كتاب الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم

أبي جعفر أحمد بن محمّد بن إسماعيل النحّاس [ ابن النحّاس ]

كتاب الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم

المؤلف:

أبي جعفر أحمد بن محمّد بن إسماعيل النحّاس [ ابن النحّاس ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الكتب الثقافية
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٠٤

ان علي بن أبي طلحة روى عن ابن عباس في قوله تعالى ( ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها ) (١) .. قال ننساها نتركها هكذا يقول المحدثون والصواب نتركها .. [ قال أبو جعفر ] في هذا معنى لطيف شرحه سهل بن محمد على مذهب ابن عباس وبين معنى ذلك .. قال ننسخ حكمها يريد بأنه غيرها وننسها نزيل حكمها بأن نطلق لكم تركها .. كما قال عزّ وجلّ ( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ ) (٢) الآية ثم أطلق للمسلمين ترك ذلك من غير آية نسختها فكذا اذا تداينتم بدين الى أجل مسمى فاكتبوه وكذا وأشهدوا اذا تبايعتم .. [ قال أبو جعفر ] فأما النسخ فكما قال محمد بن جرير .. وأما الندب فلا يحمل عليه الأمر الا بدليل قاطع .. وأما قول مجاهد هذا لا يجوز الرهن إلا في السفر لأنه في الآية كذلك فقول شاذ الجماعة على خلافه وقرأ علي .. أحمد بن شعيب عن يوسف بن حماد قال حدثنا سفيان بن حبيب عن هشام عن عكرمة عن ابن عباس .. قال توفي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ودرعه مرهونة عند يهودي بثلاثين صاعا من شعير لأهله .. [ قال أبو جعفر ] وليس كون الرهن في الآية في السفر مما يحظر غيره .. وأما إذا تداينتم بدين فالفائدة في تداين .. وقد تقدم تداينتم بدين فالجواب عنه أن العرب تقول تداينا أي تجارينا وتعاطينا الأخذ بيننا فأبان الله تعالى بقوله بدين المعنى الذي قصد له .. واختلف العلماء في الآية التي هي تتمة ثلاثين آية من هذه السورة .. فمنهم من قال هي منسوخة .. ومنهم من قال هي محكمة خاصة.

باب

ذكر الآية التي هي تتمة ثلاثين آية

قال عزّ وجلّ ( وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ ) (٣) فعن ابن عباس فيها ثلاثة أقوال .. أحدها انها منسوخة بقوله ( لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ ) (٤) وسنذكره باسناده .. والثاني أنها غير منسوخة وإنما عامة يحاسب المؤمن والكافر والمنافق بما أبدى وأخفى فيغفر للمؤمنين ويعاقب الكافرين والمنافقين .. والثالث انها مخصوصة هي وإنما في كتمان الشهادة وإظهارها كذا

__________________

(١) سورة : البقرة ، الآية : ١٠٦

(٢) سورة : الممتحنة ، الآية : ١٢

(٣) سورة : البقرة ، الآية : ٢٨٤

(٤) سورة : البقرة ، الآية : ٢٨٦

٨١

روى زيد بن أبي زياد عن مقسم عن ابن عباس .. وأما الرواية عن عائشة رضي‌الله‌عنها فإنها قالت ما همّ به العبد من خطيئة عوقب على ذلك بما يلحقه من الهم والحزن في الدنيا .. فهذه أربعة أقوال قرأ علي .. أحمد بن محمد بن الحجاج عن يحيى بن سليمان قال حدثنا اسماعيل بن علية قال حدثنا ابن أبي نجيح عن مجاهد في قول الله تعالى ( وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ ) (١) .. قال هذا في الشك واليقين وهذه الأقوال الخمسة يقرب بعضها من بعض .. فقول مجاهد في الشك واليقين قريب من قول ابن عباس بأنها لم تنسخ وأنها عامة .. وقول ابن عباس الذي رواه عنه مقسم أنها في الشهادة يصح على أن غير الشهادة بمنزلتها .. وقول عائشة رضي‌الله‌عنها أنه ما يلحق الانسان في الدنيا على أن يكون خاصة أيضا .. فأما أن تكون منسوخة فتصح من جهة وتبطل من جهة .. فأما الجهة التي تبطل منها فإن الأخبار لا يكون فيها ناسخ ولا منسوخ ومن زعم أن في الأخبار ناسخا أو منسوخا فقد ألحد أو جهل فأخبر الله سبحانه وتعالى أنه يحاسب من أبدى شيئا أو أخفاه فمحال أن يخبر بضده وأيضا فان الحكم اذا كان منسوخا فإنما ينسخ بنفيه بآخر ناسخ له ناف له من كل جهاته فلو كان لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ناسخا لنسخ تكليف ما لا طاقة به وهذا منفي عن الله تعالى أن يتعبد به كما قال تعالى ( لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها ) (٢) وصح عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه كان يلقن أصحابه إذا تابعوا فيما استطعتم به .. وأما الوجه الذي يصح منه وهو الذي ينبغي ان يبين ويوقف عليه لأن المعاند ربما عارض بقول الصحابة والتابعين في أشياء من الأخبار ناسخة ومنسوخة فالجاهل باللغة .. إما ان يجد فيها وإما أن يلحد فيقول وأخبار ناسخة ومنسوخة وهو يعلم ان الانسان إذا قال قام فلان ثم نسخ هذا فقال لم يقم فقد كذب وفي حديث ابن عباس تبين ما أراد كما حدثنا .. محمد بن جعفر الأنباري قال حدثنا صالح بن زياد الرقي قال حدثنا يزيد قال أنبأنا سفيان بن حسين عن الزهري عن سالم أن عبد الله بن عمر .. تلا ( وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ ) (١) فدمعت عيناه فبلغ صنعه ابن عباس .. فقال يرحم الله أبا عبد الرحمن صنع كما صنع أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين أنزلت ونسختها الآية التي بعدها ( لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ ) (٣) معنى نسختها نزلت بنسختها وليس هذا من الناسخ والمنسوخ في شيء قرأ علي .. عبد الله بن الصفر بن نصر عن زياد بن أيوب قال أنبأنا هشيم قال أنبأنا شيبان عن الشعبي .. قال لما نزلت( وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ

__________________

(١) سورة : البقرة ، الآية : ٢٨٤

(٢) سورة : الطلاق ، الآية : ٧

(٣) سورة : البقرة ، الآية : ٢٨٦

٨٢

تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ ) (١) لحقتهم منها شدة حتى نسختها ما بعدها وفي هذا معنى لطيف .. وهو أن يكون معنى نسختها نسخت الشدة التي لحقتهم أزالتها كما يقال نسخت الشمس الظل أي أزالته ومن أحسن ما قيل في الآية وأشبه بالظاهر قول ابن عباس إنها عامة يدلك على ذلك ما حدثناه .. أحمد بن علي بن سهل قال حدثنا زهير وهو ابن حرب قال أنبأنا إسماعيل وهو ابن علية عن هشام وهو الدستوائي عن قتادة عن صفوان بن محرز قال .. قال رجل لابن عمر كيف سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول في النجوى؟. قال سمعته يقول له : « يدنى المؤمن من ربه عز وجل ويضع عليه كنفه فيقرره بذنوبه .. فيقول هل تعرف فيقول رب أعرف قال فإني قد سترتها عليك في الدنيا وإني أغفرها لك اليوم فيعطى صحيفة حسناته وأما الكافر والمنافقون فينادى بهم على رءوس الخلائق هؤلاء الذين كذبوا على الله » .. ففي هذا الحديث معنى حقيقة الآية وأنه لا نسخ فيها وإسناده لا يدخل القلب منه لبس وهو من أحاديث أهل السنة والجماعة.

