كتاب الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم

أبي جعفر أحمد بن محمّد بن إسماعيل النحّاس [ ابن النحّاس ]

كتاب الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم

المؤلف:

أبي جعفر أحمد بن محمّد بن إسماعيل النحّاس [ ابن النحّاس ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الكتب الثقافية
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٠٤

أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ ) (١) وكذا ( فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ ) (٢) انه لا اختلاف أن هذا على التخيير وكذا ما اختلفوا فيه مردود إلى ما أجمعوا عليه وإلى لغة الذين نزل القرآن بلغتهم فعارضهم من يقول بالترتيب بحديث عثمان وابن مسعود وعائشة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يحل دم امرئ مسلّم إلا باحدى ثلاث : كفر بعد إيمان أو زنى بعد إحصان أو قتل نفس بغير نفس .. فعارضهم الآخرون بأشياء منها أن المحارب مضموم إلى هذه الثلاثة كما ضممتم اليها أشياء ليست كفرا وكما قال تعالى ( قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ ) (٣) الآية فضممتم إليها تحريم كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير .. واحتج بعضهم بأن للمحاربة حكما آخر واستدل على ذلك بأن الأمر للمحارب ليس إلى الولي وإنما هو إلى الإمام واحتج بأن عائشة رضي‌الله‌عنها قد روت عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذكر المحارب كما قرئ .. على أحمد بن شعيب عن العباس بن محمد قال حدثنا أبو عامر عن إبراهيم بن طهمان عن عبد العزيز بن رفيع عن عبيد بن عمير عن عائشة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لا يحل دم امرئ مسلّم إلا بإحدى ثلاث خصال : زان محصن يرجم ورجل قتل متعمدا فيقتل أو رجل خرج من الإسلام فيحارب فيقتل أو يصلب أو ينفى من الأرض .. واحتجوا أيضا بأن أكثر التابعين على أن الإمام مخير وكذا ظاهر الآية كما قرئ .. على إبراهيم بن موسى الجوزي بمدينة السلام عن يعقوب الدورقي قال حدثنا وكيع عن سفيان عن عاصم الأحول عن الحسن وعن ابن جريج عن عطاء في قوله تعالى ( إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً ) الآية فالإمام مخير فيه وحدثنا .. بكر بن سهل قال حدثنا عبد الله بن صالح قال أنبأنا معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال وقوله ( إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ) (٤) قال من شهر السلاح في فئة الإسلام وأفسد السبيل وظهر عليه وقدر فإمام المسلمين مخير فيه إن شاء قتله وإن شاء صلبه وإن شاء قطع يده ورجله قال أو ينفوا من الارض يهربوا يخرجوا من دار الإسلام الى دار الحرب فإن تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم ثم

__________________

(١) سورة : المائدة ، الآية : ٨٩

(٢) سورة : البقرة ، الآية : ١٩٦

(٣) سورة : الأنعام ، الآية : ١٤٥

(٤) سورة : المائدة ، الآية : ٣٣

١٢١

قال بهذا من التابعين سعيد بن المسيب ومجاهد والضحاك وهو قول إبراهيم النخعي وعمر بن عبد العزيز فأما الرواية الأخرى عن ابن عباس فان ذلك على قدر جناياتهم فقد ذكرنا أنها من رواية الحجاج عن عطية عن ابن عباس في قوله تعالى ( إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ ) الآية قال إذا خرج وأظهر السلاح وقتل قتل وإن أخذ المال ولم يقتل قطعت يده ورجله وإن أخذ المال وقتل قتل ثم صلب وهذا قول قتادة وعطاء الخراساني وزعم اسماعيل بن إسحاق أنه لم يصح إلا عنهما يعني من المتقدمين لأن الرواية عن ابن عباس ضعيفة عنده وعند أهل الحديث .. قال الأوزاعي إذا خرج وقتل قتل وإن أخذ المال وقتل صلب وقتل مصلوبا وإن أخذ المال ولم يقتل قطعت يده ورجله .. وقال الليث بن سعد إذا أخذ المال وقتل صلب وقتل بالحربة مصلوبا .. وقال أبو يوسف إذا أخذ المال وقتل صلب وقتل على الخشبة .. وقال أبو حنيفة إذا قتل قتل وإذا أخذ المال ولم يقتل قطعت يده ورجله من خلاف وإذا أخذ المال وقتل فالسلطان مخير فيه إن شاء قطع يده ورجله وقتله وإن شاء لم يقطع يده ورجله وقتله وصلبه .. قال أبو يوسف القتل يأتي على كل شيء .. وقال الشافعي إذا أخذ المال قطعت يده اليمنى وحسمت ثم قطعت رجله اليسرى وحسمت وخلي واذا قتل قتل وصلب وروي عنه أيضا قال يصلب ثلاثة أيام قال وان حصر وكبر وهيّب فكان ردأ للعدوّ عزر وحبس .. [ قال أبو جعفر ] اختلف الذين قالوا بالترتيب واختلف عن بعضهم حتى وقع في ذلك اضطراب كثير فممن اختلف عنه ابن عباس كما ذكرناه والحسن وروي عنه التخيير والترتيب وأنه قال إذا خرج وقتل قتل وإن أخذ المال ولم يقتل قطعت يده ورجله ونفي وإن أخذ المال وقتل قتل .. وقال أحمد بن محمد بن حنبل إن قتل قتل وإن أخذ المال ولم يقتل قطعت يده ورجله .. وقال قوم لا ينبغي أن يصلب قبل القتل فيحال بينه وبين الصلاة والأكل والشرب .. وحكي عن الشافعي أكره أن يقتل مصلوبا لنهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن المثلة .. وقال أبو ثور الإمام مخير على ظاهر الآية واحتج غيره بأن الذين قالوا بالتخيير معهم ظاهر الآية وإن الذين قالوا بالترتيب وإن اختلفوا فانك تجد في أقوالهم إنهم مجمعون عليه في حدين فيقولون يقتل ويصلب ويقول بعضهم يصلب ويقتل ويقول بعضهم تقطع يده ورجله وينفى وليس كذا الآية وليس كذا مقتضى معنى أو في اللغة فأما المعنى أو ينفوا من الارض ففيه أقوال منها عن ابن عباس ما ذكرناه أنهم يهربون حتى يخرجوا من دار الإسلام إلى دار الشرك وهذا أيضا محكي معناه عن الشافعي أنهم يخرجون من بلد الى بلد ويحاربون وكذا قال الزهري ومحمد بن مسلّم .. وقال سعيد بن جبير ينفوا من بلد الى بلد وكلما أقاموا في بلد نفوا عنه .. وقال الشعبي ينفيه السلطان الذي أحدث فيه في عمله عن

١٢٢

عمله .. وقال مالك بن أنس ينفى من البلد الذي أحدث فيه هذا إلى غيره ويحبس فيه ويحتج لمالك بأن الزاني كذا ينفى .. وقال الكوفيون لما قال الله جل ثناؤه ( أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ) وقد علم أنه لا بد أن يستقروا في الأرض لم يكن شيء أولى بهم من الحبس لأنه إذا حبس فقد نفي من الأرض إلا من موضع استقراره .. واختلف العلماء أيضا في الآية السادسة .. فمنهم من قال أنها منسوخة .. ومنهم من قال هي محكمة.

