كتاب الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم

أبي جعفر أحمد بن محمّد بن إسماعيل النحّاس [ ابن النحّاس ]

كتاب الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم

المؤلف:

أبي جعفر أحمد بن محمّد بن إسماعيل النحّاس [ ابن النحّاس ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الكتب الثقافية
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٠٤

محمد الأزدي قال حدثنا فهد قال حدثنا معلى بن أسد قال حدثنا سلّم بن أبي مطيع قال حدثنا هشام بن عروة عن أبيه قال دخلت على عائشة فقالت لي يا ابن أختي هل تدري فيم أنزلت هذه الآية ( وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها ) قلت لا أدري قالت نزلت في الدعاء .. [ قال أبو جعفر ] وهذا من أحسن ما قيل في الآية لأن فيه هذا التوقيف عن عائشة والمعروف من كلام العرب أن الصلاة الدعاء ولا يقال للقراءة صلاة إلاّ على مجاز وأيضا فان العلماء مجمعون على كراهة رفع الصوت في الدعاء .. وقد قال الله تعالى ( ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً ) (١) وإما أن تكون الآية منسوخة بقوله ( وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً ) (٢) فبعيد لأن هذا عقيب قوله ( وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ) (٣) فانما أمر الله تعالى اذا أنصت أن يذكر ربه في نفسه تضرعا وخيفة من عقابه ولهذا كان هاهنا وخيفة وثم وخفية ومع هذا فقد روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في كراهية رفع الصوت في الدعاء ما يقوي هذا .. وقد قال ابن جريج في قول الله تعالى ( إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ) (١) قال من الاعتداء رفع الصوت في الدعاء والنداء والصياح به حدثنا .. أحمد بن محمد الأزدي قال حدثنا محمد بن عمرو بن يونس قال حدثنا أبو معاوية الضرير عن عاصم عن أبي عثمان النهدي عن أبي موسى قال كنت مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في السفر فنزلنا في وهدة من الأرض فرفع الناس أصواتهم بالتكبير فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يا أيّها الناس أربعوا على أنفسكم انكم لا تدعون أصم ولا غائبا انكم تدعون سميعا قريبا ثم دعاني وكنت قريبا منه فقال يا عبد الله بن قيس ألا أعلمك كلمة من كنز الجنة قلت بلى يا رسول الله فقال قل لا حول ولا قوة الا بالله.

__________________

(١) سورة : الأعراف ، الآية : ٥٥

(٢) سورة : الأعراف ، الآية : ٢٠٥

(٣) سورة : الأعراف ، الآية : ٢٠٤

١٨١

سورة الكهف ومريم وطه والأنبياء عليهم‌السلام

بسم الله الرحمن الرحيم

حدثنا .. يموت باسناده عن ابن عباس انهن نزلن بمكة .. ثم لم نجد فيهن مما يدخل في هذا الكتاب الا موضعا واحدا قال الله عز وجل ( وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً ) (١) .. جماعة من الكوفيين يذهبون الى أن هذا الحكم منسوخ فان البهائم اذا أفسدت زرعا في ليل أو نهار أنه لا يلزم صاحبها شيء وان كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد حكم بغير هذا فخالفوا حكمه وزعموا انه منسوخ بقوله عليه الصلاة والسلام العجماء جبار .. ومنهم من يقول في الحديث العجماء جرحها جبار والعجماء البهيمة وأصله أنه يقال رجل أعجم وامرأة عجماء اذا كانا لا يفصحان في الكلام ويقال انه ما تقدم أبا حنيفة أحد بهذا القول حتى قال بعض العلماء هذا الحكم أصله من كتاب الله تعالى وقد حكم به ثلاثة من الأنبياء فلا تجوز مخالفته بتأويل .. [ قال أبو جعفر ] وسنبيّن ذلك من الآية ومن حكم الأنبياء عليهم‌السلام .. قال الله عز وجل ( وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ ) أي واذكر داود وسليمان ( إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ ) .. قال قتادة كان نبتا .. وعن ابن مسعود كان الحرث كرما قد أنبت عناقيده ( إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ ) والنفش في كلام العرب لا يكون الا بالليل أي دخلت الغنم بالليل في حرث القوم الذين ليسوا أصحابها فأفسدت العنب وأكلته ( وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ ) أي لم يغب عنا ذلك ( فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ ) أي القصة .. قال ابن عباس دخلت الغنم فأفسدت الكرم فاختصموا الى داود فقضى بالغنم لصاحب الكرم لأن ثمنها قريبا منه فمروا على سليمان فأخبروه فقال كان غيره أرفق بالجميع فدخل صاحب الغنم فأخبر داود فقال لسليمان كيف الحكم عندك؟ قال يا نبي الله تدفع الغنم الى صاحب الحرث فيصيب من ألبانها وأصوافها وأولادها ويدفع الكرم الى صاحب الغنم يقوم به حتى ترجع الى حاله فاذا رجع الى حاله سلّم الكرم الى صاحبه والغنم الى صاحبها فقال الله تعالى ( فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ ) .. [ قال أبو جعفر ] ثم رجعنا الى ما حكم به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما قرئ .. على أبي عبد الرحمن أحمد بن شعيب عن القاسم بن زكرياء بن دينار قال حدثنا معاوية بن هشام عن سفيان عن اسماعيل بن أمية وعبد الله بن عيسى عن الزهري عن حرام بن محيصة عن البراء

__________________

(١) سورة : الأنبياء ، الآيتان : ( ٧٨ ـ ٧٩ ).