__________________

(١) سورة : البقرة ، الآية : ٢٨٤.

٨٣

سورة آل عمران

بسم الله الرحمن الرحيم

[ قال أبو جعفر ] أحمد بن محمد بن اسماعيل الصفار النحوي لم نجد في هذه السورة بعد تقصّ شديد مما ذكروه في الناسخ والمنسوخ الا ثلاث آيات ولو لا محبتنا أن يكون الكتاب مشتملا على كل ما ذكر منها لكان القول فيها أنها ليست بناسخة ولا منسوخة ونحن نبين ذلك إن شاء الله تعالى.

باب

ذكر الآية الأولى من هذه السورة

قال الله تعالى ( قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً ) (١) .. فزعم بعض الناس أن هذا منسوخ وذلك أنها شريعة فذكرها الله تعالى فكان لنا أن نستعملها ما لم تنسخ ثم إنها نسخت على لسان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما قرئ على .. أحمد بن حماد عن سعيد بن أبي مريم قال أنبأنا عبد العزيز الدراوردي قال أنبأنا حزام بن عثمان عن عبد الرحمن ومحمد ابني جابر بن عبد الله عن أبيهما .. قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « لا صمت يوما إلى الليل » قال فنسخ إباحة الصمت .. وقد قال تعالى إخبارا عن مريم ( فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا ) (٢) ليس في هذا ناسخ ولا منسوخ لأن الحديث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا صمت يوما أنه لا يحل لأحد أن يصمت يوما إلى الليل فلا يذكر الله عز وجل ولا يسبح .. وهذا محظور في كل شريعة والدليل على هذا أن بعد قوله ( أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً ) الأمر بالتسبيح عشيا وبكرا .. وزعم بعض أهل العلم أن الآية الثانية منسوخة .. وقال بعضهم هي محكمة.

باب

ذكر الآية الثانية

قال الله تعالى ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ ) (٣) .. فمن أجل ما روي في تفسيرها وأوضحه ما حدثناه .. علي بن الحسين قال حدثنا الحسين بن محمد قال حدثنا

__________________

(١) سورة : آل عمران ، الآية : ٤١

(٢) سورة : مريم ، الآية : ٢٦

(٣) سورة : آل عمران ، الآية : ١٠٢

٨٤

عمرو بن الهيثم قال حدثنا المسعودي عن زيد عن مرة عن عبد الله بن مسعود في قوله ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ ) .. قال أن يطاع فلا يعصى ويذكر فلا ينسى وأن يشكر فلا يكفر وحدثنا .. جعفر بن محمد الأنباري قال حدثنا موسى بن هارون الطوسي قال حدثنا الحسين وهو ابن محمد المروزي قال حدثنا شيبان عن قتادة في قوله تعالى ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ ) قال أن يطاع فلا يعصى ثم أنزل التخفيف فاتقوا الله ما استطعتم فنسخت هذه التي في آل عمران .. [ قال أبو جعفر ] محال أن يقع هذا ناسخ ولا منسوخ إلا على حيلة وتلك أن معنى نسخ الشيء إزالته والمجيء بضده فمحال أن يقال ( اتَّقُوا اللهَ ) منسوخ ولا سيما مع قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مما فيه بيان الآية .. [ قال أبو جعفر ] كما قرأ عليّ .. أحمد بن محمد بن الحجاج عن يحيى بن سليمان .. قال حدثنا أبو الأحوص قال حدثنا أبو إسحاق عن عمرو بن ميمون عن معاذ بن جبل قال .. قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « يا معاذ أتدري ما حق الله على العباد؟ قلت الله ورسوله أعلم قال أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا » أفلا ترى أنه محال أن يقع في هذا نسخ والذي قلناه قول ابن عباس .. [ قال أبو جعفر ] كما حدثنا بكر بن سهل قال حدثنا عبد الله بن صالح قال حدثنا معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس .. قال قوله تعالى ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ ) أن تجاهدوا في الله حق جهاده ولا يأخذكم في الله لومة لائم وتقوموا بالقسط ولو أنفسكم وآبائكم وأبنائكم .. [ قال أبو جعفر ] فكل ما ذكر في الآية واجب على المسلمين أن يستعملوه ولا يقع فيه نسخ وهو قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « أن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئا » وكذا على المسلمين كما قال ابن مسعود أن تطيعوا الله فلا تعصوه وتذكروه فلا تنسوه وان تشكروه فلا تكفروه وأن تجاهدوا فيه حق جهاده .. وأما قول قتادة مع محله من العلم أنها نسخت فيجوز أن يكون معناه نزلت فاتقوا الله ما استطعتم ينسخه اتقوا الله حق تقاته وانها مثلها لأنه لا يكلف أحدا الا طاقته .. وزعم قوم من العلماء الكوفيين أن الآية الثالثة ناسخة .. وقال غيرهم هي محكمة وليست بناسخة.

باب

ذكر الآية الثالثة

قال الله تعالى ( لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ ) (١) فزعم بعض الكوفيين أن هذه الآية ناسخة للقنوت الذي كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يفعله بعد الركوع في

__________________

(١) سورة : آل عمران ، الآية : ١٢٨

٨٥

الركعة الآخرة من الصبح واحتج بحديث حدثناه .. أحمد بن محمد بن نافع قال حدثنا سلمة قال حدثنا عبد الرزاق قال أنبأنا معمر عن الزهري عن سالم عن ابن عمر ان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم .. لعن في صلاة الفجر بعد الركوع في الركعة الاخيرة فقال اللهم العن فلانا وفلانا ناسا من المنافقين فأنزل الله عز وجل ( لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ ) الآية .. [ قال أبو جعفر ] فهذا إسناد مستقيم وليس فيه دليل على ناسخ ولا منسوخ وإنما نبهه الله على أن الأمر اليه ولو كان هذا ناسخا لما جاز أن يلعن المنافقون واحتج أيضا بما حدثناه .. علي بن الحسين عن الحسن بن محمد قال أنبأنا إبراهيم بن سعد عن الزهري عن أبي سلمة وابن المسيب عن أبي هريرة .. قال كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم اذا أراد أن يدعو على أحد أو يدعو لأحد قنت بعد الركوع فربما قال إذا قال سمع الله لمن حمده ربنا لك الحمد اللهم أنج الوليد بن الوليد وسلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة والمستضعفين من المؤمنين اللهم أشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسني يوسف حتى أنزلت ( لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ ) وهذا نظير الحديث الأول وفيه حجة على الكوفيين لأنهم يقولون لا يجوز أن يدخل في الصلاة إلا ما كان في القرآن وما أشبهه وليس في القرآن من هذا شيء ولذلك عارض هذا المحتج بأن جعله في الناسخ والمنسوخ بلا حجة واضحة ولا دليل واضح لما صح عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الدعاء في الصلاة بغير ما في القرآن وعن الصحابة والتابعين وأيضا فإن العرب إنما كانت تعرف الصلاة في كلامها الدعاء كما .. قال الشاعر :

