الرحلة السرية للعقيد الروسي عبد العزيز دولتشين إلى الحجاز

عبد العزيز دولتشين

الرحلة السرية للعقيد الروسي عبد العزيز دولتشين إلى الحجاز

المؤلف:

عبد العزيز دولتشين


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: الدار العربيّة للموسوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٦

في اليوم التالي صباحا بدون أية مغامرات ؛ إلا أننا سمعنا على الدوام عن أعمال السلب والنهب تارة هنا وطورا هناك.

الوصول إلى مكة والإقامة

عند دخول المدينة يتلاقى حجاجنا مع مطوّفهم ، ولكن قلّة منهم يكون بمقدورها أن تمضي وراءهم في الحال إلى الحرم للقيام بالطواف والسعي ، كما تقتضي الشعائر ، والأغلبية تؤجل عادة إداء هذه الشعائر إلى بضعة أيام ، وذلك لأن المناخ المحلي يحمل الذين لم يألفوه على التراخي. وللمسلمين الروس في مكة ثلاثة مطوّفين : أحدهم لأجل القادمين من القفقاس ، والثاني لأجل القادمين من القرم ، والثالث لأجل جميع الباقين.

ولإقامة حجاجنا في مكة مجانا توجد ثماني تكيات ، اشتراها مسلمونا وقدموها هدية للأوقاف. وهذه التكيات هي في المعتاد بيوت غير كبيرة من الطراز المحلي يعيش فيها دائما ويشرف عليها بإشارة من الهادي أحد ما من مواطني روسيا ممن استقروا هنا. والغرف لإقامة الحجاج في هذه التكيات ليست بمعظمها على ما يكفي منالنظافة والترتيب ، رغم أن المشرفين على هذه البيوت يجمعون كل مرة من الحجاج النقود لأجل التصليح. وهناك قسم من الحجاج يستأجر على حسابه الشقات في البيوت الخاصة ؛ وفي هذه الحالة وتلك سواء بسواء ، يسكنون بخارق الضيق لمجرد أن يكون على الأرضية مكان للتمدد عليه. وعموما تجدر الإشارة إلى أن حجاجنا ، وحتى أولئك الذين يملكون مبالغ كبيرة من المال ، يتميزون في زمن السفر إلى الحجاز ببخل خارق ويحرمون أنفسهم أبسط وسائل الراحة والرفاهية.

الإقامة في مكة قبل الإنطلاق إلى عرفات

في الحال يتوافد إلى الحجاج القادمين حديثا مواطنوهم المحليون

٢٦١

(من مكة) أو القادمون من المدينة المنورة ليستعلموا ما إذا كانوا يكلفونهم بإداء الحج (البدل) أو العمرة أو ليحصلوا على الصدقة ؛ ويأتي «السقّاؤون» الملتزمون بجلب الماء من بئر زمزم إلى الحجاج طوال إقامتهم في مكة. وينقضي الوقت قبل الإنطلاق إلى عرفات في زيارة الحرم لأجل صلاة الصباح والمساء ، وفي السجود أمام مدافن مختلف الأولياء ، وفي الصعود إلى جبل أبو قبيس ، وفي التردد على البازار ، وفي شرب الماء المقدس المذكور أعلاه باجتهاد وحمية.

الإنطلاق إلى عرفات

الرحلة إلى عرفات أرهب مرحلة بالنسبة للحجاج في كل زمن الحج. والذكريات والأقاصيص عن أوبئة الكوليرا الرهيبة التي غالبا ما تنشب لدن إداء هذه الشعائر تثير في نفوس الحجاج رعبا خاصا ، شديدا. وجميع الأحاديث قبل الإنطلاق تدور بوجه الحصر حول عرفات ومنى ؛ وجميع الافتراضات يرافقها التحفظ : «إن شاء الله أعود سالما من عرفات» ؛ ويوصي الرفاق بعضهم بعضا بكيفية التصرف بالأموال المتواجدة في حال الوفاة ، وما إلى ذلك. وفي اليوم الثامن من ذي الحجة ، يبدو كل الطريق إلى عرفات ، البالغ ٢٠ فرستا ، كتلة متحركة بلا انقطاع من حجاج مرتدين ثياب الأحرام البيضاء ، راكبين في الشقادف أو على الهجائن والحمير ، أو سائرين مشيا على الأقدام. وجميع العساكر المرابطة في مكة ، والمحملان مع الخفر ، والوالي ، والشريف ، وجميع سكان المدينة ، ما عدا النساء والأطفال ، ينزحون في هذه الأيام إلى عرفات بعضهم لإداء الشعائر ، والبعض الآخر بدافع المصالح التجارية. كذلك ينطلق الفريق الطبي المرسل في مأمورية لزمن الحج ، مع صيدليته ومع لوازم التطبيب والاستشفاء.

٢٦٢

الإقامة في عرفات

موقف الحجاج عند عرفات عبارة عن سهل رملي عريض من الجانب الجنوبي لجبل عرفات ؛ وفي هذا السهل ينصبون مخيمهم الهائل الخارق الضيق ، والخالي من أي نظام. والحجاج بأغلبيتهم يجلبون معهم من مكة خياما يقيم فيها أكبر عدد ممكن منهم رغبة في التوفير. وبعض الحجاج يدبرون لأنفسهم بصورة اصطناعية ظلا بغرس بضع عصي في الأرض ومدّ قطعة من الخيش فوقها. والفئة المعدمة تأوي هنا قرب المسجد وتحتمي من الشمس تحت الصخور والشجيرات.

أثناء الإقامة في عرفات يأخذون الماء من مجرور المياه المكي ، وذلك بجلبه بواسطة آبار ـ منافذ للهواء مقامة هنا ، أو بأخذه من الأحواض المعدة لاستحمام الحجاج ؛ الماء الذاهب إلى مكة يمر عبر هذه الأحواض ، ونصبّ من جديد في المجرور العام ، ولكن السكان المحليين لا يخامرهم أي قلق أو شك من واقع أنهم سيشربون ماء استحم فيه بشر من كل شاكلة وطراز. وهم يقولون : «بموجب تعاليم الشريعة ، لا يتلوث هذا الماء ، وشربه مسموح حتى ولو كانت فيه جيفة».

