الرحلة السرية للعقيد الروسي عبد العزيز دولتشين إلى الحجاز

عبد العزيز دولتشين

الرحلة السرية للعقيد الروسي عبد العزيز دولتشين إلى الحجاز

المؤلف:

عبد العزيز دولتشين


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: الدار العربيّة للموسوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٦

الأثقال ـ «الأبل» ـ ثمن الواحد منها بنقودنا زهاء ٦٠ روبلا ، وجمال حفيفة ، دقيقة القوائم ، صغيرة الرأس ، صوفها أكثر أشراقا ـ «الهجان» ؛ وهي مستعملة حصرا لأجل الركوب ، وثمن الواحد منها زهاء ١٠٠ روبل. علاوة على الصفات المشتركة الملازمة للجمال يتميز هذا النوع وذاك بالوداعة الرائعة وغياب الرائحة الكريهة الملازمة لهذه المواشي. عدد الجمال عند البدو المترحلين بين مكة والمدينة المنورة يقدّر تقريبا ب ١٥٠٠٠ رأس.

وهم ، كزراع ، يزرعون في موسم الأمطار ، في مرحلة الشتاء من السنة ، نوعا خاصا من الدخن ؛ ولهذا الغرض ينظفون من الحجارة رقعا غير كبيرة من الأرض ويقيمون أسوارا ساندة لحفظ الماء ؛ وحيث يمكن الري يزرعون على الأغلب البطيخ والذرة الصفراء ـ «الذرّة» ـ والخضراوات (البصل ، البندورة ، والفول وما إلى ذلك) ؛ وفي مثل هذه المحال ، يزرعون كذلك في المعتاد البساتين المؤلفة بصورة رئيسية من أشجار النخيل ؛ وتقع العين أيضا على أشجار الليمون التي تعطي ثمارا حلوة صغيرة جدّا ، وعلى شجيرات البلسان التي يصنعون من عصيرها صبغ الحنّاء وشجرة «الفلسنك» التي تعطي بلسما قيّما جدّا بالنسبة للحجاج.

بدو الحجاز مسلمون سنيون جميعهم ، ولكن يوجد بين الرحل في الطرف الشرقي وهّابيون وكذلك بعض المتشيعين ، ومنهم ، مثلا ، الزيديون ، والإسماعيليون ؛ وأكثر المذاهب السنّية انتشارا هو المذهب الشافعي ، ثم الحنفي ؛ وكثيرون من البدو ينتمون إلى مختلف مدارس النساك وبخاصة إلى التيار «الرفاعي».

لا يتميز العرب الرحل البتة بالتدين الشديد ؛ وهم يخلطون الدين بكثير من العادات والأساطير والأقوال المأثورة التي تتناقض تماما مع تعاليم الإسلام ونادرا ما تتوافق فيما بينها.

١٤١

إن حب الحرية التي يتمتعون بها من سحيق الأزمنة والجهل المطبق يحملان البدو على اعتبار أنفسهم أسمى من جميع الأمم الأخرى ، وينظرون من أعلى حتى إلى إخوانهم المقيمين في المدن تحت الحكم التركي. وأعمال السلب والنهب والقتل ضد الغرباء ظاهرة عادية تماما ؛ وهم كل سنة يقتلون عشرات الحجاج لأجل النهب ؛ والحصول على الأموال بهذه الطريقة لا يعتبره أحد أمرا غير جائز. والكذب والقسم أمر عادي تماما. ومن جهة أخرى تحظى الضيافة التقليدية باحترام مقدس ؛ ولحماية الضيف يضحي المضيف بنفسه دون تردد ؛ والسماح بنهب أو بقتل الشخص الذي أخذه المضيف تحت حمايته عار لا يضاهيه عار ؛ الأمر الذي تنتقم له القبيلة كلها.

يجري إرسال مبالغ ضخمة من النقود في الحجاز بواسطة البدو ، نظرا لعدم وجود دائرة حكومية معنية ؛ ويقولون أن هذه الارساليات لا تضيع أبدا ولا يستملكها البدو أطلاقا.

