الرحلة السرية للعقيد الروسي عبد العزيز دولتشين إلى الحجاز

عبد العزيز دولتشين

الرحلة السرية للعقيد الروسي عبد العزيز دولتشين إلى الحجاز

المؤلف:

عبد العزيز دولتشين


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: الدار العربيّة للموسوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٦

وعلى بعد بضعة فرستات من المزدلفة تقع بلدة منى الصغيرة جدّا في واد بالاسم نفسه. هذا الوادي يحفل بالذكريات ؛ والمؤرخون المسلمون يذكرونه غير مرة. هنا ، كما يقال ، كان قبر آدم ، وهنا قدم قايين وهابيل الأضاحي ، وهنا ولدت هاجر أبنها إسماعيل في أحد الكهوف ، وهنا أراد إبراهيم أن يضحي بابنه ، ولكن الشيطان المتجسد بصورة شيخ مسن حال دون ذلك ، ولذا أخد البطريرك إبراهيم يرجمه بالحجارة. وهنا أخيرا أغرى الشيطان نفسه إسماعيل على الانتحار ، وقطع الطريق ثلاث مرات أمام إبراهيم وإسماعيل حين عادا من عرفات إلى مكة بعد أداء فريضة الحج ، الأمر الذي كان لا بد من أن يجازي عليه ؛ فإن النبيين ـ الأب والأبن ـ أخذا يرجمانه بالحجارة. ثم ، كما تقول الأسطورة ، راح إسماعيل طوعا واختيارا إلى المكان الذي كان يجب أن يضحي به فيه ولكن الشيطان إغراه ثلاث مرات محاولا أن يصرفه عن إطاعة والده وعن عزمه على التضحية بنفسه. ومكان كل من لقاءات إسماعيل الثلاثة هذه مع الشيطان معلّم بعمود حجري يرميه الحجاج (في غضون الأيام الثلاثة من الإقامة في منى) بالاحجار المجلوبة من المزدلفة تذكيرا بأن إسماعيل رد على إغراء الشيطان برميه بالاحجار (١).

في وادي منى توقفت قافلة الحجاج بأسرها لمدة ثلاثة أيام ، ما عدا الشيعيين الذين بقوا في عرفات ، وكانت تلك أكبر وقفة. هبت «السموم» ارتفعت الحرارة من ٢٧ درجة بمقياس ريومور إلى ٣٥ درجة في الظل بسرعة بالغة.

الوادي ـ والأصح القول ـ الفج ضيق جدّا ، ولذا تلامست خيام الحجاج المنصوبة وتماست تقريبا إحداها بالأخرى. والصخور العارية

__________________

(*) يضرب الحجاج الشيطان كما يلي. يضع الحاج حجرا صغيرا على ظفر ابهام اليد اليسرى وينقفه بأصابع اليد اليمنى.

٣٦١

التي تطوق الوادي والتي تسخنها الشمس حولته حقا وفعلا إلى فرن هائل مشددة القيظ الذي لا يطاق وكتمة الهواء الخانقة فوق ما هما عليه من شدة. وازداد عدد المرضى وازداد عدد الموتى.

وكان اليوم التالي يوم تقديم الأضاحي (١).

صحيح أن تقديم الأضاحي هو بمثابة العمل الأخير في جميع أعياد الحج ، وصحيح انه كان ينبغي على القافلة أن تعود إلى مكة في اليوم الثالث ، عند غياب الشمس ، ولكن هذه المرة اجيزت مخالفة النظام العادي بسبب تزايد عدد الوفيات أكثر فأكثر ، ولذا عدنا إلى مكة بعد يوم من الموعد ، وذلك في ١٥ حزيران (يونيو).

لا بد من الإشارة إلى أن القيظ الذي لا يطاق في وادي منى كانت له جوانب طيبة أيضا. فإن التجمع الهائل من الناس والحيوانات في واد عميق ضيق وكثرة النفايات بعد الذبح كان لا بد لهما أن يتسببا ، في أوضاع أخرى ، بنتانة رهيبة ، الأمر الذي لم يحدث هنا ؛ فإن شمس الجزيرة العربية قد ادت واجبات الوقاية الصحية بشكل ممتاز ؛ إذ أن جميع النفايات قد جفت آنيا وفقدت القدرة على نشر النتانة والروائح الكريهة في الهواء ...

من مجموعة المسلمين الروس الذين جاؤوا مع قافلة دمشق ، وعددهم ٤٢ ، وصل أربعة إلى مكة مرضى ، ومات ثلاثة منهم في اليوم نفسه متضورين في آلام رهيبة من التشنجات. ثم أخذت تتوارد معلومات عن الجديد والجديد من الإصابات والوفيات بين الحجاج من المسلمين الروس.

علاوة على الظروف المناخية ، يشكل خطرا كبيرا على القادمين إلى

__________________

(*) يضحى الحجاج بشتى الحيوانات ولكن على الأغلب بالغنم. علما بانه يجب أن يكون الحيوان خاليا من أية نواقص بدنية وسليما تماما.

٣٦٢

مكة لحم الأغنام المحلية الذي هو لذيذ جدّا ، والحق يقال ، ولكنه يثير اختلالا شديدا في المعدة. ومرد ذلك ، كما يقولون ، إلى أن الأغنام تأكل ما يسمى العشب المكي (السنا المكي) أي الورقة الاسكندري. هذه النبتة ، كما هو معلوم ، تملك خاصية مسهّلة. وللحيلولة دون التأثير المضر للحم المحلي في الجسم ينصحون بتقطيعه قطعا صغيرة وقليه أو شويه ، قبل طبخه ، ثم باستعماله في الطعام. وإن الحساء من هذا اللحم والمآكل الأخرى منه لم تمارس بالفعل تاثيرا ضارا في المعدة في حال تناولها باعتدال.

