الرحلة السرية للعقيد الروسي عبد العزيز دولتشين إلى الحجاز

عبد العزيز دولتشين

الرحلة السرية للعقيد الروسي عبد العزيز دولتشين إلى الحجاز

المؤلف:

عبد العزيز دولتشين


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: الدار العربيّة للموسوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٦

في منى ، عند سفح جبل عال ، يشيرون إلى المكان الذي أراد فيه إبراهيم ، عملا بمشيئة الله ، أن يضحي له بابنه الوحيد (واسمه إسماعيل ، كما يقول العلماء المسلمون) ، الذي جلب الملاك حملا عوضا عنه ، ويشيرون إلى الحجر الذي انشق عند ما رمى إبراهيم سكينة التي لم تطاوعه ؛ وعلى ذكرى هذه الأحداث ، يذبح الحجاج هنا الخرفان على سبيل تقديم الضحية ويصلون عند الحجر المذكور. ومع تقديم الأضاحي. يقص الحجاج أو يحلقون قسما آخر من شعر رؤوسهم ، ويخلعون ثياب الاحرام نهائيّا ويرتدون البستهم العادية.

وفي اليوم نفسه يتوجه بعض الحجاج إلى مكة ليقوموا بالطواف الثالث والسعي الثاني ، ولكن أغلبية الحجاج تؤجل هاتين الشعيرتين حتى العودة من منى.

في شارع منى توجد ثلاث نقاط معلّمة باعمدة حجرية بيضاء ومحاطة بحائط واطيء ، رمى منه إبراهيم ، كما تقول الأسطورة ، حجرا على الشيطان حين رآه. وعلى ذكرى هذا الحدث ، يرمي الحجاج أثناء تلاوة الابتهالات إلى الامكنة المذكورة عددا معينا من الحصي الصغيرة التي سبق أن جمعوها قرب المزدلفة.

ونحو مساء اليوم الثاني عشر ، يعود جميع الحجاج إلى مكة ويبدأون يستعدون للرحيل ؛ وقبل الرحيل يقومون بالطواف الأخير ، طواف الوداع. وبهذا تنتهي جميع شعائر الحج الذي يتوافد لأدائه مئات الآلاف من المسلمين من شتى ديارهم. ومن المدهش أن هذه الشعائر لا تنطوي على أي شيء خاص بالإسلام أو بمؤسسه ؛ فعي جميعها شعائر عبادة العرب القديمة ، من العصر الجاهلي ، وقد دخلت بكليتها في الدين الجديد.

وهناك شعيرة أخرى غير الزامية تؤدى في مكة في أي وقت كان من السنة ، وبصورة مستقلة تماما عن الحج ؛ وهذه الشعيرة يعهد الحجاج

٢٤١

الميسورون إلى هذا الحد أو ذاك إلى شخص ما من مواطنيهم الفقراء بالقيام بها بالنيابة عنهم وعن أقاربهم الغائبين لقاء مكافأة معينة ، واسم هذه الشعيرة «العمرة» ومفادها أن الحجاج يمضون على ظهور الحمير أو الأحصنة إلى خارج المدينة إلى مسجد «العمرة» الواقع على بعد خمسة فرستات تقريبا عن المدينة ، ويرتدون ثوب الاحرام ، ويؤدون هناك صلاة قصيرة ويعودون إلى الكعبة لكي يقوموا بالطواف ثم بالسعي.

زيارة الآثار

في ضواحي مكة

يزور كثيرون من الحجاج في مكة المقبرة التي دفنت فيها زوجة النبي ، خديجة الكبرى ، وبعض الصحابة الأوائل ، والبيت الذي ولد فيه النبي ، ويصعدون إلى جبل أبو قبيس الواقع ضمن حدود المدينة ، وإلى جبل النور الذي يقع على بعد ستة فرستات تقريبا إلى الشمال من جبل أبو قبيس ، والذي كان يعتزل فيه النبي لأجل الصلاة ، ويمضون إلى جبل يقع على زهاء عشرة فرستات إلى الجنوب من المدينة ، كان النبي يتخفى فيه من ملاحقات وثنيي مكة. والجبلان الأخيران لا يزورهما الحجاج ، نظرا لبعدهما ، إلا في الشتاء ، أي في وقت أبرد.

السجود أمام قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم

في المدينة المنورة

ولكن ضريح محمد (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) في المدينة المنورة هو أكبر آثار الإسلام في الحجاز. صحيح أن السجود أمامه ليس فريضة على المسلمين ولا يمت بصلة إلى الحج ، ولكن الحجاج القادمين إلى الحجاز يقومون به جميعهم تقريبا ، حسب الظروف ، قبل الحج وبعده.

