كشف الغطاء عن مبهمات الشريعة الغرّاء - ج ٢

الشيخ جعفر كاشف الغطاء

كشف الغطاء عن مبهمات الشريعة الغرّاء - ج ٢

المؤلف:

الشيخ جعفر كاشف الغطاء


المحقق: مكتب الإعلام الإسلامي ، فرع خراسان
الموضوع : الفقه
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-424-953-4
الصفحات: ٤٦٣

نوعها عمل عليها ، كما أن الوسطى أصلاً للكثيرة ، والأحوط الأخذ باليقين.

ويتبع هذا الحكم صفة القلّة حيث كانت إن عمّت ؛ وإن خصّت فالظاهر أنّ هذه لا دخل لأعمالها في صحّة الصوم وبطلانه ، وإنّما هي حدث أصغر كالبول ونحوه ، والأحوط المحافظة على الأعمال من جهة الصوم ، ويجب الإتيان بأعمالها لكلّ واجب يتوقّف على الطهارة الصغرى ، ويشترط فيما هو شرط من غير الواجب أيضاً ؛ وتفصيل الحال قد مرّ في بيان أحكام الوضوء ، فراجعه والله وليّ التوفيق.

القسم الثالث : غسل الأموات

ويلزم فيه البحث عن أحكام الأموات ، وفيه مباحث :

الأوّل : في المقدّمات

ويستدعي بيان أُمور مطلوبة ، وأفعال مندوبة :

منها : الشكر على العافية ، وطلبها ، ومعرفة قدرها ، فعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «أنّ خير ما يسأل الله العبد العافية» (١) ، وعنه «العافية إذا وجدت نسيت ، وإذا فقدت ذكرت» (٢) وعن الصادق عليه‌السلام : «خمس خصال من فقد منهنّ واحدة لم يزل عيشه في نكد ، ناقص العقل ، مشغول القلب : صحّة البدن ، والأمن ، والسعة في الرزق ، والأنيس الموافق ، وهو الزوجة الصالحة والولد الصالح والخليط الصالح ، وتجمع هذه الخصال الدعة» (٣) ، وفسّرت بالسكون والراحة.

ومنها : الشكر على المرض ومعرفة فوائده ، فعنهم عليهم‌السلام : «الحُمّى طهور من ربّ غفور (٤)» و «أنّ المرض ينقي المسلمين من الذنوب كما يُذهب الكير (٥) خَبَث

__________________

(١) دعوات الراوندي : ١١٤ ح ٢٥٨ ، البحار ٨١ : ١٧٣.

(٢) روضة الواعظين ٤٧٢ ، أمالي الصدوق : ١٩٠.

(٣) الخصال ٢٨٤ ح ٣٤ ، البحار ٨١ : ١٧١ باختلاف يسير.

(٤) التمحيص : ٤٢ ح ٤٦ ، البحار ٨١ : ١٧٦.

(٥) في «م» و «س» زيادة : وهو جمع الكورة ، وهو مجمع نار الحدّاد والكواز وغيره.

٢٤١

الحديد (١)» «وحمّى ليلة كفّارة سنة» (٢) ، وأنّ «حُمّى ليلة كفّارة لما قبلها ومابعدها (٣) ، وأنّ «صداع ليلة يحطّ كلّ خطيئة إلا الكبائر» (٤) ، وإنّ المرض لا يدع على العبد ذنباً إلا حطّه» (٥).

«وأنّ الله تعالى إذا ألطف بالعبد أتحفه بواحدة من ثلاث إمّا صُداع ، وإمّا حُمّى ، وإمّا رَمَد» (٦) ، وأنّه «لا يكره الإنسان أربعة : لأنّها لأربعة : الزكام أمان من الجذام ، والدماميل أمان من البرص ، والرمد أمان من العمى ، والسعال أمان من الفالج» (٧).

وأنّ «من لقي الله مكفوف البصر محتسباً موالياً لآل محمّد لقي الله ولا حساب عليه» (٨) ، وأنّه «لا يسلب الله من عبد كريمتيه أو إحداهما ، ثمّ يسأله عن ذنب (٩) ، و «أنّ الخدشة ، والعثرة ، وانقطاع الشسع ، واختلاج الأعضاء ، وأشباهها يمحص بها وليّ آل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الذنوب (١٠) و «أنّ العبد إذا كثرت ذنوبه ، ولم يجد ما يكفّرها به ابتلاه الله بالحزن بالدنيا ؛ ليكفّرها به ، وإلا أسقم بدنه ليكفّرها به ، وإلا شدّد عليه عند موته ؛ ليكفّرها به ، وإلا عذّبه في قبره ، ليلقى الله وليس عليه ذنب (١١).

و «أنّ زكاة الأبدان المرض» (١٢) وأنّه «لا خير في بدن لا يمرض (١٣) ، و «أنّ الله أوحي إلى داود على نبينا وعليه‌السلام إنّي ربما أمرضت العبد فقبلت صلاته وخدمته ،

__________________

(١) دعوات الراوندي : ١٧٢ ح ٤٨٥ ، وفي المصدر : إذا اشتكى المؤمن أخلصه الله من الذنوب.

(٢) ثواب الأعمال : ٢٢٩ ح ١ ، العلل : ٢٩٧ ، إرشاد القلوب : ١٧٣ ، البحار ٨١ : ١٨٦.

(٣) ثواب الأعمال : ٢٢٩ ح ٢ ، الكافي ٣ : ١١٥ ح ١٠.

(٤) ثواب الأعمال : ٢٣٠ ح ١.

(٥) مكارم الأخلاق : ٣٥٨ ، البحار ٨١ : ١٨٣.

(٦) التمحيص : ٤٢ ح ٤٧ ، البحار ٨١ : ١٧٨ باختلاف يسير.

(٧) الخصال : ٢١٠ ح ٣٢ ، دعوات الراوندي : ١٢١ ح ٢٩٤ ، وفي المصدر : لا تكرهوا أربعة فإنّها لأربعة.

(٨) ثواب الأعمال : ٦١ ح ١ ، البحار ٨١ : ١٨٤.

(٩) ثواب الأعمال : ٦١ ح ٢ ، البحار ٨١ : ١٨٤.

(١٠) البحار ٨١ : ١٨٧ «قريب منه».

(١١) الكافي ٢ : ٤٤٦ ح ١٠ ، التمحيص : ٣٨ ح ٣٦ ، دعوات الراوندي : ١٢٠ ح ٢٨٨.

(١٢) البحار : ١٩٧ «قريب منه».

(١٣) أعلام الدين : ٢٧٤ ، إرشاد القلوب : ١٥٠.

٢٤٢

ولصوته إذا دعاني في كربته أحبّ إليّ من صلاة المصلّين» (١) ؛ إلى غير ذلك.

ومنها : حسن الظنّ بالله ، فعن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أنّ حسن الظنّ بالله ثمن الجنّة» (٢).