عند أقدام الجبل يتشكل في الاخصاص بازار موقت يتاجرون فيه بالمؤونة حصرا ؛ وهنا بالذات يذبحون الأغنام لأجل البيع. وغير بعيد عن البازار ، يستقر البدو ويبيعون الأغنام والبطيخ والشمام والخضراوات الحطب والتبن ، وما إلى ذلك. وقرب كل خيمة يحجزون مربعا صغيرا ملفوفا بالخيش بحيث يقوم بدور المرحاض. وبين الخيام بالذات ، ترتع الجمال مع سواقيها ؛ وهنا بالذات تتراكم بقايا الأغنام التي يذبحها الحجاج لأنفسهم ؛ ولذا انتشرت قبيل مساء اليوم التالي (التاسع من ذي الحجة) من كل مكان رائحة نتنة قوية ؛ وقرب البازار لم يكن من الممكن إطلاقا المرور دون سد الأنف. ومن حسن الحظ أن الحجاج ملزمون بالبقاء هنا يوما واحدا فقط.

٢٦٣

يشتهر عرفات كنقطة حارة جدّا في الحجاز. والمراقبات التي قمت بها في ١٩ نيسان (ابريل) قرب هذا الجبل (وعلوه ١٠٥٠ قدما فوق سطح البحر) أعطيت النتائج التالية : الحرارة العليا في الخيمة ٣٤ درجة ريومور فوق الصفر ؛ في الوقت نفسه تحت الشمس ٤٦ درجة فوق الصفر ؛ الحرارة الدنيا ليلا ٢٦ درجة فوق الصفر.

المزدلفة

عند غروب الشمس ، يتحرك مخيم الحجاج الهائل كله دفعة واحدة صوب المزدلفة حيث يكون قد اقيم قبل ذلك بقليل صف طويل من الاكشاك لبيع الماء والمؤونة. وفي اليوم التالي (العاشر من ذي الحجة) ينطلق الحجاج في الصباح الباكر إلى منى.

منى

تقع منى في فج عميق وضيق جدّا ، قاعه رملي ، وعلى جانبيه كتل حجرية عارية رأسية تقريبا ؛ وهي عبارة عن صف ممتد في قاع الفج من بيوت مبنية حسب طراز بيوت مكة ، ومسكونة في أيام الحج الثلاثة فقط. ولهذا المقام شارع رئيسي واحد يتشعب في الطرف العريض (الشرقي) من الفج ، وبضعة أزقة قصيرة تمتد بالعرض. وفي وسط المقام ينتصب مبنى غير كبير من طابقين يقوم فيه «الحجر الصحي» أثناء إقامة الحجاج في منى ، وهو عبارة عن لوازم المستشفى الموقت والأطباء المرسلين في مأمورية إلى هنا في زمن الحج.

يأخذون الماء ، كما في عرفات والمزدلفة ، من منافذ الهواء لمجرور مكة الذي يملأون من مائه أيضا الأحواض الضرورية جدّا ، كما قالوا لي ، في زمن تجمع الحجاج الكبير. وفي كثير من الأماكن ، اقيمت مراحيض عامة هي عبارة عن صف من معالف واطئة ، مركبة من الحجر ،

٢٦٤

بدون حفر ، وبدون أبواب. وعند الطرف الشرقي من المقام يحفرون سلفا في مكان عريض من الفج عددا من الحفر ، مساحة الواحدة منها زهاء ٤ أرشينات مربعة وعمقها أرشين ونصف أرشين. وهذه الحفر هي مكان لذبح وتقديم الأضاحي.

تقع متى على ارتفاع ٩٧٠ قدما فوق سطح البحر ، وبما أنها مطوقة من جميع الجوانب بكتل حجرية ضخمة ، فإنها تتميز بحرارة خارقة العلو ؛ كما تتميز بانحباس الهواء بلا حركة. ومرد ذلك ، أغلب الظن ، إلى بنية الجبال الخاصة. ومن المراقبات التي أجريتها في غرفة محمية جيدا من الشمس ، استخلصت ما يلي : في ٢٠ نيسان (ابريل) الحرارة العليا ٣٢ درجة ريومور فوق الصفر ، الحرارة الدنيا ٣٠ درجة فوق الصفر ؛ في ٢١ نيسان الحرارة العليا ٣٣ ، الحرارة الدنيا ٣٠ ؛ في ٢٢ نيسان الحرارة العليا ٣٣ ، الحرارة الدنيا ٣٠.

قبيل الحج ، يسوقون إلى منى عددا هائلا من رؤوس الغنم والماعز ، وكذلك جزئيّا من الجمال لبيعها من الحجاج ولذا كانت أسعار هذه المواشي تبقى غير عالية جدّا نسبيّا رغم الطلب الكبير. ويبدو انه يوجد بين البدو من قديم الزمان اعتقاد مفاده أنهم إذا لم يرسلوا قطيعهم أو قسما منه لبيعه في منى في زمن تقديم الأضاحي ، فإن جميع مواشيهم تهلك حتما من شتى الأوبئة ؛ وهذا ما يفسر العرض الهائل وسوق المواشي من أبعد أنحاء الجزيرة العربية ، كما ، مثلا من الحدود مع فلسطين ، ومن ضواحي بغداد ، وما إلى ذلك.

وفي منى ، كما عند عرفات ، يقيم الحجاج في الخيام ناصبين في الطرف الشرقي من منى ، في الأماكن العريضة من الشوارع ؛ والبعض ينصب خيامه في أحواش خاصة محاطة بسور عال ومرفقة بأبواب سميكة ، هي عادة ملك المطوّفين. ونادرا جدّا ما ينزل حجاجنا (وفي هذه السنة اثنان فقط) في البيوت نظرا لبدل الإيجار الرفيع. والطبقة المعدمة

٢٦٥

تقيم في المعتاد على جانبي الفج بين الصخور أو في الشوارع تحت الأسيجة.

بعد أن يستقر الحجاج بنحو أو آخر ، يمضون إلى الحفر المعدة لذبح المواشي المذكورة أعلاه ، ويشترون هناك الخرفان ، ويذبحونها على طرف حفرة ، ويتركونها هناك ؛ ولكن إذا كان الخروف المذبوح مدهنا إلى هذا الحد أو ذاك ، فيتوافد الحجاج المعدمون ، ويطلبون التصدق عليهم بالذبيحة ، ويقصون منها أفضل القطع لكي يعيئوا لأنفسهم ، كما علمت فيما بعد ، احتياطيا من اللحم المقدد. وحوالي الظهر ، يدفعون جميع الماشي المذبوحة مع جلودها إلى الحفر ويطمرونها بشريحة رقيقة من التراب. وفي المساء تتكرر هذه العملية بالنسبة للأضاحي الجديدة. وجميع الأعمال قرب الحفر يقوم بها الجنود.