وعند البدو حكماؤهم وأطباؤهم العرافون. وهم يلجأون إليهم في حال المرض. واوسع الوسائل انتشارا الفصد ، والمحاجم ، والكي بالحديد المحمى. وبعد الولادة على الفور ، تعمد القابلة إلى شق ثلاث شقوق بالسكين على صدغي الطفل وظهره وغير ذلك من أجزاء الجسم لتحاشي الأمراض المقبلة ؛ وآثار هذه الشقوق تبقى طوال العمر كله ؛ وفي جميع الأمراض تقريبا ، يلجأ العرب إلى فصد الدم أو يستعملون المحاجم لاستخراج الدم ؛ وهم يعتقدون أن هذا يلخص الإنسان من الدوخان والضعف الناجمين عن الحرارة العالية ؛ وحتى الجمال لا تتجنب هذه العمليات المكررة دوريا. والكي ، بوصفه وسيلة للصرف عن الألم ، يجري بأسلوب بربري تماما ، ويترك آثارا عميقة. في أحد المواقف أسرع من قرية مجاورة إلى سواق جمالنا ولداه ؛ أحدهما صبي في نحو الخامسة من العمر ، كان جرح كبير فاغرا قرب عينه بالذات ؛

١٤٢

وقد أوضح الوالد ، جوابا عن سؤالي ، أن إحدى عيني الصبي قد انغلقت ، وانه (أي الوالد) قام بعملية الكي بيده ، وأن حالة ولده أفضل الآن.

وعند البدو أساليب أصيلة جدّا لمعالجة عواقب السأم ؛ فالمريض يطعمونه السمنة ، ويدثّرونه بشدة وكثافة ، وطوال نحو ساعتين لا يدعونه يشرب ؛ وفي حالات أشد إرهاقا ، يحفرون حفرة بقامة الإنسان ، ويشعلون فيها موقدا ثم يجعلون الموقد يبرد نوعا ما ، ويضعون فيها المريض ويطمرونه تاركين رأسه فقط طليقا ، ويبقونه في هذه الحال أطول مدة ممكنة ، ثم يسحبونه ويدثّرونه ويدهنون جسده بالسمنة ، ولا يدعونه يشرب طوال نحو ثلاث ساعات.

وعلى العموم يشكل نمط حياة البدو خليطا من عادات بربرية تماما وبعض سمات الفروسية والنبل. وهذا الشعب لا يزال بدائيّا تماما ولم يتعرض البتة لتأثير الزمن.

صحيح أن كلا من القبائل تشغل أرضا معينة ، ولكن مناطق بعض القبائل لا تشكل رقعا واحدة متواصلة ، بل هي متوزعة في عموم الحجاز ؛ وبعض القبائل التي كانت تقطن من قبل في الحجاز استقرت في بلدان مجاورة. وفي الوقت الحاضر تقيم في الثلث الجنوبي من الحجاز القبائل التالية من البدو (راجع الجدول على ص ١٤٥).

التجارة والصناعة عند السكان الرحل

للتجارة والصناعة عند البدو ، سواء بسواء ، مقاييس تافهة للغاية وذات طابع محلي فقط. سكان السواحل يبيعون من التجار الكمية التافهة من اللآلئ والمرجان والصدف وعظم السلاحف وما إلى ذلك ، التي يستخرجونها من البحر. وأصحاب البساتين الواقعة على طرق الحج الكبيرة يتعاطون بيع الحنّاء وبلسم «الفلسنك» والتمر من الحجاج.

١٤٣

والتجارة الباقية كلها تتلخص في تزويد المدن بالمحروقات والخضراوات والمؤن وغير ذلك.

في الانحاء التي تتواجد فيها البساتين يجدلون ببالغ التفنن من أوراق النخيل الحصائر والمراوح والحبال ؛ وحيث تربية المواشي أكثر تطورا ، يصنعون أقمشة صوفية سميكة لأجل المعاطف والخيام والأكياس ، ويحيكون رحالا كبيرة مزدانة بكثرة من الشراريب لأجل الهواجن. وهناك حرفيون حاذقون يصنعون الأسلحة وشتى الحلي الفضية. ولجميع هذه الأشياء تصريف محلي حصرا.

