الرحلة السرية للعقيد الروسي عبد العزيز دولتشين إلى الحجاز

عبد العزيز دولتشين

الرحلة السرية للعقيد الروسي عبد العزيز دولتشين إلى الحجاز

المؤلف:

عبد العزيز دولتشين


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: الدار العربيّة للموسوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٦

قلعة ، وبقربها سجن المدينة الذي كانت على مدخله مدافع. وبقرب بيت الوالي ، كانت تقوم ، من الجهة الشمالية ، عمارة ضخمة من طابقين (تكية) ، شبه مدمرة ، كانت تنزل فيها أغلبية الحجاج القادمين من مختلف أنحاء آسيا الوسطى ؛ ومن الجهة اليمنى كانت تقوم مرابض عسكرية لأجل بغال الركوب التي يركبها هنا الخيالة الأتراك. وإلى أبعد كانت تنتصب عمارات عسكرية مختلفة ، ثم إلى أبعد أيضا ، على سفوح الجبال ، كانت تبدو خيام بيضاء يعيش فيها الجنود الأتراك الذين يؤلفون حامية مكة. وبما أننا أقمنا على هذا النحو بين العساكر التركية وعلى مقربة من شقة الوالي ، فقد كنا مؤمّنين إلى هذا الحد أو ذاك م حيث السلامة الشخصية ، الأمر الذي لا يشغل المرتبة الخيرة في مكة ؛ فعنا جمهرة من الناس الجياع جاءت عن جهل بالوضع بدون أي وسائل للعيش ، ولذا ليس من النافل أبدا اتخاذ تدابير الحيطة والاحتراس. وفي الساحة الواقعة مقابل شقتي ، كانت تتجمع دائما قبيل المساء جموع من الحجاج العرب والهنود من عداد الذين لا مأوى لهم. في الليل كانوا ينامون في الساحة المكشوفة متمددين على التربة مباشرة ، دون أي فراش. وبما أن هذه الساحة هي في مكة المكان الوحيد الذي يمكن فيها استنشاق الهواء النقي نسبيّا ، فقد كان كثيرون من الحجاج ممن لا مأوى لهم يتوافدون إليها نهارا أيضا ؛ كانوا يسكبون الماء على أنفسهم دون أن يخلعوا ثياب الاحرام. وكان من المؤسف حقا النظر إلى هؤلاء المساكين! كانوا يرتدون ملابس فقدت لونها بسبب الوسخ والعرق ، وبالكد تصل حتى الركاب. وكان كل ما يملكونه عبارة عن صرر صغيرة جدّا ، وأباريق صغيرة من الصفيح للشاي ، ومظلات مكسرة. كانوا سودا وصفرا بحكم الطبيعة ، قذرين بشكل لا يصدق ، جياعا ، منهوكي القوى إلى أقصى حد ؛ كانوا عبارة عن كائنات تشبه حقا الأسماك المدخنة [...] ومهما كان المرء يشفق عليهم ، كان لا بدّ له من أن يأخذ منهم

٣٨١

جانب الحذر والاحتراس ، لأن بمقدور الجوع أن يدفع الإنسان إلى اقتراف أي فعل وجرم [...].

الفصل الرابع

مدينة مكة

تقع مدينة مكة المكرّمة في واد ، وتحيط بها الجبال العالية من جميع الجهات. وهي مبنية على تربة رملية حجرية وتشغل مساحة قدرها ثلاثة فرستات مربعة تقريبا. بيوتها من طابقين إلى خمسة طوابق ، وجميعها تقريبا من أحجار جبلية بصورة قطع غير صحيحة الأضلاع ، غير منحوتة ، ومصفوفة ومرصوصة جدرانا بالاسمنت. السقوف وكذلك الأرضيات في الغرف هي أيضا من الأسمنت. والبيوت جميعها تقريبا مكيفة لأجل التأجير ، وحقيرة جدّا من حيث المنظر والترتيب ؛ والبيوت تسبه من حيث منظرها الخارجي ناهيك عن منظر الغرف الداخلي وعن أحوالها الصحية ، ضربا من قصور قديمة كبيرة متروكة بدو تصليح ، وبدون أية عناية على العموم. وواضح أن أصحابها ينظرون إليها كمصدر للدخل ؛ وبما أن تدفق الحجاج دوري ودائم ، وبما أن دخل أصحاب البيوت مضمون بالتالي ، فهي لا يهتمون لا بمنظر البيوت الخارجي ولا بالأسباب الداخلية للراحة والرفاه [...].

التجار في مكة هم على الأغلب من السوريين والفرس وسكان دمشق والمسلمين الهنود. والسوق يحفل بشتى بضاءع المصانع والمعامل الأوروبية ؛ وهناك أيضا كثرة من الآنية النحاسية الهندية الصنع. والخردوات هي على الأغلب من إنتاج المصانع الإنجليزية ، عنينا بها الخرز والاساور والخواتم والحلق والمطرازات والاشرطة والجوارب والقصب واللآلئ الاصطناعية والقناديل والسلطانيات والفناجين والكؤوس وغير ذلك من الآنية الزجاجية ، والآنية من البورسلين

٣٨٢

والخزف ، وكذلك الآنية المعدنية والمطلية بالميناء. وهناك وفرة من الدهان والعطور والصابون وخلافه وكذلك من الأحذية من أحدث موضة ، فضلا عن الكثير من شتى الحلويات والمقبلات : مختلف المخللات ، والمربيات ، والسردين ، ومختلف السكاكر والحلويات ؛ ومختلف الأجهزة وآلات الخياطة وآلات صنع الثلج ، وخلافها. وجميع هذه البضائع ينقلونها إلى الحجاز ، بالطبع ، على السفن الأوروبية عبر مرفأ جدّة. الشرف والمجد للإنجليز على نشاطهم وهمتهم ، والأهم ، على مهارتهم في تعويد الشعوب شبه البربرية على منتوجاتهم! ومن بين منتوجات المصانع الروسية ، لا يقدّر السكان المحليون غير الاقفال التي يجلبها أحيانا بعض الحجاج ، وببضع العشرات فقط. وهذا كل ما يأتي إلى هنا من روسيا ...

