الرحلة السرية للعقيد الروسي عبد العزيز دولتشين إلى الحجاز

عبد العزيز دولتشين

الرحلة السرية للعقيد الروسي عبد العزيز دولتشين إلى الحجاز

المؤلف:

عبد العزيز دولتشين


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: الدار العربيّة للموسوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٦

أدت سياسة روسيا حيال الإسلام إلى تعاظم التعاطف معها في صفوف الشعوب الإسلامية. وإننا نجد دليلا طريفا على ذلك في «تقرير» دولتشين الذي أورد قول المدرّس السيّد علي ظاهر المشهور في الحجاز : «إيماننا صحيح ؛ ولا ريب في هذا ؛ ولكن لا وجود للعدالة في الدول الإسلامية ؛ يجب البحث عن العدالة عند الروس» (١). وفي هذا كان اخصام روسيا يستشفون خطرا على مصالحهم. وفي سنة ١٨٧٣ اتهمت الجريدة الإنجليزية» Pall ـ Mall Gazette «روسيا بدعم الهيئات الدينية الإسلامية إذ رأت فيه مكائد ضد إنجلترا (٢). وفي سنتي ١٨٧٣ و ١٨٧٤ غالبا ما كان الشاه الإيراني نصر الدين يردد «إن الروس أخطر من الإنجليز لأن المسلمين يكرهونهم أقل مما يكرهون الإنجليز» (٣).

على تخوم القرنين التاسع عشر والعشرين تبدت بكل وضوح في أوساط المسلمين من رعايا روسيا أيضا التغيرات في وعي الشعوب الإسلامية الديني ، ونشوء الاتجاهات المتصلة بتعاليم المهدي والبعث الإسلامي وتطور الميول الإصلاحية في الفكر الديني والفكر الاجتماعي السياسي. وفي عداد الوقائع من هذا النوع يسترعي الانتباه ظهور «فوج فايسوف الرباني» في سنة ١٨٦٢ ، الذي أسسه بهاء الدين فايسوف (١٨٠٤ ـ ١٨٩٣) والذي دام حتى سنة ١٩١٨ ، عندما قتل ابن مؤسس

__________________

(١) راجع أدناه «التقرير» ، ص ٦٤.

(٢) مقال الجريدة الإنجليزية هذا كان صدى لمقالة «الملالى المتجولون» («بيرجيفي فيدوموستي». سانت بطرسبورغ ، العدد ٣١٢ بتاريخ ٢١ ـ ١١ ـ ١٨٧٣). ردت الجريدة الروسية على حملات» Pall ـ Mall «بمقالتين : «تطلعات بريطانيا إلى الجزيرة العربية والاتهام الجديد ضد روسيا» (العدد ٣١٩ بتاريخ ٢٨ ـ ١١ ـ ١٨٧٣) و «اتهام روسيا بحماية الإسلام» (العدد ٣٣٩ بتاريخ ١٨ ـ ١٢ ـ ١٨٧٣).

(٣) راجع

B. G. Martin. German ـ Persian Diplomatic Relations. ٣٧٨١ ـ ٢١٩١. Monton, ٩٥٩١, ٧٢.

٢١

٢٢

الحركة عنان الدين فايسوف الذي واصل قضية والده. إن ايديولوجية هذه الحركة التي كانت تحظى دوريّا بواسع الانتشار بين السكان المسلمين في منطقة الفولغا كانت ترتبط سواء بتقاليد الطريقة «النقشبندية» أم بأفكار البعث. وقد طالب زعماء هذه الحركة في مؤلفاتهم وفي ممارستهم (١) سواء بالخضوع التام لأحكام القرآن ، أم بالامتناع المطلق عن الاتصال مع سلطات الدولة ومع ممثلي الإسلام التقليدي. وقد احيل الفايسوفيون إلى المحاكمة بسبب الامتناع عن إداء الخدمة العسكرية ، كما إن مؤسس الحركة توفي أثناء سجنه في مستشفى الأمراض النفسية في دائة قازان. ورغبة في نيل الدعم من جانب الرأي العام الروسي تراسل ابنه وتلاقي مع ليون تولستوي (٢).

إن انتشار الأمزجة المهدية التي كتب عنها دولتشين قد مس كذلك أراضي الامبراطورية الروسية. فقد كتبت جريدة «سانكت ـ بيتر بورغسكيه فيدوموستي» (العدد ٦٤ لسنة ١٨٨٣) في رسالة «من القفقاس» إن مسلمي القفقاس يتحدثون دائما عن قرب مجيء المهدي وأن أنباء

__________________

(١) بهاء الدين فايسوفز طريقي خوجاغون (طريق الحجاج). قازان ، ١٨٧٤. عنان الدين فايسوف. جواهري حكمتي درويشون. (أثمن أقوال الدراويش الحكيمة). قازان ، ١٩٠٧. ورقة القسم المقدسة. إصدار جمعية مسلمي فوج فايسوف الرباني. قازان ، ١٩٠٨. المعرفة المقدسة وتصريح عضو فوج فايسوف الرباني. قازان ، ١٩٠٨.