وعن الصادق عليه‌السلام ، أنّه دخل على مريض فأمره بحسن الظنّ بالله (٣).

ومنها : الاستعداد للموت في صحّته ومرضه ، فقد رُوي عنهم عليهم‌السلام : «أكثروا من ذكر هادم اللذّات» (٤).

و «أنّ مَن عَدّ غداً من أجَلِهِ فقد أساء صحبة الموت» (٥) ، و «أنّ الناس مأمورون باغتنام خمس قبل خمس ، الشباب قبل الهرم ، والصحّة قبل السقم ، والغنى قبل الفقر ، والفراغ قبل الشغل ، والحياة قبل الموت» (٦) ، و «أنّه ينبغي للناس أن يموتوا قبل أن يموتوا» (٧) وهذه العبارة من جوامع الكلم ، وكلّما لاحظت شيئاً من المحاسن وجدته مشمولاً لها.

ويدخل تحت الاستعداد أُمور :

أوّلها : أن يجعل المعاد وما فيه من الملاذّ والآلام نصب عينيه ؛ ليحتقر ملاذّ الدنيا وآلامها ، فذكر الحور يزهّد في النساء ، والولدان يزهّد في الغلمان ، والقصور تزهّد في هذه الدُّور ، وهكذا كما أنّ ذكر الحساب والعذاب يزهّد في مصايب الدنيا.

ثانيها : أن يحاسب نفسه في كلّ ساعة ، لأنّه لا يرجو البقاء إلى الساعة الثانية ، فيشتغل في قضاء ما عليه من الواجبات الإلهيّة أو الحقوق التي للمخلوق ، فيردّ المظالم

__________________

(١) البحار ٨١ : ١٩٢ بتفاوت في اللفظ.

(٢) روضة الواعظين : ٥٠٣ ، مشكاة الأنوار : ٤٣.

(٣) عيون أخبار الرضا ٢ : ٣ ح ٧.

(٤) عوالي اللآلي ١ : ٢٤٧ ح ٣ ، دعوات الراوندي : ٢٣٨ ح ٦٦٥ ، دعائم الإسلام ١ : ٢٢١ ، كنز العمّال ١٥ : ٥٤٢ ، ح ٤٢٠٩٦.

(٥) الكافي ٣ : ٢٥٩ ح ٣ ، الفقيه ١ : ٨٤ ح ٤٠.

(٦) دعوات الراوندي : ١١٣ ح ٢٥٧ ، تنبيه الخواطر ١ : ٢٧٩.

(٧) أعلام الدين : ٣٣٣.

٢٤٣

إلى أهلها ، ويفي ديونه ، ويصلح شئونه ، عَمَلَ من يستعدّ للرحيل إلى لقاء الملك الجليل.

ثالثها : أن يكون عمله عَمَلَ مودّع ، فيرى صلاته التي هو فيها وصيامه الذي هو فيه آخر صلاة وصيام ، وزياراته لسادات زمانه أو لإخوانه ، ووداعهم آخر زيارة ووداع ، فقد نقل أنّ أصحاب النبيّ صلّى الله عليه آله وسلم كانوا إذا التقوا بنوا على أنّه آخر لقاء (١).

رابعها : أن يحكم وصيّته في صحّته فضلاً عن مرضه ، وينصب وصيّاً على الأطفال ، وناظراً كذلك مع الاحتياج إليه إن كان أباً لهم أو جدّاً للأب من طرف الأب.

وأن يوصي كلّ من له تركة ، أو له من يؤدي عنه حال الصحّة فضلاً عن المرض كائناً من كان بما عليه من واجبات ماليّة من ديون ، وأخماس وزكوات ، ونذور وكفّارات ، وحجّة إسلام ، ونحو ذلك ؛ وإن كان العمل بها لازماً من أصل المال مع الوصيّة وبدونها ، إلا إذا عيّنها من الثلث ، فيقدّم الإخراج منه بقدر ما يمكن ، ويخرج الباقي من الأصل.

(فتخرج الواجبات الماليّة من دون وصيّة أو مع وصيّة مطلقة من الأصل ، ثمّ الموصى بها منها من الثلث ، ومع قصور الثلث يكمل من الأصل ، ثمّ الواجبات البدنيّة ويلحق بها المظالم مع الوصيّة منه من غير تكميل) (٢) ثمّ التطوّعات المطلوبة ، وينبغي فيها رعاية حال الوارث وعدم الإجحاف به.

فقد ورد عنهم عليهم‌السلام : «أنّ الوصيّة حقّ على كلّ مسلم» (٣) و «أنّ من لم يحسن وصيّته عند الموت كان نقصاً في مروّته وعقله» (٤) ، و «أنّ الوصيّة تمام ما نقص من الزكاة» (٥) ، و «أنّه لا يبيت الإنسان إلا ووصيّته تحت رأسه» (٦) ، و «أنّ من لم يُوص

__________________

(١) تنبيه الخواطر ١ : ٢٧١.

(٢) بدل ما بين القوسين في «م» ، «س» : ثمّ الوصية بالواجبات من الثلث وكذا البدنية.

(٣) الكافي ٧ : ٣ ح ٤.

(٤) الكافي ٧ : ٢ ح ١.

(٥) روضة الواعظين : ٤٨٢.

(٦) الوسائل ١٣ : ٣٥٢ ب ١ من أحكام الوصايا ح ٥ ، ٧.

٢٤٤

لأقاربه الذين لا يرثون ، فقد ختم عمله بمعصيته» (١) ، و «أنّ الحيف فيها من الكبائر» (٢).

ويجب مراعاة العدالة في الوصي على الأطفال والواجبات ، ويستحبّ ذلك في المستحبّات ، والأحوط اعتبارها في مطلق الوصي ، ومع عدم تعيين الوصي يتولّى الأمر حاكم الشرع ، أو وكيله ، أو منصوبة مع اعتبار عدالتهما إن أمكن ويقوم عدول المؤمنين مقامه مع فقده ، أو بُعده ، ولا يجوز العدول عن العدول إلا مع عدمهم ، ويكون وكالة لا ولاية.

ويُستحبّ القبول للأوصياء ، وقد يجب حيث لا يوجد القائم بها من دونهم ، ولهم ردّها ولو بعد القبول ، بشرط بلوغ الخبر إلى الموصى قبل موته ، وقبل خروجه عن الشعور ، ولو رَدّ وِصايتاً ثمّ أوصى ثانياً فلاتردّ بالردّ الأوّل.

وينبغي أن يبدأ بأهل بيته وأرحامه ، فيوصيهم بما يصلح دينهم ودنياهم ، ثمّ بأمور تجهيزه من صلاة وغيرها ، وأن يقرّ بالعقائد ، ويظهر التوبة ، ويحضر جماعة من العدول للشهادة ، وأن يكتب ما أوصى به ، ويرسم أسماء الشهود ، ويختار العدول منهم ، ويكونوا أربعين رجلاً أو ما زاد ، وفي الاكتفاء بالنساء مطلقاً أو بالتضعيف وجه ضعيف.