ونظرا لطبيعة الأرض الصحراوية المحيطة بمدينة مكة ، ولنمط معيشة سكان البلد الترحلية ، يستجلبون إلى مكة جميع المنتوجات الحيوية من بلدان أخرى ومدن أخرى ؛ فإن الفواكه الطازجة ، مثلا ، والعنب ، والمشمش والدراق والعنبيات وخلافها يستجلبونها من الطائف ؛ والتمر من المدينة المنورة ؛ ومختلف الخضراوات والشمام والبطيخ وخلافها من محلة وادي فاطمة ؛ ومختلف الحبوب وكذلك البطاطا والملفوف جزئيّا من القاهرة ، وأغلها من بومباي. ولطحن الحبوب المستجلبة توجد في مكة مطاحن ، تصاميمها في منتهى البساطة ، وتحركها الحمير والغال. ولا وجود في المدينة بالذات ولا في ضواحيها لأية بساتين ومباقل وأحواض للخضراوات ولا اية مزروعات على العموم ، إذ أن كل هذا رهن قبل كل شيء بقلة الماء لأجل الري. وعدا هذا ، لا ينبت في البلد غير النخيل والنباتات البرية أي الأعشاب والشجيرات الشوكية [...].

وفي مكة توجد لأجل الحجاج الفقراء على اختلاف قومياتهم

٣٨٣

مساكن مجانية تسمة «التكيات» ، وهي بصورة بيوت. وهذه التكيات بناها في أزمان مختلفة المسلمون الأغنياء والشعوب التي تدين بالإسلام وجعلوها وقفا على الحجاج. وهذه التكيات يشرف عليها أفراد خصوصيون. منظرها الخارجي والداخلي غير مرض إطلاقا ، مثله مثل أغلبية البيوت في المدينة على العموم. والأجانب ، سواء في مكة أم في عموم الحجاز ، لا يملكون الحق ، بموجب القانون ، في اقتناء الأموال غير المنقولة ؛ والكفار ، أي غير المسلمين ، لا يسمحون لهم لا بدخول مكة ولا بدخول المدينة المنورة [...] وهنا يملك العرب كل شيء ؛ ونظرا لبربريتهم وغياب المزاحمة ، قلما يحرصون على حسن بناء العمارات السكنية وصحة صيانتها ؛ أما الحكومة التركية ، فإنها ، بسبب الضعف واختلال المالية ، لا تتخذ أية تدابير ، لا لتوفير أسباب الراحة والوثار للحجاج ، ولا علة العموم لتحسين معيشة السكان المحليين. والاستثناء الوحيد هو المؤسسات الحكومية التالية : محطة البريد والبرق ، التي تستقبل وترسل الرسائل والبرقيات إلى شتى أقطار العالم ؛ ولا تقبل غير الرسائل البسيطة ، غير المضمونة ؛ والبريد في جدّة وسار مدن الحجاز ينقله مكارون خصوصيون على الحمير[...] ومن هذا تبين أن المواصلات البريدية لا تتميز بحسن التنظيم ولا بالسرعة [...] وهناك صيدليتان أحداهما حكومية ، والثانية خاصة. وهناك مستشفى نهبه العرب ... وهذا كل شيء.

ومن حيث تجهيز المدينة بالمرافق وتحسين معيشة السكان ، قلما تحقق هنا على العموم مثلها في ذلك مثل سائر المدن الآسيوية البحتة. وهنا لا وجود البتة للحوذيين ، ولا توجد عربات إلا عند والي مكة وشريف مكة. ولا وجود البتة للخيل. والسفر في المدينة يجري ركوبا علي الحمير ؛ والخيالة التركية ، كما سبق أن قلت ، تركب البغال. أما لماذا لا وجود للخيل هنا ، في أهم مدن البلاد التي تشتهر بخيلها ، فلم

٣٨٤

أستطع أن أفهم السبب ، ولكن بوسعي أن اؤكد أن الحصان في مكة ظاهرة نادرة جدّا. كذلك لا وجود البتة للإنارة في الليالي في شوارع المدينة. وفي البيوت يلجأون إلى الإنارة بالكاز بواسطة القناديل الإنجليزية والكاز الأميركي.

يبلغ عدد السكان الدائمين في مكة زهاء ثلاثين ألف نسمة. والرياش في البيوت بسيطة جدّا على العموم. ولا وجود تقريبا للمفروشات في الغرف ؛ والعرب بمعظمهم يجلسون ويتمددون على الأرضية ، مثلهم مثل جميع الشعوب الشرقية. ولا يملكون البتة تقريبا اقتصادا منزليّا إذ يشترون من السوف جميع المؤن. ولهذا السبب توجد في المدينة كثرة كثيرة من المقاهي ودكاكين المأكولات والمخابز.

وفي مكة يعيش عدد كبير نسبيّا من مواطنينا من آسيا الوسطى. وهم يمارسون مختلف الحرف ولا يفكرون في العودة إلى الوطن.