(٢) أ. ف. مولوستفوفا. فوج فايسوف الرباني. عالم الإسلام. م l ,٢١٩١.٩٤١ ؛ ي. كوبلوف. الكونت ل. ن. تولستوي والإسلام. بصدد مراسلات ل. ن. تولستوي مع تتر قازان. قازان ، ١٩٠٤ ؛ Choodja Muchammed Cajan Waisow. Les» Weisowens «ET Lean Tolstoy. ـ Annuaire tartar. Vilao, ٢٣٩١, I, ٥١٢ ـ ١٢٢ راجع كذلك ن. ف. كابانوف. معطيات جديدة عن الشيعة الفايسوفيين. قازان ، ١٩٠٩ (ملزمة منفردة من مجلة «برافوسلافني سوبسيدنيك» لسنة ١٩٠٩) ؛ عبد الله كيلديشوق. عنان فايسوفني توزاغي (فخ عنان فايسوف). قازان ، ١٩٠٨.

٢٣

الجرائد عن المهدي السوداني «صبّت النار في لهيب التوقعات الشعبية ، وأن المسلمين تتبعوا بانتباه وتوتر الأحداث التي تتطابق مع تعاليم الكتب الإسلامية». ويستفاد من أقوال ن. ب. أوسترووموف الذي استشهد بأحاديثه مع المسلمين أن الحجاج المسلمين من رعايا روسيا الذاهبين إلى مكة والمدينة كانوا يحاولون أن يروا في الطريق المهدي الذي كان قد بدأ العمل في السودان وأن ينحنوا أمامه ...» (١). وفي سنة ١٨٨٨ ، جاء إلى مدينة أوفا البشكيريان تشوفاشوف وعبدالوف ، وصرح الأول إنه «النبي المهدي» وأعلن الثاني إنه «رسول النبي». وقال الاثنان أنهما جاءا إلى أوفا ليخاطبا المفتي والعالم الإسلامي كله. وقد اعتبروا الإثنين مجنونين (٢).

ومن جراء اليقظة القومية والثقافية للشعوب الإسلامية القاطنة في روسيا ظهرت في أوساط المثقفين القوميين جماعة من الكتاب الإجتماعيين والسياسيين ممن كتبوا من مواقع إصلاحية. وأبرزهم كان رئيس تحرير الجريدة الروسية التترية «بيريفودتشيك» / «الترجمان» (مدينة بختشي سراي) إسماعيل بك غاسبرينسكي (١٨٥١ ـ ١٩١٤) الذي كان غالبا ما يتحادث مع ليون تولستوي أثناء إستراحته في غاسبرا ، وإمام سانكت بكرسبورغ عطا لله بايازيدوف (توفي سنة ١٩١١) ، والكتاب الإجتماعيون والسياسيون أحمد بك اغايف ، ودولت قيلدييف ، وسليم غيري سلطانوف (٣). وقد عرضوا في مقالاتهم وكراريسهم أفكارا قريبة

__________________

(١) ن. ب. اوسترووموف. السالة المسيحية. قازان ، ١٨٩٤ ، ١٥٩.

(٢) المرجع ذاته ، ١٥٩ ـ ١٦٢ ؛ جريدة «أورنبورغسكي ليستوك» («ورقة أورنبورغ»). أورنبورغ ، العدد ٤٢ بتاريخ ١٥ ـ ١٠ ـ ١٨٨٩.

(٣) راجع ، مثلا ، أي. غاسبرينسكي. الإسلام الروسي (مقتطفات من الأعداد ٤٣ ـ ٤٧ من «توريدا» لسنة ١٨٨١ مع إضافات). سيمفيروبول ، ١٨٨١. غاسبرينسكي أيضا : ـ

٢٤

جدّا من أفكار كبار المصلحين المسلمين من أمثال سيّد أحمد خان (١٨١٧ ـ ١٨٩٨) ، وجمال الدين الأفغاني (١٨٣٩ ـ ١٩٠٩) ، ومحمد عبده (١٨٣٤ ـ ١٩٠٥). إن انتقاد الموقف الذي وقفه أرنست رينان في محاضراته في جامعة السوربون (١) لم يظهر في مقالة الأفغاني المنشورة في» Journal des debats «وحسب ، بل ظهر كذلك في كراس بايازيدوف «موقف الإسلام من العلم وغير المسلمين» (سانكت بطرسبورغ ، ١٨٨٧). وكانت قضية إصلاح التعليم (٢) من عداد القضايا الرئيسية التي تناولها الجدال بين المسلمين التقدميين («الجديداتين») والمسلمين