كل حاج يضحي ببضعة خرفان أو مواعز ، منها واحد على نيّته ، والأخرى بتكليف من أقاربه ، ولراحة نفوس الموتى ، أو أيفاء بوعد ، وهكذا ذبح أحد مسلمينا في هذه السنة أكثر من ٦٠ خروفا. ولكن كثيرون من الفقراء غير ملزمين بهذا الواجب. وإذا أخذنا العدد الأدنى فقط ، وحسبنا أن كل حاج يذبح بالمتوسط خروفا ونصف خروف فقط ، فإن عدد المواشي المذبوحة بهذه الطريقة بدون أي نفع يبلغ رقما هائلا ـ ١٥٠ ألفا ، نظرا لعدد الحجاج في هذه السنة وهو ١٠٠ ألف. وهذا الذبح يجري في جميع الأيام الثلاثة من إقامة الحجاج في منى ، الأمر الذي يشكل خطرا رهيبا يهدد بنشوء بؤرة للاوبئة نظرا للمناخ الحار ولغياب الشروط الصحية.

في اليوم التالي (اليوم الحادي عشر من ذي الحجة) ، طفت في منى وفي مخيم الحجاج فلاحظت أن الشارع الرئيسي في منى بقي غير قذر جدّا ، ولكن حين تنحيت جانبا ، بين الجبال والمباني ، ذهلت من حال هذه المحلة الرهيب. كانت التربة كلها مكسوة بالعظام مع بقايا اللحم

٢٦٦

المسودّة والمتفسخة ؛ فأن الحجاج الذين اعدوا لأنفسهم اللحم المقدد ، قصّوا كيفما اتفق الأقسام اللينة ، ومرموا الباقي ليعترئ نظرا لوفرة اللحم. وكانت هناك بضع جيف منتفخة لخرفان بكاملها. وجميع الأماكن قرب الأسيجة كانت مغطاة بالبراز البشري ؛ وفي كل مكان ، نفايات مختلفة وزبالة رهيبة ؛ وفي كل مكان رائحة نتنة لا تطاق ، وبخاصة في جوار المراحيض العامة التي لم يطمروها بأي شيء. وقرب الحفر ، ما وراء منى ، آلاف من المواشي المذبوحة التي قد بدأت تتفسخ وتتعفن ؛ وقرب تلك الحفر التي قد امتلأت وطمروها ، تتناثر مختلف البقايا من الجيف. تلاقيت مع طبيب من الأطباء طاف راكبا في مكان ذبح الأضاحي وأمر بطمر الحفر. وقد أفادني أن احد الحجاج احيل إلى المحاكمة لأنه ذبح الخروف قرب خيمته ، رغم أن الكثيرين ، نظرا لنقص الرقابة هنا ، يذبحون خفية في أماكنهم لكي لا يمضوا بعيدا ولا يرتبكون البتة من الرائحة النتنة التي تنتشر فيما بعد ؛ وعلى العموم ، ينظر الحجاج بأغلبيتهم إلى هذا الطلب البسيط ـ ذبح الأضاحي في المكان المعين فقط ـ كما إلى تضييق نافل تماما ؛ ولو لا القسر ، لرجعوا فورا بلا ريب إلى النظم القديمة ولطفقوا يذبحون الخرفان ويتركونها تتفسخ كما من قبل بين الخيام. ونحو مساء ذلك اليوم ، زرت بضعة من الأحواش التي ذكرتها آنفا. والحجاج يفضلونها نوعا ما ، لأنهم يغلقون الأبواب في الليل ويجدون أنفسهم بالتالي في بعض الأمان من اللصوص الذين يتجمع عدد كبير جدّا منهم في منى أملا في الاتزاز السهل (وخاصة في حال نشوب الأوبئة ، حين يعكفون بكل حرية على السلب والنهب). ولكن ، نظرا للاسيجة والأبواب المغلقة ، ولشدة الضيق بين الخيام المنصوبة ، ولإنشاء المراحيض قربها بالذات ، ولوجود الجمال ، ينشأ هناك جو مرهق جدّا. ومن الأفضل بكثير نصب الخيام فيما وراء منى ، حيث المكان أرحب وأنظف إلى ما لا قياس له.

٢٦٧

ونظرا للظروف الصحية السيئة المذكورة أعلاه تكون نسبة الإصابات بالأمراض والوفيات بين الحجاج عند عرفات وبخاصة في منى ، كما يقال ، أكبر بكثير مما في مكة. ولكن عدد الذين ماتوا طوال الرحلة كلها إلى عرفات بلغ في السنة الجارية حوالي ٤٠ شخصا فقط.

العودة إلى مكة ورحيل الحجاج

بعد العودة إلى مكة يسرع الحجاج إلى أعلام أقاربهم في الوطن بسلامة نهاية الرحلة إلى عرفات ؛ وفي هذه الأيام يكون التلغراف ، رغم التعريفة العالية ـ خمسة فرنكات عن كل كلمة ـ غارقا في العمل ؛ ويستعد الحجاج للرحيل. وجميع الحجاج يحملون معهم إلى أوطانهم لأجل تقديم الهدايا كميات متفاوتة من ماء زمزم والتمر المحلى ، تبعا لأحوالهم المالية. يأخذون ماء زمزم في أوعية خاصة من الصفيح يبيعها سمكرية مكة من الحجاج الراحلين بعد أن يملأوها بأنفسهم ويلحموا رقابها ، والتمر يشترونه عادة في المدينة المنورة. وفضلا عن ذلك ، يشترون على سبيل الهدايا مسابح من صنع محلي أو من صنع القسطنطينية ، وسجادات صغيرة لأجل الصلاة ، وخواتم فضية مصنوعة من بقايا الزخارف المتغيرة كل سنة في مقام إبراهيم ، وخواتم فضية مرصعة بالصرد اليمني وقطعا من الكسوة ، والكندر وما إلى ذلك ويأخذ كل منهم أيضا معه ثوب الاحرام الذي التف به في زمن الحج ؛ ويأخذون أيضا لأنفسهم وبتكليف من معارفهم قطعا من الخيش مبللة بماء زمزم لأجل الأكفان. وجميع هذه الأشياء يدسونها في صناديق ويسلمونها لعملاء خصوصيين هم السماسرة ، لأجل إيصالها إلى القسطنطينية.