وعلى العموم يعيش سكان المدينة بدون ملل كبير. ففي الأعياد ، وفي أثناء صيام رمضان ، وعيد الأضحى ، وغير ذلك من المناسبات ، تقام نزهات واحتفالات شعبية كبيرة مرفقة بالاراجيح ورقصات الرجال من سرادق خاصة. وأثناء الاحتفالات الشعبية تقام المقاهي ودكاكين واكشاك المأكولات وتباع شتى الخردوات وشتى النوافه واللعبات لأجل الأطفال ؛ خلاصة القول انه يقام بازار عيدي. وفي هذه النزهات والاحتفالات تتجمع على الأغلب النساء والاولاد في ألبسة مبرقشة ولامعة. وعلة الخصوص تنذهل العين غير المعتادة من ألبسة الأولاد الغريبة من الديباج والشاش. وهم مزينون من الرأس حتى القدمين بشتى العقود ، والنقود المعدنية الفضية ، ومختلف التفائه. وهذه ضرب من حفلات راقصة مقنعة للأولاد مقامة في الهواء الطلق ... صحيح أن النساء يحجبن وجوههن ، ولكنهن يتنزهن بكل حرية ، ويتنادين بأصوات مدوية في الجموع ، ويتحادثن ، ويضحكن. ووحدهن حصرا يركبن المراجيح.

٣٨٥

وعادة يركبن عليها أزواجا ، ويغنين الأغاني ، ويقرعن الدفوف. ولا يمنعهن أحد من ذلك ، ولا يندد بهن أحد ، وليس هذا وحسب ، بل بالعكس ، فإن الرجال يقفون بوقار ورزانة إلى جانب ويستمعون إلى أغانيهن وقرعهن على الدفوف (وهنا لا توجد عادة أية موسيقى أخرى). وعفو الخاطر دهشت لهذه الحرية التي تتمتع بها النساء في مدينة مكة وعموما في الحجاز. وفي النزهات والاحتفالات الشعبية يتجمع أناس من عموم المدينة ؛ وفي عدادهم ضباط وموظفون وجنود. وكذلك يأتي بالطبع الحجاج الوافدون من شتى أنحاء الدنيا ، والتجار ؛ وأيضا القضاة والأئمة والرؤساءح وخلاصة القول ، ممثلو جميع طبقات مجتمع المدينة وممثلو جميع الأقوام والشعوب الإسلامية في الكرة الأرضية. وجموع الرجال تسلك وتتصرف ببالغ التواضع واللياقة كأنما لا ترحظ البتة النساء اللواتي يمرحن. وعادة يطلقون الصواريخ النارية في الأمسيات ، ويشعلون النيران البنغالية ، الرخصية جدّا. ثمن الوحدة من ٥ إلى ١٠ كوبيكات. وأحيانا يصنعها العرب أنفسهم ؛ اما أكبر كمية منها ، فيستجلبها التجار الهنود من بومباي. وعلى العموم تكون الأمسيات أثناء النزهات الشعبية مرحة جدّا. تطقطق وتنفقع الصواريخ ، تشتعل النيران البنغالية المتنوعة الألوان ، الأخيرة ، حدّ السلطان التركي تماما من سلطة شرفاء مكة. فهم مجرد رؤساء دينيين ، ولا يملكون أية سلطة مدنية ، ويخضعون للمحافظ (الوالي) التركي ويعينهم السلطان التركي في الوظيفة بناء على توصية من الوالي.

في سنة ١٨٩٥ كان عون الرفيق شريفا في مكة. وكان يناهز الستين من العمر ، وكان له مقر دائم في مدينة الطائف ـ الواقعة على بعد ٧٠ فرستا تقريبا من مكة باتجاه الشرق ، وراء عرفات.

والشريف يرافقه عادة خفر تركي من ٥٠ جنديّا برئاسة ضابطين يعتبران ياوري الشريف ويرتديان حمائل ذات أطراف معدنية مثل ياوري

٣٨٦

والي مكة. ويقال أن الشريف يعيل خفره من الجنود والياورين من مداخيله غير القليلة. وعادة يلبي بدلة آسيوية طويلة الأطراف ، ولكن له لأجل المناسبات الاحتفالية زيا خاصا بصورة معظف رسمي يزور به ، مثلا ، الشخصيات الأجنبية الرفيعة المقام. وهو يحمل عبر كتفه شريطا من نوع شريط وسام القديس اندري في روسيا وكثرة من الأوسمة والنجوم المرصعة بأحجار الألماس واللآلئ.

وعادة يخرج الشريف من بيته في عربة تجرها البغال. ومما له دلالته انه حين يرغب في زيارة أحد ما ، يرسل سلفا إلى الأمام قبل وصوله ببعض دقائق بضعة جنود مسلحين مع صابط. وهؤلاء يقفون في الغرفة المعدة لأجل استقبال الشريف ، وحين يصل ، يقدمون له التحية : يقدمون السلاح ، ويقفون هكذا أمام الشريف ورب الدار طالما تستمر الزيارة. وليس من النادر في هذه الزيارات أن يحملوا مسبقا إلى البيت الذي يمضي إليه نارجيلته ، كما تفعل النساء ، الأمر الذي سبق أن تحدثنا عنه [...].