١٨٢

أن ناقة لآل البراء أفسدت نبتا فقضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن على أهل الثمار حفظها بالنهار وضمن أصحاب الماشية ما أصابت ماشيتهم بالليل .. قال أبو عبد الرحمن وأخبرني عمرو بن عثمان قال حدثنا الوليد عن الأوزاعي عن الزهري عن حرام بن محيصة أن البراء بن عازب أخبره أنه كانت له ناقة ضرّابة فدخلت حائطا فأفسدت فيه فتكلم فيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن على أهل الحوائط حفظها بالنهار وعلى أهل المواشي حفظها بالليل وأن على أهل الماشية ما أصابت بالليل فهذا حكم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد حكم تبيين ما قبله بالتضمين .. وقال أبو حنيفة لا ضمان والحديث صحيح عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وان كان مالك قد رواه عن الزهري عن حرام بن محيصة أن ناقة لآل البراء فصار مقطوعا فقد رواه من تقوم به الحجة متصلا لأن اسماعيل بن أمية وعبد الله بن عيسى نبيلان جليلا المقدار وقد تابعهما الأوزاعي فلا معنى لمعارضته الأيمة فيما رواه غيره .. وقد قال جل ثناؤه ( إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ ) وعلى ذلك القول لا حكم فيه وقد أجمع من تقوم به الحجة من العلماء على أن راكب الدابة يضمن ما أصابت بيديها فقد صحّ أن المعنى العجماء جبار اذا لم يكن على صاحبها حفظها واذا كان عليه فليست بجبار .. وقد حكم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن على أهل الماشية حفظها بالليل فليس ما أفسدته بالليل إذا جبار والجبار الهدر الذي لا شيء فيه .. وقد حكم سليمان بن داود بما ذكرناه فمدحهما الله فقال تعالى ( وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً ) (١) كما قرئ .. علي أحمد بن محمد بن الحجاج عن يحيى بن سليمان قال حدثني عبد الله بن وهب قال أخبرني مالك بن أنس عن زيد بن أسلّم في قول الله عز وجل ( وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً ) .. قال قال زيد بن أسلّم الحكم والحكمة العقل قال مالك وإنه ليقع بقلبي أن الحكمة هي الفقه في دين الله تعالى .. [ قال أبو جعفر ] والذي ذكرناه من تضمين أصحاب الماشية ما أصابت بالليل مع ما صحّ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قول أكثر الفقهاء منهم مالك والشافعي.

__________________

(١) سورة : الأنبياء ، الآية : ٧٩

١٨٣

سورة الحج

بسم الله الرحمن الرحيم

حدثنا .. يموت باسناده عن ابن عباس قال وسورة الحج نزلت بمكة سوى ثلاث آيات فانهنّ نزلن بالمدينة في ستة نفر من قريش ثلاثة منهم مؤمنون وثلاثة كافرون .. فأما المؤمنون منهم فهم عبيدة بن الحارث وحمزة بن عبد المطلب وعلي بن أبي طالب دعاهم للبراز عتبة وشيبة ابنا ربيعة والوليد بن عتبة فأنزل الله تعالى ثلاث آيات مدنيات وهن ( هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ ) (١) الى تمام الآيات الثلاث .. [ قال أبو جعفر ] وجدنا في هذه السورة أربعة مواضع تصلح في هذا الكتاب .. منهن قول الله تعالى ( فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ ) (٢) .. وقال جل ثناؤه ( فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ ) (٣) .. فمن العلماء من قال ذبح الضحايا ناسخ لكل ذبح كان قبله حتى قال محمد بن الحسن في املائه كانت العقيقة تفعل في الجاهلية ثم فعلت في أول الاسلام ثم نسخت بذبح الضحية فمن شاء فعلها ومن شاء تركها .. واحتج بعض الكوفيين بقول محمد بن علي بن الحسين بنسخ ذبح الضحية لما قبله .. وقد خولف محمد بن علي بن الحسين في هذا واحتج عليه بفعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقوله في العقيقة وسنذكر ذلك إن شاء الله .. وقال بعض العلماء ( فَكُلُوا مِنْها ) ناسخ لفعلهم لأنهم كانوا يحرمون لحوم الضحية على أنفسهم ولا يأكلون منها شيئا فنسخ ذلك بقوله ( فَكُلُوا مِنْها ) وبقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من ضحّى فليأكل من أضحيته إلا أن العلماء على ان هذا الامر ندب لا إيجاب وان كانوا يستحبون الأكل منها كما قال مالك والليث يستحب أن يأكل من لحم أضحيته لقول الله تعالى ( فَكُلُوا مِنْها ) .. وقال الزهري من السنة أن تأكل أولا من الكبد وأكثر العلماء منهم ابن مسعود وابن عمر وعطاء والثوري يستحبون أن يتصدق بالثلث ويطعم الثلث ويأكل الثلث هو وأهله .. واختلف العلماء في الإدخار على ثلاثة أقوال .. فمنهم من قال لا يدخر منها بعد ثلاث .. ومنهم من قال يدخر منها الى أي وقت شاء .. ومنهم من قال ان كان بالناس حاجة اليها فلا يدخر بعد ثلاث .. فممن قال بالأول علي بن أبي طالب وابن عمر كما قرئ .. على أحمد بن محمد بن حجاج عن يحيى بن عبد الله بن بكير قال حدثنا الليث قال حدثني عقيل عن ابن شهاب عن أبي عبيد مولى أبي أزهر قال شهدت علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه صلّى بنا العيد وعثمان محصور رضي‌الله‌عنه ثم خطبنا فقال لا تدخروا شيئا من لحم أضاحيكم بعد

__________________

(١) سورة : الحج ، الآية : ١٩

(٢) سورة : الحج ، الآية : ٢٨

(٣) سورة : الحج ، الآية : ٣٦

١٨٤

ثلاث فان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نهى عن ذلك .. [ قال أبو جعفر ] وحدثنا .. أبو اسحاق إبراهيم بن شريك قال حدثنا أحمد بن عبد الله بن يونس قال حدثنا الليث عن نافع عن ابن عمر ان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لا يأكل أحدكم من لحم أضحيته فوق ثلاثة أيام .. [ قال أبو جعفر ] وهذان الحديثان صحيحان من قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الا أنه قد تؤول حديث ابن عمر انه منسوخ كما حدثنا .. بكر بن سهل قال حدثنا عبد الله بن يوسف قال أنبأنا مالك عن أبي الزبير المكي ان جابر بن عبد الله أخبره ان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نهى أن تؤكل لحوم الضحايا بعد ثلاث ثم قال بعد كلوا وتزوّدوا وادخروا وهذا نسخ بيّن وبه قال أبو سعيد الخدري وبريدة الأسلمي قالا قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إني كنت نهيتكم عن لحوم الأضاحي بعد ثلاث ألا فكلوا وتزوّدوا .. والقول الثالث أن نهي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن أكل لحوم الضحايا إنما كان لعلة بينتها عائشة رضي‌الله‌عنها قالت دفت دافة من البادية بحضرة الأضحى فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كلوا وتصدقوا ولا تدخروا بعد ذلك ثم قال انما نهيتكم من أجل الدافة فكلوا وادخروا فهذا من أحسن ما قيل في هذا حتى تتفق الأحاديث ولا تتضاد ويكون قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وعثمان محصورا لأن الناس كانوا في شدة محتاجين ففعل كما فعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين قدمت الدافة .. والدليل على هذا ما حدثناه .. إبراهيم بن شريك قال حدثنا أحمد قال حدثنا الليث قال حدثني الحارث بن يعقوب عن يزيد بن أبي زيد عن امرأته انها سألت عائشة رضي‌الله‌عنها عن لحوم الاضاحي فقالت قدم علينا علي بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه من سفر له فقدّمنا اليه فأبى أن يأكله حتى سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسأله فقال كل من ذي الحجة الى ذي الحجة .. [ قال أبو جعفر ] الدافة الجماعة بالدال غير معجمة ويقال ذففت على الجريح بالذال المعجمة اذا أجهزت عليه مشتق مما حكاه أبو زيد عن العرب ذف الامر واستذف اذا تهيأ .. ومنه يقال خفيف ذفيف .. وقول محمد بن الحسن ان الضحية نسخت العقيقة قول لا دليل معه فيه .. والذي روي عن محمد بن علي نسخت الضحية كل ذبح معناه كل ذبح مكروه وأما العقيقة فذبح مندوب كالضحية كما قرئ .. على أحمد بن شعيب عن الحسين بن حريث قال حدثنا الفضل وهو ابن موسى عن الحسين بن واقد عن عبد الله بن بريدة عن أبيه ان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عق عن الحسن والحسين وفي حديث ابن عباس بكبشين كبشين وقرئ .. على محمد بن عمرو بن خالد عن أبيه قال حدثنا ابن عيينة عن عمرو عن عطاء عن حبيبة ابنة ميسرة عن أم كرز ان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال عن الغلام شاتان مكافئتان وعن الجارية شاة .. [ قال أبو جعفر ] فهذا فعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقول الصحابة والتابعين .. فمن الصحابة ابن عباس وابن عمر وعبد الله بن عمرو وسمرة وفاطمة وعائشة رضي الله

