كتاب الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم

أبي جعفر أحمد بن محمّد بن إسماعيل النحّاس [ ابن النحّاس ]

كتاب الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم

المؤلف:

أبي جعفر أحمد بن محمّد بن إسماعيل النحّاس [ ابن النحّاس ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الكتب الثقافية
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٠٤

المجترئين على كتاب الله أن المتمتع إن أراد الزيادة بغير استبراء ورضيت بذلك زادته وزادها وهذا الكذب على الله .. [ قال أبو جعفر ] ومن أصح ما قيل فيه أن لا جناح على الزوج والمرأة أن يتراضيا بعد ما انقطع منهما الصداق أن تهبه له أو تنقصه منه أو يزيدها فيه .. واختلف العلماء في الآية السابعة .. فمنهم من قال هي منسوخة ومنهم من قال هي ناسخة .. ومنهم من قال هي محكمة غير ناسخة ولا منسوخة.

باب

ذكر الآية السابعة

قال الله تعالى ( وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ ) (١) .. فمن أصح ما روي في هذه الآية إسنادا وأجله قائلا ما حدثناه .. أحمد بن شعيب قال أخبرني هارون بن عبد الله قال حدثنا أبو اسامة قال حدثني ادريس بن يزيد قال حدثنا طلحة عن مطرّف عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى ( وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ ) فإنه كان المهاجرون حين قدموا المدينة يرثون الأنصار دون رحم للأخوة التي آخى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بينهم حتى نزلت الآية ( وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ ) (١) قال نسختها ( وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ ) .. قال من النصر والنصح والرفادة ويوصي له وهو لا يرث قال أبو عبد الرحمن إسناده صحيح .. [ قال أبو جعفر ] فحمل هذا الحديث وأدخل في المسند على ان الآية ناسخة وليس الأمر عندي كذلك والذي يجب أن يحمل عليه الحديث أن يكون ( وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ ) ناسخا لما كانوا يفعلونه وأن يكون ( وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ ) غير ناسخ ولا منسوخ ولكن فسره ابن عباس وسنبين العلة في ذلك عند آخر هذا الباب .. ولكن ممن قال إن الآية منسوخة سعيد بن المسيب كما حدثنا .. جعفر بن مجاشع قال حدثنا إبراهيم بن إسحاق قال حدثنا داود بن رشيد قال حدثنا الوليد قال حدثنا مروان بن أبي الهذيل انه سمع الزهري يقول أخبرني سعيد في قول الله تعالى ( وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ ) .. قال الحلفاء في الجاهلية والذين كانوا يتبنون فكانوا يتوارثون على ذلك حتى نزلت ( وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ ) فنزع الله ميراثهم وأثبت لهم الوصية .. وقال الشعبي كانوا يتوارثون حتى أزيل ذلك .. وممن قال انها منسوخة الحسن وقتادة كما قرأ عليّ .. عبد الله بن أحمد بن عبد السلام عن أبي الأزهر قال حدثنا روح عن أشعب عن

__________________

(١) سورة : النساء ، الآية : ٣٣

١٠١

الحسن ( وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ ) .. قال كان الرجل يعاقد الرجل على أنهما اذا مات أحدهما ورثه الآخر فنسختها آية المواريث وقال قتادة كان يقول ترثني وأرثك وتعقل عني وأعقل عنك فنسختها ( وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ ) (١) .. وقال الضحاك كانوا يتحالفون فيتعاقدون على النصرة والوراثة فإذا مات أحدهم قبل صاحبه كان له مثل نصيب أبيه فنسخ ذلك بالمواريث ومثل هذا أيضا مروي عن ابن عباس مشروحا كما حدثنا .. بكر بن سهل قال حدثنا أبو صالح قال حدثني معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال وقوله ( وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ ) (١) .. كان الرجل يعاقد الرجل أيهما مات قبل صاحبه ورثه الآخر فأنزل الله ( وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ إِلاَّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً ) (٢) .. قال هو أن يوصي له بوصية فهي جائزة من ثلث مال الميت فذلك المعروف .. وممن قال إنما محكمة مجاهد وسعيد بن جبير كما قرأ عليّ .. إبراهيم بن موسى الجوزي عن يعقوب بن إبراهيم قال حدثنا وكيع عن سفيان عن منصور عن مجاهد في قوله تعالى ( وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ ) .. قال من العقل والمشورة والرفد .. وقال سعيد بن جبير فآتوهم نصيبهم من العون والنصرة .. [ قال أبو جعفر ] وهذا أولى مما قيل في الآية إنها محكمة لعلتين إحداهما أنه إنما يجعل النسخ على ما لا يصح المعنى إلا به وما كان منافيا فأما ما صح معناه وهو متلو فبعيد من الناسخ والمنسوخ والعلة الأخرى الحديث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الصحيح الإسناد كما حدثنا .. أحمد بن شعيب قال أنبأنا عبد الرحمن بن محمد قال حدثنا إسحاق الأزرق عن زكرياء بن أبي زائدة عن سعيد بن إبراهيم عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال .. « لا حلف في الإسلام وأيما حلف كان في الجاهلية فإن الإسلام لم يزده الا شدة » فبين بهذا الحديث أن الحلف غير منسوخ وبين الحديث الأول وقول مجاهد وسعيد بن جبير أنه في النصر والنصيحة والعون والرفد ويكون ما في الحديث الأول من قول ابن عباس نسختها يعني ( وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ ) (٣) لان الناس كانوا يتوارثون في الجاهلية بالتبني وتوارثوا في الإسلام بالإخاء ثم نسخ هذا كله فرائض الله بالمواريث.