تعقد المحكمة جلساتها علنا. ونظام وشكل النظر في الدعاوي في غرف المحكمة بسيطان جدّا ، غير معقدين ، كما أن الوضع كله بسيط أيضا. كل شيء يجري ببالغ الهدوء وبكل لياقة. وعند النظر في القضايا والفصل فيها يسترشد القضاة بكتب الشريعة بل بأنظمة خاصة وضعتها الحكومة التركية على أساس أحكام الشريعة. وهذه الأنظمة تسمى «الدستور» ومكتوبة بشكل مواد منفردة ، مثل قوانينا الروسية ، أو على العموم مثل المجموعات الأوروبية من القوانين. ومواد «الدستور» تتغير وتتكامل وفقا لمقتضيات الحياة العملية وروح العصر ولا تشكل بالتالي أحكاما جامدة لا تتغير مثل الشريعة (١). والمدعي أو المدعي عليه ،

__________________

(*) أصول وضع الدستور هي التالية. توجد في القسطنطينية لجنة خاصة من الحقوقيين ـ

٣٨٧

اللذان لا يرضيان على قرار القاضي الوحيد الواحد ، يملكان الحق في استئناف الدعوى إلى محكمة أعلى تسمى «حكومة» تقوم بوظيفتها لدى الوالي ، كما سبق أن قلنا.

والحجاز على العموم بلد لا يميل إلى التقاضي. ومما له دلالته أن مواطنينا من تركستان يشغلون اهتمام المحاكم أكثر من جميع السكان الآخرين. ومن الجلي أنهم يحملون إلى هذا البلد ولعهم بالمجادلات وحبهم الحار للتقاضي بدافع من أمور تافهة في أغلب الأحيان. وليس عبثا يقال إن العادة طبيعة ثانية.

[...] يمكن تقسيم جميع الحجاج إلى أربع فئات : الفعليين ، الاختصاصيين ، التجار ، المحتالين. الحجاج الفعليون أو الحقيقيون يذهبون إلى مكة بالدافع الديني فقط ، كما يذهب المسيحيون إلى القدس والبوذيون إلى التيبت ، إلى لهاسا ، وخلافهم. وهم مشغولون حصرا بأداء فريضة الحج فقط أي بأداء الشعائر والوجبات الدينية ؛ وبعد ذلك ، يعودون فورا إلى الوطن. وهؤلاء هم بالطبع خيرة الحجاج. الحجاج الاختصاصيون يقومون بالحج بالنيابة عن الآخرين ، الأمر الذي تجيزه الشريعة ؛ وبما أنهم أناس ذوو خبرة في هذا المجال فإنهم يقومون بدور الأدلة لأجل المبتدئين ؛ ويسمونهم «البدلاء» ، أي أنهم يقومون بالحج

__________________

ـ المسلمين. وعلى أساس أحكام الشريعة ، يضع هؤلاء محموعة الأحكام القانونية في فصل معين من الحقوق ، عارصينه في شكل عقائدي لا وجود له إطلاقا في كتب الشريعة. ومشروع القانون الموضوع هنا يطبعونه ويرسلونه إلى المحافظات والقائمقامات في تركيا حيث توجد لجان ثانوية ، اقليمية. وهذه تدرس المشروع المرسل لها وتعيده مع إعتراضاتها وملاحاظاتها. وتدرس لجنة العاصمة هذه الاعتراضات والملاحظات ومشروعها هي نفسها وتضع نهائيا قانونا يصبح ساري المفعول ما أن يصادق عليه السلطان. هيئة التحرير [...] (أي هيئة تحرير المجلة التي نشرت فيها هذه الذكريات. الناشر).

٣٨٨

بالنيابة عن الآخرين ، بدلا عنهم ، وليس بدون مكافأة بالطبع. و «بدلاؤنا» يتنقلون على الدوام بين روسيا ومكة محولين الحج إلى ضرب من حرفة. وهذه الحرفة يتعاطاها على الأغلب الملّات والائمة وخلافهم ، أي رجال الدين المسلمون. وعلى العموم قلما يسافرون للحج من أجل أنفسهم بالذات ، بل يذهبون في أغلب الأحوال بدور البدلاء. وهذه الحرفة ـ البدالة ـ متطورة بخاصة بين تترنا رغم أنها بدأت في الآونة الأخيرة تتطور بين سكان السهب القرغيز أيضا. الباهرة ، منيرة الجموع المبرقشة ، المنتعشة ، الصاخبة ، وألبسة الأولاد الغريبة. وفي كل مكان يتعالى قرع الدفوف وتنداح أغاني النساء ... الضجة ، التبرقش ، الانتعاش. وكل شيء أصيل ، فريد إلى أقصى حد [...].

ولكن لا بدّ من الإشارة إلى أن اخلاق النساء في مكة لا تتميز بصرامة خاصة. ومفهوم للجميع بالطبع أن الحال لا يمكن أن يكون على نحو آخر في مدينة يتجمع فيها العديد من الرجال ممن لا نساء ولا عائلات لهم. هناك رأي شائع مفاده أن بوسع الحجاج هنا أن يتزوجوا لمدد مختلفة ، من بضعة أيام حتى بضعة أشهر ، ولكني لا أستطيع أن أؤكد هذا الرأي ؛ بيد انه معروف أن الطلب يستتبع في كل مكان العرض ... وفي المدينة عدد كبير من العبدات ؛ وفي جوار المدينة أوكار من أدنى واحقر المستويات ...