__________________

ـ الاتفاقية الروسية الشرقية. أفكار ، ملاحظات ، تمنيات. بختشي سراي ، ١٨٩٦ ؛ بايازيدوف. الإسلام والتقدم. سانت بطرسبورغ ، ١٨٦٨ ؛ أحمد بك اغايف. المرأة بموجب الإسلام وفي الإسلام. تفليس ، ١٩٠١ ؛ دولت ـ كيلدييف. محمد كنبيا. سانت بطرسبورغ ، ١٨٨١ ؛ سليم غيري سلطانوف. منطقة المسلمين المقدسة في الجزيرة العربية. موسكو ، ١٩١٦. راجع كذلك ن. اشمارين. لمحة في نشاط تتر قازان المحمديين الأدبي في سنوات ١٨٨٠ ـ ١٨٩٥. بتحرير أ. ي. كريمسكي. موسكو ، ١٩٠١. راجع كذلك : A. Battal ـ Taymas Musa Garulla Bigi. Kiisilgi, fikir, hauati ve eserlery. ـ Kazanli Turk Meshirlarindan. II, Istanbul, ٨٥٩١. ونشرت مواد طريفة عن نشاط غاسبرينسكي كذلك في مجموعة» Tataes of the Crimea : their struggle for survival. Original studies ftom North America, unocial and ocial documents from Czarist and Soviet sources. E. Allworth, ed. Durham, ٨٨٩١.

(١) هذه المحاضرة نشرت في روسيا بالترجمة الروسية : ارنست رينان. الإسلام والعلم. خطاب القي في إجتماع «الرابطة العلمية الفرنسية» (التي أسسها ليفيريه عام ١٨٦١) في ٢٩ آدار (مارس) في مدرّج السوربون الكبير. سانت بطرسبورغ ، ١٨٨٣.

(٢) راجع فايز خانوف ، اصلاح مدارس. قازان ، ١٨٦٦ ؛ (عبد الرؤوف فترات). فترات البخاري. جدال مدرّس بخارى مع أوروبي في الهند وفي مدارس المنهاجية الجديدة («النتيجة الحقيقية لتبادل الأفكار». الطبعة الأولى طبعت في المطبعة الإسلامية في اسطمبول). نقلها عن الفارسية العقيد ياغيللو. لا يجوز النشر. طشقند ، ١٩١١.

٢٥

المحافظين («القديماتيين»). وقد تعاون المسلمون التقدميون مع الأحزاب المعارضة ، ورحبوا فيما بعد بأحداث سنة ١٩١٧. وبالمقابل استثار نشاطهم حذر السلطات الرسمية وارتيابها ، وانتقاد وغضب الشوفينيين المفعمين بروح الدولة الكبرى. وقد كتب أحدهم ، وهو ن. أي. ايلمينسكي (١٨٤٢ ـ ١٨٩١) : «المتعصب بدون التعليم الروسي واللغة الروسية أفضل نسبيّا من التتري المتمدن على الطريقة الروسية ، والاريستقراطي اسوأ من هذا الأخير وذو التحصيل الجامعي اسوأ أيضا» (١). وقد وافقه في الرأي ف. تشيريفانسكي ، عضو «المداولة الخاصة في شؤون الإيمان» ، ومؤلف عدد من البحوث كان بهاؤها بمثابة تحذير من «خطر فادح» مزعوم يتهدد بلدان أوروبا من جانب العالم الإسلامي (٢). ولكن الآراء من هذا النوع لقيت الرد والصدّ سواء في الصحافة الديموقراطية الروسية أم في بحوث المستشرقين الروس الحقيقيين (٣).

ومن قلق الأوساط الحاكمة بصدد الوضع في المناطق الإسلامية من الامبراطورية الروسية ، نبعت ضرورة جمع المعلومات الموضوعية بشأن مجموعة القضايا المتعلقة بدور الإسلام في الحياة الإجتماعية والسياسية للسكان المسلمين في روسيا ، بما فيها قضية حج المسلمين من رعايا روسيا. وبناء على أمر من محافظ تركستان س. م. دوخوفسكي ،

__________________

(١) ن. أي. ايلمينسكي. رسائل. قازان ، ١٨٩٥ ، ١٧٤ ـ ١٧٥.

(٢) راجع ، مثلا ، ف. تشيريفانسكي. عالم الإسلام ويقظته. المجلد ١ ـ ٢. سانت بطرسبورغ ، ١٩٠١ ؛ تشيريفانسكي أيضا : ملاحظة بصدد شؤون إيمان السنة. سانت بطرسبورغ ، ١٩٠٦.