الوضع السياسي في الحجاز

دخل الحجاز في قوام الامبراطورية العثمانية في عهد السلطان سليم ، عام ١٥١٧ ؛ وفي أواخر القرن الماضي وفي أوائل القرن الحالي ، كان الوهابيون من نجد يملكون ويحكمون هذا القطر ؛ وهم اتباع الشيخ محمد بن عبد الوهاب الذي دعا في سنوات ١٧٤٠ ـ ١٧٥٠ في نجد إلى مذهب جديد في الإسلام يرتكز على القرآن الكريم وحده. وفي سنة ١٧٩٩ احتل الوهابيون مكة ؛ وفي سنتي ١٨٠٣ ـ ١٨٠٤ استولوا على المدينة المنورة ولكن إبراهيم باشا المعروف طردهم وانزل بهم بضع هزائم بين سنتي ١٨١٠ و ١٨٢٠ ؛ وفي سنة ١٨١٧ وصل إلى وسط نجد بالذات واستولى على عاصمتهم الدرعية.

١٤٤

اسم القبيلة

عدد الانفس

امكنة الترحل

بنى هاشم

٥٠ ألفا

ضواحي مكة والمدينة المنورة وينبع النخلة وينبع البحر

عنزى

٣٥٠ ألفا

القسم الأكبر على حدود فسلطين ؛ عشيرة تلوح بين مكة والمدينة المنورة

جهينة

٥٠ ألفا

ضواحي ينبع النخلة وينبع البحر وإلى الشمال منهما على ساحل البحر

حثبك

ألفان

ضواحي المدينة المنورة

نحاوله

١٢ ألفا

ضواحي المدينة المنورة. بستانيون على الأغلب

حرب أو بني حرب

٧٠ ألفا

إلى الغرب والجنوب من المدينة المنورة

مطير

٤٠ ألفا

ضواحي المدينة المنورة

بني سليم

ألفان

على الطريق الشرقي ، بين مكة والمدينة المنورة

عتيبة

٢٠ ألفا

ضواحي الطائف

قريش

ألفان

في جوار مكة. فيما مضى قبيلة جبارة منها تحدر النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. من جراء الحروب المتواصلة في القرون الأولى من الإسلام ، تشتتوا

هذيل

١٠ آلاف

جبل القرى

تقيف

٢٥ ألفا

ضواحي الطائف

عدوان

ألفان

جنوبي الطائف

أبي الحارث

٣ آلاف

شرقي الطائف

بني لحيان

٢ / ١ ١ ألف

بين مكة وجدة

بني جحادله

١٠ آلاف

وادي اللملم ، جنوبي لحيان

عوف

٥ آلاف

بين المدينة المنورة ورابغ (١)

__________________

(*) كتاب «جزيرة العرب».

١٤٥

إن سلطة الحكومة العثمانية لم ترتكز من قبل ولا ترتكز في الوقت الحاضر إلا على القوة المسلحة ، ولا تتبدى إلا في النقاط التي ترابط فيها القوات المسلحة. وهذا يعني أن الأتراك لا يملكون غير المدن وكذلك ، بنحو ما ، الطريق بين مكة وجدّة ، التي تحميها مخافر متعددة ، ولكن سلطتهم في هذه النقاط أيضا لا تحظى بالمكانة اللازمة ، الأمر الذي تبيّنه الأحداث التي وقعت مؤخرا ؛ فمنذ زهاء عشر سنوات قتلت عبدة في المدينة المنورة سيدتها ؛ وحكمت المحكمة التركية على القاتلة بالسجن ، ولكن سكان المدينة طالبوا بإعدامها فورا ، مهددين بالهجوم المسلح إذا لم يلّب طلبهم. تراجعت السلطات ، وتم إعدام القاتلة على الفور. وفي سنة ١٨٩٥ جرى في مكة أمام عيون السلطات هدم بناية يكرهها السكان ومعدة للاستعمال كمحجر صحي.