٢٤٢

والضريح موجود في المسجد الكبير بالمدينة المنورة المسمى كذلك ، على مثال مكة ، بالحرم الشريف.

المسجد الكبير

في المدينة المنورة

الحرم في المدينة المنورة الواقع في الطرف الشمالي الشرقي من المدينة والذي يشغل المكان الذي كان فيه فيما مضى بيت النبي ومسجده بني من جديد للمرة الأخيرة في عهد السلطان عبد المجيد الذي اعتمد لهذا الغرض ٧٥٠ ألف ليرة تركية (أكثر من ستة ملايين روبل) ؛ وهو عبارة عن مسجد غير كبير ، من طراز المسجد في مكة ، ولكن هندسته المعمارية أضخم وأغنى ، وحوله صف أوسع من الأعمدة ، وبخاصة من الجانب المواجه لمكة ؛ وزينته الداخلية أغنى. وقد استعملوا الغرانيت المحلي الضارب إلى الأحمر ، الجميل جدّا بعد الزينة ، مادة لأجل البناء. من الحجر ذاته نحتوا الأعمدة أيضا. والأرضية تتألف من بلاطات مرمرية مستجلبة من مصر. وتتميز تزيينات الجدران الداخلية ببذخ بالغ إذ أنها مغطاة بفسيفساء غنية وكتابات أنيقة بالذهب من آيات القرآن الكريم والأحاديث النبوية. ومكان مسجد النبي السابق الذي يشغل وسط القسم الجنوبي من الرواق ، يتميز بتزيينات ذهبية خاصة على الأعمدة. وهنا يوجد المحراب والمنبر المتميزان بنقش دقيق رائع ، والمقامان في مكانيهما السابقين ، كما كان الحال في المسجد الأولى. وإلى جانب مكان المسجد القديم ، يوجد من جهته اليسرى إذا وقف المرء مواجها الجنوب ، مكان البيت السابق للنبي محمد ، المحاط بمصبّع برونزي عال ، كثيف ، مرفق بستائر حريرية ، والمكلل فوق الحرم بقبة خضراء عالية. وفي هذا السياج المسمى الحجرة الشريفة أو الروضة المطهرة

٢٤٣

توجد قبور النبي محمد وخليفتيه الأولين أبو بكر وعمر ، المغطاة بغطاء حريري مشترك ، أخضر اللون مطرز بالأحجار الكريمة والخيوط الذهبية.

من الجانب الشمالي يلتصق بالحجرة الشريفة إنشاء آخر مماثل يوجد فيه قبر ابنة النبي فاطمة. وفي ساحة مكشوفة في وسط الحرم توجد روضة صغيرة وفيها بئر ، هما جنينة فاطمة وبئر فاطمة.

وللحرم خمس مآذن ، أربع في الشوارع وواحدة في الواجهة الشرقية. وللمدخل خمسة أبواب ، أكبرها ـ وعبره يدخل الحجاج ـ باب السلام ذو التلبيس الرائع الغنى.

في المساء ، ينيرون الحرم وجوانية الهجرة بمصابيح كالتي في مكة. وهناك أيضا شموع كبيرة مثل الشموع المستعملة في الكنائس ؛ وفضلا عن ذلك تتدلى في مختلف الأماكن ثريات بلورية تبرع بها الأغنياء.

ولإدارة الحرم ، المتواجد هنا أيضا في قبضة الأتراك ، يعينون شخصية محترمة بخاصة من عداد الجنرالات الأتراك المتقاعدين ؛ وتحت تصرفها ملاك كبير من الخدم المخصيين. أضف إلى ذلك أن بعض الأفراد ينالون ، من باب التكريم الخاص ، الحق في الاشتراك في تنظيف الحرم والهجرة.

والحجاج القادمون إلى المدينة المنورة يدخلون عبر باب السلام ؛ وحين يقتربون من مصبع الهجرة ، يتخذون وضعة الصلاة ويرددون بعد الدليل الصلوات العادية طالبين تدخل النبي في يوم القيامة. ثم يطوفون بالتتابع على مدافن أبي بكر وعمر وفاطمة ، وبهذا تنتهي الشعائر كلها.