باب

ذكر الآية السادسة

قال الله تعالى ( فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ ) (١) .. من العلماء من قال الآية محكمة والإمام مخير إذا تحاكم إليه أهل الكتاب إن شاء حكم بينهم وإن شاء أعرض عنهم وردهم إلى أحكامهم وهذا قول الشعبي وإبراهيم النخعي كما قرأ عليّ .. أحمد بن محمد بن حجاج عن يحيى بن سليمان قال حدثنا وكيع قال حدثنا سفيان عن المغيرة عن إبراهيم وعامر الشعبي في قول الله تعالى ( فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ ) قال إن شاء حكم وإن لم يشأ لم يحكم وقال بهذا من الفقهاء عطاء بن أبي رباح ومالك بن أنس .. ومن العلماء من قال إذا تحاكم أهل الكتاب إلى الإمام فعليه أن يحكم بينهم بكتاب الله تعالى وبسنة نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا يحل أن يردهم إلى أحكامهم وقائلو هذا القول يقولون الآية منسوخة لأنها إنما نزلت أول ما قدم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة واليهود فيها كثير فكان الأدعى لهم والأصلح أن يردوا إلى أحكامهم فلما قوي الإسلام أنزل الله ( وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ ) (٢) فممن قال بهذا القول من الصحابة ابن عباس وجماعة من التابعين والفقهاء .. [ قال أبو جعفر ] كما حدثنا .. علي بن الحسين قال حدثنا الحسن بن محمد قال حدثنا سعيد بن سليمان قال حدثنا عباد عن سفيان عن الحكم عن مجاهد عن ابن عباس قال .. نسخت من هذه السورة يعني المائدة آيتان آية القلائد وقوله ( فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ ) فكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مخيرا إن شاء حكم وإن شاء أعرض عنهم فردهم إلى أحكامهم فنزلت ( وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ ) فأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يحكم بينهم بما في كتابنا وهذا إسناد مستقيم وأهل الحديث يدخلونه في المسند وهو مع هذا قول جماعة من العلماء كما قرأ عليّ .. عبد الله بن الصقر عن زياد بن أيوب قال حدثنا هشيم قال حدثنا أصحابنا منصور وغيره عن الحكم عن مجاهد في قوله تعالى( وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ

__________________

(١) سورة : المائدة ، الآية : ٤٢

(٢) سورة : المائدة ، الآية : ٤٩

١٢٣

اللهُ ) (١) ، قال نسخت هذه الآية التي قبلها ( فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ ) (٢) فهذا أيضا إسناد صحيح .. والقول بأنها منسوخة قول عكرمة والزهري وعمر بن عبد العزيز والسدي وهو الصحيح من قول الشافعي قال في كتاب الجزية ولا خيار له إذا تحاكموا إليه لقوله تعالى ( حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ ) (١) وهذا من أصلح الاحتجاجات لأنه إذا كان معنى وهم صاغرون أن تجري عليهم أحكام المسلمين وجب أن لا يردوا إلى أحكامهم فإذا وجب هذا فالآية منسوخة .. وهو أيضا قول الكوفيين أبي حنيفة وزفر وأبي يوسف ومحمد لا اختلاف بينهم إذا تحاكم أهل الكتاب إلى الإمام انه ليس له أن يعرض عنهم غير أن أبا حنيفة .. قال إذا جاءت المرأة والزوج فعليه أن يحكم بينهما بالعدل فإن جاءت المرأة وحدها ولم يرض الزوج لم يحكم .. وقال الباقون بل يحكم فثبت أن قول أكثر العلماء أن الآية منسوخة مع ما صح فيها من توقيف ابن عباس ولو لم يأت الحديث عن ابن عباس لكان النظر يوجب أنها منسوخة لأنهم قد أجمعوا جميعا أن أهل الكتاب إذا تحاكموا إلى الإمام فله أن ينظر بينهم وأنه إذا نظر بينهم مصيب .. ثم اختلفوا في الإعراض عنهم على ما ذكرنا فالواجب ان ينظر بينهم لأنه مصيب عند الجماعة وأن لا يعرض عنهم فيكون عند بعض العلماء تاركا فرضا فاعلا ما لا يحل له ولا يسعه ولمن قال بأنها منسوخة من الكوفيين قول آخر منهم من يقول على الإمام إذا علم من أهل الكتاب حدا من حدود الله أن يقيمه وإن لم يتحاكموا إليه ويحتج بأن قول الله تعالى ( وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ ) يحتمل أمرين أحدهما اذا تحاكموا اليك والآخر ( وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ ) وان لم يتحاكموا اليك اذا علمت ذلك منهم .. قالوا فوجدنا في كتاب الله وسنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما يوجب إقامة الحق عليهم وان لم يتحاكموا الينا .. فأما ما في كتاب الله فقوله ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ ) (١) .. وأما ما في السنة فحديث البراء .. [ قال أبو جعفر ] حدثنا .. علي بن الحسين قال حدثنا الحسن بن محمد قال حدثنا أبو معاوية قال حدثنا الأعمش عن عبد الله بن مرة عن البراء .. قال مرّ على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيهودي قد جلد وحمم .. فقال أهكذا حد الزاني فيكم قال لو لا أنك سألتني بهذا ما أخبرتك كان الحد عندنا الرجم فكان الشريف إذا زنا تركناه وكان الوضيع إذا زنى رجمناه فقلنا تعالوا نجتمع على شيء يكون للشريف والوضيع فاجتمعنا على الجلد والتحميم فأنزل الله عز وجل ( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ ) (٢) الى ( يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ ) (٣) أي ائتوا محمدا فإن

__________________

(١) سورة : التوبة ، الآية : ٢٩

(٢) سورة : المائدة ، الآية : ٨

(٣) سورة : المائدة ، الآية : ٤١

١٢٤

أفتاكم بالجلد والتحميم فاقبلوه وان لم تؤتوه فاحذروا أي إن أفتاكم بالرجم فلا تقبلوا الى ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ ) (١) .. وقال في اليهود ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ ) (٢) قال وقال في اليهود ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) (٣) قال في الكفار خاصة فأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم باليهودي فرجم .. وقال أنا أول من أحيى أمرك فاحتجوا بأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حكم بينهم ولم يتحاكموا إليه في هذا الحديث فان قال قائل ففي حديث مالك أيضا أن اللذين زنيا رضيا بالحكم وقد رجمهما النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم .. فأما ما في الحديث من أن معنى ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ ) انه في اليهود ففي ذلك اختلاف قد ذكرناه وهذا أولى ما قيل فيه لأنه عن صحابي مشاهد للتنزيل يخبر أن بذلك السبب نزلت هذه الآية على أن غير الحسن بن محمد يقول فيه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ ) قال اليهود غير أن حكم غيرهم كحكمهم فكل من حكم بغير ما أنزل الله جاحدا له كما جحدت اليهود فهو كافر ظالم فاسق .. واختلفوا في الآية السابعة .. فمنهم من قال هي منسوخة .. ومنهم من قال هي محكمة وهي من أشكل ما في الناسخ والمنسوخ.

باب

ذكر الآية السابعة

قال الله تعالى ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ ) (٤) الآية .. للصحابة والتابعين والفقهاء في هذه الآية خمسة أقوال .. منها أن شهادة أهل الكتاب على المسلمين جائزة في السفر إذا كانت وصية .. وقال قوم كان هذا كذا ثم نسخ ولا تجوز شهادة كافر بحال .. وقال قوم الآية كلها للمسلمين إذا شهدوا فهذه ثلاثة أقوال .. والقول الرابع أن هذا ليس في الشهادة التي تؤدى وأما الشهادة هاهنا بمعنى الحضور .. والقول الخامس أن الشهادة هاهنا بمعنى اليمين ..