في غضون أربعة قرون من امتلاك الحجاز لم يقم الاتراك اية صلات بينهم وبين السكان المحليين ولم يستطيعوا أن يهدئوهم ولم يكن لهم عليهم أي تأثير ثقافي. والعلاقات بي الطرفين لا تزال علاقات عداء وعدم ثقة ؛ فإن الاتراك يعتبرون البدو كلابا ؛ في حين أن البدو يعتبرون الاتراك كفارا غير مؤمنين. وجميع الاتراك الذين تسنى لي أن اتحدث معهم كانوا يضمرون خوفا وكرها خاصا حيال البدو ، وكانوا يحذرونني في كل حال انه يجب التخوف جدّا من هؤلاء البرابرة. وعندما رحلت الطوابير العثمانية المرابطة في مكة إلى اليمن ، قال الجنود بشماتة كبيرة أنهم يذهبون لضرب العرب.

كانت السلطات الادارية تتميز في أغلبية الأحوال بأعمال الابتزاز والاضطهاد ؛ أما أعمال العساكر ، فقد كانت على الدوام في منتهى الميوعة والتردد ، ولذا لا يكّن البدو حيالها ما يلزم من الخوف والاحترام. وبين حوادث السنة الجارية (١٨٩٨) ، يمكن التنويه بالهجوم في شهر أيار (مايو) من قبل عدد غير كبير نسبيّا من البدو على قسم من

١٤٦

الرديف من ٨٠٠ فرد كان في طريقه من المدينة المنورة إلى ينبع ، وبالهجوم في تموز (يوليو) على خفر قوى كان يرافق قافلة في الطريق بين مكة والطائف ، علما بأن ضابطين و ١٦ جنديّا لقوا مصرعهم. والأحداث من هذا النوع ، كما يقولون ، تحدث على الدوام ، ولا تثير دهشة أحد ، ولا تستتبع اية تحقيقات وعقوبات. ولكن ، في السنتين الأخيرتين ، كما يقول الجميع ، تفاقمت كثيرا أعمال النهب والسلب والاغتصاب من كل شاكلة وطراز ؛ ومرد ذلك ، كما يفسرون ، من جهة ، الوضع الاقتصادي الشاق الذي يعانيه الرحل من جراء إنعدام المطر ، ومن جهة أخرى ، عدم دفع السلطات المحلية لبعض من أشد القبائل إضطرابا وإزعاجا الإعانات المالية المتفق عليها. ولتأمين سلامة حركة القوافل في ربوع الحجاز لجأت الحكومة التركية من قبل إلى بسط الحماية المسلحة على الطرق الكبيرة في أخطر الإنحاء وإلى مرافقة القوافل بخفر قوى. ولكن منذ سنة ١٨٦٤ لم يبق هذا الإجراء ساري المفعول إلا في طريق أشد إنتعاشا ، هو طريق مكة ـ جدّة ؛ وعلى العموم تم تطبيق نظام آخر عنيت به دفع إعانات مالية لبعض القبائل لكي تمرر القوافل بلا عائق في أراضيها.

في عهد بعض من الحكام الاتراك هدأ الحجاز نوعا ما وساده نظام نسبي ؛ وقد ترك عثمان باشا الذي حكم هذه الولاية من سنة ١٨٨١ إلى سنة ١٨٨٧ ذكرى طيبة خاصة. فإن هذا الأداري المحترم قد ساق الماء إلى جدّة وبنى خطوط الاتصال البرقي بين هذا المرفأ ومكة ، وأشاع بعض النظام في شوارع مكة ، وحسّن الحالة الصحية في منى ، وما إلى ذلك. وفي عهده ، كما يروي سكان المدينة ، كان بوسع السكان أن يسافروا بجرأة بين مكة والمدينة المنورة على جملين أو ثلاثة دون أن يتجرأ أحد على مسهم. «كان البدوي على استعداد لذبح جمله الأخيرة في حال وصول عثمان باشا» ، «كان والدنا». هكذا يقول الرجل. ولكن هذا الرجل الذي كان يحترمه الجميع بالقدر نفسه والذي تميز بطبع صلب

