر ، ومن أموال أهل الذمّة إذا اختلفوا بها للتجارة نصف العُشر ، ومن أموال أهل الحرب العُشر».

وروى ـ أيضاً ـ عن الشافعي ، وأبي عبيد ، والبيهقي ، عن ابن عمر : «أنّ عمر كان يأخذ من النبَط (٢) نصف العُشر ، يريد بذلك أن يكثر الحمل

__________________

(١) في كتاب الجهاد ٣٠٤ ج ٢ [٤ / ٥١٣ ح ١١٥١٥]. منه (قدس سره).

وانظر : الأموال ـ لأبي عبيد ـ : ٦٤٠ ح ١٦٥٧ ، الطبقات الكبرى ـ لابن سعد ـ ٧ / ١٥٥ رقم ٣٠٨٠.

(٢) النّبَط : قوم من العجم ، كانوا سكّان العراق وأربابها ، وكانوا ينزلون البطائح بين العراقَين ، وسُمّوا أنباطاً ؛ لاستنباطهم ما يخرج من الأرضين ، وقيل : لمعرفتهم بأنباط الماء ؛ أي استخراحه ؛ لكثرة فلاحتهم.

انظر : الأنساب ـ للسمعاني ـ ٥ / ٤٥٤ مادّة «النبطي» ، وانظر مادّة «نبط» في : لسان العرب ١٤ / ٢٢ ، تاج العروس ١٠ / ٤٢٥ ، مجمع البحرين ٤ / ٢٧٥.

٣٧٥

إلى المدينة ويأخذ من القبَطة (١) العُشر» (٢).

وروى عن الشافعي ، وأبي عبيد ، عن السائب ، قال : «كنتُ عاملا على سوق المدينة زمنَ عمر ، فكنّا نأخذ من النّبط العشر» (٣).

وعن أبي عبيد ، عن الشعبي ، قال : «أوّلُ من وضع العُشر في الإسلام عمر» (٤).

ونحوه ، عن عبد الرزّاق ، عن ابن جريج (٥).

إلى غير ذلك ممّا في «الكنز» (٦) ، وغيره (٧).

__________________

(١) كذا في الأصل ، والظاهر أنّ الصواب «القطنيّة» ، كما في المصادر.

والقِطنيَة ـ بالكسر ـ : واحدة القِطاني ؛ وهي الحبوب التي تُدّخر كالحِمّص والعَدَس والباقلّى والتُرْمُس والدُخْن والأُرْز والجُلْبان ، والماش ، واللوبيا ، وما شاكلها ممّا يُقتات ، وقيل : اسم جامع لهذه الحبوب التي تطبخ ، وقيل : القِطنية ما كان سوى الحنطة والشعير والزبيب والتمر.

انظر : لسان العرب ١١ / ٢٣٢ مادّة «قطن».

(٢) كنز العمّال ٤ / ٥١٣ ح ١١٥١٦ ، وانظر : مسند الشافعي ٩ / ٤٤٧ كتاب الجزية ، الأموال ـ لأبي عبيد ـ : ٦٤١ ح ١١٦٢ ، السنن الكبرى ـ للبيهقي ـ ٩ / ٢١٠ كتاب الجزية.

(٣) كنز العمّال ٤ / ٥١٤ ح ١١٥٢١ ، وانظر : مسند الشافعي ٩ / ٤٤٧ كتاب الجزية ، كتاب الأموال ـ لأبي عبيد ـ : ٦٤٠ ح ١٦٦١.

(٤) كنز العمّال ٤ / ٥١٣ ح ١١٥١٨ ، وانظر : الأموال ـ لأبي عبيد ـ : ٦٤٢ ح ١٦٦٧.

(٥) كنز العمّال ٤ / ٥١٢ ح ١١٥١٣ ، وانظر : مصنّف عبد الرزّاق ٦ / ٩٧ ح ١٠١١٨ وج ١٠ / ٣٣٤ ـ ٣٣٥ ح ١٩٢٨٠.

(٦) كنز العمّال ٤ / ٥١٢ ح ١١٥١٢ وص ٥١٤ ح ١١٥١٩.

(٧) انظر : مصنّف عبد الرزّاق ٦ / ٩٧ ح ١٠١١٧ و ١٠١١٩ وص ٩٨ ـ ١٠٠ ح ١٠١٢١ و ١٠١٢٣ و ١٠١٢٦ و ١٠١٢٧ وج ١٠ / ٣٣٥ ح ١٩٢٨١ و ١٩٢٨٢ ، الأموال ـ لأبي عبيد ـ : ٦٤٠ ح ١٦٥٨ و ١٦٥٩ و ١٦٦٠ وص ٦٤٢ ح ١١٦٨ ـ ١٦٧١ ، معرفة السنن والآثار ـ للبيهقي ـ ٧ / ١٣٣ ـ ١٣٤ ح ٥٥٤٠ ـ ٥٥٤٣ ، السنن الكبرى ـ للبيهقي ـ ٩ / ٢١٠.

٣٧٦

ومنها : إنّه أوجب الزكاة في الخيل وهي غيرُ واجبة ..