__________________

(١) سورة : المائدة ، الآية : ٤٤

(٢) سورة : المائدة ، الآية : ٤٧

(٣) سورة : المائدة ، الآية : ٤٥

(٤) سورة : المائدة ، الآية : ١٠٦

١٢٥

فالقول الأول عن رجلين من الصحابة عبد الله بن قيس وعبد الله بن عباس كما حدثنا .. بكر بن سهل قال حدثنا عبد الله بن صالح قال حدثنا معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال .. وقوله تعالى ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ ) فهذا لمن مات وعنده المسلمون فأمره جل ثناؤه أن يشهد على وصيته عدلين من المسلمين .. ثم قال تعالى ( أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ ) (١) فهذا لمن مات وليس عنده أحد من المسلمين فأمره الله بشهادة رجلين من غير المسلمين فإن ارتيب بشهادتهما استحلفا بعد الصلاة بالله عز وجل لم يشتريا بشهادتهما ثمنا قليلا فإن اطلع الأولياء على أن الكافرين كذبا حلفا بالله أن شهادة الكافرين باطلة وإنما لم يعتد بذلك لقوله تعالى ( فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ ) (٢) يقول ان اطلع على أنهما كذبا قام الأوليان فحلفا أنهما كذبا بقول الله تعالى ( ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ ) (٣) فتزيل شهادة الكافرين ويحكم بشهادة الأولياء فليس على شهود المسلمين إقسام انما الإقسام إذا كانا كافرين فهذا قول ابن عباس مشروحا مبينا لا يحتاج إلى زيادة شرح .. وقال به من التابعين جماعة منهم شريح قال تجوز شهادة أهل الكتاب على المسلمين في السفر إذا كانت وصية وهو قول سعيد بن المسيب وسعيد بن جبير وعبيدة ومحمد بن سيرين والشعبي ويحيى بن يعمر والسدي وقال به من الفقهاء سفيان الثوري ومال إليه أبو عبيد لكثرة من قال به .. والقول الثاني أن الآية منسوخة وأنه لا تجوز شهادة كافر بحال كما لا تجوز شهادة فاسق قول زيد بن أسلّم ومالك بن أنس والشافعي وقول أبي حنيفة أيضا أنها منسوخة ولا تجوز عنده شهادة الكفار على المسلمين غير أنه خالف من تقدم ذكره بأنه أجاز شهادة الكفار بعضهم على بعض .. والقول الثالث أن الآية كلها في المسلمين لا منسوخ فيها قول الزهري والحسن كما قرأ عليّ .. عبد الله بن الصقر عن زياد بن أيوب عن هشيم قال أنبأنا منصور وغيره عن الحسن في قول الله تعالى ( أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ ) .. قال من غير عشيرتكم .. والقول الرابع أن الشهادة هاهنا بمعنى الحضور يحتج قائله بما يعارض به تلك الأقوال مما سنذكره .. وكذا القول الخامس ان الشهادة بمعنى اليمين كما قال الله تعالى ( فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللهِ ) (٤) .. فأما

__________________

(١) سورة : المائدة ، الآية : ١٠٦

(٢) سورة : المائدة ، الآية : ١٠٧

(٣) سورة : المائدة ، الآية : ١٠٨

(٤) سورة : النور ، الآية : ٦

١٢٦

المعارضة في القول الأول فنص كتاب الله قال الله تعالى ( مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ ) (١) .. وقال تعالى ( وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ ) (٢) ولا نرضى الكفار ولا يكونون ذوي عدل ويعارض بالإجماع لأنه قد أجمع المسلمون ان شهادة الفاسق لا تجوز والكفار فساق وأجمعوا أيضا أن شهادة الكفار لا تجوز على المسلمين في غير هذا الموضع الذي قد اختلف فيه فيرد ما اختلف فيه إلى ما أجمع عليه وهذه احتجاجات بينة .. واحتج من خالفنا بكثرة من قال ذلك القول وأنه قد قال صحابيان وليس ذلك في غيره ومخالفة الصحابة إلى غيرهم ينفر منها أهل العلم فيجعل هذا على الضرورة كما تقصر الصلاة في السفر وكما يكون التيمم فيه والإفطار في شهر رمضان قيل له هذه الضرورات إنما تكون في الحال وليس كذا الشهادة وعورض من قال بنسخ الآية أنه لم يأت هذا عن أحد ممن شهد التنزيل وأيضا فان في القولين جميعا شيئا من العربية غامضا وذلك أن معنى آخر في العربية آخر من جنس الأول يقول مررت بكريم وكريم آخر فقولك آخر يدل على أنه من جنس الأول ولا يجوز عند أهل العربية مررت بكريم وخسيس آخر ولا مررت برجل وحمار آخر فوجب من هذا أن يكون بمعنى اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم من عشيرتكم من المسلمين على انه قد عورض لأن في أول الآية ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ ) فخوطب الجماعة من المؤمنين فيقال لمن عارض لهذا هذا موجود في اللغة كثير يستغني عن الاحتجاج .. والقول الرابع ان الشهادة بمعنى الحضور معروف في اللغة وقد احتج قائله بأن الشاهد لا يكون عليه يمين في شيء من الاحكام غير هذا المختلف فيه فيرد الاختلاف فيه الى ما أجمع عليه لأنه يقال شهدت وصية فلان أي حضرت .. والقول الخامس ان الشهادة بمعنى اليمين معروف يكون التقدير فيها شهادة أحدكم أي يمين أحدكم أن يحلف اثنان وحقيقته في العربية يمين اثنين مثل ( وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ ) (٣) قرأ عليّ .. علي بن سعيد بن بشير الرازي عن صالح بن عبد الله الرمدي قال حدثنا يحيى بن أبي زائدة عن محمد بن أبي القاسم عن عبد الملك بن سعيد بن جبير عن أبيه عن ابن عباس قال .. كان تميم الداري وعدي بن بداء يختلفان الى مكة للتجارة فخرج معهم رجل من بني سهم فتوفي بأرض ليس فيها مسلّم فأوصى اليهما فدفعا تركته الى أهله وحبسا خاما من فضة مخوصا بالذهب فقده