(٣) راجع. مثلا ، أ. كريمسكي. الإسلام ومستقبله. موسكو ، ١٨٩٩ ؛ ف. ف. بارتولد. الفكرة التيوقراطية والسلطة الدنيوية في الدولة الإسلامية. سانت بطرسبورغ ، ١٩٠٣.

٢٦

انشئت في سنة ١٨٩٨ لجنة خاصة لدراسة أحوال ونشاط رجال الدين المسلمين في أقليم تركستان. وقد نشر التقرير عن نشاط هذه اللجنة في سلسلة «مواد في الإسلام» التي شرعت تصدرها في عام ١٨٩٨ هيئة أركان الدوائر العسكرية التركستانية. وفي هذه السلسلة وردت أيضا مقالة عن الحج بقلم الملازم ياروفرافسكي (١).

وتدريجيّا أخذت قضية الحج إلى مكة تكتسب المزيد والمزيد من الأهمية ؛ وفي المقام الأول اعتبروا الحج سبيلا لتسرب أفكار الجامعة الإسلامية إلى روسيا. وفي ذلك الوقت كانوا يقيّمون الحج ، لا في روسيا وحسب ، بل أيضا في الدول الأوروبية الاخرى ، كظاهرة دينية سياسية قبل كل شيء ، علما بأنهم كانوا غالبا ما يربطون الاضطرابات في المستعمرات الإسلامية السكان بأمر من مكة (٢). ففي ٢٤ تشرين الأول (أكتوبر) ١٨٧٨ (كانت تدور رحى الحرب الروسية التركية ١٨٧٧ ـ ١٨٧٨) أفاد مراسل وكالة رويتر من القسطنطينية أن «رئيس لجنة «الهلال الأحمر» راح إلى مكة بذريعة مراقبة تطبيق التدابير الصحية نظرا لاقتراب عيد الأضحى. أما هدف سفرته الحقيقي ، فكان يتلخص في تبادل الآراء مع الحجاج من الهند وافغانستان وآسيا الوسطى الذين كان من المتوقع

__________________

(١) لمحة موجزة عن الوضع الراهن ونشاط رجال الدين المسلمين وشتى ضروب الدوائر والمؤسسات التعليمية الدينية للسكان المحليين في مقاطعة سمرقند مع بعض الإشارات إلى ماضيها التاريخي. ـ مواد في الإسلام. النشرة الأولى. طشقند ، ١٨٩٨ ؛ ياروف ـ رافسكي. الحج إلى مكة والمدينة. ـ مواد في الإسلام. النشرة الخامسة. طشقند ، ١٨٩٩.

(٢) م. ميروبييف. الأهمية الدينية والسياسية للحج أو لسفر المحمديين المشكور إلى مكة لأجل الاحتفال بالعيد الديني. قازان ، سنة ١٨٧٧ ، ٢٣٧. راجع كذلك فينّر. بصدد حج المسلمين إلى مكة الكشوف التركمانية ، طشقند ، العدد ٢٩ ، سنة ١٨٩٥.

٢٧

٢٨

أن يصلوا إلى مكة بأعداد كبيرة في الشهر المقبل وفي التأثير فيهم بروح ملائمة للسياسة الانجليزية ومعادية لروسيا («غولوس» ، سانكت بطرسبورغ ، سنة ٧٨ ، العدد ٢٨٩). ودون تقييم موضوعية هذا الخبر ، تجدر الإشارة إلى انه يدل على الأقل على رأى الصحفي من وكالة رويتر بصدد احتمال تأثير الحج العسكري السياسي.

إن مؤلفات المؤرخين والجغرافيين المسلمين القروسطيين تبيّن أن ممارسة الحج الثابتة قد قامت على امتداد قرون عديدة عند السكان المسلمين في الأراضي التي دخلت فيما بعد في قوام روسيا. فإن إبن بطوطة ، مثلا ، يرى أن اسم مدينة استراخان نفسه يرتبط بإعفاء هذه المدينة من الضرائب لأن حاجّا تقيّا كان يعيش في هذه الإنحاء (١). وقد لعب الحج دورا كبيرا جدّا في انتشار الممارسة الدينية والعادات القائمة في سائر مناطق العالم الإسلامي إلى هذه الأراضي. ومن الأمثلة على ذلك ، نشاط شيخ الطريقة النقشبندية زين الله رسولييف (١٨٣٣ ـ ١٩١٧) (٢). ولا ريب في أن الحج كان أيضا قناة بالغة الشأن لإيصال مخطوطات مؤلفات هامة جدّا للشخصيات الإسلامية الكبيرة إلى الأراضي الداخلة في قوام الامبراطورية الروسية ، الأمر الذي كان ييسر فعلا تبادل الأفكار والنظريات في العالم الإسلامي. وكان الحجاج يتمتعون بين مواطنيهم بعمق الإحترام. ومن الأمثلة على ذلك ، وصف لقاء فريق من الحجاج في مدن آسيا الوسطى من وضع أ. فامبيري. اللقاء في غموشتيبه : «انتشر نبأ وصولنا في كل مكان : النساء والأولاد وحتى الكلاب تدفقوا في حيرة غريبة من الخيام لكي يلقوا نظرة إلى الحجاج المقتربين ، وينالوا بلمسهم ، جزءا من الأفضال والمكافآت الناجمة عن