وأولئك من حجاجنا الذين سبق أن كانو في المدينة المنورة قبل الحج أو لم يحسبوا أن يزوروها ، بدأوا هذه السنة ، في اليوم الثاني أو الثالث بعد العودة من عرفات ، بالسفر قوافل صغيرة إلى جدّة ، حيث كان

٢٦٨

الحجر الصحي قد رفع قبيل عودة الحجاج ، وحيث تجمعت ١٢ باخرة لنقل الحجاج إلى السويس وبيروت وأزمير والقسطنطينية.

وفي السنة الجارية كان عدد الحجاج الذين قرروا زيارة المدينة المنورة أيضا بعد الحج قليلا جدّا نظرا لمخاطر الطريق الكبيرة ؛ ولذا انطلقت من مكة إلى المدينة المنورة ، عدا المحملين السائرين معا في الطريق الشرقي ، قافلتان وركبان فقط. وجميع الحجاج المرضى ، مهما كانت صحتهم واهية ، لا يرغبون البتة في البقاء في مكة ، ويرحلون مع رفاقهم في الطريق. وهذا ما يفسر ، أغلب الظن ، واقع أنهم يدفنون دائما كثيرين من الناس في المواقف الأولى بعد مكة ، مثلا ، في حدة أو البحرة أو وادي فاطمة ...

الانتقال إلى المدينة المنورة

إنضممت إلى سكان المدينة المنورة العائدين ، ورحت مع أحد الركب في الطريق الغاير ، أما حجاجنا الباقون ، فقد انتقلوا مع القافلة في الطريق الفرعي. وقد وقعت في القوافل بضع حالات من عمليات السلب والقتل ذهب ضحيتها مسافرون ابتعدوا عن الموقف ، علما بأن واحدا فقط من رعايا روسيا ، كما ذكرنا آنفا ، قد تضرر. أما الركب ، فقد اجتازت السبيل بكامل السلامة. صحيح أن اشارات الانذار كانت تنطلق في الليالي وكانت تسمع طلقات الرصاص واننا توقفنا في الطريق ، ولكني لم أر خطرا حقيقيا.

الإقامة في المدينة المنورة

توجد في المدينة المنورة أيضا خمس تكيات لمسلمينا ، ولكنهم ، كما قيل اعلاه ، يفضلون النزول عند أقاربهم أو في مدرسة قازان الدينية ؛ وهذه السنة ظلت جميع التكيات فارغة. وعموما لا وجود في المدينة

٢٦٩

المنورة لذلك الضيق في المساكن وفي المدينة كما في مكة ، وذلك لأن الحجاج يتوافدون إلى المدينة المنورة تدريجيا ويبقون عادة وقتا قصيرا جدّا ـ ٣ ـ ٥ أيام. وفي المدينة المنورة ، يوجد أيضا أدلة يقودون الحجاج حين يزور هؤلاء الحرم وضواحي المدينة ، كما أنهم يؤدون الصلاة بالنيابة عنهم.

الذهاب إلى ينبع

في السنة الجارية تأخر الذهاب من المدينة المنورة إلى ينبع بسبب الإضطرابات في قبيلة بني حرب ، وتأخر كثيرا جدّا ؛ ولم تنطلق القافلة الأولى إلا بعد مرور زهاء أربعة أسابيع على وصولها من مكة. ثم انتظروا زمنا طويلا الأنباء عن مصير هذه القافلة ، وسرت إشاعات مفادها أن البدو قد نهبوا القافلة كلها ، ونصحوا بالذهاب إلى جدّة ؛ ولكن بعد مرور زهاء أربعة أسابيع ، قرروا تسيير القافلة الثانية دون انتظار الأنباء من ينبع ، ومع أخذ الرهائن من المقوّمين. ومع هذه القافلة الثانية والأخيرة مضى جميع حجاجنا الباقين بمن فيهم أنا.

تم الانتقال إلى الجديدة بطلاقة لأننا سرنا في أرض مقوّمينا ؛ ولكن فيما بعد ، في المنطقة بني حرب ، سارت القافلة باحتراس بالغ ؛ بيد أننا وصلنا إلى ينبع بسلامة ودون تأخر ، إذا لم نأخذ بالحسبان ٥ ـ ٦ حالات من النهب والسلب ، وقطعنا هذا الطريق في سبعة أيام. عند الخروج من الجبال فقط ، وقع حادث اظهر كيف يتصرف في مثل هذه الأحوال البدو الذين يسوقون القافلة. كانت القافلة تسير في ثلاثة أقسام ـ في القسم الأمامي كان العرب الأفارقة (المغاربة) ؛ في الأوسط ، حجاج من شتى القوميات ، بمن فيها مسلمونا ؛ في القسم الخلفي ، الفرس. وفجأة سمعنا طلقات مترددة من جانب القسم الأمامي الذي لم يكن مرئيا فيما وراء الجبال. أخذ مقوّمنا سلاحه ، وركض إلى أمام القافلة ، وسرعان ما تجمع

٢٧٠

حوله جميع سواقي الجمال الآخرين وفي ايديهم السلاح. وفي هذه الأثناء ظلت القافلة تواصل السير كما من قبل وفي مقدمتها جميع البدو. خلال ربع ساعة ، انعطف الطريق عدة مرات وبعد خروجه من الجبال ، أخذ ينزل إلى الشريط الساحلي المستوى (تهامة) ؛ وفي الحال تكشفت للأنظار كل المحلة المجاورة مع أبعاد البحر الزرقاء. وكانت مقدمة القافلة تبدو بوضوح ، وكانت الطلقات لا تزال تتعالى من هناك ؛ وقد تبين أن المغاربة أعربوا بذلك عن فرحهم لدن رؤية عنصرهم الطبيعي العزيز ، البحر.

أثناء هذا الانتقال من المدينة المنورة إلى ينبع ، اضطررت إلى معاناة عواقب ريح السأم التي كانت تهب بلا انقطاع تقريبا. وعند بئر السيّد أشار ميزان الحرارة في الظل إلى ٤٤ درجة ريومور فوق الصفر ، وهي أعلى درجة من الحرارة رأيتها في الحجاز. المرحلة الأخيرة من هذه البئر إلى ينبع كانت أطول المراحل ؛ وقد سارت القافلة بلا توقف ٢٠ ساعة بالضبط (١).