__________________

(١) سورة : الاحزاب ، الآية : ٦

(٢) سورة : النساء ، الآية : ٣٣

(٣) سورة : النساء ، الآية : ٣٣

١٠٢

باب

ذكر الآية الثامنة

قال الله عز وجل ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ ) (١) أكثر العلماء على أنها منسوخة غير أنهم يختلفون في الناسخ لها .. فمن ذلك ما قرأ عليّ .. أحمد بن شعيب عن إسحاق بن إبراهيم قال أنبأنا داود قال حدثنا علي بن نديمة عن عكرمة عن ابن عباس في قول الله تعالى ( لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى ) قال نسختها ( إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ ) الآية .. [ قال أبو جعفر ] فيكون على هذا قد نسخت الآية على الحقيقة يكونون أمروا بأن لا يصلوا إذا سكروا ثم أمروا بالصلاة على كل حال فإن كانوا لا يعقلون ما يقرءون وما يفعلون فعليهم الإعادة وإن كانوا يفعلون ذلك فعليهم أن يصلوا وهذا قبل التحريم فأما بعد التحريم فينبغي أن لا يفعلوا ذلك أعني من الشرب فان فعلوا فقد أساءوا والحكم في الصلاة واحد إلا الزيادة في المضمضة من المسكر لأنه لما حرم صار نجسا فهذا قول .. وقد روى عثمان بن عطاء عن أبيه عن ابن عباس ( لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى ) .. قال في المساجد وتقدير هذا في العربية لا تقربوا موضع الصلاة مثل ( وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ ) حدثنا .. أحمد بن محمد بن نافع قال حدثنا سلمة قال حدثنا عبد الرزاق قال حدثنا معمر عن قتادة ( لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى ) قال تجتنبون السكر عند حضور الصلاة ثم نسخت في تحريم الخمر .. وقال مجاهد نسخت بتحريم الخمر .. وممن قال انها غير منسوخة الضحاك قال ( وَأَنْتُمْ سُكارى ) من النوم .. والقول الأول أولى لتواتر الآثار بصحته كما قرأ عليّ .. إبراهيم بن موسى الجوزي عن يعقوب بن إبراهيم قال حدثنا وكيع قال حدثنا سفيان عن عطاء بن السائب عن أبي عبد الرحمن السلمي عن عليّ بن أبي طالب كرم الله وجهه .. قال دعانا رجل من الأنصار قبل تحريم الخمر فحضرت الصلاة فتقدم عبد الرحمن بن عوف فصلّى بنا المغرب فقرأ ( قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ ) (٢) فلبس عليه فنزلت ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ ) .. [ قال أبو جعفر ] فهذا ليس من النوم في شيء مع التوقيف في نزول الآية .. وقد عارض معارض فقال كيف يتعبد السكران بأن لا تقرب الصلاة في تلك الحال وهو لا يفهم وهذا لا يلزم وفيه جوابان .. أحدهما أنه تعبد أن

__________________

(١) سورة : النساء ، الآية : ٤٣

(٢) سورة : الكافرون ، الآية : ١

١٠٣

لا يسكر عند حضور الصلاة .. والجواب الآخر وهو أصحهما أن السكران هاهنا هو الذي لم يزل فهمه وإنما خدر جسمه من الشرب وفهمه قائم ثم هو مأمور منهي .. فأما من لم يفهم فقد خرج الى الخبل وحال الى المجانين وهذا لم يزل مكروها في الجاهلية ثم زاده الإسلام توكيدا كما روي عن عثمان أنه قال ما سكرت في جاهلية ولا إسلام ولا تغنيت ولا تمنيت ولا مسست ذكري بيميني مذ بايعت بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قيل له فالإسلام حجزك فما بال الجاهلية قال كرهت أن أكون لعنة لأهلي .. فيكون المنسوخ من الآية التحريم في أوقات الصلاة وغيرها .. والبين في الآية التاسعة أنها منسوخة.

باب

ذكر الآية التاسعة

قال الله تعالى ( إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً ) (١) أهل التأويل على ان هذه الآية منسوخة بالأمر بالقتال .. [ قال أبو جعفر ] كما حدثنا .. جعفر بن مجاشع قال حدثنا إبراهيم بن إسحاق قال حدثنا إبراهيم بن عبد الله قال حدثنا حجاج عن ابن جريج عن عطاء الخراساني عن ابن عباس في قوله تعالى ( إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ ) قال ثم نسخ بعد ذلك فنبذ إلى كل ذي عهد عهده ثم أمر الله تعالى أن يقاتل المشركين حتى يقولوا لا إله إلا الله فقال ( فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ) (٢) قال وحدثنا .. أحمد بن محمد بن نافع قال حدثنا سلمة قال حدثنا عبد الرزاق قال أنبأنا معمر عن قتادة ( فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ ) قال نسختها براءة ( فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ) .. [ قال أبو جعفر ] هذا قول مجاهد .. وقال زيد نسختها الجهاد وزعم بعض أهل اللغة أن معنى ( إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ ) أي ينتمون الى قوم بينكم وبينهم ميثاق أي ينتسبون اليهم كما .. قال الاعشى :

إذا اتصلت قالت أبكر بن وائل

وبكر سبتها والأنوف رواغم

__________________

(١) سورة : النساء ، الآية : ٩٠

(٢) سورة : التوبة ، الآية : ٥

١٠٤

.. [ قال أبو جعفر ] وهذا غلط عظيم لأنه يذهب الى أن الله تعالى حظر أن يقاتل أحد بينه وبين المسلمين نسب والمشركين قد كان بينهم وبين السابقين الأولين أنساب وأشد من هذا الجهل الاحتجاج بأن ذلك كان نسخ لأن أهل التأويل مجمعون أن الناسخ له براءة وإنما نزلت براءة بعد الفتح بعد أن انقطعت الحروب وإنما يؤتى هذا من الجهل بقول أهل التفسير والاجتراء على كتاب الله تعالى وحمله على المعقول من غير علم بأقاويل المتقدمين والتقدير على قول أهل التأويل ( فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ ) (١) أولئك خزاعة صالحهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أنهم لا يقاتلون وأعطاهم الزمام والأمان ومن وصل إليهم فدخل في الصلح معهم كان حكمه كحكمهم أو جاءوكم حصرت صدورهم أي وإلاّ الّذين جاؤكم حصرت صدورهم وهم بنو مدلج وبنو خزيمة ضاقت صدورهم أن يقاتلوا المسلمين أو يقاتلوا قومهم بني مدلج وحصرت خبر بعد خبر .. وقيل حذفت منه قد فأما أن يكون دعاء فمخالف لقول أهل التأويل لأنه قد أمر أن لا يقاتلوا فكيف يدعي عليهم .. وقيل المعنى أو يصلون الى قوم جاءوكم حصرت صدورهم ثم قال الله تعالى ( وَلَوْ شاءَ اللهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ ) أي لسلط هؤلاء الذين يصلون الى قوم بينكم وبينهم ميثاق والذين جاءوكم حصرت صدورهم أي فاشكروا نعمة الله عليكم فاقبلوا أمره ولا تقاتلوهم ( فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ ) أي الصلح ( فَما جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً ) أي طريقا الى قتلهم وسبي ذراريهم ثم نسخ هذا كله كما قال أهل التأويل فنبذ إلى كل ذي عهد عهده فقيل لهم ( فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ ) (٢) ثم ليس بعد ذلك إلا الإسلام أو القتل لغير أهل الكتاب .. واختلف العلماء في الآية العاشرة فقالوا فيها خمسة أقوال.