__________________

(١) سورة : البقرة ، الآية : ٢٨٢

(٢) سورة : الطلاق ، الآية : ٢

(٣) سورة : يوسف ، الآية : ٨٢

١٢٧

أولياء السهمي من تركته فأتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاستحلفهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما كتمنا ولا اطلعنا ثم عرف الخام بمكة فقالوا اشتريناه من تميم وعدي فقام رجلان من أولياء السهمي فحلفا بالله تعالى ان هذا الخام للسهمي و ( لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا اعْتَدَيْنا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ ) (١) فأخذ الخام وفيهم نزلت هذه الآية قرأ عليّ .. علي بن سعيد بن بشير عن أبي مسلّم الحسن بن أحمد بن أبي شعيب الحراني قال حدثنا محمد بن سلمة قال حدثنا محمد بن اسحاق عن أبي النضر عن زاذان مولى أم هانئ بنت أبي طالب عن ابن عباس عن تميم الداري في قوله تعالى ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ ) ترى الناس فيها غيري وغير عدي بن بداء وكانا نصرانيين يختلفان الى الشام قبل الاسلام فأتيا الشام لتجارتهما وقدم عليهما مولى لبني سهم يقال له برير بن أبي مريم للتجارة ومعه خام من فضة يريد به الملك وهو أعظم تجارته فمرض فأوصى اليهما وأمرهما أن يبلغا ما ترك أهله .. قال تميم فلما مات أخذنا ذلك الخام فبعناه بألف درهم ثم اقتسمناه أنا وعدي بن بداء فلما قدمنا الى أهله دفعنا اليهم ما كان معنا وفقدوا الخام فسألوا عنه فقلنا ما ترك غير هذا وما دفع الينا غيره قال فلما أسلمت بعد قدوم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة تأثمت من ذلك فأتيت أهله فأخبرتهم الخبر وأديت لهم خمسمائة درهم وأخبرتهم أن عند صاحبي مثلها فوثبوا اليه فأتوا به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسألهم البينة فلم يجدوا وأمرهم أن يستحلفوه بما يعظم به على أهل دينه فحلف فأنزل الله تعالى ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ) قرأ إلى قوله ( تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ ) (٢) فقام عمرو بن العاص ورجل آخر منهم فحلفا فنزعت الخمسمائة الدرهم من عدي بن بداء .. [ قال أبو جعفر ] فهذا ما في الآية وما بعدها من القصة من الآثار واختلاف العلماء والنظر ثم نبينهما على ما هو أصح من ذلك الذي ذكرناه والأبين في هذا أن يكون ( شَهادَةُ بَيْنِكُمْ ) قسم بينكم ( إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ) أن يقسم اثنان ( ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ ) (٣) .. وللعلماء في أو هنا قولان .. فمنهم من قال أو هاهنا للتعقيب وأنه اذا وجد اثنين ذوي عدل منكم من المسلمين لم يجز له أن يشهد كافرين .. وهذا القول يروى عن سعيد بن المسيب وسعيد بن جبير والشعبي وإبراهيم وقتادة .. ومنهم من قال أو هاهنا للتخيير لأنها انما هي وصية وقد يكون الموصي يرى أن يسند وصيته الى كافرين أو أجنبيين .. وهذا القول ان أو

__________________

(١) سورة : المائدة ، الآية : ١٠٧

(٢) سورة : المائدة ، الآية : ١٠٨

(٣) سورة : المائدة ، الآية : ١٠٦

١٢٨

للتخيير هو القول البين الظاهر ان أنتم ضربتم في الأرض قال ابن زيد أي سافرتم وكذا هو في اللغة وفي الكلام حذف مستدل عليه أي إن أنتم سافرتم فأصابتكم مصيبة الموت وقد أسندتم وصيتكم الى اثنين ذوي عدل منكم أو آخرين من غيركم فان ارتبتم تحبسونهما من بعد الصلاة .. واختلف العلماء في هذه الصلاة فقال أكثرهم هي العصر .. فممن قال هذا عبد الله بن قيس الأشعري واستعمله وقضى به وهو قول سعيد بن المسيب وسعيد بن جبير وإبراهيم وقتادة .. ومنهم من قال هي صلاة من صلاتهم في دينهم .. وهذا قول السدي وهو يروى عن ابن عباس .. والقول الأول أولى لقوله تعالى ( مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ ) (١) فجاءت معرفة بالألف واللام واذا كان بعد الصلاة من صلواتهم كانت نكرة .. وقد صح عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه لاعن بين العجلانيين بعد العصر فخصها بهذا ويقال ان أهل الكتاب أيضا يعظمون ذلك الوقت فيقسمان بالله وهما الوصيان لا نشتري به ثمنا أي لا نشتري بقسمنا شيئا نأخذه مما أوصى به ولا ندفعه في أحد ولو كان ذا قربى ( وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللهِ ) عندنا ( إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ ) (٢) أي ان فعلنا ذلك فان عثر على أنهما استحقا إثما أصله من عثرت بالشيء أي وقعت عليه أي فان وقع على أنهما استوجبا إثما بكذبهما في أيمانهما وأخذهما ما ليس لهما فآخران يقومان مقامهما أي في الأيمان من الذين استحق عليهم الأوليان تقدير هذا في العربية مختلف فيه عند جماعة من العلماء .. فمنهم من قال التقدير من الذين استحق منهم الأوليان وعليهم بمعنى منهم مثل اذا اكتالوا على الناس يستوفون .. ومنهم من قال عليهم بمعنى فيهم أي من الذين استحق فيهم إثم الأوليان ثم حذفا اثم مثل ( وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ ) (٢) وهو قول محمد بن جرير وقال إبراهيم بن السري التقدير من الذين استحق عليهم الانصباء والأوليان بدل من قوله تعالى فآخران .. [ قال أبو جعفر ] وهذا من أحسن ما قيل فيه لأنه لا يجعل حرفا بدلا من حرف وأيضا فان التفسير عليه لأن المعنى عند أهل التفسير من الذين استحقت عليهم الوصية والأوليان قراءة علي بن أبي طالب كرم الله وجهه في كثير من القراء وقراءة يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة الأوليين وفيها من البعد ما لا خفاء به والأوليين بدل من الذين فيقسمان بالله ( لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما ) (٣) أي لقسمنا فصح أن معنى الشهادة هاهنا القسم وما اعتدينا أي وما تجاوزنا الحق في قسمنا إنا اذا لمن الظالمين أي ان كنا حلفنا على باطل وأخذنا ما ليس لنا .. وصح من هذا كله أن الآية غير

__________________

(١) سورة : المائدة ، الآية : ١٠٦

(٢) سورة : يوسف ، الآية : ٨٢

(٣) سورة : المائدة ، الآية : ١٠٧

١٢٩

منسوخة ودل الحديث على ذلك لأنه اذا أوصى رجل الى آخر فاتهم الورثة الموصى اليه حلف الموصى اليه وترك فان اطلع على أن الموصى اليه خان وذلك أن يشهد شاهد أو يؤخذ بشيء يعلم أنه للميت فيقول الموصى اليه قد اشتريته منه فيحلف الوارث ويستحقه فقد بين الحديث ان المعنى على هذا وان كان العلماء قد تكلموا في استحلاف الشاهدين هاهنا لم وجب .. فمنهم من قال لانهما ادعيا وصية من الميت وهو قول يحيى بن يعمر وهذا لا يعرف في حكم الاسلام أن يدعي رجل وصية فيحلف ويأخذها .. ومنهم من قال انما يحلفان اذا شهدا ان الميت أوصى بما لا يجوز أو بماله كله أو لبعض الورثة وهذا أيضا لا يعرف في حكم الاسلام أن يحلف الشاهد اذا شهد أن الموصي أوصى بما لا يجوز .. ومنهم من قال انما يحلفان اذا اتهما ثم ينقل اليمين عنهما اذا اطلع على الخيانة كما ذكرنا ثم قال تعالى ( ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ ) (١) أي أقرب أن يأتوا بالشهادة ( عَلى وَجْهِها ) (١) وهو الموصى اليهما ( أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ ) وهي أيمان الأوليين باليمين لما ظهرت خيانة الموصى اليهما وقيل هما الأوليان بالميت ( وَاتَّقُوا اللهَ وَاسْمَعُوا ) (١) أي اسمعوا ما يقال لكم قابلين ومتبعين أمر الله فيه ( وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ ) (١) أي الخارجين عن الطاعة لله تعالى .. وقال ابن زيد كل فاسق مذكور في القرآن معناه كاذب.