ويدعوا بالمأثور قبل الوصيّة ، وهو : «اللهمّ فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم» (٣) إلى أخره وأن يراعي الصلاح في تعدّد الوصي والناظر ووحدتهما.

خامسها : المحافظة على استقبال القبلة في حال نومه مع الصحّة والمرض خوفاً من بغتة الأجل.

سادسها : تهيئة الكفن والحنوط ، والغسل ومتعلّقاتها ، والقبر ولوازمه ، والنعش والساجة التي يغسل عليها.

__________________

(١) مشكاة الأنوار : ٣٤٦ ، روضة الواعظين : ٤٨٢.

(٢) قرب الإسناد : ٣٠ ، علل الشرائع : ٥٦٧ باب ٣٦٩ ح ٣ ، الفقيه ٤ : ١٣٦ ح ٤٧١.

(٣) الكافي ٧ : ٢ ح ١.

٢٤٥

سابعها : أن يخرج إلى المقابر وإلى المواضع القديمة ليتذكّر أهلها.

ومنها : كتمان المرض ، فعن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «أربعة من كنوز البرّ ، كتمان الحاجة ، وكتمان الصدقة ، وكتمان المرض ، وكتمان المصيبة» (١) ، وعن الصادق عليه‌السلام : «من كتم وجعاً أصابه ثلاثة أيّام من الناس ، وشكر الله عزوجل ، كان حقّا على الله أن يعافيه منه» (٢).

ومنها : ترك الاضطجاع للمرض ، فعن عليّ عليه‌السلام : «امش بدائك ما مشى بك» (٣) ، وعنه عليه‌السلام : «لا تضطجع ما استطعت القيام مع علّة» (٤).

ومنها : الصبر والشكر على المرض ، فعن الصادق عليه‌السلام : «من اشتكى ليلة فأدّى شكرها ، وصبر على ما فيها كانت له كفّارة ستّين سنة» (٥).

ومنها : ترك الشكاية ، فعن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أنّ الله تعالى يقول أيّما عبد مؤمن من عبيدي ابتليته ببلاء على فراشه ، فلم يشتك إلى عوّاده أبدلته لحماً خيراً من لحمه ، ودماً خيراً من دمه ، فإن قبضته فإلى رحمتي ، وإن عافيته عافيته ولا ذنب له» (٦).

وروى أنّ الشكاية ليست بمجرّد الإخبار بالمرض ، بل أن يقول : «ابتليت بما لم يبتل به أحد» (٧). وروى «أنّ من شكى إلى مؤمن فقد شكى إلى الله ، ومن شكى إلى غيره فقد شكى الله» (٨). والظاهر أنّ المدار على المقاصد ، وعليه تنزل الأخبار ، فمن أراد طلب الدعاء من إخوانه ونحوه فلا اعتراض عليه.

__________________

(١) الأمالي للمفيد : ٨ ، البحار ٨١ : ٢٠٨ ح ٢٢.

(٢) الخصال : ٦٣٠ ، وفي المصدر : وشكا إلى الله.

(٣) نهج البلاغة : ٤٧٢ حكمة ٢٧.

(٤) البحار ٨١ : ٢٠٤ ح ٧ ، وفي المصدر : مع العلّة.

(٥) ثواب الأعمال : ٢٢٩ ح ١.

(٦) دعوات الراوندي : ١٦٧ ح ٤٦٦.

(٧) الكافي ٣ : ١١٦ ، معاني الأخبار : ١٤٢ ح ١.

(٨) معاني الأخبار : ٤٠٧ ح ٨٤.

٢٤٦

ومنها : ترك المعالجة عند الأطبّاء ، وغيرهم ، ما دام اندفاع المرض مرجوّ بسهولة ، فعن الصادق عليه‌السلام : «أنّ البدن بمنزلة البناء قليله يجرّ إلى كثيره» (١) ، وعنه عليه‌السلام : «من ظهرت صحّته على سقمه ، فعالج نفسه بشي‌ء ، فمات فأنا إلى الله منه بري‌ء» (٢).

ثمّ الرجوع إلى الطبيب مع الحاجة مندوب وليس بواجب ، وليس تعبّديّاً كالرجوع إلى الفقيه في الأحكام الشرعيّة ، بل المدار على المظنّة ، فلو ظنّ الضرر بدوائه حرم التداوي عنده ، وإذا قوي الظنّ بالعجائز والتجارب في بعض الأمراض كان الرجوع إليهنّ أولى.

ومنها : المحافظة على الحمية والاحتياط في المأكل والمشارب ، والتحرّز عن المؤذيات من حرّ أو بردٍ أو هواء أو رطوبة ، ونحوها ؛ وربما وجب ، وبمضمونه قضى الطبّ والشرع.

ويجب الفرار من جميع ما يظنّ ترتّب الهلاك عليه من جدار منهدم أو خطر من ظالم ، أو طاعون ، أو غيره من الأمراض أو حيوان مفترس أو غير ذلك ، ولكن يقصد الفرار إلى الله لأمن الله. وما ورد من النواهي محمول على اختلاف المقاصد.

ومنها : تمريضه والقيام بخدمته ، وربما وجب كفاية مع اضطراره إلا مع ظنّ السراية ، فعن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «من قام على مريض يوماً وليلة بعثه الله تعالى مع إبراهيم الخليل على نبيّنا وعليه‌السلام ، وجاز على الصراط كالبرق اللامع» (٣).

والأولى ما دام له شعور أن يؤثر في تمريضه الأرحام المماثل مقدّماً على غيره ، ثمّ الأقرب مقدّماً على غيره ، ثمّ المماثل من غيرهم أولى من غيره ، فإن غلب عليه المرض ، وذهب شعوره كان الوليّ أولى به.

ومنها : عيادته ، فإنّها مستحبّة للرجال ، وربما وجبت حيث يكون إهمالها باعثاً على

__________________

(١) علل الشرائع : ٤٦٥ ح ١٧.

(٢) الخصال : ٢٦ ح ٩١.

(٣) أعلام الدين : ٤٢٠ ، ثواب الأعمال : ٣٤١.

٢٤٧

قطيعة الرحم ، والأقوى القول بالاستحباب في عيادة المرأة لأمثالها أو لأرحامها إلا أنّ الاستحباب في الرجال أشدّ ، فروي «أنّه ما من مسلم يعود مسلماً غداة إلا صلّى عليه سبعون ألف ملك حتّى يصبح» (١).