تجلى المرض بالضعف العام ، والسهال ، والقيء ، والتشنج. وكان الموت يحل بعد ساعتين أو ثلاث. ولي كثرة من المبررات للقول أن هذا المرض هو الكوليرا الاسيوية الحقيقية(١).

أخذ القيظ يشتد يوما بعد يوم ؛ كذلك ازداد عدد الوفيات ، ولذا أسرع الجميع إلى مغادرة المدينة بخير وسلامة [...].

بعد العودة من منى إلى مكة اشترينا في اليوم التالي بعض الأشياء ثم اغتسلنا بعد الظهر بماء زمزم ، وقمنا بطواف الوداع ، وقبّلنا للمرة الأخيرة الحجر الأسود ، وعتبة بيت الله ، وكسوته ، وادينا الصلاة ، وخرجنا من المسجد ناظرين إلى بيت الله حتى توارى عن أنظارنا.

عند غياب الشمس انطلقت مع واحد من رفاقنا وبرفقة ثلاثة من العرب إلى جدّة لكي نركب الباخرة هناك ونسافر إلى وطننا روسيا. رحت راكبا على بغل ؛ وبما أننا قطعنا المسافة كلها بين المدينتين (٧٠ فرستا) في الليل ، فاني لم أر شيئا عدا المسافرين في الاتجاه المعاكس ، المنطلقين مجموعات على الحمير بضجة وضوضاء بين الفينة والفينة.

__________________

(*) الكوليرا في الحجاز ظاهرة عادية تحل سنويّا.

٣٦٣

في الصباح الباكر وصلنا إلى جدّة. تقع مدينة جدّة على ساحل البحر الأحمر ، وهي مرفأ لمدينة مكة ، كما أنها أكبر مركز تجاري في منطقة الحجاز كلها. والنشاط في المدينة كبير نسبيّا. وهنا توجد قنصليات الدول الأوروبية ، بما فيها القنصلية الروسية. شغل السكان الرئيسي صيد المرجان وعلى الأغلب المرجان الأسود.

وقرب المدينة يدلون على قبر جدة جميع الكائنات البشرية ، حواء ؛ طول القبر زهاء ٦٠ ارشينا. في وسطه ينتصب مسجد يؤدي فيه الزوار الصلاة. وفي المقبرة نفسها ، دفن ، في عداد من دفنوا ، القنصل الروسي الأول في جدّة ، المستشار الحكومي الفعلي إبراهيموف (تتري من تركستان).

وقد توفي بصورة مأساوية في الطريق بين جدّة ومكة من الكوليرا في السنة الأولى بالذات من تعيينه ، سنة ١٨٩٢. ويقال أن المرحوم كان قنصلا متحمسا وهماما يحرص على مصالح مواطنيه الحجاج ، المسلمين الروس.

كان القنصل الروسي الكسندر دمترييفيتش ليفيتسكي لطيفا إلى حد انه عرض بسرور النزول في شقته ، رغم أننا جئنا من محلة عصف فيها مرض لم تكن خواصه معيّنة بعد بدقة ، وسموه بالكوليرا في جدّة نظرا لعدد الوفيات الهائل.

اغتنمنا ضيافة القنصل الروسي ، واقمنا هنا ثلاثة أيام بانتظار رفاقنا الذين بقوا في مكة وبانتظار اقلاع أولى البواخر بالحجاج. وبين أولى البواخر التي أقلعت ، كانت الباخرة «عبد القدير» ؛ وقد ركبنا فيها مع الركاب الآخرين وأغلبهم من الترك والمسلمين الروس واهل البوسنيا. وفيها سافر أيضا الصينيون العائدون من مكة. وقد جاؤوا إلى مكة عبر الهند ؛ أما الآن فقد اختاروا طريقا آخر لكي يشاهدوا القسطنطينية ؛ ولكن هذا الفضول كلفهم غاليا بسبب الحجر الصحي. أقلعنا من جدّة في ٢١

٣٦٤

حزيران (يوينو) وتوقفنا قرب جبال سيناء على بعد ١٢ ساعة في الطريق من مدينة السويس وبداية قناة السويس.

وقد تبين أن اختيار الباخرة «عبد القدير» لم يكن موفقا ؛ فقد صعد إلى متنها زهاء الفي راكب أي ما يوازي ضعفي ما يصح لها من حيث حجمها. ناهيك بانهم قبلوهم على متنها دون أي تميز ، سواء منهم الأصحاء أم المرضى الذين رفضت البواخر الأخرى قبولهم. وسرعان ما تكشفت عواقب ذلك ؛ فقد كان الضيق شديدا إلى حد أن ركاب الدرجة الثالثة كانوا ممددين حقا وفعلا مثل السمك في برميل ، بل أن كثيرين منهم حتى انولوهم في العنبر الذي نعته الركاب بجهنم نظرا للقيظ وكتمة الهواء اللذين لا يطاقان فيه. وبما انهم قبلوا على الباخرة ركابا مرضى ، فسرعان ما ظهرت الوفيات أثناء السفر من جدّة إلى سيناء رموا في البحر ٢٥ جثة ببركاب الموتى.

وقرب سيناء وجدنا أربع بواخر موقوفة بسبب الحجر الصحي. وكانوا قد انزلوا ركابها إلى الساحل ووزعوهم في الخيام بحيث أن ركاب كل باخرة شكلوا جماعة منفردة ، معزولة تماما عن الجماعات الأخرى ، علما بأن حراسا مسلحين كانوا يحافظون على هذه العزلة. أما نحن ، فقد بقينا طوال وقت الحجر الصحي على الباخرة ، ولم نشعر نحن شخصيا بمنغصات هذا الحجر الصحي [...].