__________________

(١) سورة : المائدة ، الآية : ١٠٧

١٣٠

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة الأنعام

[ قال أبو جعفر ] حدثني ابن المزارع .. قال حدثنا أبو حاتم سهل بن محمد السجستاني قال حدثنا أبو عبيدة معمر بن المثنى التيميّ قال حدثنا يونس بن حبيب قال سمعت أبا عمرو بن العلاء يقول سألت مجاهدا عن تلخيص آي القرآن المدني من المكي فقال سألت ابن عباس عن ذلك فقال سورة الأنعام نزلت بمكة جملة واحدة فهي مكية الا ثلاث آيات منها نزلت بالمدينة فهنّ مدنيات ( قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ) (١) الى تمام الآيات الثلاث .. [ قال أبو جعفر ] واذا كانت سورة الأنعام مكية لم يصح قول من قال معنى ( وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ ) (٢) الزكاة المفروضة لأن الزكاة انما فرضت بالمدينة وهذا يشرح في موضعه واذا كانت السورة مكية فلا يكاد يكمل فيها آية ناسخة وما تقدم من السور فهنّ مدنيات أعني سورة البقرة وآل عمران والنساء والمائدة حدثني يموت (٣) بذلك الاسناد بعينه وفي سورة الانعام قد ذكرت في الناسخ والمنسوخ والآية الاولى منها قوله ( قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ ) (٤) أنبأنا .. أبو جعفر قال حدثنا أبو الحسن عليل بن أحمد قال حدثنا محمد بن هشام بن أبي حيوة قال حدثنا عاصم بن سليمان عن جويبر عن الضحاك عن ابن عباس في قوله تعالى ( لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ ) (٤) .. قال نسخ هذا آية السيف ( فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ) (٥) .. [ قال أبو جعفر ] هذا خبر لا يجوز أن ينسخ ومعنى وكيل حفيظ ورقيب والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليس عليهم حفيظ انما عليه أن ينذرهم وعقابهم على الله تعالى .. والآية الثانية نظيرها.

باب

ذكر الآية الثانية

قال الله تعالى ( وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ ) (٦) أنبأنا .. أبو جعفر

__________________

(١) سورة : الأنعام ، الآية : ١٥١.

(٢) سورة : الأنعام ، الآية : ١٤١

(٣) قوله يموت هو ابن المزارع

(٤) سورة : الأنعام ، الآية : ٦٦

(٥) سورة : التوبة ، الآية : ٥

(٦) سورة : الأنعام ، الآية : ٦٩

١٣١

قال حدثنا أبو الحسن عليل بن أحمد قال حدثنا محمد بن هشام قال حدثنا عاصم بن سليمان عن جويبر عن الضحاك عن ابن عباس في قوله تعالى ( وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلكِنْ ذِكْرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ) (١) .. قال هذه مكية نسخت بالمدينة بقوله ( وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ) (٢) فنسخ هذا ما قبله وأمر المؤمنين أن لا يقعدوا مع من يكفر بالقرآن ويستهزئ به .. [ قال أبو جعفر ]( وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ ) خبر ومحال نسخه والمعنى فيه بين ليس على من اتقى الله اذا نهى انسان عن منكر من حسابه شيئا الله مطالبه ومعاقبه وعليه أن ينهاه ولا يقعد معه راضيا بقوله وفعله والا كان مثله وهذان الحديثان وان كانا عن ابن عباس فانهما من حديث جويبر .. الآية الثالثة قريب منها.

باب

ذكر الآية الثالثة

قال الله تعالى ( وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً ) (٣) حدثنا .. أحمد بن محمد بن نافع قال حدثنا سلمة قال حدثنا عبد الرزاق قال أنبأنا معمر عن قتادة ( وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً ) .. قال نسختها ( فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ) (٤) .. [ قال أبو جعفر ] هذا ليس بخبر وهو يحتمل النسخ غير أن البين فيه انه ليس بمنسوخ وأنه على معنى التهديد لمن فعل هذا أي ذره فان الله مطالبه ومعاقبه .. ومثله ( ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ ) (٥) .. والصحيح في الآية الرابعة انها منسوخة.

باب

ذكر الآية الرابعة

قال الله تعالى ( وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ) (٦) .. للصحابة والتابعين والفقهاء في هذه الآية

__________________

(١) سورة : الأنعام ، الآية : ٦٩

(٢) سورة : النساء ، الآية : ١٤٠

(٣) سورة : الأنعام ، الآية : ٧٠

(٤) سورة : التوبة ، الآية : ٥

(٥) سورة : الأنعام ، الآية : ٩١

(٦) سورة : الأنعام ، الآية : ١٤١

١٣٢

خمسة أقوال .. منهم من قال هي منسوخة بالزكاة المفروضة .. ومنهم من قال هي منسوخة بالسنة العشر ونصف العشر .. ومنهم من قال يعني بهذا الزكاة المفروضة .. ومنهم من قال هي محكمة واجبة يراد بها غير الزكاة .. ومنهم من قال هي على الندب .. فممن قال إنها منسوخة بالزكاة المفروضة سعيد بن جبير كما حدثنا .. جعفر بن مجاشع قال حدثنا إبراهيم بن إسحاق قال أنبأنا الوليد بن صالح قال أنبأنا شريك عن سالم عن سعيد بن جبير في قول الله تعالى ( وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ ) قال .. كان هذا قبل أن تنزل الزكاة كان الرجل يبدأ بعلف الدابة وبالشيء وهذا قول أبي جعفر محمد بن علي وعكرمة .. وقال الضحاك نسخت الزكاة كل صدقة في القرآن .. وممن قال نسخت الآية بقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالعشر ونصف العشر ابن عباس فيما روي عنه كما حدثنا .. أحمد بن محمد الازدي قال حدثنا فهد قال حدثنا محمد بن سعيد قال حدثنا الحجاج عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس في قوله ( وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ ) قال .. نسختها العشر ونصف العشر وقرئ على .. عبد الله بن أحمد بن عبد السلام عن أبي الازهر قال حدثنا روح قال أنبأنا الثوري عن مغيرة عن سماك عن إبراهيم ( وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ ) قال نسختها العشر ونصف العشر .. وهذا قول محمد بن الحنفية والسدي .. وممن قال انها الزكاة المفروضة أنس بن مالك كما حدثنا ..جعفر بن مجاشع قال حدثنا إبراهيم بن اسحاق قال حدثنا أبو حفص قال حدثنا عبد الصمد قال حدثنا يزيد بن درهم عن أنس بن مالك ( وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ ) قال نسخها العشر ونصف العشر .. وهذا عبد الله بن أحمد بن عبد السلام عن أبي الازهر قال حدثنا روح بن عبادة قال أنبأنا شعبة عن أبي رجاء قال سألت الحسن عن قول الله عز وجل ( وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ ) قال الزكاة المفروضة .. [ قال أبو جعفر ] وهذا قول سعيد بن المسيب وجابر بن زيد وعطاء وقتادة وزيد بن أسلّم وحدثنا .. بكر بن سهل قال حدثنا عبد الله بن يوسف قال أنبأنا مالك في قول الله تعالى ( وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ ) أن ذلك الزكاة والله أعلم وقد سمعت من يقول ذلك .. [ قال أبو جعفر ] وقد قيل إن هذا قول الشافعي على التأويل لأنه يقول في معنى ( وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ ) لا يخلو من أن يكون ذلك وقت الحصاد أو بعده وبينت السنة انه بعده .. وقد قيل بل يجب على قول الشافعي أن تكون منسوخة لأنه يقول ليس في الرمان زكاة ولا في شيء من الثمار الا في النخل والكرم وفي نص الآية ذكر الرمان والزيتون .. وقد قال بمصر ليس في الزيتون الزكاة لأنه أدم فهذه ثلاثة أقوال .. والقول الرابع أن في المال حقا سوى الزكاة وان معنى ( وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ ) أن يعطي منه شيئا سوى الزكاة وأن يخلى بين المساكين وبين ما يسقط منه كما حدثنا .. جعفر بن محمد الأنباري