٢٤٤

زيارة الآثار الأخرى

في ضواحي المدينة المنورة

في الأيام التالية يقوم الحجاج برحلة على بعد خمسة فرستات تقريبا إلى الشمال من المدينة ، وذلك إلى سفح جبل أحد حيث يوجد قبر الشخصية المكرمة جدّا سيدنا الحمزة الذي كان من أوائل اتباع الإسلام وأشدهم غيرة وحماسة ، والذي قتل هما في معركة مع المكيين. ثم يزورون مسجد الكعبة الذي يقع على نفس البعد من المدينة ولكن من الجهة المقابلة ، والذي توقف فيه النبي عند وصوله إلى المدينة المنورة بعد الهجرة. ويقطع البعض مسافة أربعة فرستات تقريبا إلى الشرق للذهاب إلى مسجد القبلتين حيث يوجد محرابان ، أحدهما موجه إلى القدس ، كما صلّى محمد في البدء ، والثاني موجه إلى مكة التي كانت قبلته عندما كان يصلي فيما بعد. ويزور الحجاج مقبرة المدينة المنورة حيث دفن عثمان الثالث الخلفاء الراشدين ؛ وأخيرا ، يذهبون ضمن حدود المدينة إلى قبر عبد الله ، والد النبي ، وقبر وأحد من الأئمة السنيين الأربعة ، مالك.

٢٤٥
٢٤٦

الفصل الخامس

حج المسلمين الروس

عدد الحجاج المسلمين الروس سنة ١٨٩٨

بسبب منع إعطاء جوازات السفر للحج ، وصل في هذه السنة إلى مكة عدد قليل جدّا من المسلمين الروس (من روسيا) ، ٤٥٠ شخصا فقط ، أي زهاء عشر العدد الذي يتوافد ، كما يقول الادلة ، في السنوات الموفقة.

أصناف الحجاج

من حيث القوميات ، كان العدد المذكور يتألف من ٢٥٠ قرغيزيا أغلبيتهم من مناطق سيبيريا ، وحوالي ١٠٠ شخص من سكان ما وراء القفقاس أغلبيتهم من محافظة يريفان ، وحوالي ١٠٠ تتري من مختلف محافظات روسيا الأوروبية ـ وبالضبط من بطرسبورغ ٦ أشخاص ، من محافظة ريازان ٢١ شخصا ، من محافظة بنزا شخصان ، من محافظة قازان ١٦ شخصا ، من موسكو شخصان ، من محافظة نيجني نوفغورود ٨ أشخاص ، من محافظة سيمبيرسك ١٤ شخصا ، من محافظة أوفا ١٢ شخصا ، من محافظة سامارا ٧ أشخاص ، من محافظة اورنبورغ ٩ أشخاص ، من محافظة استرا خان (عدا اورطة بوكييف (١) ٧ أشخاص ، ثم

__________________

(١) الاورطة البوكية (الاورطة الداخلية) ـ خانة (إمارة) كازاخية تابعة لروسيا ؛ دامت ـ

٢٤٧

٢٤٨

شخص واحد من محافظة توبولسك. ولم يكن هناك حجاج من تركستان ومن مقاطعة ما وراء قزوين ومن القرم.

من حيث الأشغال والمراتب ـ جميع القرغيز بايات (١) محليون من الرحل ؛ ولم أر بينهم سوى اثنين من رجال الدين سافرا لقاء أجر لأداء فريضة الحج بالنيابة عن الآخرين («لبدل»). وسكان محافظة يريفان الذين تظاهروا بأنهم داغستانيون لكي يتخلصوا ، أغلب الظن ، من دفع رسوم خاصة تستوفي في الحجاز من أهل الشيعة كانوا جميعهم بلا إستثناء زراعا ميسورين ، القادمون الآخرون من سائر أنحاء ما وراء القفقاس كانوا على الأغلب تجارا أغنياء. وكان بين التتر ١١ ملّا (من أئمة المساجد) ، سافر منهم ٩ على سبيل «البدل» ؛ أما الباقون فقد كانوا جميعهم من مرتبة التجار الميسورين إلى هذا الحد أو ذاك.

من حيث العمر ـ كان جميع الحجاج ، باستثناء قلة تافهة ، من المتقدمين في السن ـ كانت أعمارهم تتراوح بين ٥٠ ـ ٦٠ سنة.

أما القادمون مع عائلاتهم ، فكانوا أربعة فقط من التتر ، وكان مع أحدهم خمسة أولاد ، أصغرهم سنا في الرابعة عشرة من العمر.

الأسباب الرئيسية التي تحمل على الحج

الأسباب الرئيسية التي تحمل على الحج كانت أساسا ، بقدر ما استطيع أن أكوّن فكرة عنها ، الرغبة في إداء فريضة من فرائض الدين الالزامية الرئيسية ، والإيمان في الخلاص من الخطايا ـ الأمر الذي يشكل بنظر المتدينين ، ولا سيما في سنوات الشيخوخة ، سببا هامّا جدّا

__________________

ـ من عام ١٨٠١ إلى عام ١٨٧٦. اسميت باسم بوكي نور عليموف. كانت تقع بين الاورال ونهر الفولغا. دخلت في قوام محافظة استراخان.

(*) الباي يعني الغني.