وروى أيضاً : «أنّه من عاد مريضاً فإنّه يخوض في الرحمة إلى حقويه ، فإذا جلس غمرته الرحمة» (٢). وروى أيضاً : «أنّه من عاد مريضاً لله لم يسأل المريض للعائد شيئاً إلا استجاب الله له» (٣) وروى أيضاً : «أنّ للمسلم حقوقاً ستّة : يسلّم عليه إذا لقاه ، ويعوده إذا مرض ، ويشهده إذا مات» (٤) الخبر.

وعن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ الله يقول لبعض عباده مرضت وما عدتنى ، واستسقيتك فلم تسقني ، واستطعمتك فلم تطعمني ، فيقول العبد كيف ذلك ، وأنت الله المنزّه عن ذلك ، فيقول كذلك فعلت مع عبدي» (٥) ، وروى : «أنّه ليس على النساء عيادة مريض ، ولا اتّباع جنازة ، ولا إقامة عند قبر» (٦).

ويُستحبّ له الجلوس عنده وتخفيفه إلا إذا أحبّ للرواية (٧).

وتتحقّق العيادة بمجرّد الوصول ولو قائماً. وأمّا الجلوس والكلام والسؤال عن حاله فمستحبّ في مستحبّ.

ويستحبّ له أن يبشره بطول الأجل ليسرّه بذلك ، وأن يهدي إليه هديّة كتفّاحة أو سفرجلة أو أُترجة أو قدر من طيب أو بخور أو نحو ذلك ؛ ليستريح إليها ، ووضع يده والدعاء له ، وأن يقول عند دخوله : «أُعيذك بالله العظيم من كلّ عرق نعّار بالعين المهملة والتشديد ، وهو الفوّار ومن شرّ حرّ النار» سبع مرّات. وأن يقول في دعائه :

__________________

(١) أعلام الدين : ٤٤٥ ، عدّة الداعي : ١٨١ ، دعائم الإسلام ١ : ٢١٨ أمالي الطوسي ٦٣٥ ح ١٣١١.

(٢) البحار ٨١ : ٢١٥ ح ٦.

(٣) ثواب الأعمال : ٢٣٠ ح ٣.

(٤) أمالي الطوسي ٤٧٨ ح ١٠٤٣ ، سنن النسائي ٤ : ٥٣ ح ٧٥٣.

(٥) الخصال : ٥١١.

(٦) الكافي ٣ : ١١٨ ح ٦.

(٧) الكافي ٣ : ١١٧ ح ١ ، مكارم الأخلاق : ٣٦٠.

٢٤٨

«أنساك الله العافية ، ولا أنساك الشكر عليها».

وأن يكون بعد كلّ ثلاثة أيّام ، والظاهر احتساب المكسور منها ، وروى : «يوم ، ويوم لا» (١) وأن يترك عيادته ، ويخلّي بينه وبين أهله إذا طال مرضه ، أو يعتوره الإغماء أو الضعف بحيث يحتاج إلى رفق ، وأن يترك الأكل عنده لئلا يحبط أجره ، وأن يسأله الدعاء.

ويستحبّ السعي في حوائجه ، فعن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من سعى في حاجة مريض قضاها أولا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمّه» (٢) وعن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيضاً : «إنّه لا عيادة في دمل ولا ضرس ولا رمد» (٣) ، والظاهر الحمل على رفع شدّة الندب ، وقد يرجّح للعوارض أشدّ رجحان.

ويُستحبّ للمريض وأوليائه أن يأذنوا لإخوانهم المؤمنين بالعيادة ففي الحديث : «إنّ في ذلك أجراً عظيماً للمريض والأولياء والعوّاد» (٤) وأن يلتمس الدعاء منهم ، فإنّه ربما دعوا فيستجاب لهم فيه ، وأن يستشفي بالتربة الحسينيّة من دون أن يزيد على مقدار حِمّصة ، ويكفي الأخذ من مطلق الحرم ، وكلّما قرب إلى القبر الشريف كان أفضل مع المحافظة على الدعاء ، والكيفيّة الخاصّة ، وأن يستعمل الصدقات.

وأن يلتمس الدعاء خصوصاً من الأولياء والأرحام ولا سيّما الأُمّهات والآباء ، وينبغي لوالدته أن ترقي على مكان مرتفع ، والأولى أن يكون بالليل ، وتنشر شعرها ، وتتضرّع ، وتبكي أو تتباكى وتطلب من الله السرور بعافيته ، كما سرّها بحمله وولادته.

ويستحبّ للعراقي وأوليائه إرسال شخص ورعٍ إلى كربلاء ؛ ليدعو له بالشفاء تحت قبّة سيّد الشهداء. وربما جرى في أهل الأماكن البعيدة إذ يرجى حصول الأثر بمجرّد انصراف الداعي عن مكانه متوجّهاً إلى مقصده.

__________________

(١) أمالي الصدوق : ٣٥١ ، تنبيه الخواطر ٢ : ٢٦٣.

(٢) معدن الجواهر للكراجكي : ٣٣ ، مجمع الزوائد ٢ : ٣٠٠.

(٣) الكافي ٣ : ١١٧ ، مكارم الأخلاق : ٣٦٠.

(٤) السرائر ٣ : ٥٩٦ ، البحار ٨١ : ٢١٨ ح ١٢.

٢٤٩

ولكلّ من المشاهد المشرّفة والمساجد وقبور الأنبياء ، ومحالّ الأولياء خصوصيّة في استجابة الدعاء على اختلاف مراتبها ، فيستحبّ إذاً إرسال الداعي إليها.

المبحث الثاني : في الاحتضار

وإنّما سمّي احتضاراً لحضور الملائكة أو الأرحام أو مطلق الناس عنده ، ويسمّى نزعاً ؛ لأنّه وقت نزع الروح من البدن ، وسوقاً ؛ لأنّها تساق منه إلى خارج.

إذا احتضر المؤمن ، ودنا رحيله وجب على الناس كفاية وإن كان الولّي أولى بالحضور عنده ؛ لحفظه ممّا يرد عليه من العوارض الباعثة على تعجيل حتف أنفه أو إهانة نفسه.

وأن يستقبلوا به القبلة إن لم يستقبل بنفسه ، بوضعه على قفاه ، وجعل وجهه ومقاديم بدنه ، وباطن قدميه إلى القبلة ، ولا عبرة بيديه ؛ فإن تعذّر الاستقبال على ذلك الوجه ، فعلى هيئة المضطجع مخيّراً بين الأيمن والأيسر وإن كان الأوّل أولى.

وإن كان في مكان ضيّق أو محمل أو نحوه استقبل به على هيئة الجالس ، وهكذا.

ويسقط الحكم لو كان على دابّة أو في سفينة سائرتين أو مصلوباً أو مقتولاً حدّا أو قصاصاً حال القتل ولو قيل بوجوب الاستقبال في القسمين الأوّلين ابتداءً ، ثمّ يسقط بعد ذلك ؛ أو يستقبل به رأس السفينة أو صدر الدابّة ، لم يكن بعيداً.