حكى في «كنز العمّال» (١) ، عن البيهقي ، وأبي عاصم النبيل ، عن يعلى ، قال في جملة حديثه : «قال عمر : إنّا نأخذ من كلّ أربعين شاةً ، شاةً ، ولا نأخذ من الخيل شيئاً ، خذ من كلّ فرس ديناراً.

قال : فضرب على الخيل ديناراً ، ديناراً».

وحكى أيضاً عن ابن جرير ، عن عمر ، قال : «يا أهل المدينة! إنّه لا خير في مال لا يُزكّى ؛ فجعل في الخيل عشرةَ دراهم ، وفي البراذين ثمانية» (٢).

وذكر السيوطي في «تاريخ الخلفاء» ، في أوّليات عمر ، أنّه أوّل من أخذ زكاة الخيل (٣).

ويدلّ على عدم الوجوب ما رواه البخاري (٤) ، عن أبي هريرة ، عن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : «ليس على المسلم صدقةٌ في عبده ولا فرسه».

ورواه مسلم بعدة طرق (٥).

__________________

(١) في كتاب الزكاة ، ص ٣٠٥ ج ٣ [٦ / ٥٤٨ ح ١٦٨٩٣]. منه (قدس سره).

وانظر : السنن الكبرى ـ للبيهقي ـ ٤ / ١١٩ ـ ١٢٠ ، مصنّف عبد الرزّاق ٤ / ٣٦ ح ٦٨٨٩ ، تهذيب الآثار ـ للطبري ـ ٢ / ٩٤٢ ح ١٣٣١.

(٢) كنز العمّال ٦ / ٥٤٩ ح ١٦٨٩٥ ، تهذيب الآثار ـ للطبري ـ ٢ / ٩٤١ ح ١٣٣٠.

(٣) تاريخ الخلفاء : ١٦٠ ، وانظر : الأوائل ـ للعسكري ـ : ١٢٢.

(٤) في أبواب الزكاة ، في باب ليس على المسلم في عبده صدقة [٢ / ٢٤٢ ـ ٢٤٣ ح ٦٦]. منه (قدس سره).

وانظر كذلك : صحيح البخاري ٢ / ٢٤٢ ح ٦٥ باب ليس على المسلم في فرسه صدقة.

(٥) في كتاب الزكاة [٣ / ٦٧ ـ ٦٨]. منه (قدس سره).

٣٧٧

وروى الحاكم في «المستدرك» (١) ، وصحّحه مع الذهبيّ ، عن حارثة ابن مضرب ، قال : «جاء ناس من أهل الشام إلى عمر ، فقالوا : إنّا قد أصبنا أموالا ؛ خيلا ورقيقاً ، نُحبّ أن تكون لنا فيها زكاةٌ وطهورٌ.

قال : ما فعله صاحباي قبلي فأفعله.

فاستشار عمر عليا في جماعة من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فقال عليٌّ : هو حسن إن لم يكن جزيةً يؤخذون بها راتبةً».

ومثله في «الكنز» أيضاً (٢) ، عن جماعة ، منهم ابن جرير ، قال : «وصحّحه».

فكيف جاز لعمر جعلها راتبةً لازمةً وهم مخيّرون؟!

وقد أبدع عمر ـ أيضاً ـ الزكاةَ في الأُدُم (٣) ..

حكى في «الكنز» (٤) ، عن الشافعي ، وعبد الرزّاق ، وأبي عبيد ،

__________________

(١) في كتاب الزكاة ، ص ٤٠٠ ج ١ [١ / ٥٥٧ ح ١٤٥٦]. منه (قدس سره).

(٢) ص ٣٠٢ ج ٣ [٦ / ٥٣٣ ح ١٦٨٥١]. منه (قدس سره).

وانظر : تهذيب الآثار ـ للطبري ـ ٢ / ٩٣٩ ح ٤٩ ، مصنّف عبد الرزّاق ٤ / ٣٥ ح ٦٨٨٧ ، مسند أحمد ١ / ١٤ ، الأموال ـ لأبي عبيد ـ : ٥٦٣ ح ١٣٦٤ ، زوائد أبي يعلى ١ / ٢١٢ ح ٤٨١ ، صحيح ابن خزيمة ٤ / ٣٠ ح ٢٢٩٠ ، المستدرك على الصحيحين ١ / ٥٥٧ ح ١٤٥٦ ، السنن الكبرى ـ للبيهقي ـ ٤ / ١١٨ ـ ١١٩ ، مجمع الزوائد ٣ / ٦٩ وقال : «رواه أحمد ، والطبراني في الكبير ، ورجاله ثقات» ولم نجده في «المعجم الكبير» ؛ فلاحظ!

(٣) الأُدُم : جمع الأديم ، وهو الجلد ما كان ، وقيل : الأحمر ، وقيل : المدبوغ.

انظر مادّة «أدم» في : لسان العرب ١ / ٩٦ ، تاج العروس ١٦ / ٩.

(٤) ص ٣٠٢ ج ٣ [٦ / ٥٣٤ ح ١٦٨٥٤]. منه (قدس سره).