كان للمحجر الصحي مستشفى ولكن المرضى راحوا إليه بأقصى المضض والنزعاج لأن الأطباء والخدم فيه عرب لا يفهمون لغات المرضى. وأثناء الحجر الصحي كان اليهود يستجلبون من مصر المأكولات ويبيعونها باسعار رابحة جدّا بالنسبة لهم : سعر رطل اللحم ٤٠ كوبيكا ، سعر الدجاجة روبل و ٢٠ كوبيكا وأغلى ، بينما سعر رطل اللحم في السويس ، على بعد ١٢ ساعة في الطريق ١٠ كوبيكات فقط ، وبينما شتى أصناف الدواجن ـ الدجاج ، الأرانب ، الحمام ـ إلّا أن

٣٦٥

الطعام كان مؤمنا للمعدمين ، والحق يقال ، على حساب الحكومة التركية.

اثر باخرتنا «عبد القدير» أخذت تتوافد بواخر أخرى وتتوقف كذلك للتقيد بالحجر الصحي. نحو اليوم الخامس عشر من التوقف قرب جبال سيناء ، تجمعت ٢٥ باخرة. وفي هذه الأثناء ، سمحوا للبواخر التي وصلت قبل «عبد القدير» بالسفر ثم بدأت تقلع شيئا فشيئا البواخر التي وصلت بعدها ، ولكن اعتبروا أنها خضعت للحجر الصحي. ومحل البواخر التي اقلعت ، حلت بواخر جديدة ، ولذا وصلت أثناء توقفنا قرب جبال سيناء قرابة أربعين باخرة حاملة الحجاج العائدين من مكة.

وبالنسبة لنا نحن ركاب «عبد القدير» دام الحجر الصحي ٣٣ يوما ؛ وفي ٢٥ تموز (يوليو) فقط أعلن أن بوسع الباخرة أن تستأنف سفرها. نقلوا الركاب من الساحل بالزوارق إلى الباخرة. ولكن نقلوا معهم زهاء ٦٠ مريضا بقوا من البواخر الأخرى. أكان هذا سوء استعمال للوظائف أم مجرد نقص في القيام بها؟ على كل حال كان من الغريب أن يبقونا في الحجر الصحي ٣٣ يوما وأن ينتهي هذا الحجر الصحي بضم مرضى من بواخر أخرى إلينا من جديد. وبالطبع ، ما لبثت النتائج أن ظهرت ؛ فبعد يوم ، كانت على «عبد القدير» خمس جثث.

في ٢٦ تموز (يوليو) مساء ، أقلعت «عبد القدير» ، وفي صباح اليوم التالي اقتربت من مدخل قناة السويس. وهنا صعد إلى الباخرة أعضاء اللجنة الصحية الدولية ، وفحصوا المرضى وتحققوا من عدد الركاب ، ثم دخلت الباخرة قناة السويس التي هي عبارة عن شريط مائي ضيق بين ضفتين رمليتين منخفضتين. والقناة ضيقة إلى حد انه لا يمكن لباخرتين أن تتلاقيا ، بل يجب أن تنتظر احداهما الأخرى في أمكنة معينة أوسع.

مضينا في القناة يوما بكامله بحراسة باخرة صغيرة وحرس مسلح

٣٦٦

من على ضفتي القناة. وأثناء عبور القناة ، تلاقينا مع باخرة حربية فرنسية وباخرة حربية أخرى ، إنجليزية. وكان على متن الباخرة الأخيرة طلاب عسكرية في رحلة تدريبية.

في ٢٨ تموز (يوليو) ، نقلوا جثث الركاب الموتى إلى الباخرة الصحية لأجل دفنها ، وذلك أثناء المرور بمحاذاة الإسماعيلية. وفي مساء اليوم ذاته تجاوزنا بور سعيد ودخلنا البحر الأبيض المتوسط ، المر الذي تجلى فورا سواء في تغير الهواء أم في منظر نبات السواحل الذي لم نره قبل ذاك ولو مرة واجدة طوال سفرنا على الباخرة «عبد القدير».

انعطفنا إلى الشرق وخلفنا إلى اليمين مدينة يافا ومدينة صيدا ؛ وفي ٣٠ تموز (يوليو) مساء وصلنا إلى بيروت. في اليوم التالي جاء إلى الباخرة ترجمان من القنصلية العامة الروسية في بيروت وأعلمنا انه اعد لنا على الساحل مبنى نظيف يجب قضاء مدة الحجر الصحي فيه. أمضينا ذلك اليوم كله على الباخرة. وفي الصباح التالي (في أول آب ـ أغسطس) نقلونا إلى مخيم المحجر الصحي.

وفي بيروت كيفوا للحجر الصحي ثكنات قديمة تشغل مساحة كبيرة جدّا ، يحيط بها من ثلاثة جوانب سور حجري ، ومن الجانب الرابع البحر. وضمن هذه الرقعة ، توجد بضعة إنشاءات حجرية. في واحد منها مكيف بهذا القدر أو ذاك للسكن ، كان يعيش الدكتور العامل في المحجر الصحي. وهنا أيضا خصصوا غرفة لنا. وكل مساحة المخيم مقسمة في داخله بحواجز من الشعريات إلى ثلاثة أقسام لكي لا يتصل ويتعاشر ركاب باخرة مع ركاب البواخر الأخرى.

والمحجر الصحي مزود بوفرة من الماء النقي الممتاز ؛ وفي داخله تنتصب الأشجار. ومن حيث الظروف الطبيعية ، يمكن على العموم نعت المحجر الصحي في بيروت بانه مرض ، ولكن الترتيب والنظام كانا في منتهى القباحة. فقد انزلوا ركاب الباخرة «عبد القدير» وعددهم أكثر من

٣٦٧

١٣٠٠ شخص ، في أحد أقسام المحجر الصحي ، ولم يكن من الممكن بالطبع أن تتسع لهم جميعا الإنشاءات الحجرية المتواجدة في هذا القسم ، ناهيك بأن عدد الخيام كان قليلا ، ولذا تأتي لعدد كبير جدّا من الركاب أن يتحملوا الحجر الصحي في الهواء الطلق.