ويسقط مع التعذّر ، ومع جهل القبلة إلا أن يعلم المشرق والمغرب ونحوهما فيوجّه بينهما ، ثمّ إذا مات سقط وجوب الاستقبال إلا في الدفن وإن استحبّ في جميع أحوال الوضع مستقرّاً ولو لم يستقبل به أحد وأمكنه الاستقبال بنفسه وجب عليه.

ويستحبّ أن يكون رجاؤه أكثر من خوفه كما في الخبر (١) (وفيه وجهان :

أحدهما : بحسب اختلاف الزمان.

ثانيهما : في كل ان وتعلّق الندب بهما لاختياريّة مقدّماتهما.

__________________

(١) انظر صحيح مسلم ٥ : ١٨٥ ح ٢٦٢١ ، سنن الترمذي ٣ : ٣١١ ح ٩٨٣.

٢٥٠

ولعلّ السرّ فيه : أنّ الرجاء له حالان مراعاة اللطف وحده ، ومع وزنه مع الذنوب ؛ وللخوف حال واحد ، وهو مراعاة الذنوب وحدها.

والمراد من الخوف بالنسبة إلى الأنبياء والأوصياء ما يترتّب على الأهوال لأعلى الاحتمال) (١).

وستر عورته ، وكتمان معايبه ، ورفع القذارات عنه ، وحسن الظنّ به حتّى لو صدرت منه كلمة كفر حملت على الهذيان.

وأمره بحسن الظنّ وتلقينه وهو التلقين الأوّل الشهادتين ، وجميع الاعتقادات الإسلاميّة والإيمانيّة ، والإقرار بالأئمّة واحداً واحداً ، والتبرّي من أعدائهم ، وينصّ على بعض أسماء خاصّة ، وحسن الظنّ بالله ، والاعتماد على شفاعة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل بيته عليهم‌السلام.

ويستحبّ أن يتبع باللسان ، فإن عجز فبقلبه محرّكاً للسانه ، ومشيراً بيديه أو رأسه وعينيه ، فإن قصر عن الكلّ اقتصر على التصديق بقلبه ، وإن كان به صمم أو ثقل في سمعه ، فُهّمَ بالإشارة إن أمكن ، فإن تعذّر ذلك اجتزئ بمجرّد التلاوة ، وكذا الحال في كلّ تلقين.

وكذا يستحبّ تلقينه لفظ «لا إله إلا الله» فقد ورد أنّ من كانت آخر كلامه دخل الجنّة (٢) ، وكلمات الفرج ، وأحوط صورها «لا إله إلا الله الحليم الكريم لا إله إلا الله العليّ العظيم سبحان الله ربّ السماوات السبع وربّ الأرضين السبع ، وما فيهنّ وما بينهنّ وربّ العرش العظيم وسلام على المرسلين والحمد لله ربّ العالمين» (٣).

وتلقينه قول : «اللهمّ اغفر لي الكثير من معاصيك ، واقبل منّي اليسير من طاعتك» (٤).

__________________

(١) ما بين القوسين زيادة في «ح».

(٢) المحاسن ١ : ١٠٢ ح ٧٨ دعوات الراوندي : ٢٥٠ ح ٧٠٣ ، البحار ٨١ : ٢٤١.

(٣) الكافي ٣ : ١٢٤ ، الفقيه ١ : ٧٧ ، المقنعة : ٧٤ ، التهذيب ١ : ٢٨٦.

(٤) الكافي ٣ : ١٢٥.

٢٥١

وقول : «يأمن يقبل اليسير ، ويعفو عن الكثير اقبل منّي اليسير واعف عنّي الكثير إنّك أنت العفوّ الغفور» (١).

وقول : «اللهمّ أعنّى على سكرات الموت» (٢) وقول : «اللهمّ ارحمني فإنكّ كريم» وقول : «اللهمّ ارحمني فإنّك رحيم» (٣).

ويستحبّ أن يقرأ عنده سورة الصافّات ، ويس والأحزاب وآية الكرسي ، وآية السخرة ، وهي «إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ...» (٤) إلى أخره ، وثلاث آيات من آخر سورة البقرة وهي «لِلّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ» (٥) إلى أخره وكذا جميع ما كان من قران أو دعاء أو ذكر أو صلوات على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأن يقال في الدعاء : «اللهمّ سكّن عليه سكرات الموت» (٦).

وتكرار التلقين بما مرّ ، والقراءة والدعاء ونحوهما حتّى يموت ، وأن يكون الملقّن محبوباً عنده وعند أهله غير كريه الصوت ، ولا رافعاً لصوته فوق الوسط ، ولا مكرّراً للتلقين مع عروض الغشيان ، وأن يكون مماثلاً أو محرماً ، ويجزي تلقين المميّز وإن لم يكن مكلّفاً ، وغير المميّز مع تبعيّته له.

ويستحبّ نقله إذا اشتدّ نزعه إلى موضع كان يصلّي فيه أو عليه ، وخفض الوسادة لسهولة النزع ، وقراءة سورة الصافّات لهذا القصد.

ويكره حضور الجنب والحائض والنفساء عنده وإن كان أحدها ، وفي ارتفاع الكراهة بالتيمّم أو طهارة الحائض من الدم قبل الغُسل وجهان ، أقواهما ذلك.

وتكره كثرة الكلام عنده ؛ وأن يحضر عنده من اعتاد تجهيز الأموات لئلا يدخل عليه الرعب ، وعلى أهله اليأس ؛ وأن لا يحضر عنده من كان بينه وبينه عداوة وبغضاء

__________________

(١) الفقيه ١ : ٧٨.

(٢) دعوات الراوندي : ٢٥٠ ح ٧٠٥ ، البحار ٨١ : ٢٤١ ذ. ح ٢٦.

(٣) دعوات الراوندي : ٢٤٩ ح ٧٠٤ ، مستدرك الوسائل ٢ : ١٣٣ أبواب الاحتضار ب ٢٩ ح ٦.

(٤) الأعراف : ٥٤.

(٥) البقرة : ٢٨٥.

(٦) البحار ٧٤ : ٢٣٧ وفيه : سهّل بدل سكّن.

٢٥٢

لدين أو دنيا ، وأن يترك وحده ويستمرّ الحكم إلى جميع أحواله حتّى يدفن على الأقوى وحضور من تضح بوَرس أو زعفران.

والظاهر كراهية حضور كلّ من تلبّس بلباس الغافلين عن الآخرة ، ومسّ بدنه ، والبكاء عنده ، والتخلية بينه وبين النساء خوف الهجوم عليه ، وارتفاع الأصوات ، وكثرة الضجيج وربما حرمت ، لاشتمالها على الأذيّة وربما بعثت على حلول المنيّة ، ويستحبّ اجتناب جميع ما يبعث على عدم احترامه ، وربّما حرم في بعض أقسامه.

