كتاب الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم

أبي جعفر أحمد بن محمّد بن إسماعيل النحّاس [ ابن النحّاس ]

كتاب الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم

المؤلف:

أبي جعفر أحمد بن محمّد بن إسماعيل النحّاس [ ابن النحّاس ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الكتب الثقافية
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٠٤

في شيء ثم أن عروة جعل يرمق صحابة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعينيه فقال والله ما يتنخم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نخامة الا وقعت في يد رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده واذا أمرهم ابتدروا أمره واذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه واذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده وما يحدون النظر اليه تعظيما له .. قال فرجع عروة الى أصحابه فقال أيّ قوم والله لقد وفدت على الملوك ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي والله إن رأيت ملكا يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمدا والله إن يتنخم نخامة الا وقعت في كف رجل فدلك بها وجهه وجلده واذا أمرهم ابتدروا أمره واذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه واذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده ولا يحدون النظر اليه تعظيما له وانه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها منه فقال رجل من بني كنانة دعوني آته قالوا ائته قال فلما أشرف على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذا من قوم يعظمون البدن فابعثوها له فبعثت له واستقبله القوم يلبون فلما رأى ذلك قال سبحان الله ما ينبغي لهؤلاء ان يصدوا عن البيت فقال رجل منهم يقال له مكرز بن حفص دعوني آته فقالوا ائته فلما أشرف عليهم قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذا مكرز وهو رجل فاجر فجعل يكلم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فبينما هو يكلمه إذ جاء سهيل بن عمرو فقال هات أكتب بيننا وبينكم كتابا فدعا الكاتب فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « أكتب بسم الله الرحمن الرحيم » فقال سهيل أما الرحمن فو الله ما أدري ما هو ولكن أكتب باسمك اللهم كما كنت تكتب فقال المسلمون والله لا نكتبها الا بسم الله الرحمن الرحيم فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « أكتب باسمك اللهم » ثم قال هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال سهيل بن عمرو والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك ولكن اكتب من محمد بن عبد الله فقال الزهري وذلك لقوله لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلاّ أعطيتهم اياها فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « أن تخلوا بيننا وبين البيت فنطوف به » فقال سهيل بن عمرو والله لا تتحدث العرب أنّا أخذنا ضغطة ولكن لك من العام المقبل فكتب فقال سهيل وعلى انه لا يأتيك منا رجل وان كان على دينك الا رددته الينا فقال المسلمون سبحان الله كيف يرد الى المشركين وقد جاء مسلما فبينما هم كذلك إذ جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرسف في قيوده قد خرج من أسفل مكة حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين فقال سهيل هذا يا محمد أول ما نقاضيك عليه أن ترده اليّ فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « إنّا لم نقض الكتاب بعد » قال فإذا والله لا أصالحك على شيء أبدا قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « فاجزه لي » قال ما أنا بمجيزه لك قال بلى فافعل قال ما أنا بفاعل فقال مكرز بلى قد أجزناه لك فقال أبو جندل أي معاشر المسلمين أرد الى المشركين وقد جئت مسلما ألا ترون ما لقيت وكان قد عذب عذابا شديدا في الله .. فقال عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه والله ما شككت منذ

٢٤١

أسلمت كشكي يومئذ فأتيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقلت ألست نبي الله قال بلى قلت ألسنا على الحق وعدونا على الباطل قال بلى قلت فلم نعطي الدنية في ديننا إذا قال إني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا أعصيه وهو ناصري قلت أوليس كنت وعدتنا أنّا سنأتي البيت ونطوف به قال فأخبرتك أنك تأتيه العام قال فأتيت أبا بكر الصديق رضي‌الله‌عنه فقلت يا أبا بكر أليس هذا نبي الله حقا قال بلى قلت ألسنا على الحق وعدونا على الباطل قال بلى قلت فلم نعطى الدنية في ديننا اذا قال أيها الرجل انه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وليس يعصي ربه وهو ناصره فاستمسك بغرزه حتى تموت فو الله انه لعلى الحق قلت أوليس كان يحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به قال بلى أفأخبرك انك تأته العام قال لا قال فإنك آتيه وتطوف به قال الزهري قال عمر فعملت لذلك أعمالا .. فلما فرغ من قصة الكتاب قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأصحابه قوموا فانحروا ثم احلقوا قال فو الله ما قام منهم رجل حتى قال ذلك ثلاث مرات فلما لم يقم منهم أحد قام فدخل على أم سلمة فذكر لها ما لقي من الناس فقالت أم سلمة أتحب ذلك أخرج ثم لا تكلم أحدا منهم حتى تنحر وتحلق فخرج ونحر بدنة ودعا حالقه فحلقه فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا وجعل بعضهم يحلق بعضا حتى كاد بعضهم يقتل بعضا غما ثم جاءه نسوة مؤمنات فأنزل الله تعالى ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ ) (١) حتى بلغ ( بِعِصَمِ الْكَوافِرِ ) (١) فطلّق عمر رضي‌الله‌عنه امرأتين كانتا له في الشرك فتزوج إحداهما معاوية بن أبي سفيان والأخرى صفوان بن أمية .. ثم رجع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الى المدينة فجاءه أبو بصير وهو عتبة بن أسد بن حارثة الثقفي رجل من قريش وهو مسلّم فأرسلوا في طلبه رجلين فقالوا العهد الذي جعلت لنا فدفعه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الى الرجلين فخرجا به حتى بلغا ذا الحليفة فنزلوا يأكلون من تمر لهم فقال أبو بصير لأحد الرجلين والله اني لأرى سيفك يا فلان جيدا فاستله الآخر فقال أجل والله انه لجيد لقد جربت به ثم جربت فقال أبو بصير أرني انظر اليه فأمكنه منه فضربه حتى برد وفرّ الآخر حتى أتى المدينة فدخل المسجد يعدو فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لقد رأى هذا ذعرا فلما انتهى الى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال قتل والله صاحبي وإني لمقتول فجاء أبو بصير فقال يا نبي الله قد والله أوفى الله ذمتك قد رددتني اليهم ثم أنجاني الله منهم فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويل أمه مسعر حرب لو كان له أحد فلما سمع ذلك علم أنه سيرد اليهم فخرج حتى أتى سيف البحر .. قال وانقلب منهم أبو جندل بن سهيل فلحق بأبي بصير فجعل لا يخرج من قريش رجلا قد أسلّم الا لحق بأبي بصير حتى اجتمعت منهم عصابة .. قال فو الله ما يسمعون بعير لقريش الى الشام إلا اعترضوا لها فقتلوهم وأخذوا أموالهم فأرسلت قريش الى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يناشدونه بالله