__________________

(١) «تركستانسكيي فيدوموستي» («أنباء تركستان») (١ ـ ٦ ـ ١٨٩٩) تعطي لوحة زاهية عن انطلاق الحجاج من استنبول : «كانون الثاني (يناير) ١٨٩٩ كان قطيع كبير من الجمال ذات السنامين المزينة بأشرطة متعددة الألوان ، وشبارق غنية من الديباج ، وشتى الخشخيشات وعشرات البغال تحت شقادف جميلة ومظلات ذهبية التلاوين ، وأخيرا ، فصيل كبير من الحمير البيضاء الصغيرة المحملة بصناديق حديدية والمرفقة «بزيبقين» شرسين يقطنون في ولاية ايدين ، جميعها تسير في هذه الأيام في جميع الشوارع الرئيسية بعاصمة السلطان التركي.

إن السلطان التركي ملزم ، بموجب عادة قديمة ، بأن يرسل سنويا إلى مكة ، قبل ١٥ يوما من رمضان ، قافلة مع الهدايا ووكيله الذي يقوم بالنيابة عنه ، أي عن السلطان ، بالرحلة المقررة قانونا للسجود أمام مقدسات مكة المكرّمة والمدينة المنورة. ومنذ ١٥٠ سنة كان يتعين على السلاطين أن يمضوا شخصيا إلى الأماكن المقدسة ؛ أما الآن فإن واجب السلطان في هذه الحال يؤديه الوكيل ؛ وهو عين السلطان يقوم بدور ـ

٢٧١

الإقامة في ينبع

لقد سبق أن تحدثت عن الحالة الصحية الخارقة السوء في ينبع.

__________________

ـ الوكيل رئيس الفرع الديني بوزارة التعليم العام ، عريف أفندي.

أمضت القافلة يومين في دار شيخ الإسلام ؛ وفي أحاديث متواصلة ألقى كلمات النصح على المسافرين في سفرة بعيدة ، ثم اتجه إلى قصر يلدز أي إلى حيث كان يتجه ويتجمع غفير من الناس.

وتسنى للأجانب أن يروا مشهدا فريدا ، حيث تجمعوا في بتشيك داش الذي كان لا بد أن تمر فيه «القافلة المقدسة». في طليعة صف الجمال والبغال والحمير المزينة بتبرقش ، كان عريف أفندي راكبا على جمل أبيض ذي سنامين ، وكان يرتدي معطفا مطرزا بالذهب هو المعطف الرسمي للموظف التركي ، ماسكا في يديه الممدودتين إلى الأمام شهادة صلاحياته. وقد ركز كل انتباهه على هذه الورقة التي كان عريف أفندي ينظر إليها برقة وحنان كما إلى شيء مقدس ، وبالوداعة الملازمة للتعصب الإسلامي. إن مجموعة «الزيبقين» التي تسير في طليعة الموكب وفي مؤخرته تشكل الحرس الذي ينبفي أن يحرس القافلة من شيخ الإسلام إلى قصر السلطان يرقصون بلا انقطاع مسترعين الإنتباه العام بلباسهم الغريب. وبهذه الصورة تصل «القافلة المقدسة» إلى قصر يلدز حيث يستقبلها بمهابة واحتفال أصحاب المقامات الكبيرة الأتراك المتجمعون لهذا الغرض ويرحب بها السلطان نفسه الذي يظهر لهذا الغرض هذه المرة على الشرفة الكبيرة المطلة على حوش القصر.

بعد اداء الصلاة ما قبل السفر ، أمر عريف أفندي بتسرع بفتح الصناديق الحديدية وإرسال خمسة منها إلى مخدع السلطان. من الصعب أن نصف بأي ورع وضع أصحاب المقامات الكبيرة الأتراك حفنات من الذهب في الصناديق المفتوحة. وبالنظر إليهم ، لم يكن يجوز التنديد بالرعاع الجهال الذين باسوا آثار حوافر المواشي المنطلقة إلى مكة المكرّمة والمدينة المنورة.

وبعد فترة وجيزة أخذ الخصيان يتوافدون إلى عريف أفندي حاملين أكياسا حريرية تحتوي تبرعات سيدات حريم السلطان. ولك من هؤلاء الناسكات التعيسات أرسلت كيسا ، يحتوي ، عدا بضع قطع نقدية ذهبية ، عنوان المتبرعة التي كان يتعين على الوكيل أن يجلب لها من مكة الماء المقدس ، أو سلاكة خشبية ـ

٢٧٢

وليس ثمة مكان في الحجاز يواجه فيه الحجاج مثل الظروف المرهقة القائمة في هذه المدينة. وعند عرفات ، أو في منى أو في جدّة ، يوجد على الأقل ماء جيد ضروري جدّا في مثل هذه الحرارة العالية ؛ أما هنا ، فإن الماء الذي يبلغ ثمن الدلو منه حوالي ٥٠ كوبيكا لا يمكن شربه إلا في أقصى الأحوال. ولحم الغنم المحلي المباع هنا بسعر ١٥ كزبيكا للرطل الواحد يتميز بقساوة غير عادية وغياب الدهن. ومن جراء كل هذه الظروف ، عانى جميع الحجاج أثناء الإقامة في ينبع باختلال المعدة ؛ كان حسب المرء أن يقترب من شاطئ البحر حتى يقتنع بأن الجميع مصابون بالاسهال. وقد ازداد عدد الموتى بشكل ملحوظ ، وكل يوم كانوا يدفنون ٥ ـ ٦ أشخاص (كان عدد الحجاج زهاء ٣٠٠٠ شخص). ولسوء حظ

__________________

ـ للاسنان ، ومسابح رخيصة ، ولكن هاهم ياورو السلطان يطلون حاملين الصناديق المرسلة إلى مخدع السلطان. إن وضع الأمور المقلق في الجزيرة العربية ، ولا سيما في ولاية اليمن أجبر الباديشاه على عدم الضن بالذهب المعد على سبيل الهدية للشيوخ العرب الذين يرأسون مختلف القبائل العربية التي تخضع لسلطة شيوخها بوصفهم أخلافا لمحمد (صلى‌الله‌عليه‌وسلم). ولا جدوى من أحداث شجار بين الشيوخ العرب والباب العالي ، لأن الباب العالي يدرك جيدا جدّا عجزه من أجبار العرب على اجلاله واحترامه. إن الرشوات السخية المقدمة للشيوخ النافذين هي وحدها التي تحافظ اليوم على النظام الظاهري في الولايات العربية. وإذا غضب شيخ طماع بطبيعته ، فإن القبيلة بأسرها تصبح على استعداد من الإشارة الأولى لحمل السلاح وشد السروج على أحصنتهم ... ولكن لا يخامر الشك أحدا في أن الذهب لا يكفي الباب العالي مدة طويلة لأجل إرضاء الشيوخ العرب الذين يطالبون بالمزيد من الذهب بالحاح وجشع.