١٨٥

عنهم .. ومن التابعين القاسم وعروة ويحيى الانصاري وعطاء وقال مالك هو الأمر الذي لا اختلاف فيه عندنا وهو قول الشافعي وأحمد وأبي ثور الا ان مالكا يقول شاة عن الغلام وشاة عن الجارية والشافعي وأصحاب الحديث على حديث أمر كرز والحجة لمالك الحديث ان فاطمة عقت عن الحسن والحسين بكبشين .. وأما الحسن البصري فانه قال العقيقة واجبة على الرجل ان لم يعق عنه عق عن نفسه وهي عند غيره بمنزلة الضحية مندوب اليها الا ان أبا حنيفة .. قال الضحية واجبة على كل من وجد اليها سبيلا وعلى الرجل أن يضحي عن ولده وخالفه أكثر أهل العلم واحتجوا بأن الله تعالى لم يوجبها في كتابه ولا أوجبها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأن حديث أبي بردة بن نيار يتأول فيه انه أوجبها على نفسه .. وقد احتج الشافعي بقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من رأى هلال ذي الحجة فأراد أن يضحي فلا يحلق له شعرا ولا يقلم له ظفرا وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأراد يدل على التخيير ان شاء فعل وان شاء لم يفعل وفي الحديث ان أبا بكر وعمر رضي‌الله‌عنهما لم يكونا يضحيان مخافة ان تتوهم الناس ان ذلك واجب وكذا قال ابن مسعود وبلال وابن عمر خمسة من الصحابة لم يوجبوا الضحية .. قال زيد بن أسلّم مكافئتان مشتبهتان يذبحان جميعا .. وقال أحمد مكافئتان متساويتان .. قال الاصمعي أصل العقيقة الشعر الذي يولد المولود وهو على رأسه وكذلك هو في البهائم .. فقيل عقيقة لأنها اذا ذبحت حلق ذلك الشعر وأنكر أحمد هذا القول .. وقال الذبيحة العقيقة .. [ قال أبو جعفر ] والذي قال أحمد لا يمتنع في اللغة لأنه يقال عق اذا قطع ومنه عق فلان والديه.

باب

ذكر الآية الثانية

قال الله عز وجل ( أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ) (١) حدثنا .. أحمد بن محمد بن نافع قال حدثنا سلمة قال حدثنا عبد الرزاق قال أنبأنا سفيان الثوري عن مسلّم البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس انه قرأ ( أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ) .. قال وهي أول آية نزلت في القتال .. [ قال أبو جعفر ] فكانت هذه ناسخة للمنع من القتال .. وقال ابن زيد نسخ قوله ( وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ ) (٢) الامر بالقتال .. وخالفه غيره فقال لا معنى هاهنا للناسخ والمنسوخ لأن قوله ( وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ ) تهديد لهم وهذا لا ينسخ.

__________________

(١) سورة : الحج ، الآية : ٣٩

(٢) سورة : الأعراف ، الآية : ١٨٠

١٨٦

باب

ذكر الآية الثالثة

قال الله تعالى ( وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ) (١) قال يبطل ما ألقاه الشيطان ( ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ ) (١) .. [ قال أبو جعفر ] هذا من قول العرب نسخت الشمس الظل اذا أزالته .. وروي في الذي نسخه الله تعالى مما ألقاه الشيطان أحاديث .. فمنها ما رواه الزهري عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام قال قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والنجم فلما بلغ ( أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى ) (٢) قال وان شفاعتهم لترتجى فسها فلقيه المشركون فسلموا عليه وفرحوا فأنزل الله تعالى ( وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ ) الآية .. [ قال أبو جعفر ] وهذا حديث مفظع وفيه هذا الأمر العظيم وكذا حديث قتادة وزاد فيه وانهن لهن الغرانيق العلى .. ولو صح هذا لكان له تأويل قد ذكرناه في أول الكتاب وأفظع من هذا ما ذكره الواقدي عن كثير بن زيد عن المطلب بن عبد الله قال فسجد المشركون كلهم الا الوليد بن المغيرة فانه أخذ ترابا من الارض فرفعه الى وجهه ويقال انه أبو أحيحة سعيد العاصي .. حتى نزل جبريل فقرأ عليه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذا فقال له ما جئتك به وأنزل الله تعالى ( لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً ) (٣) الآية .. [ قال أبو جعفر ] وهذا حديث منكر مفظع ولا سيما وهو من حديث الواقدي والدين والعقل يمنعان من هذا الا أنه ان كان قال معتمدا ومعاذ الله أن يكون ذلك ففيه مساعدة لهم على دينهم لأن هذا قولهم .. ان كان ناسيا فكيف صبر ولم يتبين ذلك حتى أتاه الوحي من الله تعالى ثم رجعنا الى الآية فوجدنا فيها قول من لم يرجع الى قوله وعلمه .. [ قال أبو جعفر ] حدثنا .. بكر بن سهل قال حدثنا أبو صالح قال حدثني معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس ( وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ ) قال إذا حدث ألقى الشيطان في حديثه .. [ قال أبو جعفر ] فالتأويل على هذا ألقى الشيطان في سره وخاطره ما يوهمه به أنه الصواب ثم نبهه الله تعالى على ذلك .. وقد صح عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال انه ليغان (٤)

__________________

(١) سورة : الحج ، الآية : ٥٢

(٢) سورة : النجم ، الآية : ١٩

(٣) سورة : الإسراء ، الآية : ٧٤

(٤) غين على قلبه غينا غطي عليه وألبس.