__________________

(١) سورة : الممتحنة ، الآية : ١٠

٢٤٢

والرحم ألا أرسل اليهم فمن أتاه فهو آمن فأرسل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأنزل الله تعالى ( وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ ) (١) الى قوله ( حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ ) (٢) وكانت حميتهم أنهم لم يقروا أنه نبي الله ولم يقروا ببسم الله الرحمن الرحيم والأحكام وحالوا بينه وبين البيت .. [ قال أبو جعفر ] في هذا الحديث من الناسخ والمنسوخ والآداب والأحكام من الحج والجهاد وغيرهما ومن تفسير وغيره نيف وثلاثون موضعا نذكرها موضعا موضعا ان شاء الله تعالى .. فمن ذلك الوقوف على أن أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذين كانوا بالحديبية بضع عشرة مائة وهم الذين قد أنزل الله فيهم ( لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ ) (٣) وان البضع يقع لأربع قال جابر بن عبد الله كنا ألفا وأربعمائة وان المائة بعد عدد الواحد .. وفيه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما أراد العمرة من المدينة أهلّ من ذي الحليفة سنة ست ثم أقام الأمر على ذلك كما روى مالك عن نافع عن ابن عمر ان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال يهلّ أهل المدينة من ذي الحليفة وأهل الشام من الجحفة وذكر الحديث .. وفيه أن الإحرام من الميقات أفضل من الإحرام من بلد الرجل لأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم منه أحرم بعمرة في هذا الوقت .. وفيه أيضا أنه ليس معنى قوله تعالى ( وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ) (٤) ان يحرم الإنسان من دويرة أهله ولو كان كذا لكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أولى الناس بالعمل به فإن قيل فقد قال علي بن أبي طالب اتمام العمرة أن تحرم من دويرة أهلك قيل هذا يتأول على أنه خاص لمن كان بين الميقات ومكة كما روى ابن عباس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من كان أهله دون الميقات فمهلّه من حيث كان أهله كما يهلّ أهل مكة من مكة .. وفيه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أشعر البدن فكانت هذه سنة على خلاف ما يقوله الكوفيون أنه لا يجوز إشعار البدن قرئ .. على أحمد بن شعيب عن العباس بن عبد العظيم قال أنبأنا عثمان بن عمر قال أنبأنا مالك بن أنس عن عبد الله بن أبي بكر عن عروة عن عائشة رضي‌الله‌عنها قالت قلد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هديه بيده وأشعره ثم لم يحرّم شيئا كان الله أحلّه له وبعث بالهدي مع أبي .. [ قال أبو جعفر ] فدل هذا الحديث على خلاف ما يقوله الكوفيون لأنهم زعموا ان الإشعار منسوخ بنهي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن المثلة ونهي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن المثلة إنما كان في وقعة أحد وقيل في وقعة خيبر وحج أبو بكر رضي‌الله‌عنه بالناس بعد ذلك فكان الإشعار بعد فمحال أن ينسخ الأول الآخر وقد كان

__________________

(١) سورة : الفتح ، الآية : ٢٤

(٢) سورة : الفتح ، الآية : ٢٦

(٣) سورة : الفتح ، الآية : ١٨

(٤) سورة : البقرة ، الآية : ١٩٦

٢٤٣

الإشعار أيضا في حجة الوداع .. وفيه أيضا سنّة التقليد .. وفيه أن الإشعار والتقليد قبل الإحرام .. وفيه السنّة في التوجيه بعين الى العدو .. وفيه التوجيه برجل واحد فدل هذا على أنه يجوز ان يسافر وحده في حال الضرورة .. وفيه أنه يجوز للواحد في حال الضرورة أن يهجم على الجماعة كما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم الأحزاب من يعرف لنا خبر القوم فقال الزبير أنا فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لكل نبي حواري وحواريّ الزبير رضي‌الله‌عنه .. وفيه الدليل على صحة خبر الواحد ولو لا أنه مقبول ما وجه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بواحد ليخبره بخبر القوم .. وفيه مشاورة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أصحابه وقال الحسن فعل ذلك لتستن به أمته وما شاور قوم الاّ هدوا لأرشد الأمور وقال سفيان الثوري بلغني أن المشورة نصف العقل حدثني .. أحمد بن عاصم قال حدثنا عبد الله بن سعيد بن الحكم بن محمد قال حدثني أبي قال حدثنا ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن ابن عباس في قول الله تعالى ( وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ) (١) قال أبو بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما .. وفيه مشورة أم سلمة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يخرج الى الناس فينحر ويحلق لأنها رأت أنهم لا يخالفون فعله فدل هذا على أن الحديث في أمر النساء ليس في المشورة وإنما هو في الولاية .. وفيه السنة على أن النحر قبل الحلق بقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم انحروا ثم احلقوا .. وفيه أن من قلّد وأشعر لم يحرم على خلاف ما يقول بعض الفقهاء .. وفي إباحة سبي ذراري المشركين اذا خرج المشركون فأعانوا مشركين آخرين لقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ترون أن نميل على ذراري هؤلاء الذين أعانوا فنصيبهم .. وفيه إجازة قتال المحرم من صده عن البيت ومنعه من نسكه لقوله عليه الصلاة والسلام أو ترون أن نؤم هذا البيت فمن صدّنا عنه قاتلناه .. وفيه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والذي نفسي بيده لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله تعالى الا أعطيتهم إياها ولم يقل إن شاء الله .. [ قال أبو جعفر ] ففي هذا الحديث أجوبة منها أن يكون هذا شيئا قد علم أنه كذا فلا يحتاج أن يستثنى فيه لأن الإنسان إنما أمر بالاستثناء لما يخاف أن يمنع منه ويجوز أن يكون الاستثناء حذف لعلم السامع ولم يذكره المحدث أو جرى على جهة النسيان .. وفيه اعطاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم السهم لأصحابه حتى جعلوه في الماء فكان ذلك من علامة نبوته صلى‌الله‌عليه‌وسلم وازديادهم بصيرة .. وفيه إجازة مهادنة المشركين بلا مال يؤخذ منهم إذا كان ثمّ ضعف .. وفيه أن محمد بن اسحاق قال هادنهم عشر سنين فعمل بذلك جماعة من الفقهاء قالوا لا تجوز المهادنة أكثر من عشر سنين اذا كان ثمّ خوف ومنهم من قال ذلك وأن الإمام يفعل ما فيه صلاح المسلمين .. وفيه إجازة مهادنة المشركين على ما فيه ضعف على