المبحث الثالث : في حال خروج الروح من البدن

ينجس بدن غير المعصوم بمجرّد خروج الروح منه ، سواء فيه بدن المؤمن وغيره ، وينجس ما أصابه برطوبة مؤثّرة مع الحرارة والبرودة ، ولا يلزم شي‌ء فيما لاقاه بيبوسة إلا مع البرودة ، فيلزم معها غسل المسّ ، ويبقى الماسّ على طهارته ، كما مرّ في محلّه.

ويستحبّ في تلك الحال للوليّ أو مأذونه أو غيرهما ، مع فقدهما ، في المؤمن تغميض عينيه ، وشدّ لحييه ، ومدّ يديه إلى جنبيه ، وإطباق فمه ، واستمرار ذلك مع إمكانه إلى أن يستره الكفن أو القبر ، وتغطيته بثوب حتّى يشرع في تجهيزه.

وجميع ما ذكر ممّا يطلب نفس وجوده دون التقرّب به يجزي لو صدر من أيّ فاعل كان ، ولو من طفل أو بقصد الرياء ، وأن لا يترك وحده ، وأن يقال عند خروجها منه : «إنّا لله وإنّا إليه راجعون اللهمّ اكتبه عندك في المحسنين ، وارفع درجته في عليّين ، واخلف على عقبه في الغابرين ، ونحتسبه عندك يا ربّ العالمين» (١).

والإسراج عنده ليلاً ، واستمرار ذلك في محلّ موته إكراماً ، وقراءة القرآن عنده ، خصوصاً السور والآيات التي ذكرت في الاحتضار ، وتعاطي ما يبعث على احترامه من حسن مكانه وفراشه وغطائه وغيرها ما لم يشتمل على زهرة الدنيا المبغوضة عند أهل الله ، وهذا جار في جميع أحواله.

__________________

(١) المقنع (الجوامع الفقهيّة) : ٥.

٢٥٣

ويكره حضور الجنب والحائض ، والنفساء عنده ، وإن كان من أحدها كحال الاحتضار ، وفي ارتفاع الكراهة بالتيمّم ومجرّد الطهر قبل الغُسل وجهان أقواهما ذلك ، ويشترط فيما كان من ذكر أو دعاء أو قراءة بنيّة القربة.

ويكره وضع الحديد على بطنه ، وربما ألحق به غيره ، ومباشرته بملل ، وقلّة عناية ، أو بعنف لا يصل إلى حدّ هتك الحرمة ، وإلا فيحرم ، وكثرة الصياح والضجيج ، وهجوم النساء والأرحام ونحوهم عليه ، وتمكينهم من ذلك ، وقد يحرم إذا بعث على هتك الحرمة.

المبحث الرابع : في تجهيزه

وهي تهيئة أسباب رحيله إلى قبره ومقرّه.

يجب كفاية على كافّة المكلّفين المؤمنين وغيرهم وإن لم يصحّ ما كان عبادة منه إلا من المؤمنين الأولياء منهم وغيرهم مع عدمهم أو مع الاستئذان منهم القيام بما يجب للميّت المؤمن ، ومن بحكمه من سقط أو بعض أو تابع لنسب ولو من زنا أو مالك أو وجود في أرض المؤمنين أو أرض فيها مؤمن يمكن أن يكون هو الميّت أو من أبعاضه.

ولا يسقط الوجوب عن الناس بمجرّد الشروع بل بعد إتمام العمل ، وإنّما يرتفع به وجوب المبادرة ، وإذا لم يؤت بالواجب عوقب جميع المكلّفين القادرين العالمين بالحال.

ويختلف الواجب وحدة وكثرة باختلاف المتعلّق ؛ فالتجهيز الواجب قد يكون بمجرّد الدفن أو مع اللفّ بخرقة أو مع الصلاة كالشهيد بين يدي الإمام ، أو مطلقاً في المعركة ويدرك ولا رمق فيه ، ذكراً كان أو لا ، صغيراً أو لا ، مقتولاً بحديد أو لا ، ولو بسلاح نفسه.

وكذا المقتول حدّا كان أو قصاصاً. فإنّه يكتفى بالأعمال المتقدّمة له من دون حاجة إلى إعادتها ، وقد يكون أكثر من ذلك كما سيجي‌ء تفصيله.

ولو حصل التعارض بين الأعمال قدّم الدفن ، ثمّ التغسيل ثم الصلاة ثمّ الكفن ثمّ التحنيط ، ولا بدّ بالإتيان بالممكن من الواجبات ، ولا يسقط وجوب بعضها لعجزه عن

٢٥٤

غيره لا كلا ولا بعضاً وفي تبعيض الغسل والصلاة وجهان أقواهما نعم ، ولا تجهيز وجوباً ولا ندباً لغير المؤمن مسلماً كان أو لا ، وبطون الكلاب ومواضع الخلاء أحقّ به.

والواجب فيه بالقيام الأعمال البدنيّة دون الماليّة ؛ فلا يجب على الناس بذل المال في واجب من الواجبات ، ولا في شي‌ء من المقدّمات ؛ نعم يستحبّ ذلك استحباباً مؤكّداً ، وقد يجب للرحم في بعض المقامات.

ويخرج من أصل ماله مقدّماً على الديون ، والحقوق الإلهيّة ، والوصايا ، والمواريث ؛ فيقدّم ماء الغسل أو قيمته ، وكذا خليطاه وكافور الحنوط والكفن ، وقيمة أرض المدفن ولو توقّف على شرائها ، وأجرة الأعمال مع فقد المتبرّع ، وما يندفع به المانع من ظالم أو غيره. كلّ ذلك فيما يكون بقدر الواجب ، أمّا المستحبّ فلا يخرج إلا تبرّعاً أو من الثلث مع الوصيّة به.

ويجب بذلها جميعاً للمملوك ، والزوجة غير الناشزة ، والأحوط عدم الفرق ، ولا يجب بذل غير الواجب ، ولو أوصت به أُخرج من ثلثها.

ولو أعسر الزوج عن بذل الواجب أُخرج من أصل مالها ، ويرجع به وارثها على الزوج بعد إيساره ، ولو لم يكن للميّت مال ولا باذل جُهّزَ من بيت المال أو الزكاة على الأقوى.

ويجب على المكلّفين فعل ما يجب عليهم قبل حصول الفساد لبدنه أو حصول ما يظنّ مانعيّته عن القيام بواجبه أو مضيّ زمان متجاوز للعادات بحيث يعدّ تهاوناً في أمره.

ويُستحبّ تعجيله فوق ذلك ، ففي الخبر النبويّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا ينتظر بمن مات نهاراً ليل ، ولا بمن مات ليلاً نهار» (١).