بعد أن أخذت القافلة المقدسة في قصر يلدز كل ما يمكن أخذه ، انطلقت بالاحتفال ذاته إلى القسم الإسلامي من المدينة «سكوتاري» حيث تبقى ١٥ يوما ، وتنتقل في هذه المدة من بيت إلى بيت لجمع التبرعات».

وإننا نترك لذمة المؤلف الأخطاء بصدد الوقائع ولهجة بعض من آرائه.

٢٧٣

الحجاج غالبا ما يتعين عليهم أن ينتظروا طويلا في هذا المرفأ الرهيب اقلاع الباخرة أو انطلاق القافلة ؛ ففي هذه السنة بقي الذاهبون إلى المدينة المنورة ما لا يقل عن أسبوع ، وبقي الراحلون من الحجاز زهاء ٨ أيام ؛ ومن وصلوا مع القافلة الأولى بقوا أكثر من شهر.

وحجاجنا يبيتون هنا أيضا كما في جدّة مستأجرين غرفة واحدة لعدة أشخاص ؛ أما حجاج القوميات الأخرى ، كالمصريين والمغاربة ، فإنهم يدبرون لأنفسهم ظلاما في الشارع وعلى الساحل المنخفض ويعيشون في وسط القذر الرهيب والرائحة النتنة الكريهة.

تصل البواخر إلى ينبع بعد أن تقوم في البدء برحلة لنقل الحجاج من جدّة ؛ ونظرا للحجر الصحي ، حملت الحجاج على انتظارها في هذه السنة زمنا طويلا جدّا. وأخيرا أخذت تقترب ، وفتح العملاء مكاتبهم ، وبدأت المفاوضات بصدد أسعار التذاكر. في البدء طلبوا عن الدرجة الثالثة إلى القسطنطينية ٢ / ١ ٧ ليرات أي أكثر من ٦٣ روبلا. ولكن بما أن عدد الراغبين في السفر بهذا السعر العالي كان قليلا جدّا ، فقد خفضوا سعر التذكرة بعد يومين حتى ٦ ليرات (٥١ روبلا) ، وإذ ذاك فقط شرع الحجاج يشترون التذاكر. والباخرة التي سافرت على متنها كانت قد أخذت ٧٠٠ راكب ؛ ولكن رغبة في زيادة عددهم ، ارجأوا الاقلاع من يوم إلى يوم ، إلى أن احتشد الركاب أخيرا ، وقد فرغ صبرهم ، في جمع ضخم أمام مقر القائمقام وطفقوا يعربون بأصوات مدوية عن احتجاجهم ، متشكين من نقص المؤن والماء ، وشرعوا يطالبون باقلاع الباخرة ؛ وسرى مفعول الاحتجاج ، وبدأت الباخرة تولّد البخار ، وتأخذ الركاب ، واقلعت في ذلك اليوم بالذات. وقد قالوا لي أن القائمقام والعميل وربان الباخرة يحصلون على مداخيل كبيرة بفضل هذه الطريقة لبيع التذاكر. وأولئك الحجاج الذين صبروا طويلا اشتروا التذاكر بالسعر العادي المطبق في السنوات التي يقوم فيها الحجر الصحي أي بخمس ليرات للتذكرة. وعدا

٢٧٤

الركاب الذين يدفعون ثمن التذاكر ، تركّب السلطات المحلية على متن كل باخرة ٢٠ ـ ٣٠ شخصا من الحجاج المعدمين.

المحجر الصحي في الطور

أهتم الحجاج كثيرا ، عندما كانوا في المدينة المنورة ، وعند ما وصلوا إلى ينبع ، بمسألة هامة جدّا بالنسبة لهم ـ هي مسألة فرض الحجر الصحي في الطور ؛ وفي هذا الصدد انتشرت في المدينة شتى الإشاعات. قال البعض أن الحجر الصحي سيدوم ١٠ أيام ، وقال آخرون انه سيدوم ٥ أيام فقط ؛ ولكن الأغلبية كانت على يقين بأن الحجر الصحي لن يفرض ولا يمكن فرضه ، لأن الحجاج ، كما كانوا يحاكمون ، لم يكونوا في جدّة حيث وقعت إصابات بمرض الطاعون ، بل نزلوا في الرأس الأسود ، وأنهم اقاموا بعد ذلك أكثر من شهر في مكة حيث لم يكن أي وباء ، وبقوا أسبوعين في الطريق بين مكة والمدينة المنورة ، واقاموا في المدينة المنورة أيضا مدة كبيرة على خير ما يرام ، ثم ساروا أسبوعا إلى ينبع حيث بقوا في انتظار الباخرة أسبوعا أيضا ؛ وطوال هذا الوقت كله لم تحدث أية حالة مشبوهة. فما الداعي الآن إلى الحجر الصحي؟ لقد تكونت عند الحجاج عن الحجر الصحي اسخف المفاهيم. يقولون بالاجماع : هدف الحجر الصحي ليس البتة المقتضيات الصحية بل رغبة الدول غير الإسلامية في تصعيب وصولهم إلى الحجاز واضعاف دينهم بذلك ؛ ولهذه الاهداف ابتدعوا الحجر الصحي حيث يميتون الحجاج التعساء بل وحاولوا أن يسمموهم. انزلوا ٢٠٠٠ شخص في الجزيرة (المقصود هنا ، أغلب الظن ، جزيرة كمران) فأخذ الطبيب الإنجليزي يعطيهم سما بذريعة انه دواء ، ولكن أحد الحجاج حزر ذلك فقتل الطبيب ؛ وآنذاك فقط ، وقد رأوا أن هذه المعاملة لا تخلو من الخطر ، أصعدوهم إلى متن الباخرة وواصلوا السفر. يقول كثيرون من الحجاج :

٢٧٥

«البواخر الإنجليزية المنطلقة من الهند الموبوءة تمر بدون أي توقيف. بينما نحن المسافرين من أماكن سليمة يعرضوننا لمثل هذه العذابات. وحين يعاني الحجاز من الكوليرا أو من وباء آخر ما ، فليفرضوا الحجر الصحي. أما في السنوات الطيبة ، فهذا ظلم جلي».