وانظر : كتاب الأُمّ ٢ / ٦٣ ، مسند الشافعي ـ مرفق مع كتاب الأُمّ ـ ٩ / ٣٩٥ ـ ٣٩٦ ، الأموال ـ لأبي عبيد ـ : ٥٢٠ ح ١١٧٩ و ١١٨٠ ، مصنّف عبد الرزّاق ٤ / ٩٦

٣٧٨

والبيهقي ، والدارقطني ، قال : «وصحّحه» ، عن حِماس ، قال : «كنت أبيع الأُدُم والجِعاب (١) فمرّ بي عمر بن الخطّاب ، فقال : أدِّ صدقة مالك!

فقلت : يا أمير المؤمنين! إنّما هو الأُدُم.

قال : قوِّمه ، وأخرِج صدقته!».

مع أنّه قد روى الحاكم (٢) ـ وصحّحه مع الذهبيّ على شرط الشيخين ـ ، عن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ، قال : «إنّما آخذ الصدقة من الحنطة ، والشعير ، والزبيب ، والتمر».

ثمّ روى الحاكم ـ أيضاً ـ ، وصحّحه مع الذهبيّ ، أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : «لا تأخذوا الصدقة إلاّ من هذه الأربعة ؛ الشعير ، والحنطة ، والزبيب ، والتمر» (٣).

[ومنها :] (٤) وأبدع عمر ـ أيضاً ـ الزكاةَ في الحُلِيّ ، مع أنّه لا زكاة في الذهب والفضة إلاّ من النقدين ؛ لدليلهما الخاصّ (٥).

حكى في «الكنز» (٦) ، عن البخاري في «تاريخه» ، والبيهقي ، عن

__________________

ح ٧٠٩٩ ، السنن الكبرى ـ للبيهقي ـ ٤ / ١٤٧ ، السنن الصغرى ـ للبيهقي ـ ١ / ٤٥٨ ح ١١٤٤ ، سنن الدارقطني ٢ / ٩٦ ح ١٩٩٩.

(١) الجِعابُ : جمع الجعبة ، وهي كِنانةُ النّشّاب ؛ انظر : لسان العرب ٢ / ٢٩١ مادّة «جعب».

(٢) ص ٤٠١ ج ١ [١ / ٥٥٨ ح ١٤٥٧]. منه (قدس سره).

(٣) المستدرك على الصحيحين ١ / ٥٥٨ ح ١٤٥٩.

(٤) أضفناها لتوحيد النسق.

(٥) انظر : الموطأ : ٢٣٩ ـ ٢٤٠ ، كتاب الأُمّ ٢ / ٥٣ ـ ٥٥ ، مسند أحمد ٣ / ٣٥ ، جامع مسانيد أبي حنيفة ١ / ٤٥٩.

(٦) ص ٣٠٣ ج ٣ [٦ / ٥٤٢ ح ١٦٨٧٤]. منه (قدس سره).

٣٧٩

شعيب بن يسار ، أنّ عمر كتب أن يُزكّي الحُليّ.

ثمّ نقل عن البيهقي ، أنّه روى عن شعيب ، قال : «كتب عمر إلى أبي موسى أن مرْ مَن قبَلك من نساء المسلمين أن يصَّدّقن من حُليِّهنّ» (١).

ومنها : إنّه أسقط سهم المؤلّفة قلوبُهم الذي فرضه الله سبحانه في كتابه العزيز ، وأعطاهم إيّاه النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) مدّة حياته.

قال تعالى في سورة التوبة : (إنّما الصدقاتُ للفقراءِ والمساكينِ والعاملينَ عليها والمؤلَّفةِ قلوبُهُم وفي الرقابِ والغارمينَ وفي سبيل الله وابنِ السبيل فريضةً من الله والله عليمٌ حكيمٌ) (٢).

دلّت الآية على أنّ سهمَ المؤلّفة فرضُ الله تعالى ، وأنّه على مقتضى العلم والحكمة ؛ فإنّ الحكمة تقتضي تأليفهم وترغيبهم وغيرهم في الإسلام.

وذكر السيوطي في «الدرّ المنثور» ، أنّه أخرج أبو داود ، والبغوي في «معجمه» ، والطبراني ، والدارقطني ، عن زياد بن الحارث ، قال : قال رجل : يا رسول الله! أعطني من الصدقة.

فقال : إنّ الله لم يرض بحكم نبيّ ولا غيره في الصدقات ، حتّى حكم فيها ، فجزّأها ثمانية أجزاء ، فإن كنتَ من تلك الأجزاء أعطيتُك حقك» (٣).

__________________

وانظر : التاريخ الكبير ٤ / ٢١٧ ح ٢٥٥٦ ، السنن الكبرى ٤ / ١٣٩.

(١) كنز العمّال ٦ / ٥٤٢ ح ١٦٨٧٥ ، وانظر : السنن الكبرى ٤ / ١٣٩.

(٢) سورة التوبة ٩ : ٦٠.

(٣) الدرّ المنثور ٤ / ٢٢٠ ؛ وانظر : سنن أبي داود ٢ / ١٢٠ ـ ١٢١ ح ١٦٣٠ ، المعجم

٣٨٠