__________________

(١) ف. ف. بارتولد. المؤلفات. موسكو ، ١٩٦٥ ، المجلد ٣ ، ص ٣٣٦.

(٢) ف. ف. بارتولد ـ الشيخ زين الله رسولييف. ١٨٣٣ ـ. ١٩١٧ رثاء. ـ العالم الإسلامي. بتروغراد ، ١٩١٧. النشرةI ,٣٧ ـ ٧٤.

٢٩

الأمر الرباني عن الحج ... غريب! الشبان والشيوخ ، دون تمييز في الجنس أو اللقب ، الجميع رغبوا في لمس الحجاج الذين نزل عليهم غبار المدينة أو مكة المقدسة. احكموا على دهشتي حين اندفعت نساء رائعات الجمال وحتى فتيات إلى معانقتي! لقد تملكنا التعب والعذاب من جراء مظاهر الاحترام هذه». ثم جاء : «أما في بوابة خوى ، فقد استقبلنا بضعة اتقياء من سكان خوى وقدموا لنا الفواكه المجففة والخبز. من زمان بعيد لم يتوافد إلى خوى مثل هذه الكثرة من الحجاج. كان الجميع ينظرون إلينا بدهشة ؛ ومن جميع الجوانب كانت تصل إلى مسامعنا هتافات : «أهلا وسهلا! آه ، أنت صقري! أنت أسدي!». وقد تأثرت بالغ التأثر حين اندفع الناس يبوسون يدي وقدمي ـ أجل! ـ والشراريب المتدلية من حزامي». وحين غادر الحجاج خوي ، «تراكض كثيرون من السكان وراءنا حوالي نصف ميل : كانت مشاعر التقوى تثير الدموع من عيونهم ؛ وقد سمعنا هتافاتهم اليائسة : «من يعرف متى تسعد خوى مرة أخرى من إيواء مثل هذا العدد من الرجال الاتقياء ضمن جدرانها» (١).

نحو أواخر القرن التاسع عشر ، تكونت ثلاثة طرق رئيسية لحج الحجاج من رعايا روسيا (٢).

١ ـ في منطقة ما وراء القفقاس (أرمينيا وأذربيجان وجورجيا) والقسم الشمالي من إيران عبر كرمنشاه ومدينة خانقين الواقعة قرب الحدود مع تركيا ، في اتجاه بغداد ، نحو كربلاء والنجف ، ثم عبر رمال الجزيرة العربية إلى مكة والمدينة.

٢ ـ عبر سمرقند وبخاري ومزارى شريف وكابول وبيشاوار في أفغانستان ومن ثم إلى بومباي (الهند) ، ومنها بحرا إلى جدّة وينبع.

__________________

(١) أ. فامبيري. رحلة في ربوع آسيا الوسطى. سانت بطرسبورغ ، ١٨٦٥ ؛ ٢٥ ، ٦٥ ، ٧٧.

(٢) ياروف ـ رافسكي. الحج ، ١٦. دولتشين. تقرير. ٩٠ ، ١٢٠.

٣٠

٣ ـ عبر أوديسا وسيباستوبول (لأجل المناطق الداخلية في روسيا وسيبيريا) وعبر باطوم لأجل سكان آسيا الوسطى ومنطقة ماوراء قزوين ، عبر القسطنطينية والسويس وجدّة وينبع. كذلك شرعوا يستغلون السكة الحديدية الجديدة عبر فيينا والقسطنطينية.