١٤٧

وإستقامة رفيعة ، لم يتخذ أية تدابير قمعية لأجل بسط السكينة والهدوء بين البدو المشاغبين ؛ فقد كان يكتفي بأن يدفع لهم بدون أية مماطلة الإعانات المالية المتفق عليها ، وكان لا يتحيز لأي طرف ، وكان يلقي مسؤولية الأمن على شيوخ القبائل التي تشغل المنطقة المعنية.

إلا أن عثمان باشا الذي برهن أن البدو ليسوا شعبا رهيبا كما كان الاتراك يصورونهم دائما ، لم يستطع أن يتعايش مع شريف مكة ؛ وبعد دسائس عديدة ، اقيل من منصبه.

التقسيم الإداري

كان الحجاز في الأزمنة الأولى من احتلاله من قبل الاتراك تابعا لمصر على الصعيد الإداري ، وكان حاكمه المسمى بك جدّة ، يقيم في جدّة.

منذ سنة ١٥٥٤ ، صار الحجاز تابعا لليمن ، وصار حاكمه يسمى البيلار ـ بك الحبشي وبك جدّة.

منذ سنة ١٦٥٥ بدأ الوالي الحبشي يحكم الحجاز من سواكن.

في السنة التالية انتقل مقر حاكم الحجاز من جديد إلى جدّة ، وأخذ يتسمى حينا بوالي جدّة وحينا آخر ببك جدّة ، وفي الوقت نفسه بشيخ الحرم أي انه صار يشرف أيضا على المسجد الكبير في مكة حيث توجد الكعبة.

منذ سنة ١٨٦٤ صارت مكة مركز الولاية الإداري الرئيسي ؛ وفي مكة يعيش حاكم هذا الإقليم ، وإلى الحجاز الذي هو أيضا شيخ الحرم (١).

وفي الوقت الحاضر ينقسم الحجاز على الصعيد الإداري إلى ثلاثة

__________________

(*) كتاب «الحجاز».

١٤٨

سناجق ـ سنجق مكة الذي يديره الوالي ؛ سنجق جدّة الذي يديره القائمقام ؛ سنجق المدينة الذي يديره العامل.

على رأس إدارة الولاية ، يوجد إلى جانب الوالي الذي يعينه السلطان العثماني ، الشريف الذي يخضع له جميع سكان الحجاز. في السنة الأولى من التاريخ الإسلامي ، عيّن النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأجل إدارة مكة شخصا مميزا بلقب «الأمير». وكان الأمراء يعيّنون أيضا في زمن الخلفاء الراشدين ؛ ومنذ القرن الخامس الهجري أخذوا يسمونهم بالشرفاء ؛ وهذه الوظيفة المتواجدة بلا انقطاع حتى الوقت الحاضر صارت إمتيازا وراثيا لقبيلة قريش. وللشريف مقر مكة. وعادة كان من النادر أن يتعايش الوالي والشريف بسلام ووئام نظرا لتشابك وتشوش وظائفهما وصلاحياتهما.

القوات المسلحة

تحتفظ الحكومة التركية لدعم سلطتها في الحجاز بالأعداد التالية من القوات المسلحة :

ـ في مكة المكرّمة

طابوران من الجنود النظامية (في الطابور ٨٠٠ فرد)

٣ طوابير من الضبطية الخيالة (الدرك)

١ طابور من الضبطية المشاة

ـ في المدينة المنورة

٣ طوابير من الجنود النظامية

١ طابور من الضبطية الخيالة

١ طابور من الضبطية المشاة

١٤٩

ـ في الطائف

؟؟ طابور من الجنود النظامية

ـ في جدّة

؟؟ طابور من الجنود النظامية

ـ في رابغ

؟؟ طابور من الجنود النظامية

ـ في ينبع

؟؟ طابور من الجنود النظامية

وفضلا عن ذلك ، يرابط في النقاط المذكورة اعلاه فوج من مدفعية القلاع وفوج من المدفعية الجبلية. وفي منى رأيت بطارية ميدانية من أربعة مدافع. في البحر الأحمر توجد ست بواخر حربية (١).