وفي معرض الكلام عن نساء مكة ، لا أستطيع امتناعا عن الإشارة عادة من عاداتهن الفريدة. جميعهن يدخنّ ؛ وإذا أردن الذهاب في زيارة ، فإنهن يرسلن سلفا نارجيلاتهن ؛ وحين يصلن ، يجلسن ، ويدخنّ ويثرثرن مع ربة البيت ، كما يجري في كل مكان وعند جميع الشعوب. وعموما يشغل تدخين النارجيلة في الحجاز دورا مماثلا تقريبا للدور الذي يشغله عندنا السماور واحتساء الشاي أي القرى وتمضية الوقت [...] ولهذا يستعمل الجميع هنا التبغ ، وغالبا ما لا يجده الراغب في الدكاكين.

٣٨٩

[...] إن ضباط الحامية التركية المرابطة في مكة ، لا يتقيدون إطلاقا ، على ما يبدو ، بوحدة اللباس العسكري ولون قماشه. جميعهم يرتدون ما تقع عليه ايديهم ، جميعهم في ألبسة متنوعة الألوان ، رغم أنهم دائما يحملون السلاح : سيفا ذا حد واحد او ذا حدين من الطراز الإنجليزي في حمائل فضية وذهبية. وعلى الأكتاف يحملون كتافات من الجوخ مع نجيمات معدنية. والجنود يرتدون قمصانا بيضاء. كتافاتهم من الجوخ دون اية علائم. والانضباط والهيئة العسكرية غير ملحوظين بينهم.

وفي معرض الكلام عن الجنود الاتراك ، لا يسعني لزوم الصمت عن تمرداتهم غير النادرة ضد رؤسائهم. تنشب التمردات بصورة رئيسية لسببين : لعدم تقاضي الراتب في الموعد المعين ، ولعدم تسريح من خدموا المدة الشرعية ولابقائهم في الخدمة بصورة غير صحيحة. وأثناء الفتنة ، لا يندر أن يحتل الجنود بيت الله بقوة السلاح ، وأن ينهبوا سكان المدينة وضواحيها وينصرفوا إلى اقتراف شتى الموبقات. ولتهدئتهم ، يلجأون عادة إلى محاولات الاقناع ، المر الذي يشارك فيه ، عدا الضباط ، رجال الدين ، مؤثرين في شعور الجنود الديني. والجنود المرابطون هنا هم على العموم شعب مستهتر جدّا ، وذلك ، طبعا ، بذنب من رؤسائهم الذين لين دائما يتصرفون بصورة عادلة وقانونية.

في سنة ١٨٩٠ ، تمردت حامية المدينة المنورة لأنهم لم يسرحوا الجنود من الخدمة بعد إنتهائها. رموا أسلحتهم وراحوا إلى حوش قبر النبي وعاشوا هناك أكثر من أسبوع إلى أن أفلح الرؤساء في اقناعهم وتهدئتهم. وفي هذا الأسبوع حولوا حوش قبر النبي إلى ثكنة ولم يسمحوا لأحد بالأقتراب والصلاة ؛ ونهبوا السوق ودكاكين المأكولات لتامين المؤونة لأنفسهم. وقد نشب تمرد مماثل تماما في مدينة جدّة سنة ١٨٩١. واحتل الجنود جامعا كبيرا في المدينة ونهبوا المأكولات أيضا في السوق.

٣٩٠

وفي مكة توجد مطبعة حكومية لا تطبع غير الكتب الدينية الفحوي ، وكذلك صورا بمناظر مكة والمدينة المنورة وبيت الله وخلافها. والطبع كله يكلف رخيصا جدّا ؛ فلا يأخذون سوى ثمن الورق والقليل لقاء العمل. وعند بوابتي بيت الله الرئيسيتين توجد بازارات للكتب. والكتب والرسوم التي يشتريها الحجاج يوزعونها في شتى أقطار المعمورة. وعندنا ، في آسيا الوسطى ، نجد منها الكثير ، كما هو معلوم ، وذلك في الجوامع وفي منازل السكان[...].

الفصل الخامس (١)

شريف مكة. المحكمة.

الحجاج والأدلة

شريف مكة ، إنما هو الشخصية الدينية العليا في عموم العالم الإسلامي. ومن حيث أصله سليلا ووريثا مباشرا للنبي محمد (صلى‌الله‌عليه‌وسلم). وفي الأزمنة الغابرة لعب الشرفاء دور الأمراء أي دور الحكام المستقلين ، الأعلين. أما في الوقت الحاضر ، فإن هذا اللقب قد بقي لهم ولكنه لا يتسم بأية أهمية عملية. واللقب يكتب على الورق فقط. وفي السنوات العشرين.

الحجاج التجار يتعاطون على الأغلب التجارة ، وينقلون البضائع من مدينة إلى مدينة ويقيمون لمدة غير معينة حيث يرون فائدة لهم. ولا يهمهم البتة حقا وفعلا سواء وصلوا قبل زمن الحج أو تأخروا عنه. وبالنحو نفسه يعودون إلى ديارهم. وغالبا ما يتزوجون في الطريق ويبقون للإقامة في تلك المدن من الجزيرة العربية أو من تركيا على العموم حيث

__________________

(*) يحتوي الفصل الخامس وصفا لبيت الله نغفله هنا لأنه مماثل لما ورد في المواد الأخرى المنشورة في هذا الكتاب. الناشر.