تقول بنتي وقد قربت مرتحلا

يا رب جنب أبي الاوصاب والوجعا

عليك مثل الذي صليت فاعتصمي

يوما فإن لجنب المرء مضطجعا

فسميت الصلاة صلاة لأن الدعاء فيها .. وهذا قول المدنيين لأن الإنسان يدعو في صلاته بما شاء من الدعاء والطاعة وعلى انه قد روي مما صح عنه سنده في نزول الآية غير هذا من ذلك ما حدثناه .. علي بن الحسين عن الحسن بن محمد قال حدثنا يزيد بن هارون قال حدثنا حميد الطويل عن أنس بن مالك .. قال شج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في وجهه وكسرت رباعيته ورمي رمية على كتفه فجعل يمسح الدم عن وجهه ويقول كيف تفلح أمة فعلوا بنبيهم هذا فأنزل الله عز وجل ( لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ ) (١) وهذا الحديث ليس بناقض لما تقدم لكون الأمرين جميعا واقعين فنزلت الآية قرأ عليّ ..

__________________

(١) سورة : آل عمران ، الآية : ١٢٨

٨٦

أحمد بن محمد بن الحجاج عن يحيى بن سليمان قال حدثني يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق قال حدثني يعقوب بن عتبة عن سالم بن عبد الله بن عمر قال .. جاء رجل من قريش الى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال إنك تنهى عن الشيء قد سنته العرب ثم تحول وحول قفاه الى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكشف استه في وجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلعنه ودعا عليه فأنزل الله تعالى ( لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ ) فأسلّم الرجل وحسن إسلامه وهذا الحديث وإن كان منقطعا فإنما ذكرناه لأن سالما هو الذي وصله عن أبيه وفي هذا زيادة أن الرجل أسلّم فعلم أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نبه على أنه لا يعلم من الغيب شيئا وأن الأمر كله بيد الله يتوب على من يشاء ويجعل العقوبة لمن يشاء والتقدير ليس لك من الأمر شيء ولله ما في السموات وما في الارض دونك ودونهم يغفر لمن يشاء ويتوب على من يشاء ويعذب من يشاء فتبين بهذا كله أنه لا ناسخ ولا منسوخ في هذا وحدثنا .. أحمد بن محمد بن نافع قال حدثنا سلمة قال حدثنا عبد الرزاق قال أنبأنا معمر عن الزهري وعن عثمان الخدري عن مقسم قال .. دعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على عتبة بن أبي وقاص حين كسرت رباعيته ودمي وجهه فقال : اللهم لا يبلغ الحول حتى يموت كافرا قال فما بلغ الحول حتى مات كافرا الى النار.

٨٧

سورة النساء

بسم الله الرحمن الرحيم

قال الله تعالى ( وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ) (١) .. [ قال أبو جعفر ] في هذه الآية إشكال وتفسير ونحو وقد ذكرنا ما فيها إلا ما كان من النسخ فإنها على مذهب جماعة من الفقهاء ناسخة .. وذلك أن الناس كانوا في الجاهلية وبرهة من الاسلام يتزوّج الرجل ما شاء من الحرائر فنسخ الله ذلك من القرآن والسنة والعمل وأنه لا يحل لأحد أن يتزوّج فوق أربع ونسخ ما كانوا عليه .. قال الحسن والضحاك كان الرجل يسلّم وعنده عشر نسوة منهنّ من قد تزوجه في الجاهلية ومنهنّ من قد تزوجه في الإسلام أو أكثر أو أقل حتى سألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن اليتامى فنزلت ( وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى ) أي لا تعدلوا ( فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ ) أي كما خفتم في اليتامى فخافوا من نكاح أكثر من أربع في نكاح النساء .. قال محمد بن الحسن في رجل أسلّم وعنده عشر نسوة قال يخلي منهنّ شيئا ويمسك أربعا من اللواتي تزوج بدءا فبدءا وليس له أن يختار منهنّ أربعا فإن احتج بالحديث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه خير غيلان فقال اختر أربعا قيل للمحتج بهذا إن غيلان تزوج عشرا وذلك مباح فكان العشر مباحات فلما رفع ذلك قيل له اختر .. [ قال أبو جعفر ] وهذا كلام لطيف حسن غير أن مالكا والشافعي وأبا حنيفة يخيرونه عن ظاهر الحديث ولم يزل المسلمون من لدن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى هذا الوقت يحرمون ما فوق الأربع بالقرآن والسنة قرأ علي .. أحمد بن شعيب عن الحسن بن حريب قال أنبأنا الفضل بن موسى قال أخبرني معمر عن الزهري عن سالم عن ابن عمر قال .. أسلّم غيلان بن سلمة وعنده عشر نسوة فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « أمسك أربعا وفارق سائرهن » قرأ عليّ .. أحمد بن محمد بن الحجاج عن يحيى بن سليمان قال حدثنا عبد الرحمن بن زياد عن أبي جعفر الرازي عن محمد بن السائب عن حميصة بن الشمر دل عن قيس بن الحارث قال أسلمت وكان تحتي في الجاهلية ثماني نسوة فأتيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبرته فقال : « اختر منهن أربعا وخل سائرهن » ففعلت .. [ قال أبو جعفر ] ومعنى مثنى في اللغة اثنين اثنين وثلاث ثلاثا ثلاثا وهذا مذهب الخليل وسيبويه والكسائي وغيرهم ولهذا لم يصرف وقيل معدول وليس معناه اثنتين فقط فيعارض

__________________

(١) سورة : النساء ، الآية : ٣

٨٨

معارض بأن يقول اثنتان وثلاث ورباع تسع وأيضا فليس من كلام الفصحاء اثنتين اثنتين وثلاثا وأربعا فلو كان معناه تسعا لكان المعنى انكحوا تسعا وكان وما كان محظورا ما بيّن لك .. [ قال أبو جعفر ] وهذه احتجاجات قاطعة وإن كان في توقيف الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم كفاية مع الإجماع من الذين لا يجتمعون على غلط ولا خطأ .. واختلف العلماء في الآية الثانية .. فمنهم من قال هي منسوخة .. ومنهم من قال هي محكمة.