القوات المسلحة المرابطة في الحجاز تدخل في قوام الفيلق السابع الذي تتواجد أركانه في اليمن (مدينة صنعاء).

إن مد الوحدات العسكرية المرابطة في الحجاز بالرجال يجري على الأغلب من الأناضول. ومدة الخدمة ، نظرا للظروف المناخية الخارقة المشقة ، سنة فقط ، رغم أن التسريح إلى الرديف (الاحتياطي) ، كما سمعت ، لا يجري في حينه ، ولذا يخدم كثيرون ثلاث سنوات.

سلك الضباط ، من الاتراك والأكراد على الأغلب ؛ ولم اتلاق إلا مع ضابط واحد من مواليد الجزيرة العربية. وبين الضباط من الرتب الدنيا ، عدد كبير جدّا من الشيوخ ترقوا من رتبة الجنود العاديين.

بندقية «مارتيني» تشكل سلاح الرجال. المدافع في البطاريات

__________________

(*) كتاب «الحجاز».

١٥٠

الجبلية نحاسية ، وتحشى من الخزنة ، وفي بطاريات الميدان ، فولاذية ؛ وفي القلاع مدافع قديمة من شتى الأنظمة والعيارات.

وقد أضيفت إلى تجهيز الرجال مناديل قطنية بيضاء سميكة ، مساحتها؟؟ أرشين (١) مربع يلفون بها رأس فوق الطربوش في القيظ.

طعام الجنود ، كما سمعت ، مرض ؛ وأقول بالمناسبة انه تظهر في بازارات مكة والمدينة المنورة أعداد كبيرة من أرغفة الجنود المخبوزة جيدا من طحين شبه أبيض ويشتريها الحجاج بطيبة خاطر. أثناء إقامتي ، وزعت القوات المسلحة كما يلي : في الرأس الأسود والبحرة ، حيث الطوابير ترابط موقتا حتى نهاية حركة الحجاج ، في خيام سيئة جدّا ؛ في مكة ، ترابط العساكر في ثكنات في قلعتين صغيرتين ؛ في رابغ ترابط في منشآت ضمن القلعة ؛ وفي المدينة المنورة ، ترابط في ثكنات حسنة المنظر ولكنها قذرة جدّا في الداخل كما رووا لي ؛ وأخيرا ، في ينبع ، تعيش في الخيام.

نسبة الأمراض ونسبة الوفيات بين الجنود ، كما يقول الجميع ، كبيرتان جدّا ؛ فإن المناخ غير المألوف يمارس تأثير فتاكا. ورأيت في مكة والمدينة المنورة وجدّة (في خارج المدينة) مستشفيات عسكرية لعلاج المرضى.

وقد سمعت من السكان المحليين شكاوى من السرقات الصغيرة التي يقترفها الجنود من الدكاكين ومن المحال التجارية الأخرى. وقد فسّر السكان ذلك قائلين : «لا يعطونهم ما ينبغي ولذا يسرقون».

والجنود لا يتحلون أبدا بهيئة عسكرية جيدة ، الأمر الذي يفسره ضباطهم الذين تسنى لي أن اتحدث معهم بقصر مدة الخدمة وبالمناخ الحار الذي لا يتيح تدربيهم كفاية.

__________________

(* *) الارشين ـ ٧١ سنتمترا. المترجم.