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إذا مات أوّل النهار فلا يُقيل إلا في قبره» (٢) ويستثنى من ذلك أُمور :

منها : الانتظار به لمصالحه كطلب المكان الموافق أو السرير أو الكفن الجيّد أو الحنوط الكامل أو الماء المشرّف أو القبر الموافق أو حضور المشيّعين أو الجريدتين أو تربة الحسين

__________________

(١) الكافي ٣ : ١٣٧ ح ١ ، الفقيه ١ : ٨٥ ح ٤٤.

(٢) الكافي ٣ : ١٣٨ ح ٢ ، التهذيب ١ : ٤٢٨ ح ٥.

٢٥٥

عليه‌السلام ونحوها ؛ فإنّه ربما يرجّح لها التأخير ما لم ينته إلى فساد ونحوه.

ومنها : ما لو كان التأخير لخوف عليه من حوادث ، كإبعاده من أرض الأعداء خوفاً عليه من نبش أو إحراق أو تمثيل أو هتك حرمة بجعله غرضاً للنشّاب أو ملعبة للصبيان ونحو ذلك. أو لخوف عليه من شدائد الآخرة ، وهو أولى من الأوّل بالملاحظة فينقل إلى مشاهد الأئمّة عليهم‌السلام أو من مشهد إلى أفضل منه ، وربما يلحق مقابر الأولياء والشهداء بل مقابر المؤمنين.

ويجوز حينئذٍ نقله كلا أو بعضاً عظماً مجرّداً أو لحماً منفرداً أو مجتمعاً مع العظم بعد الدفن وقبله ؛ ولا بأس بشقّ بطنه والتمثيل به إذا توقّف النقل عليه ، والأولى في الشهيد دفنه في محلّه.

ومنها : ما لو شكّ في موته لعروضه فجأة بإغماء أو دهشة أو حرق أو غرق أو صعق أو غلبة بخار أو نحوها ، فينتظر به أحد الأمرين :

إمّا يقين بمجموع علامات أو أمارات به ، كحدوث الرائحة ، وانخساف الصدغين ، وميل الأنف ، وامتداد جلدة الوجه ، وانخلاع الكفّ من الذراع ، واسترخاء القدمين ، وتقلّص الأُنثيين إلى فوق ، وتدلّى جلدتهما ، وزوال النور عن بياض العين وسوادها ، وزوال حركة النبض ، وانتفاخ البطن ، واصفرار البدن إلى غير ذلك.

أو انتظار ثلاثة أيّام ، مع الليلتين المتوسّطتين فقط على الأقوى ؛ والكسر يجبر من الليلة الرابعة أو يومها على الأصحّ.

ومنها : ما لو كان مصلوباً فإنّه يجوز أن يؤخّر ثلاثة أيّام لتعتبر به الناس ، ولا يزاد على ذلك.

ومنها : أن يكون حاملاً ، وفي بطنها ولد حيّ فإنّه يجب التأخير حتّى تشقّ بطنها من الجانب الأيسر ، ويخرج منها ، ثمّ يخاط ، ويؤتى بالأعمال ، ونحوه ما لو كان مبتلعاً لمال ضارٍّ ، وفي الجواز مطلقاً إشكال ، ولعلّ الشقّ هنا من وسط البطن أولى ، ولو كان الولد ميّتاً في بطنها ، وهي حيّة فيقطع ، ويخرج من فرجها قطعة قطعة.

والمتولّي لتلك الأعمال فيما يتوقّف على النظر إلى العورة أو مسّها من جاز نظره

٢٥٦

إليها أو مسّه إيّاها كأحد الزوجين ، مع قابليّتهما للقيام بذلك ، وفي غير ذلك يقدّم المماثل ثمّ المحرم ، فإن تعذّر الجميع تولاه غيرهم ؛ للضرورة.

ثمّ ما كان من غير العبادات التي يعتبر فيها نيّة القربة يصحّ وقوعها من أيّ متولّ كان مؤمناً أو غيره بالغاً أو لا عاقلاً أو لا بإذن الوليّ وبدونه ، وإن فعل حراماً بالمباشرة فيما فيه الولاية.

وأمّا ما كان من العبادات فلا يتولّى شيئاً منها سوى المؤمن العاقل البالغ مع إذن الوليّ فيما له ولايته وإن وقع من المميّز صحّ ، ولم يسقط تكليف المكلّفين إلا الاطلاع الباطني.

واشتراط العوض لا يفسد شيئاً من القسم الأوّل وإن خلا الفعل عن نيّة القربة ؛ إلا أنّ الاشتراط والأخذ في الواجب محظور.

وفي قسم العبادات كالغسل والصلاة والذكر والقراءة والدعاء لا مانع من اشتراط أخذه على المندوبات منها ، أو من أجزائها أو مقدّماتها ، ولا ينافي التقرّب.

وأمّا الواجب منها فيحرم فيه الشرط والأخذ ، إلا أنّ أخذ المال حرام متقدّماً أو متأخّراً لا ينافي قصد القربة ، إلا أن يعلم عدم ارادة التقرّب ، وأنّى لنا بذلك ، وأفعال المسلمين تبنى على الصحّة ، وأمّا لو كان الدفع على وجه الهبة فلا بأس به على كلّ حال.

ولا يجب الفحص عن حال ميّت وضعه المسلمون للصلاة أو أرادوا دفنه في أنّه غسّل أو لا ، كفّن أو لا ، حنّط أو لا ، بل البناء على الصحّة ، ويسقط بذلك التكليف عن المكلّفين.

المبحث الخامس : في التغسيل

وفيه فصول :

[الفصل] الأوّل : في بيان أجره

وفيه أجر عظيم ، وثواب جسيم ، فعن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال

٢٥٧

«من غسّل مؤمناً فأدّى فيه الأمانة كان له بكلّ شعرة منه عتق رقبة ، ورفع له مائة درجة ، فقيل له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

وكيف يؤدّي الأمانة؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يستر عورته ، وشينه ، وإن لم يفعل حبط أجره ، وكشفت عورته في الدنيا والآخرة» (١).

وعن الباقر عليه‌السلام : «أنّه فيما ناجى موسى على نبيّنا وآله وعليه‌السلام ربّه قال : ما لمن غسّل الموتى؟ قال أغسله من ذنوبه كيوم ولدته أمّه» (٢).

وعن الصادق عليه‌السلام أنّه قال : «من غسّل مؤمناً فأدّى فيه الأمانة غفر له ، فسئل عن الأمانة ، فقال : أن لا يخبر بما يرى» (٣).

الفصل الثاني : في الغاسل

يجب كفاية على كلّ مكلّف مؤمن أو مخالف أو كافر وإن لم يصحّ إلا من المؤمن ، مع الاستئذان من الولي العرفي إن كان ، وإلا فمن الشرعي ، ومع تعذّر الوصول إليهما قبل الفساد يسقط حكم الاستئذان ، ومع عدم مباشرة الولي وعصيانه (٤) ، وتسقط ولايته ، ويستوي المكلّفون فيه تغسيلُ من يجب تغسيله من مؤمن أو مؤمنة مماثلين ، أو مرتبط بعلقة الملك مع عدم إباحة البضع لغير المالك ، أو بعلقة الزوجيّة ، ولو بعد انقضاء عدّة الوفاة ، أو التحليل ، أو المحرمية ، أو من لم يزد سنّه عن ثلاث سنين.