١٨٧

على قلبي فأستغفر الله في اليوم والليلة مائة مرة .. وفي السير أن كبراء قريش جاءوه فقالوا يا محمد قد استوعبت ضعفاءنا وسفهاءنا وذلك حين أظهر دعوته وتثبتت براهينه فأمسك عنّا حتى ننظر في أمرك فإن تبين لنا اتبعناك وان لم يتبين لنا كنت على أمرك ونحن على أمرنا فوقع له صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن هذا انصاف ثم نبهه الله تعالى بالخاطر والتذكر لما أمره الله من اظهار الدعوة وأن يصدع بما أمر به ثم نزل عليه الوحي ( لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً ) (١) وما بعد فيكون على هذا ( أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ ) أي في سره .. والقول الآخر عليه أكثر التأويل قال سعيد بن جبير ( فِي أُمْنِيَّتِهِ ) في قراءته .. وقال مجاهد في قوله وقال الضحاك الأمنية التلاوة .. [ قال أبو جعفر ] هذا معروف في اللغة منه ( لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلاَّ أَمانِيَ ) (٢) فيكون التقدير على هذا ( أَلْقَى الشَّيْطانُ ) في تلاوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إما شيطان من الإنس وإما شيطان من الجن ومتعارف في الآثار أن الشيطان كان يظهر في كثير وقت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال الله تعالى ( وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ ) (٣) وقال ( لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ ) (٤) فألقى الشيطان هذا في تلاوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من غير أن ينطق به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم .. والدليل على هذا أن ظاهر القرآن كذا وأن الثقات من أصحاب السير كذا يروون كما روى موسى بن عقبة عن الزهري ( أَلْقَى الشَّيْطانُ ) في تلاوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فان شفاعتهم ترتجى فوقرت في مسامع المشركين فاتبعوه جميعا وسجدوا وأنكر ذلك المسلمون ولم يسمعوه واتصل الخبر بالمهاجرين في أرض الحبشة وأن الجماعة قد تبعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقدموا .. وقد نسخ الله ما ( أَلْقَى الشَّيْطانُ ) فلحقهم الأذى والعنت .. [ قال أبو جعفر ] وقد تبيّن معنى الآية بهذا وبغيره .. قال ابن جريج ( لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ ) (٥) قال القاسية قلوبهم المشركون .. [ قال أبو جعفر ] وهذا قول بيّن لأنهم لم تلن قلوبهم لاتباع الحق ( وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ) المنافقون.

__________________

(١) سورة : الحج ، الآية : ٥٢

(٢) سورة : البقرة ، الآية : ٧٨

(٣) سورة : الأنفال ، الآية : ٤٨

(٤) سورة : الأنفال ، الآية : ٤٨

(٥) سورة : الحج ، الآية : ٥٣

١٨٨

باب

ذكر الآية الرابعة

قال الله عز وجل ( وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ ) (١) .. من جعلها منسوخة قال هي مثل قوله تعالى ( اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ ) (٢) فنسخها عنده ( فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ) (٣) .. [ قال أبو جعفر ] وهذا لا نسخ فيه .. وقد بيّناه في سورة آل عمران.

__________________

(١) سورة : الحج ، الآية : ٧٨

(٢) سورة : آل عمران ، الآية : ١٠٢

(٣) سورة : التغابن ، الآية : ١٦

١٨٩

سورة المؤمنين

بسم الله الرحمن الرحيم

حدثنا .. يموت بإسناده عن ابن عباس قال سورة المؤمنين نزلت بمكة فهي مكية في رواية المعتمر عن خالد عن محمد بن سيرين قال كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ينظر الى السماء في الصلاة فأنزل الله هذه الآية ( الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ ) (١) فجعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجهه حيث يسجد .. وفي رواية قاسم كان المسلمون يلتفتون في الصلاة فينظرون فأنزل الله تعالى ( قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ ) (٢) فأقبلوا على صلاتهم ونظروا أمامهم وكانوا يستحبون ألاّ يجاوز أحدهم بصره موضع سجوده .. [ قال أبو جعفر ] وأكثر العلماء على ان الخشوع في الصلاة أن ينظر الى موضع سجوده إن كان قائما .. ومنهم من قال الا بمكة فإنه يستحب أن ينظر الى البيت.

__________________

(١) سورة : المؤمنون ، الآية : ٢

(٢) سورة : المؤمنون ، الآيتان : (١ ـ ٢)

١٩٠

سورة النور

بسم الله الرحمن الرحيم

حدثنا .. يموت باسناده عن ابن عباس قال وسورة النور نزلت بالمدينة فهي مدنية .. [ قال أبو جعفر ] قد ذكرنا قوله ( الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي ) (٢) الآية وانه ناسخ لقوله ( وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ ) (٢) الآيتين من سورة النساء ووجدنا في هذه السورة آيات سوى هذه .. فأولاهن قوله ( الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلاَّ زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلاَّ زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ) (١) .. للعلماء في هذه الآية أربعة أقوال .. منهم من قال هي منسوخة .. ومنهم من قال النكاح هاهنا الوطء .. ومنهم من قال الزاني هاهنا المجلود في الزنا لا ينكح الا زانية مجلودة في الزنا أو مشركة وكذلك الزانية .. ومنهم من قال هي الزانية التي تكتسب بزناها وتنفق على زوجها .. واحتجوا بأن الآية في ذلك أنزلت .. فممن قال هي منسوخة سعيد بن المسيب كما حدثنا .. اسحاق بن إبراهيم القطان قال حدثني يحيى بن عبد الله بن بكر قال حدثنا الليث بن سعد قال حدثنا يحيى بن سعيد بن قيس الأنصاري عن سعيد بن المسيب في قول الله تعالى ( الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلاَّ زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلاَّ زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ ) قال .. يزعمون انها نسخت بالآية التي بعدها ( وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ ) (٣) فدخلت الزانية في أيامى المسلمين .. وهذا القول الذي عليه أكثر العلماء وأهل الفتيا يقولون ان من زنى بامرأة فله أن يتزوّجها ولغيره أن يتزوّجها وهو قول ابن عمر وسالم وجابر بن زيد وعطاء وطاوس ومالك بن أنس روى عنه ابن وهب انه سئل عن الرجل يزني بامرأة ثم يريد نكاحها قال ذلك له بعد أن يستبرئ من وطئها وهو قول أبي حنيفة وأصحابه وقال الشافعي في الآية القول فيها كما قال سعيد بن المسيب ان شاء الله تعالى انها منسوخة .. وممن قال بالقول الثاني ان النكاح هاهنا الوطء ابن عباس كما حدثنا .. بكر بن سهل الدمياطي قال حدثنا أبو صالح قال حدثني معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس وقوله ( الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلاَّ زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً ) الآية .. قال