كان الطبيب واحدا لكل هذا الجمع من سكان المحجر الصحي وعددهم ألف وخمسمئة تقريبا ؛ وكان بدون معاونين وبدون ممرضين ، ناهيك بانه لم يكن يفهم أي لغة من لغات الشعوب التي كان أبناؤها من عداد ركاب «عبد القدير». كذلك الخدم الصحيون كانوا لا يعرفون اية لغة عدا اللغة العربية. وبوسع القارئ أن يتصور إلى أي حد مؤسف كان وضع أولئك الذين كان من سوء حظهم أن ينزلوا في مستشفى لا يمكنهم فيه حتى أن يطلبوا الماء من الخدم الذين لا يفهمون لغاتهم.

كان المستشفى على مقربة من الإنشاءات السكنية. كانوا يغسلون جثث الموتى كيفما اتفق قرب الأبواب بالذات تحت نوافذ الإنشاءات السكنية. وكانت المرحيض ، غير المنظفة أبدا على ما يبدو تنشر رائحة كريهة رهيبة. وكان التطهير يجري بصورى سيئة للغاية. وزيادة في الطين بلة ، لم يكن المستشفى مجهزا حتى بالأسرّة وكان المرضى ينامون مباشرة على الأرضية.

بفضل القنصل الروسي المرحوم ك. د. بياتكوفيتش وتدخله الحازم ، بعد أن أبلغناه عن أوضاع المحجر الصحي ، أخذت هذه الأوضاع تتغير نحو الأحسن. فقد زودوا المحجر الصحي بعدد كاف من الخيام ، واتخذوا التدابير لحفظ النظافة ولإزالة النتانة السائدة. ونقلوا المستشفى إلى عمارة واقعة بعيدا عن الإنشاءات السكنية والخيام. وظهرت الأسرّة ، ولذا لم يعد المرضى ينامون على الأرضية. ومن جراء ذلك قل عدد الوفيات في المستشفى. في الآونة الأولى بلغت الوفيات ١٠٠% ، ولذا أخذ سكان المحجر الصحي يسمون المستشفى ، لا

٣٦٨

«كاستاخانة» بل «كاسابخانة» (١) ؛ وكل من كان يدخله كانوا يعبرونع على كل حال ميتا. وعندما أخذ بعض المرضى يشفون بعد تحسين الخدمة الصحية في المحجر الصحي ، تعجب الجميع من ذلك بوصفه ظاهرة غير عادية.

كذلك وقعت حوادث طريفة. كان معنا اثنان من تتر القرم. مرض أحدهما فوضعوه في المستشفى. وبما أن رفيقه كان على يقين بانه لا مخرج من المستشفى غير مخرج واحد هو الطريق إلى القبر ، وبما انه افترض أن رفيقه لم يعد بحاجة إلى أمواله ، فقد أقام ضربا من بيع بالمزاد العلني وباع كل امتعته ؛ ولكن المريض ، لما فيه دهشة رفيقه ، شفي بعد ١٣ يوما وخرج من المستشفى ووجد أن كل امتعته انتقلت إلى أناس آخرين ، وبقي بدون أي لباس تقريبا.

ويوما بعد يوم أخذ يتزايد عدد الذين يشفون ، ويقل عدد الذين يمرضون ، وأخيرا اعتبروا أن الحال الصحية العامة لركاب «عبد القدير» مرضية تماما ، فاطلقوا سراحنا من المحجر الصحي. وإجمالا بقينا في المحجر الصحي في بيروت ٤٣ يوما. وعلى امتداد كل هذه الحقبة من الزمن كان المعدمون يحصلون على الطعام مجانا ، وأن يكن شحيحا جدّا : في اليوم رغيفان صغيران من عجين القمح وقطعة متناهية الصغر من الجبنة المالحة جدّا.

أقلعت الباخرة السيئة الحظ «عبد القدير» من بيروت في ١٥ أيلول (سبتمبر) ، وكان لا بد لها أن تخضع في اورله ، بجوار أزمير ، لحجر صحي آخر مدته يومان. وهنا انزلت قسما من ركابها ، قرابة خمسمئة شخص ، ثم تابعت سفرها. وفي الدردنيل جرى فحص الركاب ، الأمر الذي تسبب بوقفة غير طويلة. وأخيرا ، بعد كثرة من المحن ، وصلنا في

__________________

(*) كاستاخانة» تعني مستشفى. «كاسابخانة» تعني مسلخ.

٣٦٩

٢٠ أيلول إلى القسطنطينية. وهنا استقبلنا على متن الباخرة موظف السفارة ، السيد ياكوفليف ، ومعه نزلنا إلى الساحل.

زرنا في القسطنطينية أقاربنا المقيمين هنا من زمان بعيد واقمنا عندهم أسبوعا. وفي ٢٧ أيلول اقلعنا إلى أوديسا وفي أول تشرين الأول (اكتوبر) نزلنا في أرض الوطن ؛ وبعد أسبوع كنت في اوفا ، في بيتي ، بين أهلي وأقاربي واصدقائي ومعارفي (١).

__________________

(*) مكتبة لينينغراد لمعهد الاستشراق لدى أكاديمية العلوم في الاتحاد السوفييتي.٨٤ B / ٥٥٣٣ النص باللغة الروسية أصدرته في سنة ١٩١٦ في موسكو الجمعية الامبراطورية لهواة العلوم الطبيعية والانتروبولوجيا والاتنوغرافيا.

٣٧٠

مكة مدينة المسلمين المقدسة

مقتطفات من ذكريات الحاج عيشايف

الفصل الأول

مدينة جدّة

في سنة ١٨٩٥ خدمت في مدينة جدّة الواقعة على ساحل البحر الأحمر ، في منطقة من الجزيرة العربية ، أسمها الحجاز. جدّة مدينة كبيرة نسبيّا ، والنقطة التجارية الرئيسية في الحجاز. في مكلّئها غالبا ما ترسو البواخر والسفن التي تقيم الإتصالات بين أوروبا وبين افريقيا الشرقية وايران الجنوبية والهند والشرق القصى. عبر جدّة تتحرك كذلك إلى مكة جماهير الحجاج المسلمين القادمين من مختلف البلدان على السفن والبواخر. وفي جدّة ينزلون ويسافرون برا إلى مكة التي يفصلها عن جدّة ما لا يزيد عن سبعين فرستا. ولحماية مصالح الحجاج توجد في جدّة قنصليات من الدول الأوروبية التي عندها رعايا مسلمون ؛ وفي عداد القنصليات القنصلية الروسية التي خدمت فيها [...].