٣٩١

وجدوا مأوى لأنفسهم. الحجاج المحتالون اختاروا لأنفسهم حرفة الابتزاز والنهب من السذج من اخوانهم في الإيمان وبخاصة ممن جاؤوا من مختلف الأماكن النائية ، الموحشة. وهم يستقبلون هؤلاء الحجاج ويرافقونهم في طريق سفرهم ، ويحرصون على سلامتهم ومصالحهم ، ويتظاهرون بأنهم أطيب الرفاق وأكثرهم مودة وحسن نية ، وبخاصة على متن البواخر. وهؤلاء المحتالون يدرسون طبع رفيق الطريق ويعرفون قدر أمواله ؛ وحين تسنح أول فرصة ينهبون الضحية الساذجة وغالبا ما يتركونها في يد القضاء والقدر بين أناس غرباء ، بعيدا عن الوطن. وهذه الحرفة تمارسها النساء أيضا [...].

في خاتمة هذا الحديث ، أرى من الضروري أن اتحفظ. فعن كل ما رأيته أحكي كشاهد عيان ، دون أن أضيف شيئا ، وحتى مقللا نوعا ما ، لكي لا أمسّ بنحو ما ، عن غير قصد ، المسلمين في مشاعرهم الدينية ، إذ أنهم ، بعد العودة من الحج ، يعتبرون عادة من واجبهم أن يرووا مختلف المعجزات [...] وأنا أحكي عما رأيته وسمعته ، متقيدا بأكبر قدر ممكن من الدقة (١).

__________________

(*) مكتبة اكاديمة العلوم في الاتحاد السوفييتي. ٢٣٠. النص باللغة الروسية نشرته في طشقند مجلة «بشير آسيا الوسطى» الشهرية (١٨٩٦ ، تشرين الثاني ـ نوفمبر ، ص ٦١ ـ ٨١ ؛ كانون الأول ـ ديسمبر ، ص ٤٥ ـ ٨٣).

٣٩٢

الحج

(من وجهة نظر روسية)

ـ ١ ـ

يوجد في روسيا أكثر من ١٤ مليونا من المسلمين ، أي اكثر من ١٠% من عموم السكان.

على الصعيد الاقليمي يشغل المسلمون مناطق مشارف الأورال ومناطق مشارف القفقاس ، والسهوب القرغيزية ، والمناطق المضمومة إلى روسيا في القرن الماضي من آسيا الوسطى. وفي معرض الكلام عن توزع العنصر الإسلامي على الصعيد الاقليمي ، يجب إلا يغيب عن البال أن مسلمي آسيا الوسطى من رعايا روسيا هم على صلة وثيقة من القربى مع مسلمي بخاى وخوى شبه المستقلتين.

وفي سياق تعميم الظروف الاقليمية والاتنوغرافية لا بد أن نرى انه يتعين على الحكومة الروسية ، فيما يتعلق بالحج ، أن تأخذ بالحسبان أن فئة المسلمين تتالف من ٢٠٠٠٠٠٠٠ شخص.

ـ ٢ ـ

فيما يتعلق بالحج ينقسم جميع هؤلاء العشرين مليونا من المسلمين إلى جماعتين دينيتين رئيسيتين : إلى معتنقي مذهب السنّة ومعتنقي مذهب

٣٩٣

الشيعة. من الناحية العددية ، يربو عدد السنيين في الممتلكات الروسية بصورة ساحقة على عدد الشيعيين.

يتجمع الشيعة فيما وراء القفقاس والسنيون الذين يشغلون مساحات شاسعة متواصلة في آسيا يظلون في روسيا الأوروبية منغرسين جزئيّا في وسط السكان الروس الذين يؤلفون هنا الأغلبية الساحقة ، ومستقرين جزئيّا في مناطق سلسلة جبال القفقاس. والقرم يستكمل مجموعة مسلمينا الجنوبيين.

ـ ٣ ـ

كل مسلم ملزم بموجب تعاليم محمد باداء فريضة الحج ولو مرة واحدة في العمر ، بصرف النظر عن اية عقبات وحوائل. والقوى القاهرة وحدها هي التي تسمح للمسلم بالاستعاضة عن الحج شخصيا بتكليف شخص آخر للقيام به بالنيابة عنه ، أو بارسال التبرعات في صالح الأماكن المقدسة.

وهذه الفريضة يجب أداءها ـ بموجب مذهب السنيين ـ [ص ٧] قرب الكعبة ، في مكة ، أي قرب حرم بني ، حسب أساطير الجزيرة العربية ، في مكان المعبد الأولي الذي بناه إبراهيم.

تتلخص شعائر العيد في الطواف حول الكعبة ، في السير ـ والأصح ، في السعي بين صخرة الصفا وصخرة المرو ، في السير من مكة إلى جبل عرفات وفي موسم رجم الشيطانم في وادي منى على ما يبدو. وهنا أيضا يقدمون الأضاحي فيذبحون عددا كبيرا من المواشي.

في معرض الكلام عن الحج ، يجدر التذكير بأن محمد منع الذي يقوم بالحج الكثير من الأمور العادية كحلق شعر الرأس أو الصيد مثلا ، ولكنه لا يسمح وحسب ، بل يبارك أيضا التجارة في زمن الحج وهذا «السعي وراء هبات الرب» محبب جدّا جدّا إلى قلب كل مسلم.

٣٩٤

ـ ٤ ـ

إن المسلمين السنيين في روسيا الأوروبية والقفقاس والقرم لا يواجهون المصاعب في الحج عبر القسطنطينية التي يمضون إليها عبر مرافئ البحر [ظهر ص ٧] الأسود والتي ينطلقون منها بطريق القوافل إلى الجزيرة العربية. أما المسلمون الشيعيون ، فإنهم يمضون إلى اماكنهم المقدسة بطريق القوافل على الأغلب عبر الحدود الايرانية ، رغم أن المسلمين الشيعيين من مشارف قزوين قد يركبون البواخر ، أغلب الظن ، حتى انزلي ورشت.