١٥١

في الطريق من الرأس الأسود إلى مكة ، عرّجت على أحد المخافر الواقعة على هذه الطريق والحديثة البناء. يشغل المخفر برجا مستديرا واحدا فقط قطره وعلوه زهاء ٨ ارشينات. المدخل يسده باب خشبي سميك ؛ في الجدران مزاغل ضيقة أي نوافذ يمكن استعمالها بشكل مريح ومناسب ، بالوقوف على الواح خشبية للنوم مبسوطة بمحاذاة الجدران. وداخل البرج يوجد مخرج إلى سطح منبسط ينتصب عليه جدار ارتفاعه نحو أرشينين ـ وله ثغرات لأجل إطلاق النار. وعلى السطح منصة وسقيفة لأجل الحارس.

هذا الإنشاء لأجل المخفر بدا لي عقلانيا جدّا نظرا للظروف المحلية.

كان في المخفر ٨ جنود (عادة ١٠ ـ ١٢) بإمرة ضابط صف (جاويش). وتبين من حديث هذا الجاويش الذي يخدم هنا للسنة الثالثة أن نهب المارة يجري على الدوام ، وأحيانا حتى على مرأى من المخفر. ونظرا لقلة الرجال ليس دائما يستطيع المخفر أن يهب إلى النجدة. وأحيانا تجري عمليات الهجوم والنهب بدرجة من السرعة بحيث انه قبل أن يفلح رجال المخفر في تقديم المساعدة يكون الأشقياء قد تواروا في الجبال ؛ وليس للمخفر أية وسائل للملاحقة.

ميزانية الحجاز

من الواضح أن الحجاز من افقر الولايات العثمانية ، وإنه لا يتسم بجانب من الأهيمة إلّا لأن المدينتين المقدستين بنظر المسلمين ـ مكة المكرّمة والمدينة المنورة ـ تقعان فيه.

في الطبعة الأخيرة لحولية «الحجاز» لعام ١٣٠٦ ه‍ ، تبلغ الواردات لسنة ١٣٠٤ ه‍ في الولاية ٨١٥ ، ٥٥ ، ١ قرشا ، منها :

١٥٢

رسم الإنتاج

٢٥٠٢٠٠

قرش

رسم الوزن

٣٠٠٠٠

قرش

من استثمارات صيد السمك

٥٦٠٠٠

قرش

رسم الدخول

٩٨٦٦٢٩

قرش

الزكاة

١٣٩٠٤٥

قرش

رسم النقل

٣٩٥٠٠

قرش

رسم المرافئ

٣٦٣٠٠

قرش

واردات مختلفة

٢٢١٣١

قرش

النفقات في السنة ذاتها :

الشؤون الداخلية

٥٧١٧٤٢٢

قرشا

المالية

٤٣٣٩٧٥١

قرشا

العدلية

١٣٩١٦

قرشا

التعليم العام

٥٢٧٦٨

قرشا

التدابير الصحية

٧٦٧٠٠

قرشا

البريد والبرق

٢١٦٤٠

قرشا

القوات المسلحة

٦٩٦٣٤٥٠

قرشا

الدرك

٥٥٥٧٤٧٧

قرشا

البواخر الحربية

٧٦٥٢٠٨

قرشا

الحاصل

٢٣٥٠٨٣٣٢

قرشا

١٥٣
١٥٤

الفصل الثاني

حركة الحج في الحجاز

خصائص ظروف المواصلات

نظرا لمخاطر الطرق في الحجاز ، تجري المواصلات هنا في ظروف خاصة. الطريق بين مكة وجدّة هي الطريق الوحيدة التي من الممكن عبورها في أي وقت من السنة وجماعات غيرة كبيرة ، وإن يكن ببعض الخطر ، ومرد ذلك إلى حمايتها ؛ أما الطرق الأخرى ، فإن حركة السير عليها لا تجري إلا بجماعات كبيرة وفي وقت معين من السنة وبتدابير احتراس خاصة.