على الصعيد الإداري والعسكري يدير جدّة معاون محافظ مكة ، القائمقام. وفي المدينة ترابط حامية تركية من ٥٠٠ فرد وتوجد بضعة مدافع. ولسكن الجنود توجد ثكنتان ، أحداهما تقع على ساحل البحر ، قرب المكان الذي ينزل فيه الحجاج منالبواخر ، الأخرى قرب قبر حواء.

٣٧١

لا وجود في المدينة لطرائف خاصة ، ما عدا قبر حواء الواقع خارج المدينة ، وسط مقبرة كبيرة. لمدفن أم البشر أجمعين نحو ٦٠ أرشينا بالطول ؛ في مقدمة القبر (أي في موضع الرأس في القبر) يوجد ضرب الآخر من صفيحة من المرمر عليها كتابات عربية ؛ وتنتصب نخلة. في الطرف الآخر من القبر تنمو شجيرات ما. فوق وسط المدفن يوجد بناءان تحت سقف واحد ، أحدهما يعتبرونه مسجدا ، وفي الثاني يوجد مدفن يتوافد إليه الحجاج ويلثمونه. قرب المدخل ، يوجد ، في الخارج ، خزان محفور في صخرة كبيرة يشبه الجرن الذي تشرب منه الخيول. وفي الخزان يصبون الماء ويعتبرونه زمزم حواء. وهنا يعيش عدد عديد من الشيوخ ، وعدد أكبر من النساء والأولاد الفقراء ؛ وهؤلاء يجمعون الحسنات من الحجاج الذين يتوافدون لأداء الشعائر الدينية.

مدفن حواء ، كما سبق أن قلنا ، تحيط به مقبرة دفن فيها ، مثلا ، القنصل الروسي الأول في جدّة المستشار الحكومي الفعلي شاهيمردان ميرياسوفيتش إبراهيموف الذي توفي من الكوليرا في العام الأول بالذات من تعيينه (عام ١٨٩٢). وعلى مدفنه حجر عليه كتابة بالروسية والعربية نصبه القنصل الذي خلفه ، السيد ليفيتسكي.

وبما أن المرحوم إبراهيموف كان معروفا جدّا في تركستان وعموما في آسيا الوسط حيث خدم زمنا طويلا ، فاني أرى انه ليس من النافل أن اسوق معلومات جمعتها من بعض الأفراد عن وفاته ، خصوصا وأنها تصح عموما على وضع الحجاج في زمن الأوبئة من حيث عجزهم التام عن تدبير سبيل للاتصال بين جدّة ومكة ، ومن حيث نقص الاهتمام والعناية بهم من جانب العرب المحليين والحكومة التركية.

وبما أن إبراهيموف كان يعيش على مقربة من مكة ، فقد كان ملزما ، بوصفه مسلما ، أن يقوم في السنة الأولى بالذات بالحج إليها ، أي برحلة دينية لأجل السجود للمقدسات الإسلامية. ولسوء حظه نشب في

٣٧٢

ذلك العام وباء الكوليرا شديد ، تأجج أواره بخاصة في مكة في «يوم عرفات» ـ أي في ذلك اليوم الذي يمضي فيه الحجاج ، بموجب نظام إداء شعائر الحج ، إلى وادي عرفات الواقع على بعد ٢٠ فرستا من مكة. وخاف المسكين إبراهيموف خوفا شديدا وتوجه رأسا من عرفات إلى مكة بدون توقف. وهنا مرضت زوجة القنصل ، أما الكوليرا وأما من الأرهاق أثناء الحرك السريع من عرفات. ترك إبراهيموف زوجته في مكة ، ومضى إلى جدّة مع فارسين (خادمين) ومع أحد التركستانيين ومعهم مضى أيضا طبيب مصري. وعند الرحيل كانوا جميعا بخير الصحة والعافية ، ومضوا ركوبا مع قافلة. في المقهى الأول بالذات توقفوا للاستراحة. احتسوا القهوة والشاي واكلوا. وتابعوا السير ، وما كادوا يقطعون بضع مئات من الساجينات حتى أصيب إبراهيموف فجأة باختلال في المعدة ، إذ أصابه اسهال دموي قوي. انزله الخادمان عن السرج ووضعوه أرضا. بدأ الطبيب يدلكه وعرض عليه تناول دواء ، ولكن المريض رفض قطعا.

شعر إبراهيموف باقصى الضعف ، فامر بوضعه على تختروان أي على مسند خاص مصنوع من عارضتين ممددتين على بغلين أو على جملين. البون بين العارضتين يجدلونه بحبال مثلما يفعلون في اسرّة السرتيين. وعلى التختروان يمكن الجلوس والتمدد أثناء السير بصورة مريحة نوعا ما. وضعوا المريض وتابعوا السفر. بعد بعض الوقت ، أمر الطبيب أحد الخادمين بمعاينة المريض وجس جسده. قال الخادم أن جسد المريض قد برد. أسرع الطبيب إلى الأمام وقال انه سينتظر في المقهى التالي ولكن لن تقع عليه العين فيما بعد. فقد راح إلى جدّة تاركا المريض المحتضر في يد القضاء والقدر. مات إبراهيموف قبل الوصول إلى محطة حدة. نقلوا جثمانه إلى جدّة ، حيث دفنوه قرب مدفن حواء.