٢٤٩

يجبر على القيام بهذه السفرة الصعبة ، والمحفوفة بالمخاطر. ومن جهة أخرى ، يعود بلا ريب بعض الدور إلى الغرور ورغبة المرء في أن يكتسب في وسطه بعض الوزن والوقار المتعلقيم بلقب «الحاج» ، رغم أن هذا اللقب بين المسلمين في روسيا الداخلية لا بعد من أن يحظى الآن بذلك الاحترام الذي كان السفر يتطلب ما لا يقل عن سنتين ، حين كان لا يقدم على الحج غير عدد قليل جدّا ممن يحدوهم شعور ديني عميق ويملكون ما يكفي من الأموال ؛ وهذان العاملان نادرا ما يجتمعان عند مسلمينا. ومع تطور البواخر والسكك الحديدية أصبح من الممكن القيام بالسفرة كلها في غضون شهرين أو ثلاثة وبنفقات غير كبيرة ، فتكاثر الحجاج كثيرا جدّا ، وبينهم لا يندر أن يتواجد أفراد لا يتمتعون بسمعة طيبة.

وهدف أولئك الحجاج الذين يذهبون إلى الحج من باب «البدل» هو بالطبع كسب بعض المال.

وفي هذه السنة كان ثمة مثال آخر أيضا ؛ فإن تاجرا غنيّا قد أرسل ابنه بأمل تخلصه زيارة الأماكن المقدسة من الأدمان على المشروبات الروحية.

مقدار المبلغ الضروري لأجل الحج

الحد الأدنى من المبلغ الضروري للقيام بالحج فقط ، أي بدون زيارة المدينة المنورة ، هو في السنوات التي لا يقتضي فيها الحال الحجر الصحي ٣٠٠ روبل. أما في حال الرغبة في زيارة قبر النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) ، فينبغي حوالي ٥٠٠ روبل. وعلى العموم يأخذ حجاجنا من ذوي اليسر المتوسط حوالي ١٠٠٠ روبل في الطريق. وإذا افترضنا انه ينبغي على الراغب في الحج أن يبقى في بيته مبلغا مماثلا لتأمين عائلته حتى عودته ، فإن فريضة الحج تكون الزامية من وجهة نظر الشريعة على جميع المسلمين الذين يستطيعون انفاق مبلغ الفي روبل. وعادة يأخذ «البديل» مبلغا يتراوح بين ٥٠٠ و ١٠٠٠ روبل.

٢٥٠

الاستعدادات للسفر

يتخذ مسلمونا القرار بالسفر إلى مكة المكرّمة بصورة مستقلة أو بناء على نصيحة المّلا (إمام المسجد) قبل موعد الحج بسنة كاملة ؛ ومذ ذاك تبدأ الاستعدادات تدريجيا : يستعلمون عن الأشخاص الآخرين الذين يعتزمون الحج ، يؤلفون فرقا من أقرب الأشخاص من حيث مكان الإقامة أو من الأقارب ، يدبرون الشؤون البيتية ، يصفّون جميع الحسابات النقدية ، يكتبون الوصايا ، وما إلى ذلك. وجميع الحجاج على العموم ، والذاهبون من روسيا على الخصوص يأخذون معهم كمية كبيرة من شتى الأشياء لأنهم يستفيدون من نقل قسم منها مجانا في البواخر وفي السكك الحديدية المصرية. أما الأشياء الضرورية لهذه السفرة فهي في المقام الأول السماور ، وآنية الشاي والمطبخ ، والشاي الروسي الذي يصعب الحصول عليه في الخارج ، ومختلف المأكولات بما فيها بضعة أكياس مليئة بأرغفة مجففة من خبز الجودار ، يقدرها حجاجنا في الحجاز خاص التقدير ، وعنب الثعلب الأسود المجفف ، والفالوذة ، وما شاكلها : ولكن قرغيزيينا يأخذون المؤن معهم أكثر من الجميع ، بما في ذلك لحم الخيل المملح ، وأصناف السجق المدهن ، وجبنة الغنم المملحة الجافة (الكروت) ، والخ ..

وأخيرا ينطلق الحجاج عند نهاية رمضان بالذات ، أي قبل موعد الحج بشهرين ، ويودعهم بمهابة واحتفال جميع أقاربهم ومعارفهم إلى نقطة التجمع المعينة سلفا ، وعادة إلى أقرب مدينة أو إلى محطة كبيرة للسكة الحديدية.

في السنوات غير الموفقة ، يعرف الراغبون في الحج ، وعادة قبل فترة وجيزة من السفر ، بأمر الحكومة بعد إعطاء جوازات سفر للحج ، ويقرأون الرسائل السيارة التي تصدرها جمعيات المسلمين الدينية بنصائح الامتناع هذه السنة عن السفر إلى الحجاز.