١٣٣

قال حدثنا الحسن بن عفان قال حدثنا يحيى بن اليمان عن سفيان قال يدع المساكين يتتبعون أثر الحصادين فما سقط عن المنخل أخذوه .. وهو قول جماعة من أهل العلم منهم جعفر بن محمد وقد روي وصح عن علي بن الحسين انه أنكر حصاد الليل من أجل هذا وقرئ على .. أحمد بن محمد بن الحجاج عن يحيى بن سليمان قال حدثنا حفص قال أنبأنا شعيب عن نافع عن ابن عمر ( وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ ) قال كانوا يعطون من اعتراهم وهذا أيضا قول مجاهد ومحمد بن كعب وعطية وهو قول أبي عبيد واحتج بحديث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه نهى عن حصاد الليل .. والقول الخامس أن يكون معنى ( وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ ) على الندب .. وهذا القول لا نعرف أحدا من المتقدمين قاله فإذا تكلم أحد من المتأخرين في معنى آية من القرآن قد تقدم كلام المتقدمين فيها فخرج عن قولهم لم يلتفت الى قوله ولم يعد خلافا فبطل هذا .. وأما القول بأنها الصدقة المفروضة فيعارض بأشياء منها أن هذه السورة مكية والزكاة فرضت بالمدينة لا تنازع بين العلماء في ذلك .. ومنها أن قوله ( يَوْمَ حَصادِهِ ) لو كان للزكاة المفروضة وجب أن يعطي وقت الحصاد وقد جاءت السنة وصحت أن الزكاة لا تعطى الا بعد الكيل وأيضا فإن في الآية ولا تسرفوا فكيف يكون هذا في الزكاة وهي معلومة وأيضا فلو كان هذا في الزكاة لوجب أن تكون الزكاة في الثمر وفي كل ما أنبتت الأرض وهذا لا يقوله أحد نعلمه من الصحابة ولا التابعين ولا في الفقهاء الا بعض المتأخرين ممن خرج عن الإجماع وأكثر ما قيل في هذا من قول من يحتج بقوله قول أبي حنيفة أن في كل هذا الزكاة الا في الحطب والحشيش والقصب .. وقد أخرج شيئا مما في الآية ولم تختلف العلماء في أن في أربعة أشياء منها الزكاة الحنطة والشعير والتمر والزبيب فهذا إجماع .. وجماعة من العلماء يقولون لا تجب الزكاة فيما أخرجت الأرض إلاّ في أربعة أشياء الحنطة والشعير والتمر والزبيب .. وممن قال هذا الحسن ومحمد بن سيرين والشعبي وابن أبي ليلى وسفيان الثوري والحسن بن صالح وعبد الله بن المبارك ويحيى بن آدم وأبو عبيد واحتج أبو عبيد بحديث الثوري عن طلحة بن يحيى عن أبي بردة ان معاذا وأبا موسى لما بعثا يعلمان الناس أمر دينهم لم يأخذا الزكاة فيما أخرجت الأرض الا من هذه الأربعة ولم يحتج غيره أن أموال المسلمين محظورة فلما أجمع على هذه الأشياء وجبت في الاجماع ولما وقع الاختلاف في غيرها لم يجب فيها شيء وزاد ابن عباس على هذه الأربعة الأشياء السلت والزيتون وزاد الزهري على هذه الأربعة الزيتون والحبوب كلها وهذا قول عطاء وعمر بن عبد العزيز ومكحول ومالك بن أنس وهو قول الأوزاعي والليث ان في الزيتون الزكاة .. [ قال أبو جعفر ] وهذا القول كان قول الشافعي ثم قال بمصر في الزيتون لا

١٣٤

أرى أنه تجب فيه الزكاة لأنه أدم لأنه لا يؤكل بنفسه .. قال يعقوب ومحمد فيما بعد الأربعة كلما يؤكل ويبقى ففيه الزكاة فهذه الاقوال كلها تدل على أن الآية منسوخة لأنه ليس أحد منهم أوجب الزكاة في كل ما ذكر في الآية كله وأكثرهم اعتماده على الاشياء الأربعة فمن ضم اليها الحبوب وما يقتات فانما قاسه عليها ومن ضم اليها الزيتون فانما قاسه على النخل والعنب هكذا قول الشافعي بالعراق .. [ قال أبو جعفر ] وقد احتج من يذهب الى أن الآية محكمة وان ذلك حق في المال سوى الزكاة بما حدثنا .. أبو علي الحسن بن عليب قال حدثنا عمران بن أبي عمران قال حدثنا ابن لهيعة عن دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قول الله تعالى ( وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ ) قال ما سقط من السنبل .. [ قال أبو جعفر ] وهذا الحديث لو كان فيما تقوم به حجة لجاز ان يكون منسوخا كالآية .. وقد قامت الحجة بانه لا فرض في المال سوى الزكاة الا لمن تجب نفقته وثبت ذلك عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما حدثنا .. بكر بن سهل قال حدثنا عبد الله بن يوسف قال أنبأنا مالك عن عمه أبي سهل بن مالك عن أبيه أنه سمع طلحة بن عبيد الله يقول .. جاء رجل الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أهل نجد ثائر الرأس نسمع لصوته دويا ولا نفقه ما يقول حتى دنى فاذا هو يسأل عن الإسلام .. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خمس صلوات في اليوم والليلة .. فقال هل علي غيرها قال لا الا أن تطوع قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصيام رمضان قال هل علي غيره قال لا الا ان تطوع وذكر له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الزكاة فقال هل علي غيرها قال لا الا أن تطوع فأدبر الرجل وهو يقول والله لا أزيد على هذا ولا أنقص منه فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أفلح ان صدق فتبين بهذا الحديث مع صحة اسناده واستقامة طريقه انه لا فرض على المسلمين من الصلوات الا الخمس ولا من الصدقة الا الزكاة فلما ثبت انه لا يجب بالآية فرض سوى الزكاة وأنه ليس من الزكاة بد لم يبق الا أن تكون منسوخة فأما ( وَلا تُسْرِفُوا ) (١) فقد تكلم العلماء في معناه .. فقال سعيد بن المسيب معنى ( وَلا تُسْرِفُوا ) لا تمتنعوا من الزكاة الواجبة .. وقال أبو العالية كانوا إذا حصدوا أعطوا ثم تباروا في ذلك حتى أجحفوا فأنزل الله تعالى ( وَلا تُسْرِفُوا ) (١) .. وقال السدي لا تعطوا أموالكم وتقعدوا فقراء .. وقال ابن جريج نزلت في ثابت بن قيس جذ نخلا له فحلف لا يأتيه أحد إلا أعطاه فأمسى وليست له ثمرة فأنزل الله تعالى ( وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ) (١) .. وقال ابن زيد ( وَلا تُسْرِفُوا ) للولاة ولا تأخذوا ما لا يجب على الناس .. [ قال أبو جعفر ] وهذه الاقوال كلها غير متناقضة