كتب ياروف ـ رافسكي أن «الطريق الأول بين الطرق المذكورة ينطلق عليه على الأغلب المنتمون إلى الشيعة من مسلمي منطقة ماوراء القفقاس ومنطقة ماوراء قزوين الذين يعطون من بيئتهم ، على ما يبدو ، العدد الأكبر من الحجاج ، أي نحو ١٢ ـ ١٥ ألف شخص. وليس من النافل الإشارة إلى أن حج مسلمي ماوراء القفقاس قد استقر برسوخ بفضل من يسمونهم «بالجاويشية» الذين يقومون حصرا بتكوين وتوديع قوافل الحجاج لقاء أجر معين. إن «الجاويشية» يتمتعون بكبير التأثير بين السكان ويشبهون في الطريق ربان السفينة بحكم العادة ؛ بعض منهم أحيانا من السكان المحليين وبعض آخر من الأتراك والعرب القادمين الذين يتسربون بلا عائق إلى أراضي الامبراطورية الروسية ؛ وكل سنة يجوبون في الوقت المناسب في قرى الاقليم ، ويدعون بجميع الوسائل إلى الحج ، ثم يعينون أماكن تجمع الحجاج ، ويقودونهم أخيرا عبر الحدود ، بدون أية مصاعب على ما يبدو ، دفعات كل دفعة من ٧٠ فارسا وأكثر غير مزودين عادة بأية جوازات سفر. ثم يتجمع الحجاج الذين يقودهم الجاويشية ، بعد عبور الحدود الإيرانية ، لأجل مواصلة السير بصورة مشتركة ، إلى نقطة من النقاط المختارة سلفا تبعا لامكنة اقامتهم ؛ وهذه النقاط هي عادة :

١ ـ تبريز ـ لأجل سكان الأقسام الجنوبية من محافظة يريفان ومحافظة ايليزابتبول.

٢ ـ أردبيل ـ لأجل سكان القسم الجنوبي من محافظة باكو.

٣١

٣٢

٣ ـ خوى ـ لأجل سكان القسم الغربي من محافظة يريفان ومنطقة قرص.

٤ ـ ٥ ـ انزلي وبلفروش ـ لأجل الذاهبين بحرا من مدينة باكو الأقسام الشمالية من محافظة باكو ومن منطقة داغستان (مدينتي بتروفسك ودربند).

وتبعا لنقاط التجمع المذكورة ، تنقسم جميع الطرق التي يسلكها الحجاج في إيران إلى خمس فئات :

١ ـ تبريز ـ بيناب ـ «صاين قلعة» ـ كرمنشاه.

٢ ـ خوى ـ تبريز ـ كرمنشاه.

٣ ـ أردبيل ـ زنجان ـ همدان ـ كرمنشاه.

٤ ـ أنزلي ـ رشت ـ زنجان ـ كرمنشاه.

٥ ـ بلفروش ـ طهران ـ قم ـ كرمنشاه.

ومن كرمنشاه التي تتسم بالتالي بأهمية خاصة بوصفها عقدة تقاطع جميع الطرق البالغة الشأن من حدود الامبراطورية الروسية إلى الجزيرة العربية الخاضعة لتركيا ، يمضي الحجاج في طريق واحد عبر ماهيدشت ، وغورون آباد ، وقريند ، وسريبول ، وكافي شيرين إلى مدينة خانقين الحدودية ، ثم عبر شهرابان وبعقوبة إلى بغداد أو إلى مدينة الكاظمية الواقعة بالقرب من بغداد ؛ ومن هناك يتفرقون إلى كربلاء والنجف وغيرهما من الأماكن.

في الاتجاه الثاني ، عبر سمرقند وبخاري إلى افغانستان ، مع قطع الطريق من بيشاوار إلى بومباي بالسكة الحديدية ، يمضي كل سنة من مناطق آسيا الوسطى ٤ ـ ٧ آلاف من الحجاج. وهؤلاء يفضلون هذا الاتجاه رغم كل طول الطريق وغلائه وصعوبته ، وذلك أساسا ، بسبب السهولة المتوفرة لهم لتحاشي جميع المتطلبات المتعلقة بجوازات

٣٣

السفر ، ثم لأنه الطريق الذي تكوّن على امتداد القرون والذي تقع عليه ، فيما تقع ، مدينة مزار شريف حيث مقام الإمام علي (صهر النبي محمد) الذي يملك ، كما يقول المسلمون ، قوة عجيبة لشفاء العميان والخرس. ومن مزاري شريف يمضي الحجاج عبر طش كورغان ، وغي باغ ، وشاريقار ، وكابول ، وغزني ، وقندهار وكته ، ثم بالسكة الحديدية إلى مرفأ كاراتشي ومنه بالباخرة إلى بومباي ؛ ويمضي الآخرون عبر جلال آباد إلى بيشاوار ، ومنها بالسكة الحديدية إلى بومباي.

وأخيرا الطريق الثالث ، وهو الأسهل والأقصر ، ينطلق من مرافىء البحر الأسود إلى القسطنطينية والسويس ، ويستفيد منه جميع التتر وسنّيو القفقاس والقرغيز القاطنون في غرب المنطقة من رعايا الامبراطورية الروسية ؛ وجميعهم يقدمون كل سنة بين الفين وثلاثة آلاف حاج ؛ وبينهم يتواجد في الوقت الخالي من الاوبئة ، نظرا للمراقبة الشديدة هنا ، عدد من حملة جوازات السفر ؛ أما في السنوات غير الملائمة (حين تمنع الحكومة الحج) ، فإنه يتبين أن الأغلبية الساحقة منهم مزودة بأوراق تركية وفارسية وبخارية قديمة يحصلون عليها لقاء ثمن باهظ في باطوم واوديسا» (١).