٢٥١

وفي هذه الأحوال تؤجل الأغلبية السفر إلى سنة أوفق ، ولكن البعض لا يرى في هذا الأمر سوى التضييق على ممارسة الشعائر الدينية ، ولا يصدقون البتة في وجود الأوبئة ويسافرون ، وذلك استنادا إلى أنباء من أقاربهم في الحجاز الذي يعني الامتناع عن الحج بالنسبة لهم الحرمان من كل كسب في زمن الحج. وهناك أشخاص ، وبخاصة ممن أرجأوا في السنوات السابقة سفرهم ، يفترضون انه قد يقوم في السنوات القادمة منع أشد صرامة ، وانه لن يتسنى لهم أبدا القيام بالحج إذا ما انتظروا أزمانا ملائمة ، وانه لا مفر من القدر ، وما إلى ذلك ، فيقررون هم أيضا السفر.

الحصول على جوازات السفر

حجاج هذه السنة من منطقة ما وراء القفقاس أخذوا بمعظمهم جوازات السفر حسب أماكن إقامتهم ، والتتر في موسكو على الأغلب ؛ ستة أشخاص فقط منهم أخذوا جوازات السفر في بطرسبورغ ، واثنان في سيمبيرسك (١) وثلاثة في فرصوفيا (٢) ؛ والقرغيز في موسكو واوديسا.

يحصلون على التأشيرات من القناصل الأتراك للسفر حتى القسطنطينية حيث الحجاج ملزمون بأخذ جوازات السفر التركية التي لا يصلح غيرها لمواصلة السفر ، ولذا يترك بعض من المسافرين إلى مكة جوزات السفر الوطنية في القسطنطينية ، ولا يعرضونها فيما بعد وفي أي حال من الأحوال في أي مكان تخوفا من المصاعب أثناء العودة إلى روسيا. وعلاوة على ذلك يستحصل البعض في الإسكندرية أو في السويس جوازات سفر مصرية لا يقبلون بدونها الركاب ، في حال العودة ، على بعض بواخر الشركة الخديوية التي لا تنقل غير سكان مصر.

__________________

(١) سيمبيرسك (منذ سنة ١٩٢٤ اوليانوفسك) ـ مدينة على نهر الفولغا. حاليا مركز مقاطعة. مرفأ على خزان كويبيشف المائي.

(٢) منذ سنة ١٨١٥ ، عاصمة المملكة البولونية في قوام روسيا.

٢٥٢

يستغرق تحرك حجاجنا بالمتوسط ٦ أشهر ـ في السنوات الأخيرة من شباط (فبراير) إلى آب (اغسطس) ؛ ولكن التحرك بدأ باكرا جدّا لسنة ١٨٩٩ ؛ ففي كانون الأول (ديسمبر) تقابلت في مصر مع بعض مجموعات من المسافرين إلى الحجاز ممن غادروا ربوعهم باكرا ، قبل أن يصعب الحصول على جوازات السفر.

من الصعب الإشارة إلى إجراءات فعالة يمكن بها ، عند الاقتضاء ، الحؤول دون سفر مسلمينا إلى الحجاز. لربما إعطاء جوازات السفر حسب مكان الإقامة فقط ، أو لربما المطالبة الزاما بأن يقدم الراغبون في السفر شهادات من سلطاتهم البوليسية حتما بعدم وجود موانع للسفر إلى الخارج ، من شأنهما أن يخفضا عدد الراغبين في الحج ؛ ولربما يتعين كذلك تحذير جميع المسافرين إلى تركيا من المصاعب التي تترصدهم عند العودة إلى روسيا.

الخروج من حدود روسيا

الأبواب التي يخرج منها حجاجنا هي أوديسا وسيباستوبول بالنسبة لروسيا الداخلية وسيبيريا ، وباطوم بالنسبة للمسافرين من آسيا الوسطى واقليم ما وراء قزوين ، وفي هذه السنة ، كان هناك ثلاثة من رعايا روسيا أخذوا جوازات سفر في فرصوفيا وسافروا إلى القسطنطينية بالسكة الحديدية عبر فيينا.

في جميع الموانئ الواقعة سواء ضمن حدود روسيا أم في تركيا ومصر ، والتي تجري عبرها حركة الحج الرئيسية ، يوجد عملاء يستقبلون الحجاج ويعمدون إلى إنزالهم عادة في بيوتهم ، ويستحصلون لهم على الوثائق الضرورية ، ويقودونهم لإجراء مختلف الشروات ، ويستغلون باوقح نحو الناس غير المطلعين.