وعن سبب موت إبراهيموف تنتشر شائعة أخرى لن أرويها أنا لأني لا املك أية مستندات.

٣٧٣

إن المرحوم إبراهيموف كان يؤدي واجباته القنصلية ، كما يقولون ، بغيرة حماسة ، وكان يصرّف الأمور بهمة وحزم ؛ ولذا يتذكره بالسوء حتى الآن شتى الادلة والوكلاء ، أي تركستانيونا الذين يأخذون في جدّة من الحجاج السذج ، السريعي التصديق ، النقود لأجل صيانتها وحفظها أثناء سفر الحجاج إلى مكة ؛ وكذلك على العموم جميع الانذال الذين لا يعيشون إلا من نهب الحجاج واستثمارهم بكل الوسائل. وقد حاول إبراهيموف ، بوصفه قنصلا روسيا ، أن يحمي مواطنيه من هذا الجراد الذي ينقض عليهم في الحجاز ، وكان على العموم يساعدهم بقدر الإمكان. تجدر الإشارة إلى أن السياسة الإسلامية في الحجاز تبدو في الظاهر بسيطة وساذجة جدّا ، ولكنها في الواقع معقدة وداهية جدّا. أما قنصليتنا في جدّة ، فهي مؤسسة حديثة جدّا ، وضمانتها ضعيفة جدّا ، الأمر الذي يتضح ، مثلا ، من هجوم العرب على قناصل الدول المسيحية في جدّة سنة ١٨٩٥. وعلى القنصل الأوروبي أن يكون هنا محترسا خارق الاحتراس [...].

الفصل الثاني

من جدّة إلى محطة حدّة

[...] في ٣٠ نيسان (ابريل) حوالي الساعة الرابعة بعد الظهر ، انتظرتنا قافلتنا ماوراء البوابة المكية في جدّة ، قرب المقهى الأخير الواقع غير بعيد عن البوابة. رحت مع العائلة. وقد رافقنا إلى المقهى : مدير أعمال قنصلية امبراطورية روسيا في مدينة جدّة ، والسيد الفائق الطيبة غ.

ف. براندت والسكرتير ف. ف. نيكيتنيكوف ، وكذلك كثيرون من التركستانيين القاطنين في مدينة جدّة. قرب القافلة تقدم منى سواق الجمال والجندي التركي رئيس الخفر[...].

وبما أن القافلة لم تكن جاهزة للرحيل ، فقد رحنا إلى المقهى. كنا

٣٧٤

جميعا مرتدين بدلات أوروبية صيفية خفيفة ؛ كان السيد براندت في سدارة روسية بيضاء ، والسيد نيكيتنيكوف في قبعة من القش ، وأنا في طربوش تركي. البدلة الأوروبية هنا ليست على العموم بالأمر النادر. ولا تبهر عيون السكان المحليين بالجدة والغرابة ، ولكن عمرة الرأس ، الطربوش ، هو العلامة المميزة المعترف بها عموما على التبعية التركية. صحيح أني كنت في عداد الأجانب ، ولكن كانوا يعرفونني هنا كمؤمن ، من أبناء الدين نفسه ؛ والأتراك لا يحترمون المسلمين الذين يرتدون على الرأس عمرة ما غير الطربوش. وحين كنت في القسطنطينية وكنت أذهب إلى القنصلية أو إلى السفارة لابسا القبعة ، رآني الأتراك الذين يتلاقون معي في الشارع واشاروا غير مرة إلى عدم لياقة عمرة رأسي ، الأمر الذي اضطررت إلى التقيد به مع ذلك نزولا على رغبة سفيرنا السيد نليدوف الذي نفر من الطربوش. وحين وصلت إلى الحجاز ، اضطررت تحاشيا لملامات الأتراك والعرب ، إلى لبس الطربوش ، رغم كل نفوري منه لأني كنت قد اعتدت على القبعة ، وهي عمرة رأس انسب وأسهل ، وبخاصة في الوقت الحار [...].

الفصل الثالث

محطة حدّة والوصول إلى مدينة مكة

في صباح الأول من أيار (مايو) وصلت قافلتنا نحو الساعة السابعة إلى محطة حدّة ، حيث توقفت للاستراحة ليوم بكامله.

هنا استقبلنا كبير الأدلة المكيين محمد علي سروجي مع تلامذته. وهنا الاحظ أن الأدلة هم قادة الحجاج أثناء قيامهم بالحج ، وعن الأدلة سأتحدث بمزيد من التفصيل فيما بعد. ـ جلب لنا محمد على من مكة الكثير من ماء نبع زمزم المقدس واعد غدا من بضعة مآكل واهدى الأولاد بيضات مصبوغة وشتى الحلويات. وقد تبين انه كان يعرف ، قبل

٣٧٥

رحيلي من طشقند ، عن سفري للخدمة في جدّة ، ومن جدّة تلقى خبرا عن سفري إلى مكة ، فراح إلى لقائي ، واستقبلنا هنا بكل مودة وترحاب. وفي الغداء روى الكثير من الأخبار [...] وقد أعرب ، فيما أعرب ، عن استيائه من شريف مكة وكذلك من القنصل الروسي السابق في جدّة ، شاهيماردان إبراهيموف. ومحمد علي عربي أصيل ، عمره أكثر من ٦٠ سنة ، ويعرف اللغة التركية ؛ وهو على العموم شيخ محترم جدّا وكثير الكلام. منذ نحو عشرين سنة كان في روسيا ؛ وهو الآن يعمل دليلا لجميع التتر والقرغيز من امبراطورية روسيا ، حاصلا منهم على دخل عن القيادة في اداء فرائض الحج أثناء زيارتهم لمكة. وهو يحظى بين التتر والقرغيز بكبير الاحترام ، ولا يعرف من يأتون هنا لأجل أداء فريضة الحج وحسب ، بل يعرف أيضا جميع التجار والأغنياء المعروفين من التتر ، وكذلك الايشانات والملّات القاطنين في المدن الروسية والسهوب القرغيزية. وعفو الخاطر دهشت لمعرفته الشاسعة هذه عن روسيا وتركستان. فانا ، المقيم في تركستان ، لا أعرف الكثيرين من التتر المحليين ، بينما هو يعرف الجميع. ولكن كان من السهل تفسير ذلك ، فيما بعد ، لكون محمد علي يملك مجلدات كبيرة بقوائم المسلمين الروس. وهو يتراسل مع كثيرين منهم وأحيانا يرسل مع الحجاج العائدين إلى روسيا تلامذته لأجل جمع التبرعات.