__________________

(١) سورة : النور ، الآية : ١ ، ٣

(٢) سورة : النساء ، الآية : ١٥

(٣) سورة : النور ، الآية : ٣٢

١٩١

الزاني من أهل القبلة لا يزني الا بزانية مثله وهي من أهل القبلة أو مشركة والزانية من أهل القبلة لا تزني الا بزان مثلها من أهل القبلة أو مشرك وحرم الزنا على المؤمنين .. واختار محمد بن جرير هذا القول وأومى الى أنه أولى الأقوال واحتج بأن الزانية من المسلمين لا يجوز لها أن تتزوّج مشركا بحال وان الزاني من المسلمين لا يجوز له أن يتزوّج مشركة بحال فقد تبين ان المعنى الزاني من المسلمين لا يزني الا بزانية لا تستحل الزنا من المسلمين أو مشركة تستحل الزنا والزانية لا تزني الا بزان من المسلمين لا يستحل الزنا أو مشرك يستحل الزنا قال ( وَحُرِّمَ ذلِكَ ) الزنا وهو النكاح المذكور قبل هذا .. والقول الثالث ان الزاني المجلود ( لا يَنْكِحُ إِلاَّ زانِيَةً ) مجلودة أو مشركة وكذا الزانية قول الحسن كما قرئ .. على إبراهيم بن موسى الجوزي عن يعقوب الدورقي قال حدثنا وكيع عن يزيد بن إبراهيم عن الحسن قال الزاني المجلود ( لا يَنْكِحُ إِلاَّ زانِيَةً ) مجلودة مثله أو مشركة والزانية المجلودة ( لا يَنْكِحُها إِلاَّ زانٍ ) مجلود مثلها أو مشرك حدثنا .. علي بن الحسين قال قال الحسن بن محمد الزعفراني قال حدثنا عفان قال حدثنا يزيد بن زريع قال حدثنا حبيب المعلم قال ..جاء رجل من الكوفة الى عمرو بن شعيب فقال ألا تعجب من الحسن يزعم أن الزاني المجلود لا ينكح الا مثله ويتأول هذه الآية ( الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلاَّ زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً ) فقال وما تعجب من هذا حدثني .. سعيد بن أبي سعيد عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال الزاني المجلود لا ينكح الا مثله .. [ قال أبو جعفر ] وهذا الحديث يجوز أن يكون منسوخا كما نسخت الآية في قول سعيد بن المسيب .. والقول الرابع أن هذا في نسوة كان الرجل يتزوج إحداهن على أن تنفق عليه مما تكسبه من الزنا فحرم الله نكاحهن وهو قول مجاهد كما قرئ .. على أحمد بن محمد بن الحجاج عن يحيى بن سليمان قال حدثنا أسباط بن محمد قال حدثنا عبد الملك بن أبي سليمان عن القاسم بن أبي بردة عن مجاهد في قول الله تعالى ( الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلاَّ زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً ) قال .. كان نساء بغايا فكانت منهن امرأة تدعى أم مهزول (١) فكان الرجل يتزوج إحداهن لتنفق عليه من كسبها فنهاهم الله عز وجل عن ذلك أن يتزوج أحد من المسلمين قرئ .. على أحمد بن شعيب عن عمرو بن علي قال حدثني المعتمر عن أبيه عن الحضرمي يعني ابن لاحق عن القاسم بن محمد بن عبد الله بن عمرو قال .. كانت امرأة يقال لها أم مهزول وكانت بأجياد وكانت تسافح فأراد رجل من المسلمين

__________________

(١) في الاصل هنا هكذا رسمه ( محرم ) وفي الذي بعده أم مهزول بخط واضح فاتبعناه ولم نقف عليه في غير الاصل فليحرر.

١٩٢

يتزوجها فأنزل الله تعالى ( وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلاَّ زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ) .. [ قال أبو جعفر ] وهذا الحديث من أحسن ما روي في هذه الآية ذكر فيه السبب الذي نزلت فيه فاذا صح جاز أن تكون الآية الناسخة بعده والله أعلم بحقيقة ذلك.

باب

باب ذكر الآية الثانية

قال الله عز وجل ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) (١) .. العلماء فيها قولان : فمنهم من قال لما قال ( لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ) كان هذا عاما في جميع البيوت ثم نسخ من هذا واستثنى فقال تعالى ( لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ ) (٢) .. ومنهم من قال الآيتان محكمتان لقوله تعالى ( لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا ) قال تستأذنوا ( وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ) يعني به البيوت التي لها أرباب وسكان والآية الأخرى في البيوت التي ليس لها أرباب يعرفون ولا سكان .. والقول الأول يروى عن ابن عباس وعكرمة .. [ قال أبو جعفر ] كما حدثنا .. أبو الحسن عليل بن أحمد قال حدثنا محمد بن هشام قال حدثنا عاصم بن سليمان قال حدثنا جويبر عن الضحاك عن ابن عباس ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ) قال .. فيه تقديم وتأخير حتّى تسلّموا على أهلها وتستأنسوا ثم استثنى البيوت التي على طرق الناس والتي ينزلها المسافرون فقال عزّ وجلّ ( لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ ) يقول ليس لها أهل ولا سكان بغير تسليم ولا استئذان ( فِيها مَتاعٌ لَكُمْ ) قال متاع من الحر والبرد .. وروى يزيد بن عكرمة والحسن ( لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ) قالا ثم نسخ من ذلك واستثنى فقال تعالى ( لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ ) .. والقول الثاني أنهما محكمتان قول أكثر أهل التأويل .. فأما ما روي عن ابن عباس وبعض الناس يقول عن سعيد بن جبير أنه قال أخطأ الكاتب إنما هو حتّى تستأذنوا فعظيم محظور القول به لأن الله تعالى قال ( لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ ) (٣) ومعنى حتى تستأنسوا بيّن عند