__________________

(١) سورة : آل عمران ، الآية : ١٥٩

٢٤٤

المسلمين مما ليس فيه معصية لله اذا احتيج الى ذلك لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما كتب علي بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه بسم الله الرحمن الرحيم امتنعوا من ذلك وأبوا أن يكتبوا الا باسمك اللهم فأجابهم الى ذلك لأن هذا كله لله عز وجل وكذا لما قالوا لا نكتب الا هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله فأجابهم لأنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو محمد بن عبد الله .. وفيه من المشكل على أنه قاضاه على انه من جاءه منهم مسلما رده اليهم حتى نفر جماعة من الصحابة من هذا منهم عمر بن الخطاب حتى ثبته أبو بكر رضي‌الله‌عنهما .. وتكلم العلماء في هذا الفعل فمنهم من قال فعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لقلة أصحابه وكثرة المشركين وأنه أراد أن يشتغل بغير قريش حتى يفرغ لهم وأن يقوّي أصحابه ومن أصح ما قيل فيه وهو مذهب محمد بن اسحاق أنه كثر الإسلام بعد ذلك حتى أنه كان لا يخاطب أحدا بفعل الإسلام إلا أسلّم فمعنى هذا أن الله تعالى علم أن منهم من سيسلّم وأن في هذا الصلاح ولم يكن في رد من أسلّم إليهم إلا أحد أمرين إما أن يفتن فيقول بلسانه ما ليس في قلبه فالوزر ساقط عنه وإما أن يعذب في الله فيثاب على انهم انما كان يجيء أهاليهم وأقرباؤهم فهم مشفقون عليهم والدليل على ان الله تعالى علم ان في ذلك الصلاح احمادهم العاقبة بأن سأل الكفار المسلمين أن يحوزوا اليهم كل من أسلّم .. وفيه قوله عليه الصلاة والسلام اني رسول الله ولا أعصيه فدلّ على ان هذا كان عن أمر الله سبحانه وتعالى .. وفيه تبيين فضل أبي بكر رضي‌الله‌عنه وانه أعلم الناس بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأحكام الله وشرائع نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنه أجاب عمر رضي‌الله‌عنه بمثل جواب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبيّنه وانما كان ذلك من عمر كراهية لإعطاء الدنيّة في الإسلام .. وفيه هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله فكان في هذا الرد على من زعم من الفقهاء انه لا يجوز هذا ما شهد عليه الشهود قال لأن هذا يكون نفيا .. [ قال أبو جعفر ] وهذا اغفال قال الله تعالى ( هذا ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ ) (١) .. وفيه إجازة صلح الإمام لواحد من المشركين عن جميعهم لأن سهيل بن عمرو هو الذي صالح .. وفيه استحباب الفال بقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما جاء سهيل قد سهل لكم من أمركم (٢) .. وفيه إجازة قيام الناس على رأس الإمام بالسيوف اذا كان ترهيبا للعدو ومخافة للغدر لأن في الحديث ان المغيرة بن شعبة كان قائما على رأس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم متقلدا سيفه فكلما أهوى عروة بيده الى

__________________

(١) سورة : ص ، الآية : ٥٣

(٢) هذا وارد في جملة أحاديث صلح الحديبية والمؤلف لم ينص عليه في صدر كلامه لأنه محفوظ من أحاديث أخبار الصلح فليحفظ.

٢٤٥

لحية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ضربه المغيرة بنصل سيفه وقال أخّر عن لحية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم .. وفيه خبر المغيرة لما خرج مع قوم من المشركين فقتلهم وأخذ مالهم ثم جاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مسلما فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « أما الإسلام فنقبل وأما المال فلست منه في شيء » لأن المشركين وان كانت أموالهم مغنومة عند القهر فلا يحل أخذها عند الأمن واذا كان الإنسان مصاحبا لهم فقد أمن كل واحد منهم صاحبه فسفك الدماء وأخذ المال عند ذلك غدر والغدر محظور وأموال الأبرار والفجار لهم يستوون في ذلك لا يؤخذ منها شيء الا بالحق .. وفيه طهارة النخامة لأن أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان اذا تنخم منهم من يأخذ النخامة فيحكّ بها جلده على خلاف ما قال إبراهيم النخعي أن النخامة اذا سقطت في ماء أهريق .. وفيه من قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإنك تأتيه فدل هذا على أنه من حلف على فعل ولم يوجب وقتا ان وقته فيه أيام حياته .. وفيه أنه من أحرم بحج أو عمرة فحصره عدوّ حل من إحرامه ونحر هديه مكانه لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كذا فعل لما حضر يوم الحديبية حل ونحر في الحل وأمر أصحابه بذلك .. وفيه أن أبا بصير لما سلّمه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الى الرجلين قتل أحدهما وهو ممن دخل في الصلح فلم يطالبه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم به لما لم يطالب به أولياؤه فكان الحكم هكذا في نظير هذا .. وفيه أنه وقع الصلح على أنه يردّ إليهم من جاء منهم فلما اعتزل أبو بصير بسيف البحر اجتمع اليه كل من أسلّم لم يأمر بردهم فدل بهذا على أنه ليس على الإمام أن يصالح الى مثل هذا في قول من يقول ليس بمنسوخ ليس عليه أن يرد من لم يكن عنده .. وفيه لا يأتيكم منا رجل وإن كان على دينك الا رددته إلينا فكان هذا ليس فيه ذكر النساء ولا نسخ على هذه الرواية وفي رواية عقيل لا يأتيك منا أحد وان كان على دينك الا رددته الينا وأحد محيط بالرجال والنساء ثم أنزل الله تعالى نسخ هذا في النساء فكان فيه دليل انه من شرط شرطا ليس في كتاب الله فهو باطل كما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل .. وفيه أن المسلمين لما التجئوا بسيف البحر فضيقوا على قريش سألوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يضمهم اليه ( وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ ) (١) كما حدثنا .. أحمد بن محمد الأزدي قال حدثنا محمد بن بحر بن مطر قال حدثنا يزيد بن هارون قال حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت البناني عن أنس بن مالك ان ثمانين رجلا من أهل مكة هبطوا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه من التنعيم عند صلاة الفجر ليقتلوهم فأخذهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأعتقهم فأنزل الله تعالى ( وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ )

__________________

(١) سورة : الفتح ، الآية : ٢٤

٢٤٦

وهذا إسناد مستقيم وهو أولى من الأول من غير جهة وذلك ان في الحديث هبطوا من التنعيم والتنعيم من بطن مكة وأبو بصير كان بسيف البحر وسيف البحر كان ليس من بطن مكة وأيضا فان في الحديث الظفر بهم وليس في ذلك ظفر .. وفي الحديث الأول ما دل على أنه من جالس إماما أو عالما فرأى انسانا قد ألحقه مكروها فينبغي أن يغيره ويصوب الإمام والعالم عن الكلام فيه لأن عروة بن مسعود لما أخذ بلحية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ضرب المغيرة بن شعبة يده بنصل السيف وقال أخّر يدك عن لحية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم .. وفيه استعمال الحكم من أدب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما أمره الله عز وجل في كتابه فقال تعالى ( ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَما يُلَقَّاها إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ) (١) ومن أحسن ما قيل في هذه الآية ما قاله ابن عباس كما حدثنا .. بكر بن سهل قال أنبأنا عبد الله بن صالح قال حدثني معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس ( ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) قال أمر الله المؤمنين بالصبر عند الجزع والحلم عند الجهل والعفو عند الإساءة فاذا فعلوا ذلك عصمهم الله من الشيطان وخضع لهم عدوهم ( كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَما يُلَقَّاها إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ) قال الذين أعد الله لهم الجنة .. وفي الآية التي قصدت لذكرها ( وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا ) (٢) فللشافعي فيها قولان .. أحدهما ان هذا منسوخ قال الشافعي واذا جاءتنا المرأة الحرة من أهل الهدنة مسلمة مهاجرة من أهل الحرب إلى الإمام في دار الإسلام أو دار الحرب فمن طلبها من ولي سوى زوجها منع منها بلا عوض واذا طلبها زوجها لنفسه أو غيره بوكالته ففيه قولان أحدهما يعطي العوض والقول ما قال الله عز وجل وفيه قول ثان وهو ان لا يعطي الزوج المشرك الذي جاءت زوجته مسلمة العوض وإن شرط الإمام رد النساء كان الشرط منتقضا ومن قال هذا قال ان شرط رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأهل الحديبية فيه أن يرد من جاء منهم وكان النساء منهم كان شرطا صحيحا فنسخه الله ورد العوض فلما قضى الله عز وجل ثم رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ان لا يرد النساء كان شرطا من شرط رد النساء منسوخا وليس عليه ان يعوض لأن شرطه المنسوخ باطل ولا عوض للباطل .. [ قال أبو جعفر ] وهذا القول عنده أشبه القولين ان لا يعطي عوضا وقد تكلم على ان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم صالحهم على رد النساء ثم نسخ الله عز وجل ذلك فكان في هذا نسخ السنة بالقرآن ومذهبه غير هذا لأن مذهبه أن لا ينسخ القرآن الا قرآن ولا ينسخ السنّة الا السنّة فقال بعض أصحابه

__________________

(١) سورة : فصلت ، الآية : ٣٤

(٢) سورة : الممتحنة ، الآية : ١٠

٢٤٧

لما أنزل الله عز وجل الآية لم يرد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم النساء فنسخت السنّة السنّة وبينت انه لا يجوز أن يشترط الامام رد النساء بحكم الله ثم بحكم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم .. واختلف العلماء في صلح الإمام المشركين على أن يرد اليهم من جاء منهم مسلما .. فقال قوم لا يجوز هذا وهذا منسوخ .. واحتجوا بحديث اسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم عن خالد بن الوليد ان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعثه الى قوم من خثعم فاعتصموا بالسجود فقتلهم فودّاهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بنصف الدية وقال انا بريء من كل مسلّم أقام مع مشرك في دار الحرب (١) لا تتراءى نارهما قالوا فهذا ناسخ لرد المسلمين الى المشركين اذا كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد برئ ممن أقام معهم في دار الحرب .. [ قال أبو جعفر ] وهذا قول الكوفيين ومذهب مالك والشافعي ان هذا الحكم غير منسوخ قال الشافعي وليس لأحد هذا العقد الا الخليفة أو رجل يأمره لأنه يلي الأموال كلها فمن عقد غير الخليفة هذا العقد فهو مردود .. [ قال أبو جعفر ] في هذه الآية ( وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ ) (٢) ففي هذا قولان أحدهما انه منسوخ منه كما قال عز وجل ( وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ ) (٣) فلو كان على ظاهر الآية لم تحل كافرة بوجه .. وقال قوم هي محكمة الا انها مخصوصة لمن كان من غير أهل الكتاب فاذا أسلّم وثني أو مجوسي ولم تسلّم امرأته فرق بينهما .. [ قال أبو جعفر ] فهذا بعض قول أهل العلم .. ومنهم من قال ينتظر بها تمام العدّة .. فممن قال يفرق بينهما ولا ينتظر تمام العدة مالك بن أنس وهو قول الحسن وطاوس ومجاهد وعطاء وعكرمة وقتادة والحكم .. وقال الزهري ينتظر بها العدة وهو قول الشافعي وأحمد .. وقال أصحاب الرأي ينتظر بها ثلاث حينئذ اذا كانا جميعا في دار الحرب أو في دار الإسلام فان كان أحدهما في دار الحرب والآخر في دار الإسلام انقطعت العصمة بينهما وحجته ( وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ ) وهو قول الحسن البصري والحسن بن صالح ومذهب الشافعي وأحمد انه ينتظر بها تمام العدة وان كان الزوجان نصرانيين وأسلمت الزوجة ففيه أيضا اختلاف .. فمذهب مالك والشافعي وأحمد وهو قول مجاهد الوقوف الى تمام العدة .. ومن العلماء من قال انفسخ بينهما النكاح قال يزيد بن علقمة أسلّم جدي ولم تسلم جدتي ففرق بينهما عمر رضي‌الله‌عنه وهو قول طاوس وجماعة غيره منهم عطاء والحسن وعكرمة قال لا سبيل عليها الا بخطبة .. واحتج بعضهم بقوله ( وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ ) وهذا الاحتجاج غلط لأن

__________________

(١) هكذا في الأصل ولعل هنا سقطا فليحرر.

(٢) سورة : الممتحنة ، الآية : ١٠

(٣) سورة : المائدة ، الآية : ٥

٢٤٨

الكوافر لا يكون الا للنساء ولا يجمع كافر على كوافر .. والحجة فيه ( وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا ) (١) .. ومن العلماء من قال يستتاب فإن تاب والا وقعت الفرقة .. ومنهم من قال لا يزول النكاح اذا كانا في دار الهجرة وهذا قول النخعي .. ومنهم من قال يزول النكاح باختلاف الدارين .. ومنهم من قال تخير فإن شاءت أقامت معه وإن شاءت امتنعت فإن أسلّم الزوج فهي امرأته بحالها لأنها كتابية فإن أسلما جميعا فهما على نكاحهما لا اختلاف في ذلك.