ولتبيان ما كان يتوقع الحجاج في طرقهم إلى مكة ، نورد في «ملاحق» هذا الكتاب ملاحظات سفر لحجاج قاموا برحلاتهم في مسيرات مختلفة.

تشير جميع مصادرنا إلى أن الحجاج من رعايا روسيا كانوا يفضلون ، كما من قبل ، استعمال جوازات السفر التركية والفارسية والبخارية القديمة ، وحتى جوازات السفر الصينية. ومرد ذلك إلى التعقيدات البيروقراطية التي كانت ترافق الحصول على جوازات السفر في روسيا ، وإلى المنع الدوري (مثلا ، في سنوات ١٨٩٢ ـ ١٨٩٥ ،

__________________

(١) ياروف ـ رافسكي. الحج ، ١٦ ـ ١٧ ، ١٨ ـ ١٩.

٣٤

ومنذ النصف الثاني من سنة ١٨٩٦ إلى سنة ١٩٠٠) من إعطاء جوازات السفر للحجاج نظرا لخطر الأوبئة في الشرق. إن غياب الوثائق الرسمية لم يقلل عدد الحجاج من رعايا روسيا ، ولكنه جعلهم رهنا بشتى ضروب الانذال الذين كانوا يأخذون منهم مبالغ ضخمة من النقود لقاء جوازات السفر. وإن الرسم الكاريكاتوري الذي أخذناه من مجلة المسلمين التقدميين «الملّا نصر الدين» الصادرة في تفليس يسخر من جشع «الشطار» الذين يبتزون الأرباح من طموح آلاف الحجاج غير المجربين وسعيهم المشكور إلى زيارة مكة المكرّمة والمدينة المنورة. وقد كتب ياروف ـ رافسكي : «يتشكى جميع الحجاج على الخصوص من ابتزاز الأموال الرهيب في عموم افغانستان. فعن حق دخول الأراضي الافغانية ، وعن الحصان ، وعن الأشياء ، وغير ذلك ، مثلا ، كانوا يتقاضون في مزاري شريف من كل حاج روبية وأكثر ، وفي وزير آباد روبيتين ، وفي باميان وقاضي آباد وطوشزار روبية ، وفي شاريقار ٩ روبيات ، وفي كابول ٢ / ١ ٥ روبيات ، وفي جلال آباد روبية ، الخ .. وفضلا عن هذه الأتاوى ، لم يكن من النادر أن يصبح الحجاج ضحايا الكذب والخداع والابتزاز في بومباي من جانب من كانا يقولان عن نفسيهما أنهما وكيلا حجاج بخاري ، سليمان خوجا (وهو من مواليد انديجان) ويوسف علي (من مرغلان). ويقول الحجاج أن سليمان خوجا الذي أرسل منذ عشر سنوات إلى بومباي مع أوراق من أمير افغانستان بصفة دليل ووكيل لأجل الحجاج يبتز من كل منهم بضعة روبيات عن المسكن ، وعن أركابهم على متن باخرة ، وخلافه ، ناهيك بانه يجبرهم بالقوة على شراء الطحين والرز والقمح من بائع يعرفه ومنه وحده مؤكدا لهم أنهم سيبيعون كل ما اشتروه بربح في جدّة. صحيح أن نقل بضعة أكياس من الطحين والرز من بومباي بالباخرة مجاني ، ولكن ثمن هذا الطحين أو الرز أو القمح في جدّة مثل ثمنه في بومباي وأحيانا أرخص.

٣٥

وفي باطوم أيضا حيث يعيش الفارسي خوجا علي يتعرض حجاجنا لابتزاز الأموال وعمليات التعسف لأنهم لا يحملون جوازات سفر ؛ فإن خوجا علي لا يفعل غير أن يبيع من حجاجنا ، بواسطة يولداش وكولداش من بخاري ، تذاكر هوية فارسية قديمة وأوراقا بخارية قديمة. وتعتبر القسطنطينية النقطة التالية بعد باطوم من حيث ابتزاز الأموال وغير ذلك من عمليات التعسف. ففيها يتعرض حجاجنا ، حتى وأن كانوا يحملون جوازات سفر ، من قبل مختلف الادلة ، لاساليب متنوعة ، منها أخذ جوازات السفر منهم لأجل إجراء معاملة الفيزا في القنصلية العامة الامبراطورية ولأجل تسليمهم بموجبها تذاكر تركية. وبعد أن يتقاضى الادلة النقود عن هذا وذاك ، يعطون الحجاج التذاكر عند سفرهم بالذات ، ويعيدون لهم جوازات السفر بدون فيزا القنصلية. وبما أن كلفة جواز السفر الروسي مع فيزا القنصلية تبلغ ١٢ روبلا و ٦٠ كوبيكا ، فإن هذا قد أدى إلى خسارة تكبدتها الخزينة تتراوح بين ٢٠٠ و ٣٠٠ ألف روبل كل سنة (١).