٢٥٣

٢٥٤

القسطنطينية بوصفها نقطة متوسطة هامة

تذاكر السفر لا تؤخذ في البدء إلا إلى القسطنطينية ، النقطة المرحلية الرئيسية بالنسبة لجميع المسافرين من روسيا. وفي القسطنطينية يبقى الحجاج أسبوعا تقريبا ويتزودون بجوازات السفر التركية. ويبادلون قسما من النقود بالنقود التركية لنفقات الطريق ، ويسترون مستلزمات الاحرام ، ويستعلمون عن البواخر الذاهبة إلى جدّة ، وما إلى ذلك.

السفر إلى جدّة

تقوم أربعة شركات للملاحة بنقل الحجاج لاحقا إلى جدّة أو إلى ينبع.

١ ـ الشركة الروسية للملاحة والتجارة التي تنقلهم إلى الإسكندرية فقط ، وتسلمهم إلى عميل شركة الملاحة ماغري ريني وشركاه فينقلهم بالسكة الحديدية إلى السويس لأجل نقلهم لاحقا على بواخر الشركة.

٢ ـ الشركة الصغيرة ماغري ريني وشركاه التي لا تملك سوى باخرتين سيئتين ، وقديمتين جدّا تعملان بين مرافئ البحر الأحمر.

٣ ـ البواخر الخديوية المصرية السابقة التي اشترتها الشركة الإنجليزية;Khedivial Mail Steamship and Graving Dock وهذه الشركة تملك ١١ باخرة غير كبيرة يعمل بعض منها خصيصا على نقل الحجاج في زمن حركة الحج ، فتقوم برحلات مباشرة من القسطنطينية عبر قناة السويس إلى جدّة ذهابا وإيابا.

٤ ـ البواخر الحكومية التركية ، وهي اسوأ البواخر واقذرها ، وتنقل الحجاج هي أيضا برحلات مباشرة معرّجة على أصغر المرافئ كافة في آسيا الصغرى وسوريا.

٢٥٥

وعلى جميع البواخر التي تقوم بنقل الحجاج ، يوجد أطباء تحت تصرفهم صيدليات صغيرة.

الأشخاص المسافرون في حجرة من الدرجة الأولى أو من الدرجة الثانية يتواجدون بمثابة استثناء نادر جدّا ؛ والحجاج العاديون يشغلون في المعتاد أماكن على المتون أو في العنابر دافعين لقاء السفر إلى ينبع أو إلى جدّة ليرتين تركيتين (حوالي ١٧ روبلا) بالفرد الواحد ، ولكن البواخر التركية تنقل كذلك مجانا جمهور الحجاج الفقراء ذهابا وإيابا.

تأخذ بواخر الشركات الثلاث الأخيرة عددا من الركاب كبيرا إلى حد أن تكتظ الباخرة كلها بهم حقا وفعلا ، غير تاركين أية ممرات على الإطلاق. وقد تأتي لي أن أسافر من السويس إلى جدّة على سفينة صغيرة لشركة ماغري ريني وشركاه ؛ كان عدد الركاب ٨٥٠ شخصا فاحتشدوا فيها بضيق لا يوصف. وبسبب قلة الأماكن ، شغلوا كل متن الدرجة الأولى ونصف مركز الربان ، وحتى ملأوا زوارق الانقاذ. وكان اكشاك مركبة كيفما اتفق من الواح خشبية ومعلقة خارج المتن بمثابة مراحيض ؛ ولأجل الوصول إليها كان ينبغي التسلق فوق سياج عال ، الأمر الذي كان بالنسبة للكثيرين عملية صعبة ؛ وعشية الوصول إلى جدّة ، هبت في المساء عاصفة قوية ودامت الليل كله ؛ ومن الصعب أن يتصور المرء ما حدث آنذاك على هذه الباخرة المكتظة بالناس. ومن الأحاديث مع الطبيب علمت أنه تحدث بين الصغار أثناء الانتقال محتلف الأمراض الوبائية وأن ولدين ماتا في الرحلة السابقة من الدفتيريا (الخناق). ولا يجري التطهير الوقائي في الباخرة.

في طريق العودة سافرت من ينبع على باخرة أفضل تابعة للشركة الخديوية سابقا ، ولكن الضيق هنا أيضا لم يكن أقل رعبا ، بل كان أشد وأقسى من جراء القيظ الرهيب. وفي العنبر وفي الحجرات لم يكن ثمة

٢٥٦

قطعا أي هواء للاستنشاق ، وكان الركاب هنا متمديين مرضى بأغلبيتهم بسبب القيظ وكتمة الهواء. وجعلت قيادة الباخرة من قسم الدرجة الأولى درجة خاصة ؛ لقاء مبلغ إضافي قدره ليرة ونصف ليرة ، انزلوا هنا ركاب الدرجة الثالثة ، وسرعان ما اكتظ القسم كله بالفرس. وأثناء الرحلة يطبخ جميع الحجاج لأنفسهم المآكل على مناقل يضعونها في كل مكان من العنبر ومنالمتن ، ويشعلون النار تحت السماورات في كل مكان ، ويشعلون النارجيلات ، وكل هذا لا يحسبون انه يشكل خطرا. يبقى أن أضيف انه غالبا ما تنشب في قلب هذا الجمع المتعدد القوميات خلافات ومجادلات بسبب الأماكن تنتهي أحيانا بالشجار ، علما بانه ليس بمقدور أفراد طاقم الباخرة أن يفعلوا شيئا بسبب قلة عددهم.