باب

ذكر الآية العاشرة

قال الله تعالى ( وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً ) (٣) فمن العلماء من قال لا توبة لمن قتل مؤمنا متعمدا .. وبعض من قال هذا قال الآية التي في الفرقان منسوخة بالآية التي في النساء .. فهذا قول

__________________

(١) سورة : النساء ، الآيتان : ( ٨٩ ـ ٩٠ )

(٢) سورة : التوبة ، الآية : ٢

(٣) سورة : النساء ، الآية : ٩٣

١٠٥

ومن العلماء من قال له توبة لأن هذا مما لا يقع فيه ناسخ ولا منسوخ لأنه خبر ووعيد .. ومن العلماء من قال الله متول عقابه تاب أو لم يتب إن شاء عذبه وإن شاء عفا عنه وإن شاء أدخله النار وأخرجه منها .. ومن العلماء من قال المعنى فجزاؤه جهنم إن جازاه .. ومن العلماء من قال التقدير ومن يقتل مؤمنا متعمدا استحلالا له فهذا جزاؤه لأنه كافر .. [ قال أبو جعفر ] فهذه خمسة أقوال .. فالقول الأول لا توبة للقاتل مروي عن زيد بن ثابت وابن عباس كما قرأ عليّ .. أحمد بن الحجاج عن يحيى بن عبد الله بن بكير قال حدثني الليث بن سعد قال أخبرني خالد وهو ابن يزيد عن سعيد بن أبي هلال عن جهم بن أبي الجهم أن أبا الزناد أخبره أن خارجة بن زيد أخبره عن أبيه زيد بن ثابت قال لما نزلت الآية التي في الفرقان ( وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ ) (١) عجبنا للينها فنزلت الآية التي في النساء ( وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ ) (٢) حتى فرغ .. وقرئ على أبي عبد الرحمن أحمد بن شعيب عن عمرو بن عليّ قال حدثنا يحيى قال أنبأنا ابن جريج قال أخبرني القاسم بن أبي برة عن سعيد بن جبير قال سألت ابن عباس هل لمن قتل مؤمنا متعمدا من توبة قال لا وقرأت عليه التي في الفرقان قال ( وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ ) قال هذه الآية مكية نسختها آية مدينة ( وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها ) (١) الآية .. قال أبو عبد الرحمن وأنبأنا قتيبة قال حدثنا سفيان عن عمار الذهبي عن سالم بن أبي الجعد أن ابن عباس سئل عمن قتل مؤمنا متعمدا ثم تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى فقال وأنى له بالتوبة وقد سمعت نبيكم صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يقول : « يجيء المقتول متعلقا بالقاتل تشخب أوداجه دما يقول أي رب سل هذا فيم قتلني » ثم قال ابن عباس والله لقد أنزلها الله ثم ما نسخها .. قال أبو عبد الرحمن وأخبرني يحيى بن حكم قال حدثنا ابن أبي عدي قال حدثنا شعبة عن يعلى بن عطاء عن أبيه عن عبد الله بن عمر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : « لزوال الدنيا أهون على الله من قتل رجل مسلّم » قال أبو عبد الرحمن وأنبأنا أحمد بن فضالة قال حدثنا عبد الرزاق قال أنبأنا معمر عن أيوب عن الحسن عن الأحنف بن قيس عن أبي بكرة قال سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : « إذا التقى المسلمان بسيفيهما فقتل أحدهما صاحبه فالقاتل والمقتول في النار قيل يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال إنه أراد أن يقتل صاحبه » .. [ قال أبو جعفر ] فهذه الأحاديث

__________________

(١) سورة : الفرقان ، الآية : ٦٨

(٢) سورة : النساء ، الآية : ٩٣

١٠٦

صحاح يحتج بها أصحاب هذا القول مع ما روي عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : « سباب المسلّم فسوق وقتاله كفر » وعنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض ومن أعان على قتل مسلّم بشطر كلمة جاء يوم القيامة مكتوب بين عينيه يئس من رحمة الله تعالى » .. [ قال أبو جعفر ] والقول الثاني أن له توبة قول جماعة من العلماء منهم عبد الله بن عمر وهو أيضا مروي عن زيد بن ثابت وابن عباس كما قرأ علي .. بكر بن سهل عن عبد الله بن صالح قال حدثني معاوية بن صالح عن عبد الوهاب بن بحت المكي عن نافع أو سالم أن رجلا سأل عبد الله بن عمر فقال يا أبا عبد الرحمن كيف ترى في رجل قتل رجلا عمدا؟ قال أنت قتلته قال نعم قال تب إلى الله عز وجل يتب عليك .. وحدثنا علي بن الحسين قال حدثنا يزيد بن هارون قال أنبأنا أبو مالك الأشجعي عن سعيد بن عبادة قال جاء رجل إلى ابن عباس فقال ألمن قتل مؤمنا توبة؟ قال لا إلا النار فلما ذهب قال له جلساؤه هكذا كنت تفتينا أن لمن قتل مؤمنا توبة مقبولة قال اني لأحسبه رجلا مغضبا يريد أن يقتل مؤمنا قال فبعثوا خلفه في أثره فوجدوه كذلك .. [ قال أبو جعفر ] وأصحاب هذا القول حجتهم ظاهرة منها قول الله تعالى ( وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى ) (١) ( وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ ) (٢) وقد بينا في أول هذا الباب أن الأخبار لا يقع فيها نسخ وقد اختلف عن ابن عباس فروي عنه قال نزلت في أهل الشرك يعني التي في الفرقان وعنه نسختها التي في النساء فقال بعض العلماء معنى نسختها نزلت بنسختها .. [ قال أبو جعفر ] وليس يخلو أن تكون الآية التي في النساء نزلت بعد التي في الفرقان كما روي عن زيد وابن عباس على أنه قد روي عن زيد أن التي نزلت في الفرقان نزلت بعدها أو يكونا نزلتا معا وليس ثم قسم رابع فإن كانت التي في النساء نزلت بعد التي في الفرقان فهي مثبتة عليها كما أن قوله تعالى ( إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ ) مبني على ( قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ ) (٣) وإن كانت التي في الفرقان نزلت بعد التي في النساء فهي مثبتة لها وإن كانتا أنزلتا معا فإحداهما محمولة على الأخرى وهذا باب من النظر اذا تدبرته علمت أنه لا مدفع له مع ما يقوي ذلك من المحكم الذي لا تنازع فيه وهو قوله عز

__________________

(١) سورة : طه ، الآية : ٨٢

(٢) سورة : التوبة ، الآية : ١٠٤

(٣) سورة : الأنفال ، الآية : ٣٨

١٠٧

وجل ( وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ ) .. وأما القول الثالث أن أمره إلى الله تعالى تاب أو لم يتب فعليه أبو حنيفة وأصحابه والشافعي أيضا يقول في كثير من هذا إلا أن يعفو عنه أو معنى هذا .. فأما القول الرابع وهو قول أبي مجاشع أن المعنى ان جازاه والغلط فيه بين .. وقد قال الله تعالى ( ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِما كَفَرُوا ) (١) ولم يقل أحد معناه إن جازاهم وهو خطأ في العربية لأن بعده وغضب الله عليه وهو محمول على معنى جزاه .. وأما القول الخامس ان من يقتل مؤمنا متعمدا مستحلا لقتله فغلط لأن من عم لا يخص إلا بتوقيف أو دليل قاطع وهذا القول يقال إنه قول عكرمة لأنه ذكر أن الآية نزلت في رجل قتل رجلا متعمدا ثم ارتد .. [ قال أبو جعفر ] فهذه عشر آيات قد ذكرناها في سورة النساء ورأيت بعض المتأخرين قد ذكر أنه سوى هذه العشر .. وهي قوله تعالى ( وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا ) (٢) .. [ قال أبو جعفر ] وإنما لم أفرد لها بابا لأنه لم يصح عندي أنها ناسخة ولا منسوخة ولا ذكرها أحد من المتقدمين بشيء من ذلك فيذكر وليس يخلو أمرها من إحدى ثلاث جهات ليس في واحدة منهن نسخ وذلك أن الذي قال هي منسوخة يحتج بأن الله عز وجل قال ( وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا ) قال فكان في هذا منع من قصر الصلاة إلا في الخوف ثم صح عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قصر في غير الخوف آمن ما كان في السفر فجعل فعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ناسخا للآية .. وهذا غلط بين لأنه ليس في الآية منع في القصر للأمن وإنما فيها إباحة القصر في الخوف فقط .. والجهات التي فيها عن العلماء المتقدمين منهن أن يكون معنى أن تقصروا من الصلاة أن تقصروا من حدودها في حال الخوف وذلك ترك اقامة ركوعها وسجودها وأداءها كيف أمكن مستقبل القبلة ومستدبرها وماشيا وراكبا في حال الخوف كما قال جل ثناؤه ( فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً ) (٣) وهكذا يروى عن ابن عباس .. فهذا قول وهو اختيار محمد بن جرير واستدل على صحته بأن بعده ( فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ ) (٤) وإقامتها اتمام ركوعها وسجودها وسائر فرائضها وترك إقامتها في غير الطمأنينة وهو ترك إقامة هذه الأشياء .. ومن الجهات في