__________________

(١) سورة : النور ، الآية : ٢٧

(٢) سورة : النور ، الآية : ٢٩

(٣) سورة : فصلت ، الآية : ٤٢

١٩٣

أهل التأويل وأهل العربية كما قرئ .. على عبد الله بن أحمد بن عبد السلام عن أبي الأزهر قال حدثنا روح عن عثمان بن غياث عن عكرمة حتى تستأنسوا قال حتى تستأذنوا وقال هو التنحنح والتنخم .. [ قال أبو جعفر ] وأهل العربية يشتقونه من جهتين احداهما حتى تستأنسوا حتى تستعلموا. قال جلّ ثناؤه ( آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً ) (١) .. والجهة الأخرى حتى تأنسوا بأن الذي تريدون الدخول عليه قد رضي دخولكم .. والذي ذكرناه عن ابن عباس من التقديم والتأخير حسن أي ( لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ ) لها أرباب وفيها سكان حتى تسلموا أو تستأذنوا فتقولوا السلام عليكم ادخل .. وما كان في معنى هذا من التنحنح والتنخم والإذن ( ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ ) من أن تدخلوا بغير اذن فتروا ما لا يجوز أن تروه وتعصوا الله ( لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) ما يجب لله عليكم من طاعته فتلزمونه .. فهذه محكمة في حكم غير حكم الثانية .. والثانية قد تكلم في معناها العلماء كما قرئ .. على أحمد بن محمد بن الحجاج عن يحيى بن سليمان قال حدثنا أبو معاوية قال حدثنا الحجاج بن أرطاة عن سالم المكي عن محمد بن علي بن الحنفية في قوله ( لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ ) قال .. هي بيوت الخانات وبيوت الأسواق .. فأما قول عبد الرحمن بن زيد هي بيوت التجار والحوانيت في القيساريات والاسواق .. فقول مرغوب عنه لأن الحوانيت التي فيها متاع الناس لا يحل دخولها الا باذن صاحبها وان فتحها وجلس فيها لأن الناس احق بأملاكهم وأيضا فنص القرآن ( فِيها مَتاعٌ لَكُمْ ) وليس متاع التجار بمتاع للمخاطبين : وقد قال مجاهد هي بيوت كانت في طريق المدينة تضع الناس فيها امتعتهم فأذن لهم في دخولها بغير اذن .. [ قال أبو جعفر ] فاذا كانت هذه البيوت انما بنيت لهذا فهي مباحات لا يحتاج فيها الى اذن. ومن أجمع ما قيل في الآية قول جابر بن زيد في قوله تعالى ( لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ ) قال ليس يعني بالمتاع الجهاز ولكن سواه من الجادة. أما منزل ينزله قوم من ليل أو نهار أو خربة يدخلها الرجل لقضاء حاجة أو دار ينزل اليها فهذا متاع وكل الدنيا متاع .. [ قال أبو جعفر ] وهذا شرح حسن من قول إمام من أئمة المسلمين وهو موافق للغة والمتاع في كلام العرب المنفعة ومنه أمتع الله بك ومنه فمتعوهن فالمعنى على قوله ( لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ ) أي فيها منفعة لكم من قضاء حاجة أو دخول رجل الى دار يطلبها لشراء أو اجارة .. وما تقدم من قول العلماء سوى ابن زيد داخل في هذا.

__________________

(١) سورة : القصص ، الآية : ٢٩

١٩٤

باب

ذكر الآية الثالثة

قال الله عز وجل ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ ) (١) .. للعلماء في هذه الآية ستة أقوال .. فمنهم من قال هي منسوخة .. ومنهم من قال هي ندب غير واجبة .. ومنهم من قال هي في النساء دون الرجال .. ومنهم من قال كان العمل بها واجبا لأن القوم لم يكن لهم إغلاق ولا ستور فإن عاد الأمر إلى ذلك كان العمل بها واجبا .. ومنهم من قال هي محكمة واجب على المسلمين أن يعملوا بها كما أمر الله سبحانه لأن أمره حتم الا أن يقع دليل على ذلك .. فممن قال انها منسوخة سعيد بن المسيب كما حدثنا .. جعفر بن مجاشع قال حدثنا إبراهيم بن اسحاق الحربي قال بلغني عن داود عن سعيد بن المسيب ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ) الآية قال .. هي منسوخة قال الحربي وحدثنا بندار قال حدثنا غندر قال حدثنا شعبة عن أبي يسر عن سعيد بن جبير ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ) قال لا يعمل بها اليوم .. [ قال أبو جعفر ] فهذا قول .. وروى أيوب عن أبي قلابة في قوله تعالى ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ ) (٢) قال انما أمر بهذا نظرا لهم حدثنا .. جعفر بن مجاشع قال حدثنا إبراهيم بن اسحاق قال حدثنا عبيد الله قال حدثنا يحيى بن سعيد قال حدثنا سفيان عن أبي حصين عن أبي عبد الرحمن في قوله ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ) قال النساء عني بهذا فهذه ثلاثة أقوال .. هذا القول منها بين الخطأ لأن الذين لا يكون للنساء في كلام العرب انما يكون للنساء اللاتي واللائي وحدثنا .. جعفر بن مجاشع قال حدثنا إبراهيم بن اسحاق قال حدثنا أبو بكر قال حدثنا يحيى بن يمان قال حدثنا سفيان عن ليث عن نافع عن ابن عمر ( لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ) قال .. هي في الرجال دون النساء .. وهذا القول الرابع يستحسنه أهل النظر لأن الذين في كلام العرب للرجال وان كان يجوز أن يدخل معهم النساء فانما يقع ذلك بدليل والكلام على ظاهره غير أن في اسناده ليث بن سليم وقرئ ..على أحمد بن محمد بن الحجاج عن يحيى بن سليمان قال حدثنا عبد الرحمن بن زياد قال