النزول في جدّة أو في ينبع

ينزل حجاجنا عادة في ينبع إذا سافروا في الوقت المناسب الباكر ، ومنها يتوجهون إلى المدينة المنورة ، ومنها إلى مكة المكرّمة. هذا الخط انسب في الوقت الحاضر إذ يجري الحج في شهر نيسان (ابريل) لأنه لا يتعين السفر بالقافلة في وقت حار جدّا. وإذا وصلوا بعد ذلك ، فإنهم ينطلقون رأسا إلى جدّة ؛ وقبل الوصول بقرابة ١٢ ساعة إلى المرفأ المذكور ، يخلع جميع الحجاج كل البستهم ويكشفون رؤوسهم ويلتفون بثياب الاحرام. أما الذين يمضون من المدينة المنورة فيقومون بذلك في رابغ. ولا ريب في أن هذا اللباس الخفيف وتعرية الرأس الذي يغطيه المسلمون على الدوام يضرّان كثيرا بصحة الحجاج الذين لم يتعودوا على المناخ الحار المحلي. ويحاول بعض منهم ، ممن هم أوفر تجربة ، أن يقللوا من تأثير ثوب الأحرام الضار ، فيطلقون الشعر الطويل في الوقت المناسب ، ويشترون هذا اللباس من قماش اسمك. وحين ينزل الحجاج في جدّة ، يتوزعون على الشقات بحيث يستأجر بضعة أشخاص غرفة

٢٥٧

واحدة ، ثم ينطلقون مع القافلة الأولى إلى مكة. ولكن جدّة كانت مغلقة في السنة الجارية بسبب الحجر الصحي ، فانزلونا على بعد ٢٠ فرستا تقريبا إلى الجنوب منها في محلة الرأس الأسود المحاطة ، مثل جدّة ، بسلاسل من الصخور قرب سطح الماء لا تسمح باقتراب البواخر من الشاطئ فترسو على بعد منه يتراوح بين ٧ و ٨ فرستات. وفي اليوم الثاني من وصولنا اقترب من الباخرة زهاء عشرين زورقا شراعيا كبيرا وأخذت تستقبل الركاب ؛ وبما انه حدث قبل ذاك بومن قصير حادث مؤسف ، كان زورق يأخذ الأمتعة والطاقم فقط ، بينما كان زورق آخر يأخذ الركاب ، وكان الزورق الأول يقطر الثاني. تقطع الزوارق المسافة إلى الشاطئ في أكثر من ساعة ، متموّرة على الدوام بين الصخور التحتمائية ، وناطحة إياها أحيانا كثيرة بقاعها.

الرأس الأسود

الرأس الأسود عبار عن شاطئ رملي منخفض مزود برصيف مبني كيفما اتفق تلتصق به شقيفتان مركبتان من الواح خشبية ؛ وأبعد قليلا نصبوا خياما لأجل الحجاج القادمين ، ويتواجد بازار صغير ، وكل هذا محاط بحواجز خشبية يسير بمحاذاتها حراس. وراء الحواجز اقيمت فساطيط بشكل نصف دائرة لأجل الطابور الواقف هنا لحراسة الحجاج ومرافقتهم. وإلى أبعد ، كان البدو مع جمالهم وشقادفهم وحميرهم ينظرون من يستأجرهم.

قبل الوصول إلى الشاطئ ببضع ساجينات ، توقفت الزوارق وأخذوا مسبقا من كل منا نصف مجيدية (حوالي ٨٠ كوبيكا) في صالح المحجر الصحي ؛ وبعد ذاك فقط سمحوا لنا بالنزول إلى الرصيف. وهنا ، تحت السقيفتين ، يوجد صندوقان يأخذون بقرب أحدهما مرة أخرى في صالح المحجر الصحي نصف مجيدية من كل حاج ، ويتحققون بقرب الآخر من

٢٥٨

الوثائق ، ومن ليس معهم جوازات سفر تركية يزودونهم بها ، ثم يتفحصون الأمتعة ، وأخيرا يسمحون بالخروج إلى الشاطئ.