أما أغلبية السنيين في روسيا الآسيوية وبخاصة في مناطق آسيا الوسطى ، وكذلك مجمل سكان بخارى وخوى ، فمن المشكوك فيه أن يكون من الممكن اجتذاب هذه المجموعة الهائلة بالتدابير الادارية أو غيرها من التدابير إلى مرافئ البحر الأسود. سيكون من الممكن بالطبع توجيه مسلمي آسيا الوسطى أيضا بالقوة عبر باطوم إلى القسطنطينية ، ولكن هذا التدبير سيكون ضارا مباشرة من جميع النواحي ، وضارا في المقام الأول بمصالح السياسة الروسية.

ـ ٥ ـ

إن سفر المسلمين السنيين عبر القسطنطينية غير مرغوب فيه إطلاقا ، وإذا كان لا بدّ من احتماله ، فيقدر [ص ٨] الضرورة المحتمة فقط ، وليس البتة في أي حال من الأحوال بوصفه امرا نافعا أو مرغوبا فيه.

إن الحج هو ظاهرة ذات طابع ديني سياسي. وبفضل الحج ينتعش المسلمون باستمرار. لا في عقائدهم وحسب ، بل أيضا في عدائهم لغير المؤمنين أي لعموم العالم الذي لا يعتنق تعاليم القرآن. وفي هذا المجال يأتي المسيحيون واليهود أعلى نوعا ما من الوثنيين ولكنهم مع

٣٩٥

ذلك أعداء الله ، الله عدو لهم ، وهم أصدقاء الشيطان ، والحرب ضدهم عم يرضي الله الذي لا يقبل حتى صلوات المؤمنين من أجل خلاص الكفار.

إن من يؤدي فريضة الحج يبلغ بالتالي وضع القداسة ، وإذا ما حالفه الحظ وحمل إلى وطنه شعرة كانت في لحية النبي (لا يندر أن تكون ليفا من جوز الهند) ، فإن الحاج يلبس باعتزاز عمامته الخضراء ، ويرشد الشعب بالهام ، ويأخذ منه جزية لا بأس بها.

ولهذا لا يجوز البتة النظر إلى الحج من وجهة نظر واحدة ما ، مثلا ، من وجهة النظر الصحية ، بل يجب النظر إليه من وجهة مصلحة عموم الدولة ، التي تصغر حيالها وجهة النظر الصحية [ظهر ص ٨] إلى أدنى حد. ولهذا ، إذا كان من المفيد من وجهة النظر الصحية توجيه كل جمهرة المسلمين إلى نقطتين أو ثلاث ، فليس منالمفيد إطلاقا في مصلحة السياسة تمرير هذه الجمهرة عبر بوابة استنبول.

إن القسطنطينية تنتظر بفارغ الصبر دافعي الجزية هؤلاء ، لا عند سفرهم إلى الجزيرة العربية وحسب ، بل أيضا عند العودة ، حين يستطيع العلماء أن يستميلوا ويحولوا عقول السنيين البسيطة حسب مقياسهم هم بالذات. إن القسطنطينية بالنسبة للحاج إنما هي أكاديمية إضافية لنزعة الجامعة الإسلامية. فإن الحاج الذي استماله علماء القسطنطينية إنما يعود إلى موطنه مسلما ولد من جديد ، تغير تماما. فهو يتحول من إنسان بسيط ، شريف ، وحتى من تاجر طيب إلى بروفسور ، أستاذ ، يدعو إلى أفكار متسامية إلى حد أن السنة الجمع تنعقد من سماعها ، وبما أن الجمع لا يفهم ما لا يفهم الواعظ أيضا ، فإنه ينظر عفو الخاطر إلى استنبول بوصفها مركز الإيمان الصحيح الذي سينتقل إليه عاجلا أم آجلا صولجان الملكية المطلقة العالمية.

٣٩٦

ـ ٦ ـ

إن توجيه جميع مسلمي آسيا الوسطى الراغبين في الحج ، بالتدابير الادارية أو حتى بالتأثير في الأمير والخان (١) ، [ص ٩] إلى مرافئ البحر الأسود يقابله الاستياء في وسط اعتاد على طرق القوافل المنطلقة عبر افغانستان وبومباي. وفي هذه السبل يسعى الحجاج وراء «هبات الله» أي أنهم يتاجرون ، الأمر الذي لا يستطيعون القيام به في سبل السفر البخارية.

لا ريب في أن بمقدور التأثير الروسي أن يجبر الأمير والخان على اصدار الأوامر بتوجيه حج السكان الخاضعين لسلطتهما إلى حيث يشآن ، وأن إلى مرافئ البحر الأسود أيضا ، ولكن هل هذا ضروري لأجل سياستنا في آسيا الوسطى؟ كلا. يجب أن يبقى الأمير والخان في وسط السكان الخاضعين لسلطتهما مسلمين طيبين ، صادقي الإيمان ، لا يمسان العادات والأعراف الدينية من أي ناحية. وإذا كان بوسع الحاكم المسلم أن يقطع الرؤوس بلا حسيب ولا رقيب ، فإنه يمعن الفكر مرارا وتكرارا قبل أن يخالف القواعد الدينية والشعائر والمراسم الدينية.