__________________

(١) سورة : النور ، الآية : ٥٨

(٢) سورة : البقرة ، الآية : ٢٨٢

١٩٥

حدثنا الدراوردي عن عمرو بن أبي عمرو عن عكرمة ان رجالا من أهل العراق سألوا ابن عباس كيف ترى في هذه الآية من كتاب الله عز وجل قوله تعالى ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ) (١) لا يعمل بها أحد .. قال ابن عباس ان الله رفيق حليم رحيم بالمؤمنين يحب السترة عليهم وكان القوم ليس لهم ستور ولا حجال فربما دخل الخادم أو الولد أو اليتيمة وهو مع أهله في حال جماع فأمر الله بالاستئذان في هذه الحالات الثلاث .. [ قال أبو جعفر ] وحدثنا .. بهذا الحديث جعفر بن مجاشع قال حدثنا إبراهيم قال حدثنا ابن الصباح قال حدثنا خالد بن مخلد قال حدثنا سليمان بن بلال عن عمرو عن عكرمة عن ابن عباس نحوه وزاد فيه ثم جاء الله بالستر وبسط الرزق فاتخذ الناس الستور والحجال فرأى الناس ذلك قد كفاهم من الاستئذان الذي أمروا به .. وهذا القول الخامس مشبه حسن وليس فيه دليل على نسخ الآية ولكن على انها كانت على حال ثم زالت فان كان مثل ذلك الحال فحكمها قائم كما كان .. والقول السادس انها محكمة واجبة ثابتة على الرجال والنساء قول أكثر أهل العلم كما حدثنا .. محمد بن جعفر الأنباري قال حدثنا عبد الله بن يحيى قال حدثنا يعلى بن عبيد قال حدثنا عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء عن ابن عباس قال ثلاث آيات من القرآن قد ترك الناس العمل بهن قال عطاء حفظت اثنتين ونسيت واحدة في قول الله تعالى ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ) حتى يختم الآية .. وفي الرجل يقول للآخر أنا أكرم منك وليس أحد أكرم من أحد الا بالتقوى .. وهو قول الله تعالى ( يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ ) (٢) .. [ قال أبو جعفر ] وهذا القول بأن الآية محكمة عامة قول القاسم بن محمد وجابر بن زيد والشعبي كما قرئ .. على إبراهيم بن موسى الجوزي عن يعقوب الدورقي قال حدثنا وكيع عن سفيان عن موسى بن أبي عائشة عن الشعبي ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ) .. قال ليست منسوخة قلت ان الناس لا يعلمون بهذا قال الله المستعان.

__________________

(١) سورة : النور ، الآية : ٥٨

(٢) سورة : الحجرات ، الآية : ١٣

١٩٦

باب

ذكر الآية الرابعة

قال الله عز وجل ( لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ ) (١) الآية .. للعلماء فيها ستة أقوال .. منهم من قال في قوله ( وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ ) (١) الى آخر الآية انه منسوخ .. ومنهم من قال في الآية انها لما قال تعالى ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ ) (٢) فامتنع الناس أن يأكلوا طعاما لأحد اذا دعاهم اليه حتى أنزل الله تعالى ( وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ ) الآية واختلف العلماء الذين قالوا هذا على أربعة أقوال .. فمنهم من يقول فأبيح للرجل أن يأكل من هذه البيوت بغير اذن صاحبها .. ومنهم من قال أبيح له اذا أذن له .. ومنهم من قال كان الأعمى والأعرج والمريض لا يأكلون مع الناس لئلا يكره الناس ذلك فأزيل هذا .. ومنهم من قال كان الانسان يتوقّى أن يأكل مع الأعمى لأنه يقصر في الاكل وكذا الأعرج والمريض فأزيل ذلك .. والقول السادس ان الآية محكمة .. وممن قال هذا القول انها منسوخة من قوله ( وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ ) الى آخر الآية عبد الرحمن بن زيد قال هذا شيء قد انقطع كانوا في أول الأمر ليست على أبوابهم أغلاق على البيوت فلا يحل لأحد أن يفتحها فذهب هذا وانقطع .. [ قال أبو جعفر ] ومما يدل على حظر هذا ما حدثنا .. بكر بن سهل قال حدثنا عبد الله بن يوسف قال أنبأنا مالك عن نافع عن ابن عمر ان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال .. لا يحتلبن أحدكم ماشية أخيه الا باذنه أيحب أحدكم أن تؤتى مشربته فتكسر خزانته فينقل طعامه فانما تحرز لهم ضروع مواشيهم أطعمتهم فلا يحتلبن أحدكم ماشية أحد الا باذنه .. [ قال أبو جعفر ] فكأن في هذا الحديث حظر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذا .. والقول بانها ناسخة قول جماعة كما حدثنا .. بكر بن سهل قال حدثنا عبد الله بن صالح قال حدثني معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال .. لما أنزل الله تعالى ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ ) وان الطعام من أفضل الاموال فلا يحل لأحد منا أن يأكل عند أحد فكف الناس عن ذلك فأنزل الله تعالى بعد ذلك ( لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ ) الى ( أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ ) (١) .. قال هو الرجل يوكل الرجل بضيعته والذي رخص الله أن يأكل الطعام والتمر ويشرب اللبن فذهب أبو عبيد الى أن هذا انما هو بعد الاذن لأن الناس

__________________

(١) سورة : النور ، الآية : ٦١

(٢) سورة : النساء ، الآية : ٢٩

١٩٧

توقفوا أن يأكلوا لأحد شيئا اذا لم يكن ذلك على سبيل تجارة أو عوض وان أذن لهم صاحب الطعام فأباح الله ذلك ان أذن فيه صاحبه وتأوله غيره على أن الاذن فيه وان لم يطلق ذلك صاحبه اذا علم انه ليس ممن يمنعه واستدل على صحة هذا القول بانه ليس في الآية ذكر الاذن وانما قال جل ثناؤه و ( أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ ) لأن منزل الرجل قد يكون فيه ما ليس له وما يكون لأهله ( أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ ) (١) الى آخر الآية ولم يذكر الابن فيها فتأول هذا بعض العلماء على ان منزله ومنزل ابنه واحد فلذلك لم يذكره وعارضه بعضهم فقال هذا تحكم على كتاب الله بل الأولى في الظاهر أن لا يكون الابن مخالفا لهؤلاء وليس الاحتجاج بما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنت ومالك لأبيك يقوي هذا فان الحديث لو صح لم تكن فيه حجة إذ قد يجوز أن يكون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم علم أن مال ذلك المخاطب لأبيه .. وقد قيل ان معناه أنت لأبيك ومالك مبتدأ أي ومالك لك والقاطع لهذا التوارث من الاب والابن .. وممن قال ان الآية ناسخة لما كان محظورا عليهم من الاكل مع الأعمى .. ومن ذكر معه مقسم كما روى سفيان عن قيس بن مسلّم عن مقسم قالوا كانوا يتقون أن يأكلوا مع الأعمى والأعرج والمريض حتى أنزل الله تعالى ( لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ ) .. [ قال أبو جعفر ] فهذا القول غلط لأن الآية ( لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ ) فكيف يكون هذا ناسخا للحظر عليهم الأكل معه ولو كان هذا يكون ليس على الأكل مع الأعمى حرج على ان بعض النحويين .. قد احتال لهذا القول فقال قد تكون على بمعنى في وفي بمعنى على ويكون التقدير على هذا ( ليس في الأعمى حرج ) وهذا القول بعيد لا ينبغي أن يحمل عليه كتاب الله الا بحجة قاطعة .. وأما قول من قال كان الأعمى لا يأكل مع البصير وكذا الأعرج والمريض لئلا يلحقه منه أذى فقول يجوز ولكن أهل التأويل على غيره .. والقول السادس ان الآية محكمة وانها نزلت في شيء بعينه قول جماعة من أهل العلم ممن يقتدى بقوله .. منهم سعيد بن المسيب وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة في جماعة من أهل العلم كما حدثنا .. علي بن الحسين قال حدثنا الحسن بن محمد قال حدثنا شبابة قال حدثنا أبو أويس عن الزهري عن سعيد بن المسيب في هذه الآية ليس عليكم جناح أن تأكلوا من بيوتكم الآية نزلت في اناس كانوا اذا خرجوا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وضعوا مفاتيح بيوتهم عند أهل العلل ممن يتخلف عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند الأعمى والأعرج والمريض وعند أقاربهم فكانوا يأذنون لهم أن يأكلوا مما في بيوتهم اذا احتاجوا الى ذلك وكانوا يتّقون أن يأكلوا منها ويقولون نخشى أن لا تكون أنفسهم بذلك طيبة فأنزل الله