__________________

(١) سورة : الكهف ، الآية : ١٠٦

(٢) سورة : النساء ، الآية : ١٠١

(٣) سورة : البقرة ، الآية : ٢٣٩

(٤) سورة : النساء ، الآية : ١٠٣

١٠٨

تأويل الآية أن جماعة من الصحابة والتابعين قالوا قصر صلاة الخوف أن يصلي ركعة واحدة لأن صلاة المسافر ركعتان ليست بقصر لأن فرضها ركعتان وممن صح عنه فرضت الصلاة ركعتين ثم أتمت صلاة المقيم وأقرت صلاة المسافر بحالها عائشة رضي‌الله‌عنها .. وممن قال صلاة الخوف ركعة حذيفة وجابر بن عبد الله وسعيد بن جبير وهو قول ابن عباس كما قرأ عليّ .. محمد بن جعفر بن حفص عن خلف بن هشام المقري قال حدثنا أبو عوانة عن بكير بن الأخنس عن مجاهد عن ابن عباس قال فرض الله الصلاة على لسان نبيكم صلى‌الله‌عليه‌وسلم :« للمقيم أربعا وللمسافر ركعتين وفي الخوف ركعة » .. [ قال أبو جعفر ] وفي الآية .. قول ثالث عليه أكثر الفقهاء وذلك أن تكون صلاة الخوف ركعتين مقصورة من أربع في كتاب الله عز وجل وصلاة السفر في الأمر ركعتان مقصورة في سنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا بالقرآن ولا بنسخ القرآن ويدلك على ذلك ما قرأ عليّ .. يحيى بن أيوب قال أخبرني ابن جريج أن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي عمار حدثه عن عبد الله بن نابتة عن يعلى بن أمية أنه قال سألت عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه قلت أرأيت قول الله عز وجل ( فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا ) (١) فقد زال الخوف فما بال القصر فقال عجبت مما عجبت منه فسألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوها .. [ قال أبو جعفر ] فلم يقل صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد نسخ ذلك وإنما نسبه الى الرخصة فصح قول من قال قصر صلاة السفر بالسنة وقصر صلاة الخوف بالقرآن ولا يقال منسوخ لما ثبت في التنزيل وصح في التأويل إلا بتوقيف أو بدليل قاطع.

__________________

(١) سورة : النساء ، الآية : ١٠١

١٠٩

سورة المائدة

بسم الله الرحمن الرحيم

اختلف العلماء في هذه السورة .. فمنهم من قال لم ينسخ منها شيء .. ومنهم من احتج أنها آخر سورة نزلت فلا يجوز أن يكون فيها ناسخ .. [ قال أبو جعفر ] كما حدثنا جعفر بن مجاشع قال حدثنا إبراهيم بن إسحاق قال حدثنا عبيد الله قال حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال حدثنا التوّزي عن أبي إسحاق عن أبي ميسرة قال لم ينسخ من المائدة شيء وقرأ عليّ .. إسحاق بن إبراهيم بن يونس عن الوليد بن شجاع قال حدثنا عبد الله بن وهب قال أخبرني معاوية بن صالح عن أبي الزاهرية عن جبير بن نفير .. قال حججت فدخلت على عائشة رضي‌الله‌عنها فقالت هل تقرأ سورة المائدة قلت نعم قالت أما إنها آخر سورة نزلت فما وجدتم فيها حلالا فاستحلوه وما وجدتم فيها حراما فحرموه .. [ قال أبو جعفر ] ومما يحتج به في هذا حديث عمر رضي‌الله‌عنه حين قرأ ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ) (١) فقال بعض اليهود لو نزلت علينا هذه في يوم لاتخذناه عيدا فقال عمر كان في اليوم الذي أنزلت فيه عيدان نزلت يوم الجمعة يوم عرفات يعني في حجة الوداع .. [ قال أبو جعفر ] وأما البراء فإنه في آخر سورة نزلت براءة وآخر سورة نزلت ( يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ ) (٢) وهذا ليس بمتناقض لأنهما جميعا من آخر ما نزل ولو لم يكن في المائدة منسوخ لاحتجنا الى ذكرها لأن فيها ناسخا وهذا الكتاب يشتمل على الناسخ والمنسوخ على أن كثيرا من العلماء قد ذكروا فيها آيات منسوخة .. وقال بعضهم فيها آية واحدة منسوخة كما حدثنا .. أحمد بن محمد بن نافع قال حدثنا سلمة قال حدثنا عبد الرزاق قال أخبرني التوّزي عن مان (٣) عن الشعبي .. قال ليس في المائدة منسوخ الا في قوله تعالى ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ ) (٤) الآية .. [ قال أبو جعفر ] وهذه الأولى مما نذكره منها.

__________________

(١) سورة : المائدة ، الآية : ٣

(٢) سورة : النساء ، الآية : ١٧٦

(٣) هكذا بالأصل ولم أقف على هذا الإسم فليحرر.