تقع محطة حدّة في وسط الطريق بين جدّة ومكة. وهي تتألف من بضع منشآت شاسعة مبنية من احجار غير منحوتة مشدودة بالاسمنت. الحوش مسيج بسياج من الحطب القشاش. وفي الحوش ، بمحاذاة السياج ، توجد كثرة من الأكواخ المصنوعة من المادة ذاتها. وفيها يتوقف عادة الحجاج متسترين من أشعة الشمس الحارقة. إلى يسار الحوش الرئيسي يوجد حوش آخر مماثل تماما ولكنه أصغر. وفي عداد المنشآت الأخرى توجد مشأة من غرفة واحدة مع قاعة انتظار ومع حوش

٣٧٦

بقربها. وهي معدة لأجل الحجاج الأغنياء المسافرين مع عائلاتهم ، وهي تؤجر عادة لقاء مبلغ كبير من النقود ، وبخاصة إذا كان بين القادمين مع القافلة موظفون وأغنياء اتراك. وبما انه يتعين على القادمين إلى الحج أن يمكثوا في حدّة يوما بكامله فإن هؤلاء لا يضنون ، عادة ، بالنقود في الصيف ، في القظ الرهيب ، لأجل النزول في هذه المنشأة ، فينقذون بذلك حياتهم وصحتهم. القيظ الرهيب ، لأجل النزل في هذه المنشأة وفينقذون بذلك حياتهم وصحتهم. القيظ في هذه الصحراء العارية ، الخالية من الماء يكون أحيانا رهيبا حقا وفعلا مهددا الانسان غير المتعود بضربة شمس وعلى العمو مباختلال واستضعاف الجسم. في طريق العودة ، أخذ الموظفون الأتراك الذين وصلوا بعدنا يطالبون بالضجيج والصياح بهذه المنشأة الثمينة لأنفسهم ـ مع أنها خالية من المفروشات ، وعارية الجدران ، وقذرة كفاية ؛ ولكن سرعان ما هدئوا حين قالوا لهم أن موظفا قنصليا روسيا يشغلها. وحتى في الحجاز الموحش يحظى الاسم الروسي بالمكانة والاحترام ...

في حدّة يوجد مسجد يسمى بمسجد النبي. يقولون أن محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان هنا ، وانه من هنا انطلق إلى المدينة المنورة. والمسجد عبارة عن بناية حجرية كبيرة نسبيّا مرفقة بحوش غير كبير ، ولكنه مهمل جدّا. يبدو أن أحدا لا يصلي في هذا المسجد ، ولكن لم يخطر في بالي ذلك فرحت إليه لأصلي صلاة الظهر غير أنني وجدت هناك جنديّا من الحرس العسكري عنده ، كما تبين ، شقة في المسجد بالذات ، رغم أن لديه على مقربة مبنى خاصا به مرفقا بمصطبة وحوش. بيت الصلاة يستخدمونه بصورة غريبة جدّا ...

تقع حدّة في واد جبلي شاسع تبدو فيه أكواخ العرب الحقيرة في جوار المحطة. وغير بعيد من محطة حدّة ، يوجد دغل كبير من أشجار النخيل ووراءه يسيل نهر صغير ينبع من منابع جبلية. عرض النهر نحو

٣٧٧

ثلاثة ارشينات فقط ، وعمقه زهاء نصف ارشين. مياهه تروي المحطة ، وحقل البرسيم ، ومزارع من القرع حقيرة المنظر ، ومزرعة قطن. وهو من الأنهر القليلة في الحجاز. ولكم طاب لي أن أرى في هذا البلد القائظ والصحراوي ، الخارق الجفاف ، نهرا ، وأن صغيرا ، نهرا حقيرا بالنسبة لي أنا الذي ترعرعت بين السيول الزرقاء والوبداء لنهر تشيرتشيك الذي يحتوي الذهب ، مع ضجته وهديره المستطاب على الاذن ، وجريانه وسط واد جميل ذي نباتات ساطعة وخضراء ... وحين وقفت على ضفة النهير الحجازي ، تذكرت عفو الخاطر مدينتي طشقند الغارقة في أخضر بساتينها الزمردي ، وقدّرت كل أهمية وفرة مياهها التي يقدمها تشيرتشيك الذي لا ينضب معينه ... ولكن خيل إلينا أننا فقدنا طشقند إلى الأبد ...

[...] وصلت قافلتنا إلى مكة في الثاني من أيار (مايو) عند طلوع الفجر. وعند دخول المدينة توقفت في ساحة كبيرة ؛ أما نحن ، فاننا لم نتوقف بل رحنا إلى شقتنا ؛ وقد قادونا إليها عبر المدينة كلها تقريبا. كان الجو لا يزال معتما ، وفي عتمة الفجر لم أستطع أن أرى شيئا بنحو جيد نوعا ما. كانوا يسوقون الجمال في شوارع ضيقة ومتعرجة. كانت تصعد تارة إلى جبل وطورا تنزل. على جانبي الطريق كانت تنتصب جدران وبيوت. في بعض الأماكن اصطدمنا بأناس نائمين في الشارع مباشرة. ولدن اقتراب جمالنا كان الناس شبه النيام يقفزون بذعر وينهضون على اقدامهم ويطلقون اللغط والضجيج والصياح ، ولكن الحراس السائرين ، شاهري البنادق على جانبي جمالنا كانوا سرعان ما يقطعون بنحو ما حبل الضجيج والصياح ، وكنا نواصل السير بهدوء حتى الكومة التالية من المشردين الذين اختاروا الشارع منامة لهم [...] وأخيرا توقفت الجمال قرب بيت من طابقين كان يعيش فيه أحد معارفنا التر ، المدعو عبد الرحمن سلطانوف الذي انتقل من طشقند إلى السكن في مكة. استقبلني قرب بوابة البيت. وكان معه الدليل محمد علي الذي استقبلنا في حدّة وسبقنا.