وعشية النزول ، أخذنا أنا وكثيرون من الحجاج القادمين من الشمال نعاني من اختلال قوى في المعدة وبعطش معذّب ولا يرتوي وبضعف غير عادي لم أستطع أنا شخصيا أن أتخلص منه تماما طوال إقامتي في الحجاز.

في الرأس الأسود ، اصطدمت للمرة الأولى بالأنظمة التركية غير المعقولة إطلاقا ، بدءا من مسألة الماء. فإن ماء الشرب يستجلبونه إلى هنا من جدّة على زوارق شراعية لا تستطيع أن تبحر إلا نهارا بسبب من وفرة الصخور التحتمائية وإلا إذا هبت ريح مؤاتية إلى هذا الحد أو ذاك. والماء المستجلب يبقى في الزوارق ، وليس على الشاطئ أية خزانات أو أية احتياطيات. وفي يوم وصولنا نفذ كل احتياطي الماء حوالي الظهر ، وراحت الزوارق إلى المدينة لجلبه. وحوالي الساعة الرابعة نفد كل احتياطي الماء عند الحجاج ، فأخذوا ينتظرون عودة الزوارق متجمعين جمعا ضخما جدّا على الرصيف ، ولكنهم عبثا انتظروا حتى ساعة متأخرة من الليل وسافروا في اليوم التالي دون أن يحصلوا على الماء.

كذلك لم أفهم الواقع التالي ؛ ففي يوم وصول البواخر ، جاء بحرية من جدّة ، رغم الحجر الصحي ، باعة بالمفرق طفقوا يبيعون بين الحجاج شتى التوافه ؛ وكثيرون من التجار ممن كانت لهم هنا دكاكين كانوا يوصلون الاتصال مع المدينة بلا عائق ؛ وأخبرني سواقو الحمير أنهم ، في طريقهم من مكة ، عرجوا على جدّة ثم على البحرة وحدّة ؛ وقد رأيت شخصيا بضع جماعات من الجنود جاؤوا مباشرة ، كما قالوا ، من المدينة الموبوءة.

في الرأس الأسود ، كان القنصل الفارسي يعمل على الدوام في هذه السنة وكان فسطاطه الغنى الذي تنيره في المساء المشاعل من كل الجوانب يسترعي إنتباه جميع الحجاج.

٢٥٩

الانتقال إلى مكة

قررنا أنا وثلاثة رفاق أن ننتقل إلى مكة على ظهور الحمير ، وأردنا أن ننطلق في اليوم نفسه قبيل المساء ، ولكن لم يسمحوا لنا ، قائلين انه ، نظرا لمخاطر الطريق ، سينطلق الجميع معا غدا بحراسة حفر خاص. وبالفعل رافق القافلة في اليوم التالي خفر قوي من الخيالة ولكن المسافرين على ظهور الحمير تفرقوا جماعات صغيرة ومضوا في طرق مختلفة ، كل جماعة على هواها.

قرب البحرة ، حيث تدخل الطريق وادي فاطمة العريض ، ينفصل إلى اليسار درب أقصر ؛ وكثيرون ممن راحوا في هذا الدرب تعرضوا ، كما تبين ، لهجوم البدو. في البدء رأينا جنديّا تركيّا راكضا صوبنا من جانب الدرب المذكور ، وملوحا بيديه ، وصائحا ، وأوضح لنا أن رفيقيه الاثنين الذاهبين معه في الحج من جدّة إلى مكة قد قتلوهما للتو بالاحجار. نقلناه إلى البحرة وهناك أغمي عليه. وبعدنا أخذت تصل جماعات الحجاج الأخرى الماضية على ظهور الحمير وتتشطء من أنهم سلبوا أحدهم ٣٠ ليرة وسلبوا آخر ٤٠ ليرة وهكذا دواليك ؛ وأخيرا ظهر جندي آخر كان ، كما تبين ، عازفا في الطابور المرابط في جدّة وابلغ الضباط الأتراك الجالسين هنا في المقهى أن البدو قتلوا رفيقه. وقابل الضباط الأتراك جميع هذه البيانات والشكاوي ، كما يقابلون ظاهرات عادية ، ببالغ اللامبالاة ، رغم أن كل هذا حدث على مقربة قريبة من البحرة ؛ تأسفوا على القتلى والمسلوبين ، وشتموا البدو ، وطفقوا يتجادلون بصدد من منهم يرسل جملا لأخذ الجنود القتلى.

إن كثيرين ممن يمضون على ظهور الحمير يصلون إلى مكة في يوم واحد لأن هذه الحيوانات تتميز هنا بالجلد الكبير والقامة الضخمة والمشية الجيدة ، ولكنا نحن قضينا الليل في حدّة بسبب مرضي ، ووصلنا

٢٦٠