وفي ينبع أيضا لم ترد معلومات دقيقة عن الحجر الصحي ؛ وبارتياب بالغ قابلوا تصريحات طاقم السفينة باننا سنتوقف ١٢ يوما في الطور ؛ وفي اليوم الثالث اقتربنا من هذه النقطة ونحن على كامل اليقين بأننا سنواصل السفر بعد وقفة قصيرة ، يقتنع فيها الأطباء أن كل شيء على ما يرام.

الطور بلدة صغيرة على الساحل الآسيوي من خليج السويس ، تتألف من عشرة بيوت حجرية من طابقين. على بعد زهاء فرستا اثنين إلى الجنوب ، تقع مجموعة من الخيام على ساحل البحر ، ومجموعات صغيرة من أشجار النخيل هنا وهناك. وهذا هو المحجر الصحي في الطور الذي يكرهه الحجاج بالغ الكره. الساحل واطئ ، الرمل وعس ، ويشكل بعيدا عن البحر جملة من كثبان مستطيلة ؛ في الافق ترتفع كتل حجرية معدومة الحياة من الجبال ؛ المنظر اشد كآبة مما في الحجاز.

اقتربت باخرتنا على بعد زهاء ٢٠٠ ساجين من الشاطئ ورمت المرساة. وكانت ترسو هنا بضع سفن اقلعت من ينبع قبلنا وفرضوا عليها الحجر الصحي. بعد ساعة انطلق من الساحل زورق بخاري صغير ونقل إلينا طبيبين اختصاصيين في الحجر الصحي ؛ وهذان تفحصا أوراق الباخرة ، ثم عادا بعد فترة وجيزة إلى الساحل. وفي هذه الأثناء نشر أحد المازحين إشاعة مفادها أن الحجر الصحي لن يفرض ؛ وصدق الجميع هذه الإشاعة حقا وفعلا واعربوا بصورة مختلفة عن فرحهم العظيم. ولكن سرعان ما عاد الزورق قاطرا ثلاثة زوارق كبيرة ؛ وفي الحال بدأ انزال الركاب ونقل كل امتعتهم إلى الساحل ، الأمر الذي استغرق

٢٧٦

يومين ، لأنه لا يتسنى في اليوم الواحد تعقيم أكثر من ٣٠٠ ـ ٤٠٠ شخص. وكل الأمتعة الثقيلة الموضوعة في العنبر انزلوها هي أيضا من الباخرة. وكثيرون من الركاب أبقوا حقائبهم اليدوية وغير ذلك من أشياء أوفر قيمة لأجل الحفظ عند المسؤول عن مطعم الباخرة ؛ وهذا الأخير اخفاها في مكان ما لقاء مكافأة.

ترسو الزوارق عند الرصيف الراسخ الأسس ؛ وعلى طول الرصيف مدوا القضبان الفولاذية لأجل سكة حديدية من طراز خفيف جدّا. وقبيل رسو الزوارق ، تصل عربتان حديديتان صغيرتان ، واحدة بصورة عربة مستشفى ، وعليها ينقلون المرضى إلى مستشفى الحجر الصحي ؛ والأخرى من طراز عربة الشحن لأجل نقل الأمتعة إلى مبنى التعقيم. وعلى أبعاد قصيرة يجر الناس العربتين وعلى مسافات أبعد ، يقرنون البغال ؛ وهناك أيضا قاطرة صغيرة.

على بعد زهاء ٢٥ ساجينا من الرصيف ، توجد تخشيبتان مسقوفتان طويلتان لأجل غرف التعقيم ؛ وقربهما سقيفة ينتظر الحجاج تحتها دورهم. ولتغطية نفقات الحجر الصحي ، يأخذون من كل حاج ٦٤ قرشا مصريا (زهاء ٦ روبلات و ٤٠ كوبيكا) ؛ أما المعدمون ، فيسمحون لهم بدخول المحجر الصحي مجانا ، ولكن بعد الإنتهاء من تعقيم الحجاج الذين دفعوا الرسم.

انتظرت دوري ودخلت إحدى التخشيبتين المذكورتين ، وإذا بي أرى نفسي في غرفة رحبة كفاية أرضيتها رطبة ومفروشة بالأسفلت ؛ على هذه الغرفة تطل أبواب ثلاث مقصورات بخارية تعقيمية ؛ وهنا أيضا تنتصب الخوابي والبراميل المليئة بشتى السوائل المعقّمة. أخذوا يفكرون صرر الأمتعة ويصنفونها. وكل أمتعتي المؤلفة من كيس للسفر فيه البياض ولوازم الفراش ، ومن سرير للسفر ، ومن صندوق فيه الآنية والمؤونة ، نقلوها إلى الحوش ؛ أما أمتعة خادمي ، فقد أدخلوها كلها في

٢٧٧

مقصورة. ثم طلبوا منّا أن نتعرى تماما ونلبس بياض الحجر الصحي ، البعض لبسوا الكلاسين ، والبعض الآخر القمصان الطويلة. ونحن ، ركاب الدرجة الأولى الثلاثة ، حاولنا أن نحتج ، لعدم رغبتنا في إرتداء البسة قذرة ، الله يعلم عمّن نزعوها ، وطلبنا إعطاءنا البسة أنظف على الأقل ، ولكن طلبنا قوبل بالرفض القاطع ؛ فتعين علينا أن نتعرى ، ونربط كل بالستنا معا ، ونعطيها إلى المقصورات ، ونرتدي قمصانا كريهة ، نتنة. ولم يسمحوا لنا إلا بأن نبقى معنا محافظ الطريق التي تحتوي النقود والوثائق ، والمظلات والأحذية.