(٤) سورة : المائدة ، الآية : ٢

١١٠

باب

ذكر الآية الأولى من هذه السورة

قال الله تعالى ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ ) (١) .. ذهب جماعة من العلماء الى أن هذه الأحكام الخمسة منسوخة .. وذهب بعضهم الى أن فيها منسوخا .. وذهب بعضهم الى أنها محكمة .. فممن ذهب إلى أنها منسوخة قتادة وروي ذلك عن ابن عباس حدثناه .. أحمد بن محمد بن نافع قال حدثنا سلمة قال حدثنا عبد الرزاق قال أنبأنا معمر عن قتادة في قوله تعالى ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ ) .. قال منسوخ كان الرجل في الجاهلية اذا خرج يريد الحج تقلد من السّمر فلا يعرض له أحد واذا تقلد قلادة شعر لم يعرض له أحد وكان المشرك يومئذ لا يصدّ عن البيت الحرام فأمر الله أن لا يقاتل المشركون في الشهر الحرام ولا عند البيت ثم نسختها قوله تعالى ( فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ) (٢) .. [ قال أبو جعفر ] وحدثنا .. بكر بن سهل قال حدثنا أبو صالح عن معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال وقوله تعالى ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ ) فكان المؤمنون والمشركون يحجون الى البيت جميعا فنهى أن يمنع أحد من الحج إلى البيت من مؤمن وكافر ثم أنزل الله بعد هذا ( إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا ) (٣) .. وقال جل ذكره ( إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ ) (٤) فنفي المشركون من المسجد الحرام وبهذا الإسناد ( لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ ) كان المشركون يعظمون أمر الحج ويهدون الهدايا إلى البيت ويعظمون حرمته فأراد المسلمون أن يغيروا ذلك فأنزل الله عز وجل ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ ) فهذا على تأويل النسخ في الأحكام الخمسة بإباحة قتال المشركين على كل حال ومنعهم من المسجد الحرام فأما مجاهد فقال لم ينسخ منها إلا القلائد كان الرجل يتقلد بشيء من لحا الحرم فلا يقرب فنسخ ذلك .. [ قال أبو جعفر ] وهذا على مذهب أبي ميسرة إنها محكمة وأما عطاء فقال ( لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ ) أي لا تتعرضوا لما يسخطه وابتغوا طاعته واجتنبوا

__________________

(١) سورة : المائدة ، الآية : ٢

(٢) سورة : التوبة ، الآية : ٥

(٣) سورة : التوبة ، الآية : ٢٨

(٤) سورة : التوبة ، الآية : ١٨

١١١

معاصيه فهذا لا نسخ فيه وهو قول حسن لأن واحدة الشعائر شعرة من شعرت به أي علمت به فيكون المعنى لا تحلوا معالم الله وهي أمره ونهيه وما أعلمه الناس فلا تخالفوه .. وقد روي عن ابن عباس الهدي ما لم يقلد وقد عزم صاحبه على أن يهديه والقلائد ما قلد فأما الربيع بن أنس فتأول معنى ولا القلائد انه لا يحل لهم أن يأخذوا من شجر الحرم فيتقلدوه وهذا قول شاذ بعيد .. وقول أهل التأويل إنهم نهوا أن يحلوا ما قلد فيأخذوه ويغصبوه .. فمن قال هذا منسوخ فحجته بينة إن المشرك حلال الدم وان تقلد من شجر الحرم وهذا بين جيد .. وفي هذه الآية مما ذكر أنه منسوخ قوله عز وجل ( وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا ) (١) .. قال عبد الرحمن بن زيد هذا كله منسوخ نسخه الجهاد .. [ قال أبو جعفر ] ذهب ابن زيد إلى أنه لما جاز قتالهم لأنهم كفار جاز أن يعتدى عليهم ويبدءوا بالقتال .. وأما غيره من أهل التأويل فذهب الى أنها ليست بمنسوخة .. فممن قال ذلك مجاهد واحتج بقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « لعن الله من قتل بذحل في الجاهلية فأهل التأويل وأكثرهم متفقون على أن المعنى ولا يحملنكم إبغاض قوم لأن صدوكم عن المسجد الحرام يوم الحديبية على أن تعتدوا لأن سورة المائدة نزلت بعد يوم الحديبية فالبين على هذا أن تقرأ أن صدوكم بفتح الهمزة لأنه شيء قد تقدم .. واختلف العلماء في الآية الثانية.

باب

ذكر الآية الثانية

قال الله تعالى ( الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ ) (٢) فقالوا فيها ثلاثة أقوال .. فمنهم من قال أحل لنا طعام أهل الكتاب وإن ذكروا عليه غير اسم الله فكان هذا ناسخا لقوله تعالى ( لا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ ) (٣) .. وقال قوم ليس هذا نسخا ولكنه مستثنى من ذلك .. وقال آخرون ليس بنسخ ولا استثناء ولكن اذا ذكر أهل الكتاب غير اسم الله لم تؤكل ذبيحتهم .. فالقول الأول عن جماعة من العلماء كما قال عطاء كل ذبيحة النصراني وإن قال باسم المسيح لأن

__________________

(١) سورة : المائدة ، الآية : ٢

(٢) سورة : المائدة ، الآية : ٥

(٣) سورة : الأنعام ، الآية : ١٢١

١١٢

الله قد أحل ذبائحهم وقد علم ما يقولون .. وقال القاسم بن محيمرة كل من ذبيحته وإن قال باسم جرجس وهو قول ربيعة ويروى ذلك عن صحابيين أبي الدرداء وعبادة بن الصامت .. وأصحاب القول الثاني يقولون هو استثناء وحلال أكله .. وأصحاب القول الثالث يقولون إذا سمعت الكتابي يسمي غير الله فلا تأكل وقال بهذا من الصحابة علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وعائشة وابن عمر وهو قول طاوس والحسن وقال مالك بن أنس أكره ذلك ولم يحرمه واختلفوا أيضا في ذبائح نصارى بني تغلب وأكثر العلماء يقولون هم بمنزلة النصارى تؤكل ذبائحهم وتتزوج المحصنات من نسائهم وممن قال هذا ابن عباس بلا اختلاف عنه .. وقال آخرون لا تؤكل ذبائحهم ولا يتزوج فيهم لأنهم عرب وإنما دخلوا في النصرانية فممن روي عنه هذا علي بن أبي طالب كرم الله وجهه كما قرأ عليّ .. أحمد بن محمد بن الحجاج عن يحيى بن سليمان قال حدثنا حفص بن غياث قال حدثنا أشعث بن عبد الملك عن الحسن قال ما علمت أحدا من أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم حرم ذبائح بني تغلب الا علي بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه .. [ قال أبو جعفر ] وهذا قول الشافعي وعارض محمد بن جرير بأن الحديث المروي عن علي بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه الصحيح أنه قال لا تأكلوا ذبائح بني تغلب ولا تتزوجوا فيهم فإنهم لم يتعلقوا من النصرانية إلا بشرب الخمر قال فدل هذا على أنهم لو كانوا على ملة النصارى في كل أمورهم لأكلت ذبائحهم وتزوج فيهم .. قال وقد قامت الحجة على أكل ذبائح النصارى والتزوج فيهم وهم من النصارى وقد احتج ابن عباس في ذلك فقال قال الله تعالى ( وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ) (١) فلو لم يكن بنو تغلب من النصارى إلا بتوليهم إياهم لأكلت ذبائحهم .. فأما المجوس فالعلماء مجمعون إلا من شذ منهم ان ذبائحهم لا تؤكل ولا يتزوج فيهم لأنهم ليسوا أهل كتاب وقد بين ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في كتابه إلى كسرى فلم يخاطبهم بأنهم أهل كتاب وخاطب قيصر بغير ذلك فقال ( يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ ) (٢) الآية وقد عارض معارض بالحديث المروي عن عبد الرحمن بن عوف أنه قال لعمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه في المجوس سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول أنزلوهم منزلة أهل الكتاب .. [ قال أبو جعفر ] وهذا الحديث لا حجة فيه من جهات إحداها أنه قد غلط في متنه وأن إسناده غير متصل ولا تقوم به حجة وهذا الحديث حدثناه .. بكر بن سهل قال حدثنا عبد الله بن يوسف قال أنبأنا مالك عن جعفر بن محمد عن أبيه قال قال عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه ما أدري كيف أصنع في أمر المجوس