أما فيما يتعلق بعدد الحجاج ، فإن المصادر تعطي الأرقام التالية :

عدد الحجاج الإجمالي :

سنة ١٨٠٧ ـ ٨٣٠٠٠

سنة ١٨٥٤ ـ ٥٠٠٠٠

سنة ١٨٥٦ ـ ١٢٠٠٠

سنة ١٨٥٨ ـ ١٦٠٠٠٠

سنة ١٨١٤ ـ ٧٠٠٠٠

سنة ١٨٥٥ ـ ٨٠٠٠

سنة ١٨٥٧ ـ ١٤٠٠٠

سنة ١٨٦٥ ـ ٩٠٠٠٠ (٢)

__________________

(١) المرجع ذاته ، ٢٠.

(٢) ميروبييف. أهمية الحج الدينية والسياسية ، ١٠٠ (مع الاستشهاد بمعطيات علي باي وبورغهارت وبورتون وج. دوفال).

٣٦

سنة ١٨٨٤ ـ ٤٦٢٨٠ (١)

سنة ١٨٩١ ـ ٤٤٩٠٠

سنة ١٨٩٣ ـ ٨٦٤٨٩

سنة ١٨٨٨ ـ ١٠٠٠٠٠ (٢)

سنة ١٨٩٢ ـ ٥٣٩٦٢

وبالاعتماد على تقارير القنصل الروسي في جدّة ليفيتسكي ، يسوق الملازم ياروف ـ رافسكي المعطيات التالية (٣).

ثم كتب ياروف ـ رافسكي : «مع الانتقال إلى عرض التقرير عن الحجاج المسلمين من رعايا روسيا وبخاري بوجه الحصر ، يلفت القنصل في جدّة الإنتباه إلى «المطوّفين» أو «الأدلة» الذين مضوا في سنة ١٨٩٤ إلى بخاري وتركستان لأجل دعوة مسلمينا إلى الحج. فمن مكة ، مثلا ، راح دليلان من أبناء مكة هما سعيد حسن كوتشوك ، ابن سعيد حمود ، وعبد الله كوتشوك ، ابن خوجا ـ سريمساك ، ومن المدينة سيد محمد (وهو من مواليد بخارى) ، ابن معصوم خوجا.

__________________

(١) ياروف ـ رافسكي. الحج ، ٣ (مع الاستشهاد بتقارير القنصل الروسي في جدّة ليفيتسكي وكشوف قسم جدّة للجنة الصحية التركية).

(٢) دولتشين. تقرير ، ١٢٦.

(٣) ياروف ـ رافسكي. الحج ، ٤ ـ ٥.

٣٧

٣٨

٣٩

قائمة

الادلة والوكلاء (بموجب تقرير القنصل في جدّة)

عن سنة (١٨٩٣)

الرقم

الادلة في مكة

الوكلاء في جدة

لأجلي أي حجاج

من مواليد مكة

١

علي محمود شكري

محمد غيريتلي

من انديجان

٢

على بيرينجي

محمد غيريتلي

من اوش

٣

الشيخ محمد أصغر

الشيخ حسين

من خوي

٤

أ ـ سيد أحمد مؤذن

من مواليد طرابلس

الشركس

أحمد غورياني

من مواليد جدة

ب ـ خليل دوبي

محمد صالح بانغاش

٥

سليمان مداح

الشيخ حسين من طرابلس

عباس عبد الرفاشين

حميد بحري الجدي

تتر القوم

من ذرية بني (من مكة)

من ذرية سناني من مكة

محمد صالح بانغاش

٦

إبراهيم سلسيلة

محمد صالح بانغاش

إبراهيم ميره

لا وكيل

من داغستان

٧

من ذرية اشجي من مكة

خوجا موسى من قشقار

من قوقند

٨

من ذرية علي سروجي

عبد الرسول من

القرغيز

من مكة

مواليد اليمن

وتتر قازان

٩

سيد عبد القدير أصله

محمد دهاقيني من

من نامانغان

داغستاني

مواليد جدة

١٠

سيد محمد كوتشك

محمد جان

من بخارى

من بخارى

من مواليد خوجند

سمرقند

وخوجا موسى من

طشقند

قشقار

مرغلان

خوجند

تركستان

٤٠