باب

ذكر الآية الثانية

قال الله تعالى مخاطبا للأوصياء في أموال اليتامى ( وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ ) (١) فمنع جماعة من أهل العلم الوصي من أخذ شيء من مال اليتيم .. فحكى بشر بن الوليد عن أبي يوسف فقال لا أدري لعل هذه الآية منسوخة بقوله ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ ) (٢) .. وقال أبو يوسف لا يحل أن تأخذ من مال اليتيم شيئا اذا كان معه في المصر فإن احتاج أن يسافر من أجله فله أن يأخذ ما يحتاج إليه ولا يقتني شيئا وهو قول أبي حنيفة ومحمد وحدثنا .. جعفر بن مجاشع قال حدثنا إبراهيم بن إسحاق قال حدثنا إبراهيم بن عبد الله قال حدثنا حجاج عن ابن جريج عن عطاء الخراسانيّ عن ابن عباس ( وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ ) قال نسخ الظلم والاعتداء ونسختها ( إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً ) (٣) ثم افترق الذين قالوا الآية محكمة فرقا .. فقال بعضهم إن احتاج الوصي فله أن يقترض من مال اليتيم فاذا أيسر قضاه وهذا قول عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه وعبيدة وأبي العالية وسعيد بن جبير واستشهد عبيدة وأبو العالية بأن بعده ( فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ ) (١) كما قرأ عليّ .. الحسين بن عليب بن سعيد عن يوسف بن عدي قال حدثنا أبو الأحوص قال حدثنا أبو إسحاق عن يرفأ مولى عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه .. قال قال عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه يا يرفأ إني أنزلت مال الله مني بمنزلة مال اليتيم ان احتجت

__________________

(١) سورة : النساء ، الآية : ٦

(٢) سورة : النساء ، الآية : ٢٩

(٣) سورة : النساء ، الآية : ١٠

٨٩

أخذت منه وإن أيسرت قضيته وإني إن استغنيت استعففت وإني قد وليت من أمر المسلمين أمرا عظيما .. [ قال أبو جعفر ] هذا قول جماعة من التابعين وغيرهم منهم عبيدة قال فلا يحل للوصي أن يأخذ من مال اليتيم الا قرضا واستشهد بأن بعدها ( فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ ) (١) وكذا قال أبو العالية ومجاهد كما قرأ عليّ .. عبد الله بن أحمد بن عبد السلام عن أبي الأزهر قال حدثنا روح بن عبادة قال أنبأنا ابن عيينة قال حدثنا ابن أبي نجيح عن مجاهد قال يستسلف ولي اليتيم من ماله فاذا أيسر رده قال روح وحدثنا شعبة عن حماد عن سعيد ( وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ ) قال قرضا وفقهاء الكوفيين على هذا القول .. وقال أبو قلابة فليأكل بالمعروف قال قرضا وفقهاء الكوفيين على هذا القول .. وقال أبو قلابة وليأكل بالمعروف مما يجيء من الغلة فأما المال الناض فليس له أن يأخذ منه شيئا قرضا ولا غيره .. وذهب جماعة من العلماء الى ظاهر الآية فقالوا له أن يأخذ منه مقدار قوته منهم الحسن كما قرأ عليّ .. عبد الله بن أحمد بن عبد السلام عن أبي الازهر قال حدثنا روح عن أشعب عن الحسين .. قال إذا احتاج وليّ اليتيم أكل بالمعروف وليس عليه إذا أيسر قضاؤه والمعروف قوته .. [ قال أبو جعفر ] وهذا قول قتادة والنخعي كما حدثنا .. أحمد بن محمد بن نافع قال حدثنا سلمة قال حدثنا عبد الرزاق قال أنبأنا الثوري عن مغيرة عن إبراهيم في قوله تعالى ( وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ ) قال ما سد الجوعة ووارى العورة وليس يلبس الكتان ولا الحلل .. واختلف عن ابن عباس في تفسير الآية اختلافا كثيرا على أن الأسانيد عنه صحاح مع الاختلاف في المتون فمن ذلك انه قرأ علي .. أحمد بن عبد الله بن أحمد بن عبد السلام عن أحمد بن الأزهر قال حدثنا روح قال حدثنا شعبة ومالك بن أنس عن يحيى بن سعيد عن القاسم بن محمد قال جاء .. أعرابي الى ابن عباس فقال إن لي إبلا أقفر ظهورها وأحمل عليها ولي يتيم له إبل فما يحل لي منها قال إذا كنت تهنأ جرباها وتلط حوضها وتنشد ضالتها وتسقي وردها فأحلبها غير ناهك لها في الحلب ولا مضر بنسلها .. [ قال أبو جعفر ] وهذا إسناد صحيح غير أنه لو كان هذا على التأويل وإن الوصي إنما يأخذ مقدار عمله كان الغني والفقير في ذلك سواء وقد قرن الله بينهما في الآية بعينها وروي عن عكرمة عن ابن عباس ( وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ ) قال إذا احتاج واضطر .. قال الشعبي كذلك إذا كان بمنزله الدم ولحم الخنزير أخذ فاذا أخذ أوفى .. [ قال أبو جعفر ] وهذا لا معنى له لأنه اذا اضطر هذا الاضطرار كان له أخذ ما يقيمه من مال يتيمه أو غيره من قريب أو بعيد وعن ابن عباس رواية ثالثة كما قرأ عليّ .. محمد بن

__________________

(١) سورة : النساء ، الآية : ٦

٩٠

جعفر بن حفص عن يوسف عن ابن موسى قال حدثنا قبيصة قال حدثنا سفيان عن الأعمش عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس في قول الله تعالى ( وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ ) (١) قال يقوت على نفسه حتى لا يحتاج إلى مال اليتيم .. [ قال أبو جعفر ] وهذا من أحسن ما روي في تفسير الآية لأن أموال الناس محظورة لا يطلق منها شيء الا بحجة قاطعة وقد تنازع العلماء معنى هذه الآية واحتملت غير تأويل فعدلنا إلى هذا لما قلنا وهو قول محكي معناه عن الشافعي وقد ذكرنا قول أهل الكوفة وأنهم يجعلونه على الفرض وأما مذهب أهل المدينة أو بعضهم فما ذكرناه من قول الحسن واحتج لهم محتج بما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما حدثناه .. أحمد بن محمد بن نافع قال حدثنا سلمة قال حدثنا عبد الرزاق قال أنبأنا ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن الحسن البصري قال قال رجل للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إن في حجري يتيما أفأضربه قال مما تضرب منه ولدك قال أفأصيب من ماله قال غير متأثل مالا ولا واق مالك بماله وقرئ على .. عبد الله بن أحمد بن عبد السلام النيسابوري عن أبي الأزهر قال حدثنا روح قال حدثنا حسين المعلم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال .. جاء رجل إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال إني لا أجد شيئا وليس لي شيء وليتيمي مال قال كل منه غير مسرف ولا متأثل مالا قال واحسبه قال ولا تفد مالك بماله .. [ قال أبو جعفر ] والذين ذهبوا إلى هذا من أهل المدينة إنما يجيزون أخذ القوت وما لا يضر باليتيم والذي روي في ذلك عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو من أحاديث المشايخ وليس هو مما يقطع به في هذا .. واختلف العلماء أيضا في الآية الثالثة من هذه السورة .. فقال بعضهم هي منسوخة .. وقال بعضهم هي محكمة.