__________________

(١) سورة : الأنعام ، الآية : ١٤١

١٣٥

لأن الإسراف في اللغة فعل ما لا ينبغي فهذا كله داخل في أصل اللغة فواجب اجتنابه ومعنى ( لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ) لا يثيبهم ولا يقبل أعمالهم مجازا .. وتقدير ( وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ ) وشجر الزيتون والرمان مثل ( وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ ) .. قال قتادة ( مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ ) متشابها ورقه ويختلف ثمره .. وقال غيره متشابه لونه ويختلف طعمه .. وقرأ يحيى بن وثاب انظروا الى ثمره وهي قراءة حسنة لأنه قد ذكرت أشياء كثيرة فثمر جمع ثمار وثمار جمع ثمرة .. قال محمد بن جرير أصل الاسراف في اللغة الاخطاء في إصابة غير الحق إما بزيادة أو بنقصان من الحد الواجب .. وأنشد :

أعطوا هنيدة تحدوها ثمانية

ما في عطائهم من ولا سرف

أي خطأ واختلفوا في الآية الخامسة اختلافا كثيرا.

باب

ذكر الآية الخامسة

قال الله تعالى ( قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً ) (١) الآية .. في هذه الآية خمسة أقوال .. قالت طائفة هي منسوخة لانه وجب منها أن لا محرم الا ما قبلها فلما حرم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الحمر الاهلية وكل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير نسخت هذه الاشياء منها .. وقالت طائفة الآية محكمة ولا حرام من الحيوان الا ما فيها وأحلوا ما ذكرنا وغيره من الحيوان .. وقالت طائفة هي محكمة وكل ما حرم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم داخل فيها .. وقالت طائفة هي محكمة وكلما حرمه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مضموم إليها داخل في الاستثناء .. والقول الخامس أن هذه الآية جواب لما سألوا عنه فأجيبوا عما سألوا وقد حرم الله ورسوله غير ما في الآية .. [ قال أبو جعفر ] القول الأول انها منسوخة غير جائز لأن الاخبار لا تنسخ .. والقول الثاني انها جامعة لكل ما حرم وإحلال الحمر الاهلية وغيرها قول جماعة من العلماء منهم سعيد بن جبير والشعبي ويقال انه قول عائشة وابن عباس وثم أحاديث مسندة نبدأ بها فمن ذلك ما حدثناه .. أحمد بن محمد الازدي قال حدثنا فهد قال حدثنا أبو نعيم قال حدثنا شعبة عن عبيد بن حسن عن عبد الرحمن بن معقل عن عبد الله بن يسر عن رجال من مزينة من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الطاهر عن الحر أو ابن الحرة انه قال يا رسول الله لم يبق لي شيء أستطيع أن

__________________

(١) سورة : الأنعام ، الآية : ١٤٥

١٣٦

أطعمه أهلي إلا حمر لي قال أطعم أهلك من سين مالك وإنما كرهت لكم حوال القرية فاحتجوا بهذا الحديث في احلال الحمر الاهلية وقالوا انما كرهها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لانها كانت تأكل القذر كما كره الجلالة وحدثنا .. أحمد بن محمد الازدي يعني الصحارى قال وحدثنا اسماعيل بن يحيى المزني قال حدثنا الشافعي قال أنبأنا عبد الوهاب بن عبد الحميد عن أيوب السختياني عن محمد بن سيرين عن أنس بن مالك ان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أتاه آت فقال أكلت الحمر ثم جاءه آخر فقال أكلت ثم جاءه آخر فقال فنيت الحمر فأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مناديا فنادى إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر الاهلية انها رجس فكفئت القدور وانها لتفور فهذا ما فيه من المسند .. وأما عن الصحابة حدثنا .. علي بن الحسين قال حدثنا الحسن بن محمد قال حدثنا يزيد بن هارون قال أنبأنا يحيى بن سعيد عن القاسم بن محمد قال .. كانت عائشة رضي‌الله‌عنها اذا ذكر لها النهي عن كل ذي ناب من السبع قالت ان الله يقول ( قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً ) .. [ قال أبو جعفر ] وهذا اسناد صحيح لا مطعن فيه وحدثنا .. علي بن الحسين قال حدثنا الحسن بن محمد قال حدثنا شبابة عن ورقاء عن عمرو بن دينار قال كان جابر بن عبد الله ينهى عن لحوم الحمر ويأمر بلحوم الخيل وأبى ذلك ابن عباس وتلا ( قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ ) حكى ذلك عمرو عن طاوس عن ابن عباس .. وأما ما فيه عن التابعين حدثنا .. أحمد بن محمد الأزدي قال حدثنا المزني قال حدثنا الشافعي قال أنبأنا سفيان عن أبي اسحاق قال ذكرت لسعيد بن جبير حديث ابن أبي أوفى في النهي عن لحوم الحمر فقال إنما كانت تلك الحمر تأكل القذر وحدثنا .. علي بن الحسين قال حدثنا الحسن بن محمد قال حدثنا يحيى بن عباد عن يونس قال قلت للشعبي ما تقول في لحم الفيل فقال قال الله تعالى ( قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ ) .. [ قال أبو جعفر ] وهذه الأحاديث كلها تعارض سنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الثابتة عنه .. فأما معارضتها فان الحديث المسند الذي فيه قول الرجل للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يبق لي شيء أطعمه أهلي إلا حمر لي قد يجوز أن تكون الحمر وحشية فيكون أكلها جائزا وقد يجوز أن يكون أحلها له على الضرورة كالميتة .. وأما الحديث الثاني حديث أنس الذي فيه من أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مناديا ينادي بما نادى به ففيه دليل على تحريمها وهو قوله فانه رجس فالرجس بالحرام أشبه منه بالحلال وفيه فكفئت القدور والحلال لا ينبغي أن يقلب والذي تأوله سعيد بن جبير يخالف فيه والذي روي عن عائشة وابن عباس يقال إن ابن عباس رجع عنه لما قال له علي بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه انك امرؤ تائه قد حرم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المتعة