باب

ذكر الآية الثالثة

قال الله عز وجل ( وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا ) (٢) وأكثر العلماء على أنها منسوخة .. قال قتادة ( وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ ) الذين ليس بينكم وبينهم عهد ( فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا ) ثم نسخ هذا في سورة براءة .. وقال الزهري انقطع هذا يوم الفتح وقال سفيان الثوري لا يعمل به اليوم وقال مجاهد وإن فاتكم شيء من أزواجكم الى الكفار الذين بينكم وبينهم عهد أو ليس بينكم وبينهم عهد فعاقبتم أي فاقتصصتم ( فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا ) أي الصدقات فصار قول مجاهد أنها في جميع الكفار وقول قتادة أنها فيمن لم يكن له عهد .. وقول ثالث أنها نزلت في قريش حين كان بينهم وبين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عهد فقال ( وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا ) (٣) وكتب اليهم المسلمون قد حكم الله بأنه إن جاءتكم امرأة منّا أن توجهوا الينا بصداقها وإن جاءتنا امرأة منكم وجهنا إليكم بصداقها .. فكتبوا إليهم أما نحن فلا نعلم لكم عندنا شيئا وإن كان لنا عندكم شيء فوجهوا به فأنزل الله ( وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا ).

__________________

(١) سورة : البقرة ، الآية : ٢٢١

(٢) سورة : الممتحنة ، الآية : ١١

(٣) سورة : الممتحنة ، الآية : ١٠

٢٤٩

باب

ذكر الآية الرابعة

قال الله عز وجل ( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئاً ) (١) الآية .. فمن العلماء من قال هي منسوخة بالإجماع أجمع العلماء على أنه ليس على الإمام أن يشترط عليهم هذا عند المبايعة إلا ان أبا حاتم فرق بين هذا وبين النسخ .. فقال هذا هو اطلاق الترك من غير أن ينسخ بابه .. واحتج بقوله ( ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها ) (٢) قال ننساها نطلق لكم تركها وهو قول حسن وأصله عن ابن عباس وهو الذي فرق بين ننسأ وننسخ وننسى .. وقال بعض أهل العلم الآية محكمة فاذا تباعدت الدار واحتيج الى المحنة كان على إمام المؤمنين اقامة المحنة.

__________________

(١) سورة : الممتحنة ، الآية : ١٢

(٢) سورة : البقرة ، الآية : ١٠٦

٢٥٠

سورة الصف ، والجمعة ، والمنافقين ، والتغابن ، والطلاق ، والتحريم

بسم الله الرحمن الرحيم

قرئ .. على أحمد بن محمد بن الحجاج عن يحيى بن سليمان قال حدثنا أحمد بن بشير عن سعيد عن قتادة أن هذه السور مدنيات نزلت بالمدينة .. وحدثنا يموت بإسناده عن ابن عباس أن سورة الصف نزلت بمكة وأن سورة الجمعة والمنافقين نزلتا بالمدينة وأن سورة التغابن نزلت بمكة إلا آيات من آخرها نزلت بالمدينة في عوف بن مالك الاشجعي شكى إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم جفاء أهله وولده فأنزل الله تعالى ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ ) (١) الى آخر السورة وأن سورة الطلاق والتحريم مدنيتان .. والقول الأول مروي عن مجاهد .. وعن كريب عن ابن عباس في هذه السورة قوله تعالى ( فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ) (٢) قد ذكرناه في سورة آل عمران وذكرنا قول من قال أنه ناسخ لقوله تعالى ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ ) (٣). وفيهن ( وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ ) (٤) .. وقد ذكرنا في سورة البقرة وقول من قال هو ناسخ لحكم المتوفى عنها زوجها وهي حامل .. فأما المطلقة فلا اختلاف في حكمها أنها إذا ولدت فقد انقضت عدتها منهم عبد الله بن مسعود قال نزلت هذه بعد ذلك .. [ قال أبو جعفر ] وظاهر القرآن يدل على ما قال ابن مسعود قال جل ثناؤه ( وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ ) ولم يفرق بين المطلقة والمتوفى عنها زوجها وكذا السنة.

__________________

(١) سورة : التغابن ، الآية : ١٤

(٢) سورة : التغابن ، الآية : ١٦

(٣) سورة : آل عمران ، الآية : ١٠٢

(٤) سورة : الطلاق ، الآية : ٤

٢٥١

سورة الملك ، ونون ، والحاقة ، وسأل ، ونوح ، والجن

بسم الله الرحمن الرحيم

حدثنا .. يموت بإسناده عن ابن عباس أنهن نزلن بمكة فهن مكيات. فيهنّ قوله جل ثناؤه ( فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً ) (١) مذهب ابن زيد ان هذا منسوخ وانه كان قبل الأمر بالقتال فلما أمر بالقتال أمر بالغلظة والشدة على الكفار والمنافقين .. ورد عليه هذا بعض أهل العلم قال لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يزل صابرا عليهم صبرا جميلا ولم يكن في وقت خلاف وقت فيكون كما قال ابن زيد. وفيهنّ ( وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ) (٢) وقد ذكرنا هذا في سورة والذاريات بما لا يحتاج معه الى الزيادة.