__________________

(١) سورة : المائدة ، الآية : ٥١

(٢) سورة : آل عمران ، الآية : ٦٤

١١٣

فشهد عنده عبد الرحمن بن عوف أنه سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول سنوا بهم سنة أهل الكتاب .. [ قال أبو جعفر ] والإسناد منقطع لأن محمد بن علي لم يولد في وقت عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه وأما المتن فيقال أنه على غير هذا كما حدثنا .. محمد بن محمد الأزدي قال حدثنا أحمد بن بشر الكوفي قال سمعت سفيان بن عيينة يقول عمرو بن دينار سمع بجالة يقول ان عمر لم يكن أخذ من المجوس الجزية حتى شهد عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخذها من مجوس هجر فهذا إسناده متصل صحيح ولو صح الحديث الأول ما كان دليلا على أكل ذبائح المجوس ولا تزويج نسائهم لأن قوله سنوا بهم سنة أهل الكتاب يدل على أنهم ليسوا من أهل الكتاب وأيضا فإنما نقل الحديث على أنه في الجزية خاصة وأيضا فسنوا بهم ليس من الذبائح في شيء لأنه لم يقل استنوا أنتم في أمرهم بشيء فأما الاحتجاج بأن حذيفة تزوج مجوسية فغلط والصحيح أنه تزوج يهودية .. وفي هذه الآية ( وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ ) فقد ذكرناه في قوله ( وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَ ) (١) وقول من قال إن هذه ناسخة لتلك واختلفوا في الآية فقال فيها سبعة أقوال.

باب

ذكر الآية الثالثة

قال الله تعالى ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ ) (٢) الآية فيها سبعة أقوال .. فمن العلماء من قال هي ناسخة لقوله تعالى ( لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى ) (٣) .. ومنهم من قال هي ناسخة لما كانوا عليه لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان اذا أحدث لم يكلم أحدا حتى يتوضأ وضوءه للصلاة فنسخ هذا وأمر بالطهارة عند القيام إلى الصلاة .. ومنهم من قال إنها منسوخة لأنه لو لم تنسخ لوجب على كل قائم إلى الصلاة الطهارة وإن كان متطهرا والناسخ لها فعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسنذكره بإسناده .. فمن العلماء من قال يجب على كل من قام الى الصلاة أن يتوضأ للصلاة بظاهر الآية وإن كان طاهرا هذا قول عكرمة وابن سيرين واحتج عكرمة بعلي بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه كما حدثنا .. أحمد بن

__________________

(١) سورة : البقرة ، الآية : ٢٢١

(٢) سورة : المائدة ، الآية : ٦

(٣) سورة : النساء ، الآية : ٤٣

١١٤

محمد الأزدي قال حدثنا إبراهيم بن مرزوق قال حدثنا بشر بن عمر وعبد الصمد بن عبد الوارث قال حدثنا شعبة عن مسعود بن علي قال كان علي بن أبي طالب يتوضأ لكل صلاة ويتلو ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ) الآية .. ومن العلماء من يقول ينبغي لكل من قام إلى الصلاة أن يتوضأ لها طلبا للفضل وحمل الآية على الندب .. ومنهم من قال الآية مخصوصة لكل من قام من النوم .. والقول السابع ان الآية يراد بها من لم يكن على طهارة فهذه سبعة أقوال .. فأما القول الاول انها ناسخة لقوله تعالى ( لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى ) فقد ذكرناه بإسناده في سورة النساء ولا يتبين في هذا نسخ يكون التقدير إذا قمتم الى الصلاة غير سكارى .. والقول الثاني يحتج من قاله بحديث علقمة بن القعوي عن أبيه أنه قال كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا بال لم يكلم أحدا حتى يتوضأ للصلاة حتى نزلت آية الرخصة ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ ) وقرأ عليّ .. أحمد بن شعيب عن محمد بن بشار عن معاذ قال حدثنا سعيد عن قتادة عن الحسن عن حصين بن المنذر ابي ساسان عن المهاجر بن قنفذ أنه سلّم على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يبول فلم يرد عليه حتى توضأ فلما توضأ رد عليه وهذا أيضا لا يتبين فيه نسخ لأنه مباح فعله ومن قال الآية منسوخة بفعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاحتج بما حدثناه .. عبد الله بن محمد بن جعفر قال حدثنا أحمد بن منصور قال حدثنا عبد الرزاق قال حدثنا سفيان عن علقمة بن منذر عن سليمان بن بريدة عن أبيه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يتوضأ لكل صلاة فلما كان يوم الفتح صلّى الصلوات بوضوء واحد ومسح على خفيه فقال عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه لقد فعلت شيئا ما كنت تفعله فقال عمدا فعلته ومن منع نسخ القرآن بالسنة قال هذا تبيين وليس بنسخ ومن قال على كل قائم إلى الصلاة أن يتوضأ لها احتج بظاهر الآية وبما روي عن علي بن أبي طالب ومن قال هي على الندب احتج بفعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وان علي بن أبي طالب لم يقل هذا واجب فيتأول أنه يفعل هذا إرادة الفضل والدليل على هذا أنه قد صح عن علي بن أبي طالب أنه توضأ وضوءا خفيفا ثم قال هذا وضوء من لم يحدث وكذا عن ابن عمر أيضا ويحتج بحديث غطيف عن ابن عمر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال من توضأ على طهارة كتب له عشر حسنات وأما من قال المعنى إذا قمتم من النوم فيحتج بأن في القرآن الوضوء على النائم .. وهذا قول أهل المدينة كما حدثنا .. بكر بن سهل قال حدثنا عبد الله بن يوسف قال أنبأنا مالك عن زيد بن أسلّم أن تفسير هذه الآية ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ ) الآية ان ذلك إذا قام من المضجع يعني النوم .. والقول السابع قول الشافعي قال لو وكلنا إلى الآية لكان على كل قائم الى الصلاة الطهارة فلما صلّى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الصلوات بوضوء واحد بينها ومعنى هذا على هذا القول