٣٧٨

كل حاج يصل حديثا إلى مكة ملزم قبل كل شيء باداء الطواف أي السير سبع مرات حول الكعبة (بيت الله) وبين الصفا والمرو (١) ؛ وبعد ذاك يخلع ثوب الأحرام. ورغم خارق الأرهاق من السفر على «سفينة الصحراء» ، في موكب لا يشرف كثيرا العرب المشهورين بذكائهم وفطنتهم ، اضطرت إلى الخضوع للقواعد المقدسة لشعيرة الدخول ، واديتها في عتمة الصباح باشراف الدليل محمد علي. دام طوافي طويلا جدّا ، ولذا عدت إلى شقتي نحو الساعة السابعة صباحا. وجاءني حلاق وحلق شعر رأسي ، وبعد ذاك خلعت ثوب الاحرام. كانت زوجتي وأولادي لا يزالون نائمين. وكان سلطانوف وزوجته مشغولين باعداد الدسترخان أي المآكل من شتى الحلويات ، الأمر الذي يعرفه جميع التركستانيين جيدا.

كان الوقت يناهز الثامنة حين أخذ يظهر الواحد تلو الآخر الأدلة المكيون ، وموزعو مياه بئر زمزم المقدسة ، وخدم بيت الله ، والتتر أصحاب التكيات ، (وهي ضرب من خانات) ، والباخريون ، والسرتيون ، والقرغيز ، وسائر الحجاج من آسيا الوسطى. ثم أرسل جميع الأدلة الغداء من بيوتهم. فهناك توجد العادة التالية : كل دليل يرحب بأغنى حجاجه بغداء وفير نسبيّا يرسله إلى الشقة التي يشغلها القادم. بوصفي ممثلا عن الحجاج بين الأدلة حسب القبائل والقوميات. ولكني ، بوصفي ممثلا عن جميع قبائل المسلمين من رعايا روسيا ، تلقيت المآكل من جميع الأدلة الذين وزعوا فيما بينهم حجاجنا. ومقابل هذه المآكل كان

__________________

(*) الطواف. عند أداء شعيرة الدخول إلى مكة ، يجب قبل كل شيء القيام سبع مرات بالسير ، بالطواف ، حول الكعبة المسماة بيت الله ؛ وبعد ذلك يمضي الحاج إلى مكاني الصفا والمروه الواقعين في جوار الكعبة ويقوم بينهما بالسير سبع مرات مرددا طوال الوقت الصلوات المقررة ، بإشراف الدليل ؛ وإذا كان الحاج لا يعرف الصلوات ، فإنه يرددها اثر الدليل.

٣٧٩

ينبغي بالطبع تقديم الهدايا فيما بعد. وفي هذا يتلخص بالضبط كل مغزى مجاملة ارسال الأطعمة إلى المسافر القادم. ولا اثر البتة للضيافة في كل هذا ، بل مجرد أمل في الحصول مقابل الطعام على ما يوازي سعر المآكل مثلين أو ثلاثة أمثال على الأقل. وصاحب البيت الذي نزلت فيه ، سلطانوف ، بوصفه رجلا محنكا وتاجرا ، كان يقيّم كل طعام بعناية ودقة ، مطبقا أسعار السوق المحلية ، وكان يحدد ثمن الغداء بمبلغ يتراوح بين مجيديتين وثلاث مجيديات. وبما أن العملة التركية ، المجيدية ، توازي بالعملة الروسية روبلا و ٦٠ كوبيكا ، تعيّن علىّ أن أدفع مبالغ لا يستهان بها مع إضافة الفائدة ، لقاء مجاملة الأدلة وبشاشتهم وضيافتهم ، خصوصا وأنهم كانوا يرسلون إلىّ زهاء عشرة غداءات ، ومنها كنت احتاج مع عائلتي إلى غداء واحد فقط ، ولذا صرفت النافل كله على تضييف مواطني وغيرهم من الضيوف القادمين لزيارتي. وفي عداد الضيوف كان كبير الأدلة في مدينة مكة ، واسمه محمد علي. وفجأة أخذ يتكلم معي بالروسية لما فيه دهشتي. وقد تبين انه اعتقل حين تجوب في ربوع أقليم تركستان بدون جواز سفر وأمضى أكثر من سنتين في سجن مدينة طشقند بانتظار نتيجة المراسلات بشأنه ؛ وفي السجن تعلم اللغة الروسية. فيا للقاءات الغربية التي تحدث أحيانا! ..

كانت شقتي تقع في القسم الجنوبي الشرقي من المدينة ، وكانت واجهتها تطل على ساحة كبيرة نسبيّا. وبالمقابل ، في الجانب الآخر من الساحة ، كانت شقة والي مكة حسن حلمي باشا. ومن الجانب الأيسر كانت تقع ثكنات الجنود الاتراك ، ومن الجانب اليمن ، بعد بضعة بيوت ، كانت تقع صيدلية حكومية بقربها روضة صغيرة كان الضابط الأتراك والأفراد المدنيون يتنزهون عادة في الأمسيات. كانت شقة الوالي تلاصق الجبل من جانبها الخلفي ، وكان الجبل يعلو ، على الأقل ، زهاء ٥٠ ساجنا فوق سطح هذا المبنى الثلاثي الطوابق. وعلى الجبل كانت تنتصب

٣٨٠