قد لا تكون تذمر سكان بخارى أو سكان خوى هاما بحد ذاته ، ولكن نحن الروس تهمنا صداقة الشعوب الإسلامية الحدودية واخلاص حكامها سواء بسواء. [ظهر ص ٩] وفضلا عن ذلك ، نرى أن ذلك القسم من السكان الذي يزدري شتى المخاطر حيال قداسة الحج يمكنه أن يزدري أيضا حتى الأوامر الصارمة للغاية ، بل ويقوم بالحج خفية عبر الممتلكات الآسيوية. وبحكم هذه الاعتبارات اعتقد انه من الأفضل الامتناع كليا عن أغلاق سبل القوافل من آسيا الوسطى ، والاكتفاء بانشاء مراكز حدودية لأجل إجراء فحص طبي للحجاج العائدين من الحج.

__________________

(*) المقصود أمير بخاى وخان هوى. المعرب.

٣٩٧

ـ ٧ ـ

ينبغي إلّا يلقى الحج أية حماية من جانب أصحاب السلطة ، ولهذا يبدو المشروع القائل بواجب المحافظين الاهتمام بتأمين المأكولات وبتسهيلات السفر أمرا غير مفهوم اطلاقا. وهل هناك شيء من هذا القبيل بالنسبة للحجاج المسيحيين؟ كلا ، على ما يبدو.

لنتذكر أن التنطيمات المضبوطة كفاية ليس دائما تتجاوب مع مصالح السياسة السائدة. فإن التنظيم المضبوط للشؤون الدينية الإسلامية في اورنبورغ وقازان قد اسفر عن اعتناق الملايين من السكان القرغيز للدين الإسلامي.

[ص ١٠] ولماذا هذا الجهد الجهيد لكي يصل المسلمون الحجاج إلى اكاديمية التعصب العمى بصورة مريحة جدّا؟ فإذا كان ذلك لأهداف محمودة ، مفعمة بالروح الإنسانية ، فمن الضروري بذلك القدر نفسه من الجهد او حتى قدرا أكبر من صالح الحجاج المسيحيين. أما إذا كانت هذه التدابير صحية بوجه الحصر ، فينبغي أن تكتفي بالتوصل إلى هدف واحد فقط هو أن لا يجلب الحجاج المسلمون معهم أمراضا معدية من الجزيرة العربية أو من بلاد ما بين النهرين.

إن نية التأكيد من سلامة صحة المسلمين عند اجتياز الحدود في الطريق إلى الأماكن المقدسة تتجاوز حتى حد المرغوب فيه من وجهة النظر الإسلامية. فإن المسلمين الذين يموتون في أثناء الحج يتطهرون بالتالي من كل ارضي ، من كل دنس. ولهذا لن يقابل المسلمون الحرص على معالجة المرضى (إذا لم يكونوا مصابين بأمراض معدية) بالتعاطف.

ـ ٨ ـ

إن الأنظمة [ظهر ص ١٠] المضبوطة لا بعد من أن تبلغ دائما وعلى

٣٩٨

العموم الأهداف المنشودة. أما التنظيم المصمم في القضية موضوع البحث ، فإنه بتمادي إلى حد أن العمد (الشيوخ) والجاويشية سيقتربون من وضع الموظف الحكوممي حتى مع الحق في المكافآت.

الجاويشية ضارون على العموم لأنهم «يدعون الحاح» إلى الأماكن المقدسة مبتزين من مهنتهك الكثير من المنافع. والجاويش المنتخب طوعا واختيارا يحظى بقسط من الاحترام من جانب جماعة الحجاج السائة ووراءه ، ولكن الجاويش المعيّن من فوق لن يحظى بهذا الأحترام. وإذا خطر في باله عند اجتياز الحدود أن يطبق أنظمة اوحوا له بها أو أمروه بتطبيقها ، فإن رفاقه الحجاج سيعلنونه بالكافر ويطردونه على الأرجح من بيئتهم. ويبقى للجاويش أو للعمدة (فيما وراء الحدود) أن يذعن لمتطلبات الجمهور ، وإذا كان في الجمهور حاج محنك فإنه لن يبقى للجاويش المعين غير أن يكون خادمه المطيع.

ودون الاستغراق في محاكمات شاسعة ومتعددة الجوانب بصدد هذه المسألة البالغة الشأن من الناحية السياسية كما هو عليها الحج ، أرى من الممكن الاكتفاء بالمبادئ التالية :

١ ـ الامتناع في كل حال من الأحوال عن اللجوء إلى التدابير غير العقلانية في توجيه الحجاج عبر مرافئ البحر الأسود والقسطنطينية.

٢ ـ الامتناع عن اغلاق سبل القوافل القائمة في آسيا الوسطى من أجل الحج.

٣ ـ إنشاء مراكز عبور على الخطوط الحدودية مع فرض رقابة صحية جدية على الحجاج العائدين.

٤ ـ الامتناع عن اللجوء إلى أية تدابير حماية في صالح الحجاج المسلمين وبخاصة إلى تدابير تتفوق على تدابير العناية بالحجاج المسيحيين.

٣٩٩

٥ ـ ترك قضية تنظيم الحج للمسلمين مع منحهم الحق في تقديم المساعدة الطبية لمواطنيهم واقربائهم وأبناء قبائلهم (١).

__________________

(*) أرشيف الدولة التاريخي المركزي. المجموعة ١٢٩٨. الفهرس. الأوراق ٥ ـ ١١. المخطوطة على ورق أبيض (٢٢؟؟ ٥ ، ٢٧) ملحقة بأحدى صيغ «مشروع القواعد الموقتة بصدد حج المسلمين». تنشر للمرة الأولى.

٤٠٠