١١٥

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ ـ وقد أحدثتم ـ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ) (١) .. وقد زعم قوم أن هذا ناسخ للمسح على الخفين وسنبين ما في ذلك وأنه ليس بناسخ له إن شاء الله تعالى .. وقال قوم في قراءة من قرأ وأرجلكم بالخفض أنه منسوخ بفعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقوله لأن الجماعة الذين تقوم بهم الحجة رووا أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم غسل قدميه وفي ألفاظه صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا غسل قدميه خرجت الخطايا من قدميه ولم يقل أحد عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال فاذا مسح قدميه وصح عنه ويل للعراقيب من النار وويل للأعقاب من النار وأنه أمر بتخليل الأصابع فلو كان المسح جائزا ما كان لهذا معنى .. وقال قوم قد صح الغسل بنص كتاب الله تعالى في القراءة بالنص وبفعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقوله ومن ادعى أن المسح جائز فقد تعلق بشذوذ .. وقال قوم الغسل والمسح جميعا واجبان بكتاب الله تعالى لأن القراءة بالنصب والخفض مستفيضة وقد قرأ بهما الجماعة .. فممن قال أن مسح الرجلين منسوخ الشعبي كما حدثنا .. أحمد بن محمد الأزدي قال أنبأنا إبراهيم بن مرزوق قال حدثنا يعقوب بن إسحاق قال حدثنا حماد بن سلمة عن عاصم عن الشعبي ..قال نزل القرآن بالمسح والسنة بالغسل .. ومن قال قد صح الغسل بالكتاب والسنة احتج بالقراءة بالنصب وبما صح عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم .. ومن قال هما واجبان قال هما بمنزلة اثنين جاء صحة كل واحد منهما عن جماعة تقوم بهم الحجة كما حدثنا .. أحمد بن محمد الأزدي قال حدثنا إبراهيم قال حدثنا أبو داود قال حدثنا قيس عن عاصم عن زر عن عبد الله انه قرأ .. وأرجلكم بالنصب وحدثنا .. أحمد قال حدثنا محمد بن خزيمة قال حدثنا سعيد بن منصور قال سمعت هشيما يقول أنبأنا خالد عن عكرمة عن ابن عباس انه قرأ .. وأرجلكم بالنصب وقال عاد الى الغسل .. [ قال أبو جعفر ] وهذه قراءة عروة بن الزبير ونافع والكسائي وقرأ أنس بن مالك وأرجلكم بالخفض وهي قراءة أبي جعفر وأبي عمرو بن العلاء وعاصم والأعمش وحمزة على أنه يقول تمسحت بمعنى تطهرت للصلاة فيكون على هذا الخفض كالنصب وسمعت علي بن سليمان يقول التقدير وأرجلكم غسلا ثم حذف هذا لعلم السامع .. وممن قال أن المسح على الخفين منسوخ بسورة المائدة ابن عباس وقال ما مسح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الخفين بعد نزول المائدة .. وممن رد المسح أيضا عائشة وأبو هريرة .. [ قال أبو جعفر ] من نفى شيئا وأثبته غيره فلا حجة للنافي وهذا موجود في الأحكام والمعقول وقد أثبت المسح على الخفين من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جماعة كثيرة ومنهم من قال بعد المائدة .. فممن أثبت المسح علي بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه وسعد بن أبي وقاص وبلال

__________________

(١) سورة : المائدة ، الآية : ٦

١١٦

وعمرو بن أمية الضمري وصفوان بن غسان وحذيفة وبريدة وخزيمة بن ثابت وأبو بكرة وسهل بن سعد وأسامة بن زيد وسليمان وجرير البجلي والمغيرة بن شعبة وعن عمر بن الخطاب غير مسند صحيح فمن ذلك ما حدثنا .. أحمد بن شعيب أبو عبد الرحمن قال أنبأنا إسحاق بن إبراهيم وهو ابن راهويه قال حدثنا عبد الرزاق قال أنبأنا سفيان الثوري عن عمرو بن قيس الملائي عن الحكم بن عيينة عن القاسم بن مخيمرة بن شريح عن هانئ عن علي بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه .. قال جعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن ويوما وليلة للمقيم يعني في المسح .. قال أبو عبد الرحمن وأنبأنا هناد بن السري عن أبي معاوية عن الأعمش عن الحكم بن عيينة عن القاسم بن مخيمرة عن شريح بن هانئ قال سألت عائشة عن المسح على الخفين فقالت .. ائت عليا فانه أعلم مني بذلك فأتيت عليا فسألته عن المسح .. فقال أمرنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن نجعل للمقيم يوما وليلة وللمسافر ثلاثة أيام .. فقال أبو عبد الرحمن وأخبرناه قتيبة قال حدثنا حفص عن الأعمش عن إبراهيم عن همام أن جرير بن عبد الله البجلي .. توضأ ومسح على خفيه فقيل له أتمسح قال رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يمسح وكان أصحاب عبد الله يعجبهم قول جرير لأن إسلامه كان قبل موت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيسير .. [ قال أبو جعفر ] وكذلك قال أحمد بن حنبل أنا أستحسن حديث جرير في المسح على الخفين لأن إسلامه كان بعد نزول المائدة .. وقد عارض قوم الذين يمنعون المسح على الخفين بأن الواقدي روى عن عبد الحميد بن جعفر عن أبيه أن جرير البجلي أسلّم في سنة عشر في شهر رمضان وأن المائدة نزلت في ذي الحجة يوم عرفات قال فإسلام جرير على هذا قبل نزول المائدة .. [ قال أبو جعفر ] والذي احتج بهذا جاهل بمعرفة الحديث لأن هذا لا يقوم به حجة لوهائه وضعف إسناده وأيضا فإن قوله نزلت المائدة يوم عرفات في ذي الحجة جهل أيضا لأن الرواية انه نزل منها في ذلك اليوم آية واحدة وهي ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ) ولو صح ما قال أن المسح كان قبل نزول المائدة وهل كان الوضوء للصلاة واجبا قبل نزول المائدة فإن قال كان واجبا صح أن المسح على الخف بدل من الغسل وإن كان غير واجب قيل له فما معنى المسح والغسل غير واجب وكذلك المسح وهذا بين في تثبيت المسح على الخفين وهو قول الفقهاء الذين تقوم بهم الحجة .. واختلفوا في الآية الرابعة .. فمنهم من قال هي منسوخة .. ومنهم من قال هي محكمة.

١١٧

باب

ذكر الآية الرابعة

قال الله عز وجل ( فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ ) (١) .. من العلماء من قال إنما كان العفو والصفح قبل الأمر بالقتال ثم نسخ ذلك بالأمر بالقتال كما حدثنا .. أحمد بن محمد بن نافع قال حدثنا سلمة قال حدثنا عبد الرزاق قال أنبأنا معمر عن قتادة في قوله تعالى ( وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ ) (١) قال نسختها ( قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ ) (٢) الآية .. وقال غيره ليست بمنسوخة لأنها نزلت في يهود غدروا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم غدرة فأرادوا قتله فأمره الله بالصفح عنهم .. [ قال أبو جعفر ] وهذا لا يمتنع أن يكون أمر بالصفح عنهم بعد أن لحقتهم الذلة والصغار فصفح عنهم في شيء بعينه .. واختلفوا أيضا في الآية الخامسة .. فقال بعضهم هي ناسخة .. وقال بعضهم هي محكمة غير ناسخة.