باب

ذكر الآية الثالثة

قال الله عزّ وجلّ ( وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً ) (١) للعلماء فيها ثلاثة أقوال .. فمنهم من قال إنها منسوخة .. ومنهم من قال هي محكمة واجبة .. ومنهم من قال هي محكمة على الندب والترغيب والحض فممن روي عنه أنه قال هي منسوخة ابن عباس وسعيد بن المسيب كما قرأ عليّ .. محمد بن جعفر بن حفص عن يوسف بن موسى قال حدثنا سلمة بن الفضل قال أنبأنا

__________________

(١) سورة : النساء ، الآية : ٨

٩١

اسماعيل بن مسلّم عن حميد الاعرج عن مجاهد عن ابن عباس في قوله تعالى ( وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ ) نسختها الميراث والوصية .. وممن قال إنها منسوخة أبو مالك وعكرمة والضحاك .. وممن قال أنها محكمة وتأويل قوله على الندب عبيدة وعروة وسعيد بن جبير ومجاهد وعطاء والحسن والزهري والشعبي ويحيى بن يعمر وهو مروي عن ابن عباس .. [ قال أبو جعفر ] كما حدثنا .. بكر بن سهل قال حدثنا أبو صالح قال حدثني معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس ( وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ ) قال أمر الله تعالى المؤمنين عند قسمة مواريثهم أن يصلوا أرحامهم ويتاماهم ومساكينهم من الوصية فإن لم يكن وصية وصل اليهم من الميراث .. [ قال أبو جعفر ] فهذا أحسن ما قيل في الآية أن تكون على الندب والترغيب في فعل الخير والشكر لله جل ثناؤه فأمر الله الذين فرض لهم الميراث إذا حضروا القسمة وحضر معهم من لا يرث من الأقرباء واليتامى والمساكين أن يرزقوهم منه شكرا لله على ما فرض لهم .. وقد زعم بعض أهل النظر أنه لا يجوز أن يكون هاهنا نسخ لأن الذي يقول إنها منسوخة لا يخلو أمره من أحد وجهين إما أن يقول كانت قديما ثم نسخت وهذا محال لأن الندب إلى الخير لا ينسخ لأن نسخه لا يفعل الخير وهذا محال أو يقول كانت واجبة ثم نسخت وهذا أيضا لا يكون لأن قائله يقول إن كان اذا حضر أولوا القربى واليتامى والمساكين أعطوهم ولا تعطوا العصبة فنسخ ذلك بالفرض وهذا لم يعرف قط في جاهلية ولا إسلام وأيضا فالآية إذا ثبتت فلا يقال فيها منسوخة إلا أن ينفى حكمها على أنه قد روي عن ابن عباس رواه عن القاسم بن محمد انه قال هذا مخاطبة للموصي نفسه وكذا قال ابن زيد قيل للموصي أوص لذوي القربى واليتامى والمساكين واستدل على هذا بأن بعده وقولوا لهم قولا معروفا أي إن لم توصوا لهم فقولوا لهم خيرا .. وهذا القول اختيار محمد بن جرير .. وأما القول الثالث وهو أن تكون محكمة واجبة كما حدثنا .. جعفر بن مجاشع قال حدثنا إبراهيم بن إسحاق قال حدثنا عبد الله قال حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال حدثنا سفيان عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله ( وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ ) قال هي واجبة عند قسمة الميراث ما طابت به أنفسهم .. [ قال أبو جعفر ] فهذا مجاهد يقول بإيجابها بالإسناد الذي يدفع صحته .. وهذا خلاف ما روي عن ابن عباس غير أن هذا الإسناد أصح حدثنا .. أحمد بن محمد بن نافع قال حدثنا سلمة قال حدثنا عبد الرزاق قال حدثنا معمر عن الحسن والزهري ( وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ ) قالا هي محكمة ما طابت به أنفسهم عند أهل الميراث

٩٢

وأكثر العلماء على هذا القول وقد بيّنا صحته .. والصحيح في الآية الرابعة والخامسة أنهما منسوختان.

باب

ذكر الآية الرابعة والخامسة

قال الله تعالى ( وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً* وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما ) (١) حدثنا .. أحمد بن محمد بن نافع قال حدثنا سلمة قال حدثنا عبد الرزاق قال أنبأنا معمر عن قتادة في قوله تعالى ( فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ ) وفي قوله ( وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما ) قال نسختهما الحدود .. [ قال أبو جعفر ] وفي الآيتين ثلاثة أقوال للعلماء الذين اتفقوا على نسختهما .. فمنهم من قال كان حكم الزاني والزانية اذا زنيا وكانا ثيبين أو بكرين أن يحبس كل واحد منهما في بيت حتى يموت ثم نسخ هذا بالآية الاخرى وهي ( وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما ) فصار حكمهما أن يؤذيا بالسب والتعيير ثم نسخ ذلك فصار حكم البكر من الرجال والنساء إذا زنا أن يجلد مائة جلدة وينفى عاما وحكم الثيب من الرجال والنساء أن يجلد مائة ويرجم حتى يموت وهذا القول مذهب عكرمة وهذا مروي عن الحسن عن حطان بن عبد الله الرقاشي عن عبادة بن الصامت فهذا قول .. والقول الثاني أنه كان حكم الزاني والزانية الثيبين اذا زنيا أن يحبسا حتى يموتا وحكم البكرين يؤذيا .. وهذا قول قتادة وإليه كان يذهب محمد بن جابر واحتج بأن الآية الثانية ( وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ ) فدل هذا أنه أراد الرجل والمرأة البكرين قال ولو كان لجميع الزناة لكان والذين كما أن الذي قبله ( وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ ) قال ولأن العرب لا توعد اثنين الا أن يكونا شخصين مختلفين .. والقول الثالث أن يكون عز وجل قال ( وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ ) عاما لكل من زنت من ثيب أو بكر وأن يكون ( وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ ) عاما لكل من زنى من الرجال ثيبا كان أو بكرا .. وهذا قول مجاهد وهو مروي عن ابن عباس وهو أصح الأقوال بحجج بينة سنذكرها .. فأما قول من قال إن الآية الثانية ناسخة للأولى وإن كان يحتمل ذلك فالحديث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدل على غير ذلك كما قرأ عليّ .. عليّ بن سعيد بن بشير عن عمرو بن رافع قال حدثنا هشيم قال حدثنا منصور عن الحسن عن حطان بن عبد الله الرقاشي عن عبادة بن