__________________

(١) سورة : المعارج ، الآية : ٥

(٢) سورة : الذاريات ، الآية : ١٩

٢٥٢

سورة المزمل

بسم الله الرحمن الرحيم

حدثنا .. يموت بإسناده عن ابن عباس أنها نزلت بمكة فهي مكية سوى آيتين منها فانهما نزلتا بالمدينة وهما قوله عز وجل ( يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً ) (١) الآية فجاز أن يكون هذا ندبا وحضا وأن يكون حتما وفرضا غير أن بابه أن يكون حتما وفرضا الا أن يدل دليل على غير ذلك والدليل أنه كان حتما وفرضا وذلك ان الندب والحض لا يقعان الا على بعض الليل دون بعض لأن قيامه ليس مخصوصا به وقت دون وقت وأيضا فقد جاء التوقيف بما سنذكره ان شاء الله وجاز أن يكون هذا حتما وفرضا على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحده وجاز أن يكون هذا عليه وعلى أمته فجاء التوقيف بأنه كان عليه وعلى المؤمنين ثم نسخ كما قرئ .. على أحمد بن شعيب عن اسماعيل بن مسعود قال حدثنا خالد بن أبي الحارث قال حدثنا سعيد قال حدثنا قتادة عن زرارة بن أوفى عن سعد بن هشام قال انطلقت الى عائشة رضي‌الله‌عنها فاستأذنت عليها فقلت لها أنبئيني بقيام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت ألست تقرأ هذه السورة ( يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ ) (٢) قلت بلى قالت ان الله افترض القيام في أول ( يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ ) على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى أصحابه حولا حتى انتفخت أقدامهم وأمسك الله خاتمتها اثني عشر شهرا ثم أنزل التخفيف في آخر هذه السورة فصار قيام الليل تطوعا بعد أن كان فريضة .. قال أبو عبد الرحمن مختصر .. [ قال أبو جعفر ] فتبين بهذا الحديث أنه كان فرضا عليه وعلى أصحابه ثم نسخ وقول عائشة رضي‌الله‌عنها حولا يبين لك ما في الناسخ والمنسوخ مما يشكل على قوم .. وذلك أنه اذا قيل لهم صلّوا كذا الى حول كذا وقيل لهم صلّوا كذا الى حول ثم نسخ بعد فقد كان في معنى قوله صلوا كذا أنه الى وقت كذا وإن لم يذكر فعلى هذا يكون النسخ وقرئ .. على محمد بن جعفر بن حفص عن يوسف بن موسى قال حدثنا وكيع ويعلى قالا حدثنا مسعر عن سماك الحنفي قال سمعت ابن عباس يقول .. لما نزلت أول ( يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ ) كانوا يقومون نحوا من قيامهم في شهر رمضان حتى نزلت آخرها وكان بين آخرها وأولها نحو من سنة وحدثني .. جعفر بن محمد بن مجاشع قال حدثنا إبراهيم بن اسحاق قال حدثنا إبراهيم بن عبد الله قال حدثنا

__________________

(١) سورة : المزمل ، الآيات : (١ ـ ٣)

(٢) سورة : المزمل ، الآية : ١

٢٥٣

حجاج عن ابن جريج عن عطاء الخراساني عن ابن عباس نزلت ( يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً ) فلما قدم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة نسختها هذه الآية ( إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ ) (١) الى آخرها وحدثنا .. محمد بن رمضان بن شاكر قال حدثنا الربيع بن سليمان المدني قال حدثنا محمد بن إدريس الشافعي قال وفيما نقل بعض من سمعت منه من أهل العلم أن الله تعالى أنزل فرض الصلاة قبل فرض الصلوات الخمس ( يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً ) (٢) ثم نسخ هذا في السورة معه فقال ( إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ ) (١) الى قوله تعالى ( وَآتُوا الزَّكاةَ ) (١) .. ولما ذكر الله تعالى بعد أمره بقيام الليل نصفه إلاّ قليلا أو الزيادة عليه قال ( أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ ) فخفف فقال ( عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى ) الى قوله ( فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ ) كان بينا في كتاب الله ثم نسخ قيام الليل ونصفه وثلثه والنقصان من النصف والزيادة عليه بقول الله تعالى ( فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ ) ثم احتمل قول الله عز وجل ( فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ ) معنيين .. أحدهما أن يكون فرضا ثانيا لأنه أزيل بعده كما أزيل به غيره وذلك لقول الله تعالى ( وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً ) (٣) واحتمل قوله عز وجل ( وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ ) أن يتهجد بغير الذي فرض عليه مما تيسر منه .. قال الشافعي فكان الواجب طلب الاستدلال بالسنة على أحد المعنيين فوجدنا سنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تدل على ان لا واجب من الصلاة الا الخمس .. [ قال أبو جعفر ] وأما الموضع الثاني فقوله عز وجل ( وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً ) (٤) قرئ .. على أحمد بن محمد بن الحجاج عن يحيى بن سليمان قال حدثني محمد بن بكر البصري قال حدثنا همام عن يحيى عن قتادة في قوله ( وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً ) قال .. كان هذا قبل أن يؤمر بالقتال وقتلهم فنسخت آية القتال ما كان قبلها من الترك.

__________________

(١) سورة : المزمل ، الآية : ٢٠

(٢) سورة : المزمل ، الآيات : (١ ـ ٤)

(٣) سورة : الإسراء ، الآية : ٧٩

(٤) سورة : المزمل ، الآية : ١٠

٢٥٤

سورة المدثر الى آخر اقرأ باسم ربك

بسم الله الرحمن الرحيم

حدثنا .. يموت بإسناده عن ابن عباس أنهن نزلن بمكة .. وجدنا فيهن أربعة مواضع.

باب

ذكر الموضع الأول

قال عز وجل .. ( وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً ) (١) .. قال ابن زيد كان هذا أول شيء فريضة ثم حققها الله تعالى فقال ( وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ ) (٢).

باب

ذكر الموضع الثاني

قال عز وجل ( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى ) (٣) .. تكلم العلماء في هذه الآية بأجوبة فروي عن ابن عباس أنه قال من تزكى من الشك وروي عنه أنه قال أخرجوا زكاة الفطر قبل صلاة العيد وعن أبي مالك من تزكى من آمن وعن عكرمة من تزكى من قال لا إله الا الله وعن قتادة تزكى بالعمل الصالح والورع وعن ابن جريج من تزكى بماله وعمله وعن عطاء الصدقات كلها وعن عبيد الله اذا خرجت الى الصلاة فتصدق بشيء ان استطعت فان الله عز وجل يقول ( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى ) (٣) .. وهذه الأقوال متقاربة لأن التزكي في اللغة التطهر .. وهذا كله تطهر لأنه انتهاء الى ما يكفر الذنوب وقيل زكاة من هذا لأنها تطهير لنا في المال وقيل هي من الزكاء أي الزيادة والنماء وإنما أدخلت هذه الآية في الناسخ والمنسوخ لأن جماعة من العلماء تأولوها على أنها في زكاة الفطر .. منهم عمر بن عبد العزيز من قبل أن تصلوا صلاة العيد فان الله تعالى يقول ( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى ) وهو قول سعيد بن المسيب وأبي العالية وموسى بن وردان وقد ثبت أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر بزكاة الفطر وفرضها قبل أن تفرض الزكاة فجاز أن تكون الزكاة