باب

ذكر الآية الخامسة

قال الله تعالى ( إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ) (٣) .. فقال قوم هذه ناسخة لما كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فعله في أمر العرنيين من التمثيل بهم وسمل أعينهم وتركهم حتى ماتوا .. فممن قال هذا محمد بن سيرين قال لما فعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذلك وعظ ونسخ بهذا الحكم واستدل على ذلك بأحاديث صحاح فمن ذلك ما حدثناه .. أحمد بن شعيب أبو عبد الرحمن قال أخبرني عمرو بن عثمان بن سعيد بن كثير عن الوليد عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي قلابة عن أنس .. أن نفرا من عكل قدموا على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأسلموا فاجتووا المدينة فأمرهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يخرجوا إلى إبل الصدقة فيشربوا من أبوالها وألبانها ففعلوا فقتلوا راعيها واستاقوها فبعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في طلبهم قافة فأتي بهم فقطع أيديهم وأرجلهم ولم يحسمهم وسمل أعينهم وتركهم حتى ماتوا فأنزل الله تعالى ( إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً ) الآية .. قال أبو عبد الله وأنبأنا الفضل بن

__________________

(١) سورة : المائدة ، الآية : ١٣

(٢) سورة : التوبة ، الآية : ٢٩

(٣) سورة : المائدة ، الآية : ٣٣

١١٨

سهل قال حدثنا يحيى بن غيلان ثقة مأمون قال حدثنا يزيد بن زريع عن سليمان التيمي عن أنس قال .. إنما سمل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أعين أولئك لأنهم سملوا أعين الرعاء .. [ قال أبو جعفر ] وهذا أحسن حديث روي في هذا الباب وأغربه وأصحه وفيه حجة للشافعي في القصاص فأما الحديث الأول فيحتج به من جعل الآية ناسخة وفيه من الغريب قوله واجتووا المدينة قال أبو زيد اجتويت البلاد إذا كرهتها وإن كانت موافقة لك في بدنك واشتويتها اذا لم تكن توافقك في بدنك وإن كنت محبا لها وفيه وسمل أعينهم قال أبو عبيد السمل أن تفقأ العين بحديدة محماة أو بغير ذلك يقال سملتها أسملها سملا وقد يكون السمل بالشوك كما .. قال أبو ذؤيب يرثي بنين له ماتوا :

فالعين بعدهم كأن حداقها

سملت بشوك فهي عور تدمع

 .. وبعض من يقول أنها محكمة غير ناسخة يقول الحكمان قائمان جميعا ويحتج بالحديث أن السمل كان قصاصا وهو أحسن ما قيل فيه وقال أبو الزناد لما فعل ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نهى ووعظ عن المثلة فلم يعد وقال غيره إنما فعل ذلك على الاجتهاد كما فعل بالغنائم حتى نزلت ( لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ ) (١) الآية وقال آخر لا يجوز أن يفعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم شيئا من هذا وما أشبهه إلا بوحي منزل أو إلهام من الله تعالى له لقوله تعالى ( وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى ) (٢) ولفرضه طاعته وقال السدي إنما أراد أن يفعل فنهي عن ذلك وأمر بالحدود .. [ قال أبو جعفر ] وقد ذكرنا الحديث بغير ما قال وأما ما في الآية من قوله تعالى ( أو ) من اختلاف في تخيير الإمام أن يفعل أي هذه شاء ومن قول بعضهم بل ذلك على الترتيب فنذكر به ما تكمل به الفائدة في علم الآية إن شاء الله .. واختلف العلماء فيمن يلزمه اسم محاربة الله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على خمسة أقوال .. فمنهم من قال المحارب لله ورسوله هو المشرك المعاند دين الله تعالى فأما من كان مسلما وخرج متلصصا فلا يلزمه هذا الاسم وهذا القول مروي عن ابن عباس وهو يروى عن الحسن وعطاء .. ومن العلماء من قال المحارب لله ولرسوله المرتد وهذا قول عروة بن الزبير كما قرئ عليّ .. عبد الله بن أحمد بن عبد السلام عن أبي الأزهر قال حدثنا روح بن عبادة عن ابن جريج قال أخبرني هشام بن عروة عن أبيه قال .. إذا خرج المسلّم فشهر سلاحه ثم تلصص ثم جاء تائبا أقيم عليه الحد ولو ترك لبطلت العقوبات إلا أن يلحق بلاد الشرك ثم يأتي تائبا ثانيا فيقبل منه .. وقال قوم

__________________

(١) سورة : الأنفال ، الآية : ٦٨

(٢) سورة : النجم ، الآية : ٣

١١٩

المحارب لله ولرسوله من المسلمين من فسق وشهر سلاحه وخرج على المسلمين فحاربهم .. وردوا على من قال لا يكون المحارب لله ورسوله إلا مشركا بحديث معاذ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من عادى وليا من أولياء الله فقد بارز الله بالمحاربة وحدثنا .. أحمد بن محمد الأزدي قال حدثنا الحسن بن الحكم قال حدثنا أبو غسان مالك بن اسماعيل عن السدي عن سنيح مولى أم سلمة عن زيد بن أرقم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لعلي بن أبي طالب وفاطمة والحسن والحسين رضي‌الله‌عنهم أنا سلّم لمن سالمتم وحرب لمن حاربتم أفلا ترى قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمن ليس بكافر وتسميته إياه محاربا وقد رد أبو ثور وغيره على من قال ان الآية في المشرك إذا فعل هذه بأشياء بينة قال قد أجمع العلماء على أن المشرك إذا فعل هذه الأشياء ثم أسلّم قبل أن يتوب منها أنه لا يقام عليه شيء من حدودها لقوله تعالى ( قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ ) (١) فهذا كلام بين حسن .. وقال غيره لو كانت الآية في المشرك لوجب في أسارى المشركين أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض وهذا لا نقوله .. وقال بعض العلماء الآية عامة في المشركين والمسلمين فهذه أربعة أقوال .. والقول الخامس أن تكون الآية على ظاهرها إلا أن يدل دليل خارج فيخرج بالدليل فقد دل ما ذكرناه على أن أهل الحرب من المشركين خارجون منها فهذا أحسن ما قيل فيها وهو قول أكثر الفقهاء .. ثم اختلفوا فيمن لزمه اسم المحاربة أيكون الإمام مخيرا فيه أم تكون عقوبته على قدر جنايته .. فقال قوم الإمام مخير فيه على أنه يجتهد وينظر للمسلمين .. فممن قال هذا من الفقهاء مالك بن أنس وهو مروي عن ابن عباس وهو قول سعيد بن المسيب وعمر بن عبد العزيز ومجاهد والضحاك .. وممن قال العقوبة على قدر الجناية وليس إلى الإمام في ذلك خيار علي والحسن وعطاء وسعيد بن جبير وأبو مجلز وهو مروي أيضا عن ابن عباس الا أنه من رواية الحجاج بن أرطاة عن عطية عن ابن عباس وعطية والحجاج ليسا بذاك عند أهل الحديث وقال بهذا من الفقهاء الأوزاعي والشافعي وهو قول أصحاب الرأي سفيان وأبي حنيفة وأبي يوسف غير أنهم اختلفوا في الترتيب في أكثر الآية فما علمت أنهم اتفقوا إلا فيمن خرج فقتل فإن أصحاب الترتيب أجمعوا على قتله وسنذكر اختلافهم .. فأما أصحاب التخيير الذين قالوا ذلك إلى الإمام حجتهم ظاهر الآية وان أو في العربية كذا معناها اذا قلت خذ دينارا أو درهما ورأيت زيدا أو عمرا واحتجوا بقول الله تعالى ( فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ

__________________

(١) سورة : الأنفال ، الآية : ٣٨

١٢٠