١٣٧

ولحوم الحمر الأهلية فرجع عن قوله وقال بتحريم المتعة وأكل لحوم الحمر الأهلية ومع هذا فليس أحد له مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حجة ومع هذا فان ابن عباس يقول لا يحل أكل لحوم الخيل فقد أخرج الخيل من الآية فالحمر أولى وقوله في الخيل قول مالك وأبي حنيفة .. والقول الثالث بأن الآية محكمة وأن المحرمات داخلة فيها قول نظري لأن التذكية انما توجد توقيفا فكلما لم توجد تذكيته بالتوقيف فهو ميتة داخل في الآية .. والقول الرابع يضم الى الآية ما صح عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قول حسن فيكون داخلا في الاستثناء الا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو كذا وكذا .. وهذا قول الزهري ومالك بن أنس ألا ترى أن الزهري كان يقول بتحليل كل ذي ناب من السباع حتى قدم الشام فلقي أبا ادريس الخولاني حدثه عن أبي ثعلبة الخشني عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه يحرم كل ذي ناب من السباع فرجع إلى قوله وكذا قال مالك لما سئل عن كل ذي مخلب من الطير فقال ما أعلم فيه نهيا وهو عندي حلال وقد صح عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تحريم كل ذي مخلب من الطير غير أن الحديث لم يقع إلى مالك فعذر لذلك .. والقول الخامس أن الآية جواب قول حسن صحيح وهو قريب من القول الذي قبله لأنها اذا كانت جوابا فقد أجيبوا عما سألوا عنه وثم محرمات لم يسألوا عنها فهي محرمة بحالها والدليل على أنها جواب أن قبلها ( قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ ) (١) وما معه من الاحتجاج عليهم .. وهذا القول الخامس مذهب الشافعي وفي هذه السورة شيء قد ذكره قوم هو عن الناسخ والمنسوخ بمعزل ولكنا نذكره ليكون الكتاب عام الفائدة .. قال جل ثناؤه ( وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ ) (٢) ففي هذه أربعة أقوال .. فمن الناس من قال هي منسوخة بقوله ( وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ ) (٣) وهم يذكرون غير اسم الله على ذبائحهم .. ومنهم من قال هي محكمة لا يحل أكل ذبيحته الا أن يذكر اسم الله عليها فان تركه تارك عامدا أو ناسيا لم تؤكل ذبيحته .. والقول الثالث أن تؤكل اذا نسي أن يسمي .. والقول الرابع أن تؤكل ذبيحة المسلّم وان ترك التسمية عامدا أو ناسيا .. فالقول الاول قول عكرمة قال في قوله تعالى ( وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ ) .. قال فنسخ واستثنى منه فقال ( الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ ) (٣) واحتج بعضهم لهذا القول بأن القاسم بن مخيمرة سئل عن ذبيحة النصارى هل تؤكل اذا سموا عليها بغير اسم الله .. فقال نعم ولو قالوا عليها باسم جرجس .. [ قال أبو

__________________

(١) سورة : الأنعام ، الآية : ١٤٣.

(٢) سورة : الأنعام ، الآية : ١٢١.

(٣) سورة : المائدة ، الآية : ٥.

١٣٨

جعفر ] وهو قول مكحول وعطاء قال قد علم الله ذلك منهم وأباح ذبائحهم وهو قول ربيعة وهو يروي عن أبي الدرداء وعبادة بن الصامت وهذا القول لو كان إجماعا لما وجب أن يكون فيه دليل على نسخ الآية ولكان استثناء على انه قد صح عن جماعة من الصحابة كراهة ذلك منهم علي بن أبي طالب قال اذا سمعته يقول باسم المسيح فلا تأكل فانه ( وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ ) (١) واذا لم تسمع فكل لأنه قد أحل ذلك وهذا قول عائشة وابن عمر وكره مالك ذلك ولم يحرمه .. والقول الثاني انه لا يحل ممّا لم يذكر اسم الله عليه في العمد والنسيان قول الحسن وابن سيرين والشعبي وعارضه محمد بن جرير وقال لو لم يكن من فساده الا أن العلماء على غيره والجماعة لكان ذلك كافيا من فساده .. [ قال أبو جعفر ] وقد ذكرنا من قال به من العلماء حدثنا .. أحمد بن محمد الأزدي قال حدثنا محمد بن خزيمة قال حدثنا حجاج قال حدثنا حماد عن داود عن الشعبي قال .. ( لا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ ) (٢) وهذا أيضا مذهب أبي ثور .. والقول الثالث انه اذا ذبح فنسي التسمية أكلت ذبيحته قول سعيد بن جبير والنخعي ومالك وأبي حنيفة ويعقوب ومحمد والحجة لهم ان ظاهر الآية يوجب أن لا تؤكل ذبيحة من ترك ذكر اسم الله عليه عامدا لا ناسيا لأن فيها وانه لفسق فخرج بهذا النسيان لأنه لا يقال لمن نسي فسق .. والقول الرابع انه تؤكل ذبيحة المسلّم وإن ترك التسمية عامدا غير متهاون قول ابن عباس كما قرئ .. على أحمد بن شعيب بن علي عن عمرو بن علي قال حدثنا يحيى القطان قال حدثنا سفيان قال حدثنا هارون بن أبي وكيع عن أبيه عن ابن عباس في قوله ( وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ ) .. قال خاصمهم المشركون فقالوا ما نذبح لا تأكلونه وما ذبحتم أكلتموه فهذا من أصح ما مر وهو داخل في المسند وخبر ابن عباس بسبب نزول الآية فوجب أن يكون ( مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ ) يعني به الميتة وما ذبحه المشركون غير أهل الكتاب وما ذبحه المسلمون وأهل الكتاب مأكول وان ( لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ ) واحتج ابن عباس فقال اسم الله مع المسلّم وهذا القول هو الصحيح من قول الشافعي .. وقد حكى حيوة بن شريح عن عقبة بن مسلّم .. قال يؤكل ما ذبحوا لكنائسهم لأنه من طعامهم الذي أحله الله لنا .. قال فقلت فقد قال الله جل ثناؤه ( وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ ) فقال انما ذلك ذبائح أهل الاوثان والمجوس. وفي هذه السورة ( وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ) (٣) روي عن ابن عباس قال نسخ هذا ( قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ

__________________

(١) سورة : البقرة ، الآية : ١٧٣

(٢) سورة : الأنعام ، الآية : ١٢١

(٣) سورة : الأنعام ، الآية : ١٠٦

١٣٩

وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ ) الآية .. وقال غيره ليس في هذا نسخ انما هذا من قولهم أعرضت عنه أي لم انبسط اليه واشتقاقه من أوليته عرض وجهي وهذا واجب أن يستعمل مع المشركين وأهل المعاصي .. قال جل ثناؤه ( أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ ) (١). وفي هذه السورة ( إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ ) (٢) حدثنا .. أبو الحسن عليل بن أحمد قال حدثنا محمد بن هشام قال حدثنا عاصم بن سليمان قال حدثنا جويبر عن الضحاك عن ابن عباس في قوله تعالى ( إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً ) .. قال اليهود والنصارى تركوا الاسلام والدين الذي أمروا به ( وَكانُوا شِيَعاً ) فرقا وأحزابا مختلفة ( لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ ) نزلت بمكة ثم نسختها ( قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ ) (٣) الآية .. [ قال أبو جعفر ] وقال غيره ليس في هذا نسخ لانه معروف في اللغة أن يقال لست من فلان ولا هو مني اذا كنت مخالفا له منكرا عليه ما هو فيه .. وحكى سيبويه أنت مني فرسخا ما دمنا أي ما دمنا نسير فرسخا على انه قد روى أبو غالب عن أبي امامة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله ( إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً ) .. قال هم الخوارج وان بني اسرائيل افترقت على احدى وسبعين فرقة وتزيد هذه الامة واحدة كلها في النار الا فرقة واحدة وهي الجماعة والسواد الاعظم فتبين بهذا الحديث وبظاهر الآية ( إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً ) هم أهل البدع لانهم اذا ابتدعوا تخاذلوا وتخاصموا وتفرقوا فليس النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا الفرقة الناجية وهي الجماعة الظاهرة منهم في شيء لانهم منكرون عليهم ما هم فيه مخالفون لهم فهذا من الناسخ والمنسوخ بمعزل.

__________________

(١) سورة : المائدة ، الآية : ٥٤

(٢) سورة : الأنعام ، الآية : ١٥٩

(٣) سورة : التوبة ، الآية : ٢٩

١٤٠