__________________

(١) سورة : الإنسان ، الآية : ٢٦

(٢) سورة : الإسراء ، الآية : ٧٩

(٣) سورة : الأعلى ، الآية : ١٤

٢٥٥

ناسخة لها لأنها بعدها وجاز أن تكونا واجبتين وقد ثبت وجوبهما وان كان حديث قيس بن سعد بن عبادة ربما أشكل فتوهم سامعه النسخ في ذلك كما قرئ على .. أحمد بن شعيب بن علي عن محمد بن عبد الله بن المبارك قال حدثنا وكيع قال حدثنا سفيان عن سلمة بن كهيل عن القاسم بن مخيمرة عن أبي عمار عن قيس بن سعد قال .. أمرنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بصدقة الفطر قبل أن تنزل الزكاة فلما نزلت الزكاة لم يأمرنا ولم ينهنا ونحن نفعله .. [ قال أبو جعفر ] وهذا الحديث لا يدل على النسخ لأنه قد ثبت أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد أمرهم بها والأمر مرة واحدة يكفي ولا يزول الا بشيء ينسخه والقول بأنها واجبة على الغني والفقير قول أبي هريرة وابن عمر وأبي العالية والزهري وابن سيرين والشعبي ومالك والشافعي وابن المبارك غير ان الشافعي وابن المبارك قالا إن كان عنده فضل عن قوته وقوت من يقوته كانت واجبة عليه وأهل الرأي يقولون لا تجب زكاة الفطر على من تحل له الصدقة وقال اسحاق بن راهويه أوجب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم زكاة الفطر وعمل به الخلفاء الراشدون المهديون وهذا يدل على أنه اجماع .. وحدثنا بكر بن سهل قال حدثنا عبد الله بن يوسف قال أنبأنا مالك عن أنس عن نافع عن عبد الله بن عمر قال فرض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم زكاة الفطر في رمضان صاعا من تمر أو صاعا من شعير على كل حر وعبد وذكر وأنثى من المسلمين .. [ قال أبو جعفر ] وقد أشكل هذا الحديث على بعض أهل النظر فقال ليس على الرجال أن يخرجوا عن عبيدهم لأن العبد فرض عليه ولم يفرض على مولاه والحديث أن يخرج عنه فذلك على العبد أن يخرج عن نفسه اذا أعتق وهذا قول بالظاهر وقد بين ذلك الحديث الآخر الثابت الذي لا تدفع صحته روى عبد الله عن نافع عن ابن عمر قال أمرنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بصدقة الفطر عن كل صغير وكبير حر أو عبد بصاع من شعير أو صاع من تمر فقد بين هذا الحديث وذلك فيجوز أن يكون المعنى على كل حر وعبد يخرج عنه الحر ويجوز أن يكون على بمعنى عن وذلك معروف في اللغة موجود قال الله تعالى ( أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى ) (١) لا نعلم اختلافا على ما يرى وأنشد النحويون :

اذا رضيت عليّ بنو قشير

لعمر أبيك أعجبني رضاها

قال محمد بن جرير أجمع أهل العلم على أن زكاة الفطر فرضت ثم اختلفوا في نسخها .. [ قال أبو جعفر ] فلما ثبتت بالإجماع وبالأسانيد الصحاح عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يجز أن تزال الا بالإجماع أو حديث يزيلها ويبين نسخها ولم يأت من ذلك شيء وصح عن الصحابة

__________________

(١) سورة : النجم ، الآية : ١٢

٢٥٦

والتابعين إيجابها واختلفوا في مقدار ما يخرج منها من البر والزبيب وأجمعوا على أنه لا يجوز من الشعير والتمر الا صاع .. فممن قال لا يجزي من البر الا صاع الحسن ومالك والشافعي وأحمد ويروى هذا القول عن علي بن أبي طالب وابن عباس واختلف عنهما .. وممن قال يجزي نصف صاع من الصحابة أبو بكر الصديق وعثمان وعبد الله بن مسعود وأسماء وجابر وابن الزبير وأبو هريرة ومعاوية فهؤلاء ثمانية من الصحابة .. ومن التابعين سعيد بن المسيب وعمر بن عبد العزيز وعروة وأبو سلمة وعطاء وطاوس ومجاهد وسعيد بن جبير وأبو قلابة وعبد الله بن شداد ومصعب بن سعد فهؤلاء أحد عشر من التابعين .. وممن دونهم الليث بن سعد والثوري وأبو حنيفة وصاحباه .. والحجة للقول الأول أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما فرض صاعا من شعير أو صاعا من تمر وكان قوتهم وجب أن يكون كل قوت كذلك .. والحجة للقول الثاني ان الصحابة والتابعين هم الذين قدروا نصف صاع بر وهم أعلم الناس بأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا تجوز مخالفتهم الا الى قول بعضهم فإن قيل فقد خالفهم علي بن أبي طالب وابن عباس فالجواب انه قد اختلف عنهما وليس أحد القولين أولى من الآخر الا بالاحتجاج بغيرهما قرئ على أحمد بن شعيب عن عمران بن موسى عن عبد الوارث قال حدثنا أيوب عن نافع عن عمر قال فرض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم زكاة رمضان صاعا من تمر أو صاعا من شعير على كل حر وعبد وذكر وأنثى فعدل الناس به نصف صاع بر فهذا ابن عمر خبر ان الناس فعلوا هذا والناس الجماعة فأما الزبيب فأهل العلم مجمعون على انه لا يجزي منه في زكاة الفطر الا صاع خلا أبي حنيفة فإن أبا يوسف روى عنه انه يخرج منه نصف صاع كما يخرجه من البر .. وأما الاختيار فيما يخرج فأهل العلم مختلفون في ذلك فروي عن ابن عمر (١) وقال غيره لأن التمر منفعته عاجلة .. وقال الشافعي البر أحب اليّ وقال أبو يوسف أعجلها منفعة الدقيق يخرج نصف صاع من دقيق بر أو صاعا من دقيق الشعير .. فأما إخراج القيمة فمختلف فيه أيضا .. فممن اجاز ذلك عمر بن عبد العزيز والحسن وأهل الرأي ولم يجز مالك والشافعي وأحمد الا اخراج المكيلة كما جاءت به السنة وقال اسحاق يجوز ذلك للضرورة .. فأما دفع زكاة الفطر لإنسان واحد وان كانت عن جماعة فمما اختلف فيه أيضا وأجازه أهل المدينة فقال الشافعي يقسم كما تقسم الزكاة .. وأما إعطاء أهل الذمة منها فمختلف فيه أيضا فأكثر أهل العلم لا يجيزونه ومنهم من أجازه مرة الهمذاني وهو قول أهل الرأي وفرقوا بينها وبين الزكاة فلم يجيزوا في الزكاة الا المسلمين

__________________

(١) هكذا في الأصل ولعل ابن عمر كان يفضل التمر للتعليل الذي بعده.