__________________

(١) سورة : النساء ، الآية : ١٥

٩٣

الصامت عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال .. « خذوا عني قد جعل الله لهنّ سبيلا البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة والثيب بالثيب جلد مائة والرجم » فتبين بقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد جعل الله لهنّ سبيلا أن الآية لم تنسخ قبل هذا .. [ قال أبو جعفر ] وهذا الحديث أصل من أصول الفقه وان كان قد تؤول فيه شيء سنذكره في موضعه .. ومما يدل أيضا على ما قلنا أن أحمد بن محمد الأزدي حدثنا .. قال حدثنا أبو شريح محمد بن زكرياء وابن أبي مريم قالا حدثنا محمد بن يوسف قال حدثنا قيس بن الربيع قال حدثنا مسلّم عن مجاهد عن ابن عباس فى قوله تعالى ( وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ ) (١) قال فكانت المرأة إذا زنت حبست ماتت أو عاشت حتى نزلت في سورة النور ( الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ ) (٢) ونزلت سورة الحدود فكان من أرسل سواء جلد وأرسل (٣) .. [ قال أبو جعفر ] ودل هذا على أن ابن عباس لم يكن يقول بنفي الزاني .. وأما القول الذي اختاره محمد بن جابر ففيه شيء وذلك أنه جعل واللذان يأتيانها منكم للرجل والمرأة وهذا إنما يجوز في العربية على مجاز ولا يحمل الشيء على المجاز ومعناه صحيح في الحقيقة والذي عارض به من قوله أن العرب لا تواعد اثنين الا أن يكونا شخصين مختلفين فهذا وإن صح فهما شخصان مختلفان لأنه اذا كان واللذان للرجلين الثيبين والبكرين فهما مختلفان ومعارضته أنه لو كان هكذا لوجب أن يكون والذين لا يلزم لأن العرب تحمل اللفظ على المعنى كما قال جل ثناؤه ( وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما ) (٤) ومثل هذا كثير .. والقول الذي اخترناه قول ابن عباس كما حدثنا .. بكر بن سهل قال حدثنا عبد الله بن صالح قال حدثني معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال قوله جل ثناؤه ( وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ ) فكانت المرأة اذا زنت تحبس في البيت حتى تموت ثم أنزل الله تعالى بعد ذلك ( الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ ) فان كانا محصنين رجما في سنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم .. [ قال أبو جعفر ] هذا نص هذا السبيل الذي جعل الله لهما .. قال وقوله تعالى ( وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما ) .. قال كان الرجل اذا زنى أوذي بالتعيير وضرب النعال فأنزل الله تعالى بعد هذا ( الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ ) فان كانا

__________________

(١) سورة : النساء ، الآية : ١٥

(٢) سورة : النور ، الآية : ٢

(٣) هكذا في الأصل وليحرر.

(٤) سورة : الحجرات ، الآية : ٩

٩٤

محصنين رجما في سنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم .. [ قال أبو جعفر ] هذا نص كلام ابن عباس فتبين أن قوله ( وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ ) عام لكل من زنا من النساء وان قوله تعالى ( وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما ) عام لكل من زنا من الرجال ونسخ الله الآيتين في كتابه وعلى لسان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بحديث عبادة الذي ذكرناه فاستمر بعض العلماء على استعمال حديث عبادة أنه يجب على الزاني والزانية البكرين جلد مائة وتغريب عام وأنه يجب على الثيبين جلد مائة والرجم هذا قول علي بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه لا اختلاف عنه في ذلك انه جلد سراحة مائة ورجمها بعد ذلك فقال جلدتها بكتاب الله عز وجل ورجمتها بسنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم .. فقال بهذا القول من الفقهاء الحسن بن صالح بن حي وهو قول الحسن بن الحسن واسحاق بن راهويه والحجة فيه قول الله تعالى ( الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ ) فثبت الجلد بالقرآن والرجم بالسنة ومع هذا فقول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « والثيب بالثيب جلد مائة والرجم » .. وقال جماعة من العلماء بل على الثيب الرجم بلا جلد وهذا يروى عن عمر رضي‌الله‌عنه وهو قول الزهري والنخعي ومالك والثوري والأوزاعي والشافعي وأصحاب الرأي وأحمد وأبي ثور .. ومنهم من احتج بأن الجلد منسوخ عن المحصن بالرجم .. ومنهم من قال آية الجلد مخصوصة .. ومنهم من قال حديث عبادة منسوخ منه الجلد الذي على الثيب واحتجوا بأحاديث سنذكرها منها ما فيها كفاية .. فمنها ما قرأ عليّ .. أحمد بن شعيب عن محمد بن المثنى قال حدثنا شعبة عن قتادة عن يونس بن جبير عن كثير بن الصلت قال زيد بن ثابت سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم .. « الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة » .. وقرأ عليّ .. أحمد بن قتيبة قال حدثنا أبو عوانة عن سماك بن حرب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال .. قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لماعز بن مالك : « أحقّ ما بلغني انك وقعت على جارية آل بني فلان » قال نعم فشهد أربع شهادات ثم أمر به فرجم قالوا فليس في هذين الحديثين ذكر الجلد مع الرجم وكذا قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « أغد يا أنيس على امرأة هذا فإن اعترفت بالزنا فارجمها » ولم يذكر الجلد فدل هذا على نسخه .. وقال المخالف لهم لا حجة لكم في هذه الأحاديث لأنه ليس في واحد منهما أنه لم يجلد وقد ثبت الجلد بكتاب الله عز وجل فليس يمتنع أن يسكت عنه لشهرته .. وقد تكلم العلماء منهم الشافعي في نظير هذا فقالوا قد يحفظ البعض ما لا يحفظ الكل وقد يروى بعض الحديث ويحفظ بعضه .. واختلفوا في موضع آخر من أحكام الزنا .. فقال قوم في البكر يجلد وينفى .. وقال قوم يجلد ولا ينفى .. وقال قوم النفي الى الإمام على حسب ما يرى .. فممن قال يجلد وينفى الخلفاء الراشدون المهديون أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وهو قول ابن عمر

٩٥

وقول بعض الفقهاء عطاء وطاوس وسفيان الثوري ومالك وابن أبي ليلى والشافعي وأحمد واسحاق وأبي ثور .. وقال بترك النفي حماد بن أبي سلمة وأبو حنيفة ومحمد بن الحسن .. [ قال أبو جعفر ] وحجة من قال بالنفي الحديث المسند بدأ ثم كثرة من قال به وجلالتهم كما قرأ عليّ .. أحمد بن شعيب عن قتيبة قال حدثنا ابن عيينة عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن أبي هريرة وزيد بن خالد وشبل قالوا .. كنا عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقام رجل فقال بالله ألا قضيت بيننا بكتاب الله فقام خصمه وكان أفقه منه فقال صدق اقض بيننا بكتاب الله وائذن لي أن أتكلم .. قال قل قال إن ابني كان عسيفا على هذا فزنى بامرأته فافتديت منه بمائة شاة وخادم كأنه أخبر أن على ابنه الرجم فافتدى منه بمائة شاة وخادم قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله أما المائة الشاة والخادم فرد عليك وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام فأغد يا أنيس على امرأة هذا فإذا اعترفت بالزنا فارجمها فغدا عليها فاعترفت بالزنا فرجمها » .. [ قال أبو جعفر ] فثبت التغريب بلفظ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فمن ادعى نسخه فعليه أن يأتي بالتوقيف في ذلك .. فأما المعارضة بأن العبد لا ينفى بالزنا فغير لازمة وقد صح عن عبد الله بن عمر أنه ضرب أمته في الزنا ونفاها ولو وجب أن لا تنف الأمة والعبد لما وجب ذلك في الأحرار وكأن هذا مخرّجا من الحديث .. وكذلك القول في النساء على أن المزني قد حكى ان الأولى بقول الشافعي أن تنفى الأمة نصف سنة بقول الله تعالى ( فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ ) (١) .. وممن قال ان الأولى بقول الشافعي أن تنفى الأمة نصف سنة بقول الله تعالى ( فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ ) عبيد الله عن أبي هريرة وزيد بن خالد أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جلد وغرب وليس فيه كما ليس في حديث ابن عيينة .. وفي الآية السادسة موضعان قد أدخلا في الناسخ والمنسوخ.