ولا يصحّ من غير المؤمن إلا مع التعذّر ، فيؤمر النصراني أو النصرانيّة بغسل بدنهما ، وتغسيل مماثلهما ، فيكون الغرض التعبّد بالصورة ، ويؤمران بإيجاد صورة النيّة ، وقد يقال بلزوم قيام من حضر من المسلمين بها أو بالسقوط ، ويؤمران أيضاً

__________________

(١) ثواب الأعمال : ٣٤٤ ذ. ح ١.

(٢) الكافي ٣ : ١٦٤ ح ٤ ، الفقيه ١ : ٨٥ ح ٤٥ ، ثواب الأعمال : ٢٣١ ح ١.

(٣) أمالي الصدوق : ٤٣٤ ح ٤ ، ثواب الأعمال : ٢٣٢ ح ٢ ، التهذيب ١ : ٤٥٠ ح ١٠٥ ، وفي الكافي ٣ : ١٦٤ عن أبي جعفر (ع) ، وبدل أن لا يخبر : أن لا يحدّث.

(٤) وفي «ح» : عضله له.

٢٥٨

بالتجنّب عن إصابتهما الماء أو بدن الميّت إن أمكن ، ويتسرّى الحكم إلى اليهود بل وإلى المخالف لأهل الحقّ ؛ إلا في لزوم غَسل البدن قبل التغسيل ، فإنّه لا يلزمه ذلك على الأقوى ، ولو ارتفع العذر قبل الدفن أعيد الغسل.

ولا يصحّ من غير المكلّف إلا أن يكون مميّزاً على الأصحّ فيصحّ ، ولا يرفع الوجوب على الناس لعدم إمكان الاطلاع الباطني ، وأصل الصحّة هنا غير جار ، وفي الاكتفاء بمباشرة المقدّمات (١) الخارجيّة من غسل اليدين والرأس بالسدر ونحوه ممّا يظهر أنّ الغرض وجوده ممّن لا تصحّ منه العبادة مع طهارة بدنه وجه قويّ.

ولو تعذّر الانتظار ، ولم يحصل سوى غير المماثل من الأجانب دفن بلا غُسل ، مع الإتيان بالأعمال الباقية ، وكذا مجهول الحال كالخُنثى والممسوح ، والأبعاض المجهول أصلها ، وللقول بعدم اعتبار المماثلة هنا وجه (٢).

ولو تولّى غير القابل صبّاً أو تقليباً ، وكان القابل هو الغاسل لم يكن بأس ، أو كان الوصف صادقا على كلّ منهما بالاستقلال لا مختصّا بغير القابل ، ولا مشتركاً ، بشرط الاجتماع صحّ ، وإلا فسد ، ويصحّ من الحائض والجنب وإن كان مكروهاً.

ويجب حبس نظره عن النظر ، وبدنه عن اللمس فيما يحرم نظره (٣) ولمسه ، ويشترط استئذان الولي فيه ، واستئذان الغاسل مالك العين أو المنفعة ، وسائر من له سلطان عليه. ويجب أن لا يكون له مانع شرعي من معارضة واجب مضيّق ، وإن كان صحيحاً مع المعارضة.

ويستحبّ أن يكون أميناً ثقة بصيراً بالعمل ، وهو جارٍ في كلّ عمل ، وأن يتوضّأ قبل الغسل إذا مسّ قبله أو يغتسل ، ومع الجنابة يتوضّأ ثمّ يغسل ، وأن يغسل يديه إلى المرفقين بعد الفراغ. وأن يقدّم المماثل على غيره ممّن يجوز مباشرته ، ثمّ الزوج على غيره ، ولو اشتركا أو اشتركوا في الغسل مجتمعين أو مترتّبين كان حال كلّ منهم كحال

__________________

(١) في «م» و «س» : المندوبات.

(٢) الشهيد الأوّل في الذكرى : ٣٩ ، والبيان : ٦٩.

(٣) في «ح» : زيادة : إليه.

٢٥٩

الغاسل ، فينوي الكلّ (١) أو البعض أو على الاختلاف.

والصابّ والمقلّب دفعة إن اختصّ أحدهما بقصد إجراء الماء فهو الغاسل ، كما لو تلقّى المقلّب الماء من الصابّ فأجراه ، فإنّه يكون هو الغاسل ، وإلا فالصابّ ، ولو اشتركا في الإجراء كانا معاً غاسلين.

الفصل الثالث : فيمن يجب على الناس تغسيله

إنّما يجب تغسيل الميّت بعد برده إذا كان مؤمناً أو من بحكمه ؛ ولو سقطاً بلغ أربعة أشهر ، فما زاد ، أو أبعاضه الملحقة به في الحكم ، مع عدم المانع.

ولا يُغسّل كافر ، ولا مخالف ، ولا شهيد قتل في المعركة بين يدي الإمام ، ولم يدرك وفيه رمق الحياة ، جنباً كان أو لا ولا مستوجب للقتل بحدّ أو قصاص ، وقد اغتسل من قَبلُ بأمر الحاكم أو من قِبَل نفسه غسلَ الأموات مشتملاً على شرائطه ، لا غسلاً واحداً على الأقوى ، ولو اتّفق موته بعد ذلك الغسل بسبب آخر غسل جديداً ، ولو كانت عليه أغسال متعدّدة أجزأ ذلك الغسل عنها كغسل الميّت ، ولو بقي حيّاً أعادها ولا من يفسد الماء بدنه ، ويبعث على تسليخ جلده وتناثر لحمه.

ولو اختلط بما يجب تغسيله غسّل الجميع ، ولو اشتبه كسقط أو بعض جهل حالهما قوي الوجوب.

وذات الحمل إن مات حملها في بطنها غسّلت على حالها ، وإن خرج منه بعض وبقي في بطنها بعض ، احتمل جعلها معه كميّت واحد ، فيغسّل الخارج تبعاً لها ، ولا حاجة إلى إخراجه ، والأحوط الإخراج.

ولو كان الماء متعذّراً أو غير ممكن الاستعمال لبرودة أو غيرها ، أو كان استعماله يفسد البدن ويسلخه ، ويبعث على تناثر لحمه ، رجع إلى التيمّم.

ولا يجزي تيمّم واحد عن الأغسال الثلاثة ، فلا بدّ (٢) من الإتيان بثلاث تيمّمات

__________________

(١) في «س» ، «م» زيادة : الكلّ

(٢) في «م» ، «س» بدل ، فلا بدّ من : الأحوط.

٢٦٠