٢٥٧

وأجازوا في زكاة الفطر أن تدفع إلى أهل الذمة .. وأما دفع الرجل عن زوجته فمختلف فيه أيضا فأكثر أهل العلم يوجبون عليه ذلك وقال الثوري وأهل الرأي لا يجب ذلك عليه .. واختلفوا أيضا في أهل البادية فقال عطاء والزهري وربيعة لا تجب عليهم زكاة الفطر وقال سعيد بن المسيب هي واجبة عليهم لقوله ( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى ) (١) وهو قول أكثر أهل المدينة وأهل الكوفة .. وأما العبد المأذون له في التجارة فمختلف فيه لأداء زكاة الفطر عنه أيضا فقال الحسن وعطاء لا يجب على مولاه أن يؤديها عنه وهو قول أهل الرأي وقال مالك والليث والأوزاعي والشافعي عليه أن يؤديها عنه .. واختلفوا أيضا في المكاتب فقال مالك عليه أن يؤديها عنه وقال أهل الرأي والشافعي ليس ذلك عليه وكذا روي عن ابن عمر وبهذا الاختلاف قال بعض العلماء ليس على الرجل أن يؤدي الا عن نفسه كما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « على كل حر وعبد » فالحر يؤدي عن نفسه والعبد يؤدي عن نفسه كما روى عبيد الله عن نافع عن ابن عمر قال ليس على العبد في ماله شيء الا صدقة الفطر الا أن الفقهاء الذين تدور عليهم الفتيا يقولون عليه أن يخرج عن عبده .. فأما تقدير الصاع فقد قدره جماعة من أهل العلم على أنه خمس ويبة والمد ربعه لا نعلم اختلافا في الكيل .. فمن قال يخرج الإنسان صاعا من بر قال يخرج الويبة عن عشرة ومن قال يخرج نصف صاع من بر قال الويبة عن عشرة وهذا قول الليث والمتفقهون من أهل الرأي يقولون عن ثمانية .. واختلفوا في مقدار الصاع من الوزن فقول الشافعي وأبي يوسف أنه خمسة أرطال وثلث وعن أهل المدينة أخذوا هذا وهم أعلم الناس به .. وقال أبو حنيفة ومحمد هو ثمانية أرطال. وأما الموضع الثالث .. فقوله تعالى ( فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ ) (٢) قال ابن زيد أي لست تكرههم على الإيمان ثم جاء بعد ذلك ( جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ ) (٣) ( وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ ) (٤) فنسخ هذا ( لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ ) فجاء قتله أو يسلّم والتذكرة كما هي لم تنسخ .. وفي رواية ابن أبي طلحة عن ابن عباس ( لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ ) أي بجبار .. فهذا معروف في اللغة يقال تسيطر على القوم اذا تسلط عليهم أي لست مجبرهم على الإسلام انما عليك ان تدعوهم اليه ثم تكلمهم الى الله عز وجل وأما الموضع الرابع فقوله تعالى ( فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ ) (٥) .. [ قال أبو جعفر ]

__________________

(١) سورة : الأعلى ، الآية : ٢٤

(٢) سورة : الغاشية ، الآيتان : ( ٢١ ـ ٢٢ )

(٣) سورة : التوبة ، الآية : ٥

(٤) سورة : التوبة ، الآية : ٧٣

(٥) سورة : الانشراح ، الآية : ٧

٢٥٨

اختلف العلماء في معناه .. فمن ذلك ما حدثنا .. أحمد بن محمد بن نافع قال حدثنا سلمة قال حدثنا عبد الرزاق قال أنبأنا معمر عن قتادة ( فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ ) قال فإذا فرغت من صلاتك فانصب في الدعاء .. وقال الحسن إذا فرغت من غزوك وجهادك فتعبد الله عز وجل .. وقال مجاهد إذا فرغت من شغلك بأمور الدنيا فصلّ واجعل رغبتك إلى الله تعالى .. وإنما أدخل هذا في الناسخ والمنسوخ لأن عبد الله بن مسعود قال في معنى فانصب لقيام الليل وفرض قيام الليل منسوخ على أن هذا غير واجب والمعاني في الآية متقاربة أي إذا فرغت من شغلك بما يجوز أن تشتغل به من أمور الدنيا والآخرة فانصب أي انتصب لله تعالى واشتغل بذكره ودعائه والصلاة له ولا تشتغل باللهو وما يؤثم وقد بين ابن مسعود ما أراد بقوله فإذا فرغت من الفرائض فانصب لقيام الليل.

٢٥٩

سورة القدر الى آخر القرآن

بسم الله الرحمن الرحيم

حدثنا .. يموت بإسناده عن ابن عباس ان سورة ـ القدر ولم يكن ـ مدنيتان و ( إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ ) (١) الى آخر ( قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ ) (٢) مكية وان ( إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ ) (٣) الى آخر ( قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ) (٤) مدنية .. وقال كريب وجدنا في كتاب ابن عباس أن من سورة القدر الى آخر القرآن مكية الا ( إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ ) و ( إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ ) و ( قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ )(٥) و ( قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ ) (٦) و ( قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ) فإنهن مدنيات لم نجد فيهن ناسخا ولا منسوخا .. واذا تدبرت ذلك وجدت أكثرهن ليس فيه ناسخ ولا منسوخ إنما هو فيما لا يجوز أن يقع فيه نسخ لأنه لا يجوز أن يقع نسخ في توحيد الله تعالى ولا في أسمائه ولا في صفاته ولا في إخباره وانما كان ويكون .. والعلماء يقولون ولا في أخباره ومعنى ولا في أخباره بما كان أو بما يكون وانما هو بكسر الهمزة والحكمة في هذا أن النسخ انما يكون في أحكام الشرائع من الصلاة والصيام والحظر والإباحة .. وقد يجوز أن ينقل الشيء من الأمر الى النهي ومن النهي الى الأمر لأنك اذا قلت افعل كذا محرم عليك سنة جاز أن تبيحه بعد سنة .. واذا قلت افعل كذا وكذا محرم عليك وأنت تريد وقتا أو شرطا فكذا أيضا وسواء عليك ذكرته أم لم تذكره وهذا محال في توحيد الله وأسمائه وصفاته وإخباره بما كان ويكون .. ألا ترى أنه محال أن يقول قام فلان ثم يقول بعد وقت لم يقم لأنه لا يقع في الأول اشتراط ولا زمان فالنسخ في الإخبار بما كان وبما يكون كذب ومن الأمر والنهي أيضا ما لا يقع فيه نسخ .. وذلك الأمر بتوحيد الله عز وجل واتباع رسله عليهم الصلاة والسلام أجمعين .. وأخص محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم نبي الرحمة بالصلاة والتسليم وأهله الطيبين الطاهرين وحسبي الله ونعم الوكيل.

__________________

(١) سورة : الزلزال ، الآية : ١

(٢) سورة : الكافرون ، الآية : ١

(٣) سورة : الفتح ، الآية : ١

(٤) سورة : الناس ، الآية : ١

(٥) سورة : الإخلاص ، الآية : ١

(٦) سورة : الفلق ، الآية : ١

٢٦٠