__________________

(١) سورة : النور ، الآية : ٦١

١٩٨

تعالى في ذلك هذه الآية فأحله لهم .. وقال عبد الله ان الناس كانوا اذا خرجوا الى الغزو دفعوا مفاتيحهم الى الزمناء وأحلوا لهم أن يأكلوا مما في بيوتهم فكانوا يفعلون ذلك ويتوقّون ويقولون انما أطلقوا لنا هذا عن غير طيب نفس فأنزل الله تعالى ( لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ ) حدثنا .. أحمد بن جعفر بن محمد السمان الأنباري بالأنبار قال حدثنا زيد بن أخرم قال حدثنا بسر بن عمر الزهراني قال حدثنا إبراهيم عن سعد عن صالح بن كيسان عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت .. كان المسلمون يوعبون في النفير مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكانوا يدفعون مفاتيحهم الى ضمنائهم ويقولون ان احتجتم فكلوا فيقولون انما أحلوه لنا من غير طيب نفس فأنزل الله تعالى ( لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً ) الى آخر الآية .. [ قال أبو جعفر ] يوعبون أي يخرجون بأجمعهم في المغازي يقال أوعب بنو فلان لبني فلان إذا خرجوا بأجمعهم ويقال بيت وعيب إذا كان واسعا يستوعب كلما جعل فيه والضمناء هم الزمناء واحدهم ضمن مثل زمن .. [ قال أبو جعفر ] وهذا القول من أجل ما روي في الآية لما فيه عن الصحابة والتابعين من التوقيف ان الآية نزلت في شيء بعينه فيكون التقدير على هذا ليس على الاعرج حرج ولا على الأعمى حرج ولا عليكم أن تأكلوا فأن تأكلوا خبر ليس ويكون هذا بعد الاذن .. وقال ابن زيد ( لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ ) في الغزو واذا كان على هذا فليست أن خبر ليس فأما ( مِنْ بُيُوتِكُمْ ) فمعناه من بيوت أنفسكم كذا ظاهره وقد تأوّل ذلك بعض أهل العلم على انه بغير اذن كما ذكرنا وروى معمر عن قتادة لا بأس أن تأكل من بيت صديقك وان لم يأذن لك وتأول هذا على انه انما يكون مباحا اذا علمت انه لا يمنعك وكان صديقا على الحقيقة الا أن الأحاديث التي ذكرناها تدل على الاذن والله أعلم.

١٩٩

سورة الفرقان

بسم الله الرحمن الرحيم

حدثنا .. يموت عن ابن عباس قال وسورة الفرقان نزلت بمكة فهي مكية .. [ قال أبو جعفر ] قال عز وجل ( وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً ) (١) .. من العلماء من قال هذا منسوخ وانما كان هذا قبل أن يؤمر المسلمون بحرب المشركين وليس سلاما من التسليم انما هو من التسلم تقول العرب سلاما أي سلما منك وهو منصوب على أحد أمرين يجوز أن يكون منصوبا بقالوا ويجوز أن يكون مصدرا وهو قول سيبويه وكلامه يدل على أن الآية عنده منسوخة .. [ قال أبو جعفر ] ولا نعلم لسيبويه كلاما في معنى الناسخ والمنسوخ الا في هذه الآية .. قال سيبويه وزعم أبو الخطاب أن مثله يعني مثل قولك الحمد لله مما ينتصب على المصدر قولك للرجل سلاما تريد تسلما منك كما قلت براءة منك أي لا أتلبس بشيء من أمرك .. قال وزعم أن أبا ربيعة كان يقول اذا لقيت فلانا فقل سلاما فسأله ففسر له معنى براءة منك قال وزعم أن هذه الآية ( وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً ) بمنزلة ذلك لأن الآية فيما زعم مكية ولم يؤمر المسلمون يومئذ أن يسلموا على المشركين ولكنه على قوله لا خير بيننا ولا شر .. [ قال أبو جعفر ] وزعم محمد بن يزيد أن سيبويه أخطأ في هذا وأساء العبارة لأنه لا معنى لقوله ولم يؤمر المسلمون أن يسلموا على المشركين وانما كان ينبغي أن يقول ولم يؤمر المسلمون يومئذ أن يحاربوا المشركين ثم أمروا بحربهم .. [ قال أبو جعفر ] كلام محمد بن يزيد يدل على أن الآية أيضا عنده منسوخة وانما جاز فيها أن تكون منسوخة لأن معناها معنى الأمر ( إذا خاطبكم الجاهلون فقولوا سلاما ) فعلى هذا يكون النسخ فيها فأما كلام سيبويه فيحتمل أن يكون معناه لم يؤمر المسلمون يومئذ أن يسلموا على المشركين ولكنهم أمروا أن يتسلموا منهم ويتبرءوا ثم نسخ ذلك بأمر الحرب .. وقد ذكرنا قوله عز وجل ( وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ ) (٢) إلى قوله ( إِلاَّ مَنْ تابَ ) .. وقول من قال هو منسوخ بقوله ( وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها ) (٣) في سورة النساء.

__________________

(١) سورة : الفرقان ، الآية : ٦٣

(٢) سورة : الفرقان ، الآية : ٦٨

(٣) سورة : النساء ، الآية : ٩٣

٢٠٠