باب

ذكر الآية السادسة

قال عزّ وجلّ ( وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ ) (٢) لو لا ما جاء فيه من النسخ لم يكن تحريم سوى ما في الآية وحرم الله على لسان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من لم يذكر في الآية كما .. حدثنا بكر بن سهل قال حدثنا عبد الله بن يوسف قال أنبأنا مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي

__________________

(١) سورة : النساء ، الآية : ٢٥

(٢) سورة : النساء ، الآية : ٢٤

٩٦

هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال .. « لا يجمع بين المرأة وعمتها ولا بين المرأة وخالتها » قرأ عليّ .. أحمد بن شعيب عن إبراهيم بن الحسين قال حدثنا حجاج عن ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر قال .. نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن تنكح المرأة على عمتها أو على خالتها .. [ قال أبو جعفر ] ولهذا الحديث طرق غير هاتين اخترناهما لصحتهما واستقامة طريقهما حدثنا .. أحمد بن محمد الأزدي قال حدثنا عبيد الله بن محمد المؤدب قال حدثنا عليّ بن معبد بن شداد العبدي قال حدثنا مروان بن شجاع عن حصيف عن عكرمة عن ابن عباس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم .. نهى أن يجمع بين العمة والخالة وبين الخالتين والعمتين .. [ قال أبو جعفر ] وقد أشكل هذا الحديث على بعض أهل العلم وتحيروا في معناه حتى حمله على ما يتعدى ولا يجوز قال معنى بين العمتين على المجاز أي بين العمة وبنت أخيها قيل لهما عمتان كما قيل سنة العمرين يعنون أبا بكر وعمر قال وبين الخالتين مثله على المجاز .. قال وفي الأول حذف أي بين العمة وبين بنت أخيها وهذا من التعسف الذي لا يكاد يسمع بمثله وفيه أيضا مع التعسف أنه يكون كلاما مكررا بغير فائدة وأيضا فلو كان كما قال وجب أن يكون وبين الخالة وليس كذا الحديث لأن الحديث نهى أن يجمع بين العمة والخالة فالواجب على لفظ الحديث أنه نهى أن يجمع بين امرأتين أحدهما عمة الأخرى والأخرى خالة الأخرى وهذا يخرج على معنى صحيح ويكون رجل وابنه تزوجا امرأة وابنتها تزوج الرجل البنت وتزوج الابن الأم فولد لكل واحد منهما ابنة من هاتين الزوجتين فابنة الأب عمة ابنة الابن وابنة الابن خالة ابنة الاب .. وأما الجمع بين الخالتين فهذا يوجب أن تكون امرأتان كل واحدة منهما خالة صاحبتها وذلك أن يكون رجل تزوج ابنة رجل وتزوج الآخر ابنته فولد لكل واحد منهما بنتا فابنة كل واحد منهما خالة صاحبتها .. وأما الجمع بين العمتين فيوجب أن لا يجمع بين امرأتين كل واحدة منهما عمة الأخرى وذلك أن يتزوج رجل أم رجل ويتزوج الآخر أم الآخر فتولد لكل واحدة منهما ابنة فابنة كل واحدة منهما عمة الأخرى فهذا مما حرمه الله على لسان نبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم مما ليس في القرآن .. وقد قال الله سبحانه وتعالى ( وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ ) (١) فقيل الحكمة السنة ثم قاس الفقهاء على هذا .. فقالوا كل امرأتين لو كانت إحداهما رجلا لم يجز أن يتزوج الأخرى لا يجوز الجمع بينهما ثم حرم الله على لسان رسوله مما ليس في الآية ما حدثنا .. بكر بن سهل قال حدثنا عبد الله بن يوسف قال حدثنا مالك عن عبد الله بن دينار عن سليمان بن

__________________

(١) سورة : الاحزاب ، الآية : ٣٤

٩٧

يسار عن عروة بن الزبير عن عائشة أن .. رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : « يحرم من الرضاعة ما يحرم من الولادة » .. [ قال أبو جعفر ] ولهذا الحديث طرق اخترنا هذا منها لأنه لا مطعن فيه وليس في القرآن إلا تحريم الأمهات والاخوات من الرضاعة فقط .. ثم اختلف العلماء في الرضاعة بعد الحولين .. فقال بعضهم لا رضاع بعد حولين ممن قال هذا أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا عائشة رضي‌الله‌عنها وهو أحد قولي مالك والقول الآخر عنه بعد الحولين بيسير نحو الشهر .. وقال أبو حنيفة بعد الحولين ستة أشهر .. وقال زفر بعد الحولين سنة وقالت طائفة أخرى الرضاع للصغير والكبير بمعنى واحد .. فممن صحح عنه هذا عائشة وأبو موسى الأشعري وقال به من الفقهاء الليث بن سعد وكان يفتي به قال عبد الله بن صالح سألته امرأة يزيد أتحج وليس لها ذو رحم محرم فقال امضي الى امرأة رجل فترضعك فيكون زوجها أباك فتحجي معه والحجة لهذا القول أنه قرأ عليّ .. أحمد بن شعيب عن عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن قال حدثنا ابن عيينة قال سمعناه من عبد الرحمن بن القاسم بن محمد عن أبيه عن عائشة رضي‌الله‌عنها قالت .. جاءت سهلة ابنة سهيل إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت إني أرى في وجه أبي حذيفة علي اذا دخل علي سالم قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « فأرضعيه » قالت وكيف أرضعه وهو رجل كبير قال : « ألست أعلم أنه رجل كبير » ثم جاءت بعد ثم قالت والله يا رسول الله ما أرى في وجه أبي حذيفة بعد شيئا أكرهه .. [ قال أبو جعفر ] واحتج من قال الرضاعة في الحولين لا غير .. بقول الله تعالى ( وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ ) (١) .. فعارضهم الآخرون فقالوا ليس في هذا دليل على نفي ما بعد الحولين .. واحتج الآخرون أيضا بأن الحديث المسند إنما فيه إزالة كراهية .. فعارضهم الآخرون فقالوا لم تزل عائشة تقول برضاع الكبير معروفا ذلك غير أن ربيعة بن أبي عبد الرحمن كان يقول هذا الحديث مخصوص في سالم وحده .. وقال غيره هو منسوخ واستدل على ذلك بأن مسروقا روى عن عائشة كن عشر رضعات نزلت في الشيخ الكبير ثم نسخن وروى أيضا مسروق عن عائشة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : « إنما الرضاعة من المجاعة » قال أهل اللغة معنى هذا إنما الرضاعة للصبي الذي إذا جاع أشبعه اللبن ونفعه من الجوع فأما الكبير فلا رضاعة له قرأ علي .. أحمد بن شعيب عن قتيبة قال حدثنا أبو عوانة عن هشام ابن عروة عن فاطمة بنت المنذر عن أم سلمة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال .. « لا رضاع الا ما فتق الأمعاء في البداء وكان قبل الفطام » .. وأما قوله تعالى( فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ

__________________

(١) سورة : البقرة ، الآية : ٢٣٣

٩٨

أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً ) (١) .. فقد اختلف العلماء في هذه بعد اجتماع من تقوم به الحجة أن المتعة حرام بكتاب الله عز وجل وسنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقول الخلفاء الراشدين المهديين وتوقيف عليّ بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه ابن عباس وقوله إنك رجل تائه وأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد حرم المتعة ولا اختلاف بين العلماء في صحة الإسناد عن عليّ بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه وصحة طريقه بروايته عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تحريم المتعة وسنذكر ذلك بإسناده في موضعه ان شاء الله تعالى .. فقال قوم ( فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً ) هو النكاح بعينه وما أحل الله المتعة قط في كتابه .. فممن قال هذا من العلماء الحسن ومجاهد كما ..حدثنا أحمد بن محمد الأزدي قال حدثنا ابن أبي مريم قال حدثنا الفريابي عن ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد ( فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ ) قال النكاح وحدثنا .. أحمد بن محمد بن نافع قال حدثنا سلمة قال حدثنا عبد الرزاق قال حدثنا معمر عن الحسن ( فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَ ) قال النكاح وكذا يروى عن ابن عباس .. [ قال أبو جعفر ] وسنذكره بإسناده وشرحه .. وقال جماعة من العلماء كانت المتعة حلالا ثم نسخ الله جل ثناؤه ذلك بالقرآن .. وممن قال هذا سعيد بن المسيب وهو يروي عن ابن عباس وعائشة وهو قول القاسم وسالم وعروة كما قرأ .. عليّ أحمد بن محمد بن الحجاج عن يحيى بن سليمان قال حدثنا عليّ بن هشام عن عثمان عن عطاء الخراساني عن أبيه عن ابن عباس في قوله ( فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ ) قال نسختها ( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ ) (٢) يقول الطلاق للطهر الذي لم يجامعها فيه قرأ عليّ .. محمد بن جعفر بن حفص عن يوسف بن موسى قال حدثنا وكيع عن سفيان عن داود بن أبي هند عن سعيد بن المسيب قال نسخت المتعة آية الميراث يعني ( وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ ) (٣) .. [ قال أبو جعفر ] وذلك أن المتعة لا ميراث فيها فلهذا قال بالنسخ وإنما المتعة أن يقول لها أتزوجك يوما وما أشبه ذلك على أنه لا عدة عليك ولا ميراث بينهما ولا طلاق ولا شاهد يشهد على ذلك وهذا هو الزنا بعينه ولذلك قال عمر بن الخطاب لا أوتي برجل تزوج متعة الا غيبته تحت الحجارة قرأ عليّ .. أحمد بن محمد بن الحجاج عن يحيى بن عبد الله بن بكير قال حدثنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب قال قال لي سالم بن

__________________

(١) سورة : النساء ، الآية : ٢٤

(٢) سورة : الطلاق ، الآية : ١

(٣) سورة : النساء ، الآية : ١٢

٩٩

عبد الله وهو يذاكرني يقولون بالمتعة هؤلاء فهل رأيت نكاحا لا طلاق فيه ولا عدة له ولا ميراث فيه .. وقال قال لي القاسم بن محمد بن أبي بكر كيف تجترئون على الفتيا بالمتعة .. وقد قال الله تعالى ( وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ ) (١) .. [ قال أبو جعفر ] وهذا قول بين لأنه إذا لم تكن تطلّق ولا تعتد ولا ترث فليست بزوجة .. وقال قوم من العلماء الناسخ للمتعة الحديث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما قرأ عليّ .. أحمد بن محمد الأزديّ عن إبراهيم بن أبي داود قال حدثنا عبد الله بن محمد بن أسماء قال حدثنا جويرية عن مالك بن أنس عن الزهري أن عبد الله بن محمد بن عليّ بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه والحسن بن محمد حدثاه عن أبيهما أنه سمع عليّ بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه يقول لابن عباس إنك رجل تائه يعني مائل إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نهى عن المتعة .. [ قال أبو جعفر ] ولهذا الحديث طرق فاخترنا هذا لصحته ولجلالة جويرية من طريق أسماء ولأن ابن عباس لما خاطبه عليّ رضي‌الله‌عنه بهذا لم يحاججه فصار تحريم المتعة إجماعا لأن الذين يحلونها اعتمادهم على ابن عباس .. وقال قوم نسخت المتعة بالقرآن والسنة جميعا .. وهذا قول أبي عبيد وقد روى الربيع بن سبرة عن أبيه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حرم المتعة يوم الفتح وقد صح من الكتاب والسنة التحريم ولم يصح التحليل من الكتاب بما ذكرنا من قول من قال ان الاستمتاع النكاح على أن الربيع بن سبرة قد روى عن أبيه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لهم : « استمتعوا من هذه النساء قال والاستمتاع عندنا يومئذ التزويج » حدثنا .. بكر بن سهل قال حدثنا عبد الله بن صالح قال حدثني معاوية بن صالح عن عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس. قال وقوله ( فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً ) يقول إذا تزوج الرجل المرأة فنكحها مرة واحدة وجب لها الصداق كله والاستمتاع النكاح .. قال وهو قوله عز وجل ( وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً ) (٢) فبين ابن عباس أن الاستمتاع هو النكاح بأحسن بيان والتقدير في العربية فما استمتعتم به ممن قد تزوجتموه بالنكاح مرة أو أكثر من ذلك فاعطوها الصداق كاملا إلا أن تهبه أو تهب منه .. وقيل التقدير فما استمتعتم به منهنّ وما بمعنى من وقيل فما استمتعتم به من دخول بالمرأة فلها الصداق كاملا أو النصف إن لم يدخل بها .. فأما ( وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ ) (٣) فتأوله قوم من الجهال

__________________

(١) سورة : المعارج ، الآيات : ( ٢٩ ـ ٣١ )

(٢) سورة : النساء ، الآية : ٤

(٣) سورة : النساء ، الآية : ٢٤

١٠٠