وحين بلغ عدد مرتدي هذا اللباس زهاء ١٠ أشخاص ، جاء الطبيب وفحصنا ، متلمسا الغدد اللوزانية ، وتحت الأبطين ، وفي المغبن (المنطقة الاربية). وأثناء فحص الطبيب ، حلعوا حذائي وبللوه ببالغ الاجتهاد في خابية تحتوي ، على الأرجح ، سائلا معقما ثم انتزعوا عند الخروج إلى الحوش المظلة من يدي وقطروا عليها من مرشة نحو ٢٠ قطرة ، ولكن لا أكثر ، ثم دخلنا إلى التخشيبة ذاتها ، ولكن من طرف آخر ، متجنبين وسطها ، حيث تقوم المقصورات والمراجل. وقد اضطررت إلى انتظار البستي زمنا طويلا نسبيّا ورؤية مشاهد طريفة جدّا. ها هم يرمون من قسم التعقيم عبر باب واسع الصرر والرزم المطهرة من كل مسبب للأمراض ؛ هذه الصرر والرزم يتلقفها في الحال أصحابها الذين ينتظرونها ويفكونها ويبدأون تفحصها ـ جميع الطرابيش تحولت إلى قلبقات كريهة المنظر وتغيرت الوان الأشياء الخرى أو انصبغت باصباغ غريبة ؛ بعض الأصباغ في السجادات بهت لونها هي أيضا. ويجلس الفرس عليها مستغرقين في التأمل ؛ عند البعض تبين أن غلافات الأشياء قد احترقت ؛ ومن لم يسحب الأشياء الجلدية ولم يضعها جانبا بسبب جهله للأمر تلقى بالطبع مجرد مزق مدعوكة. ومن هم اوفر طيبة ولطفا يضحكون ، ولكن تتعالى على الأغلب التذمرات واللعنات. وحين امعنت النظر في الحجاج العارين من

٢٧٨

مختلف القوميات ، ذهلت : يا للشعب النحيل والمنهوك القوى! هذه الرحلة إلى الحجاز ترهقهم جميعا! وما أن يتلقوا أمتعتهم حتى يرتدوا ثيابهم ، بينما يرمون بياض المحجر الصحي بحنق على الأرضية القذرة والرطبة ؛ ومن هذه الأرضية يأخذ الخدم هذا البياض وينقلونه لأجل الاستعمال لاحقا. ارتديت ثيابي من جديد وخرجت إلى الحوش ووجدت عند الباب كل امتعتي بدون أي أثر لأي تعقيم. ثم شرعوا ينقلون الأمتعة إلى ما وراء البوابة ، لكي ينقلوها إلى المخيم حيث يفرضون الحجر الصحي على الحجاج.

أقيم هذا المخيم على بعد زهاء ٤٠٠ ساجين عن الساحل ، وهو عبارة عن صف واحد ، بموازاة ساحل البحر ، من أحواش مربعة صحيحة التخطيط (أقسام) مفصولة بعضها عن بعض بشبكة عالية من الأسلاك ، ولها بوابة واحدة تطل على الواجهة ؛ وقرب هذه البوابة يتواجد المخفر الذي يرسلون منه حراسا إلى جميع أنحاء المخيم. وداخل السياج ، خيام صغيرة واطئة تتسع الواحدة منها ل ٥ ـ ١٠ أشخاص. وقرب البوابة توجد خيمة الطبيب ومعاونيه الأثنين ؛ وهنا بالذات يتواجد تحت السقيفة دكان وضرب من بوفيه ؛ وفي الخط الخلفي تقوم مراحيض منقولة مصنوعة من الواح خشبية. ومن يملكون خياما خاصة يفرزون لهم أيضا امكنة. يجب قول الحق ، فإن منظمي المحجر الصحي في الطور قد انشأوا هنا نظاما ظاهريا معينا ؛ ففي كل مكان مدوا الخطوط الحديدية ، وعليها ينقلون امتعة الحجاج ، ويستجلبون عليها الماء ٣ ـ ٤ مرات في اليوم ؛ ولهذا الغرض يستخدمون ثلاث عربات حديدية صغيرة على كل منها ثلاث براميل خشبية مزودة بحنفيات وخراطيم ، ينسكب الماء بواسطتها بصورة مناسبة ومريحة وسريعة جدّا في صهريجين حديديين موضوعين قرب البوابة. والماء نقي ، من نوعية مرضية ، ويستخرجونه من بئر بمحرك هوائي. وكل يوم يجمع الحراس بين الخيام والزبالة

٢٧٩

وشتى النفايات ، ويراقبون بحيث لا يذهب الحجاج لقضاء حاجاتهم الطبيعية إلا إلى بيوت الخلاء التي يحافظون على نظافتها ويغسلونها على الدوام ، ويسكبون علها منقوع الكلس. وجميع الحجاج المعدمين يتلقون كل يوم على حساب الحكومة المصرية طعاما يتألف من رغيفي خبز صغيرين وزن كل منها زهاء رطل ، وحساء مطبوخ مرة باللحم ، ومرة أخرى بدون لحم. يبقى أن أضيف أن ساعي البريد يحضر كل يوم لأجل قبول الرسائل العادية والمضمونة وكذلك البرقيات ، وأن بواخر البريد التي تقوم برحلات بين موانئ البحر الأسود تأتي إلى هنا في زمن الحجر الصحي. ولكن الغلاء هنا رهيب ويشمل جميع المأكولات الضرورية ، وغالبا ما يستحيل كليا شراؤها. مثلا ، سعر نصف رطل لحم الضأن ٣٠ كوبيكا ؛ رغيف الخبز من الطحين الأسود ، وزنه نصف رطل ، وهو دائما قاس وعتيق ، سعره ٨ كوبيكات ؛ سعر الدجاجة ٨٠ كوبيكا ، سعر البيضة ٣ كوبيكات ، سعر الحطب (٣ ارطال) ٤ كوبيكات ، سعر الفحم الحجري ٥ كوبيكات للرطل الواحد.

منذ الأيام الأولى بالذات ، تبين أن عددا كبيرا جدّا من الحجاج يعانون من الأسهال. أصعفهم أرسلوهم قسرا إلى المستشفى الذي يخافه الحجاج خوفهم من النار. وقد حاول بعض ممن مرضهم أقل وطأة أن يطلبوا النصيحة والدواء من الطبيب ، ولكن تبين ، لما فيه دهشة الجميع ، انه لا يجوز هنا إعطاء النصائح والأدوية. فإذا كنت مريضا ، فعليك أن تتعالج في المستشفى.

ولكن الخدم أنفسهم كانوا ينظرون إلى العزلة الصارمة جدّا بالنسبة للحجاج ، بدون أي تنازل في صالحهم نظرة مغايرة تماما وبذلك كانوا يستشيرون على الدوام دمدمة الخاضعين للحجر الصحي ؛ فإن الحراس كانوا يمضون بحرية لأداء شتى تكليفات الإدارة ؛ وصاحب الدكان كان هو أيضا يتعامل بدون أي عائق مع بقية العالم. وحين أخذ الفرس يبيعون

٢٨٠