القافلة والركب

لأجل النقل يستعملون في المعتاد بعيرا ـ أما بعيرا للنقل (جملا) ، وفي هذه الحالة يشدون إلى ظهره سلتين (قفتين) لهما ، لأجل التظليل ، ضرب من خصين ، ويسميان بالرحل ، وأما بعيرا خفيفا (هجينا) يشدون على ظهره سرجا فقط. وعدا الرحال يوجد أيضا ما يسمى «التختروان» ـ أي اكشاك معلقة بين عريشين طويلين. وتختروان يتطلب جملين للنقل غالبا ما يستبدلونهما نظرا لثقل هذه المنشأة الكبير ، ولذا يكلف النقل عليهما غالبا جدّا ، الأمر الذي لا يستطيعه سوى كبار الأغنياء.

١٥٥

ومن الجمال يؤلفون قوافل كبيرة نوعا ما بقيادة «المقوّمين» (قافلة باشي) ؛ أما الهجائن ، فيشكلون منها ركبا يقوده على طول الطريق كله شيخ ينتخبه المسافرون أنفسهم عند الإنطلاق.

ونظرا لمخاطر الطريق ، تسير القوافل عادة في النهار ، وتنطلق في الصباح الباكر وتتوقف تبعا لطول المرحلة. وتشكل جمال كل مقوّم مجموعة منفردة تصطف وفقا لعرض الطريق ، في ثلاثة أو أربعة خطوط متوازية. وتسير المجموعات بحيث لا تكون بعيدة بعضها عن بعض. والمقوّم نفسه يمضي عادة على ظهر هجين ؛ أما سواقو الجمال ، فإنهم يمضون دائما سيرا على الأقدام مهما كان الطريق طويلا ، لأن الرحال (الشقادف) التي تشغل مكانا كبيرا من حيث العرض غالبا ما تتصادم ، فلا يندر أن يتعرض الجالسون فيها لانقلابات غير مستطابة أبدا. وفي أوقات القيظ من السنة ينطلق الركب بحكم الضرورة ليلا ولك في الساعة الواحدة أو الثانية ، ويتوقف حوالي الساعة السابعة ، ثم ينهض حوالي الساعة الرابعة بعد الظهر ويسير حتى الساعة ٨ أو ٩ مساء.

وكما في القوافل ، كذلك في الاركب لا يطلقون الجمال للرعي أثناء الوقفة ، بل يقعدونها في الحال ويقدمون لها العلف ، وذلك حوالي ١٥ رطلا فقط في اليوم الواحد لكل جمل موزعة على ٣ مرات ؛ ويسقونها حسب الامكان مرتين في اليوم.

السير على الهجائن يجري بسرعة نسبية ـ ٥٠ ـ ٨٠ فرستا في اليوم ، ولكن السفر عليها متعب للغاية ، ولا يجري إلا بين مكة والمدينة المنورة ، ومن المدينة المنورة بإتجاه بغداد والبصرة ؛ أما سفر القوافل ، وإن يكن بطيئا جدّا ـ ٣ ـ ٢ / ١ ٣ فرستا في الساعة ، ناهيك بأن قطع المرحلة يدوم أحيانا ٢٠ ـ ٢٥ ساعة ، فهو على العكس أسهل إذ أن الشقادف تعتبر مكيفات مريحة نسبيّا يمكن أن تتوفر فيها الحماية من الشمس أو أن يتمدد فيها المرء تماما.

١٥٦

عادة تجري حركة القوافل والركب في غضون ٤ ـ ٥ أشهر من الحج وفي شهر رجب حين يقوم سكان مكة بالحج إلى المدينة المنورة ؛ أما في الوقت الباقي ، فيتوقف كل اتصال.

حين تنطلق قافلة من مكة أو من المدينة المنورة أو من ينبع ، فإن السلطات التركية تأخذ أحيانا من المقوّمين رهائن خاصة تبقى قد الاعتقال إلى أن يأتي نبأ عن وصول القافلة إلى مقصدها ، ثم يطلقون سراحهم بصرف النظر عما إذا كانت قد حدثت في الطريق حوادث نهب وسلب فريدة أم لا.

البدو وعمليات النهب والإعتداء

خطر السفر يتلخص أمّا في عمليات النهب الصغيرة التي يقوم بها البدو ، وأمّا في إعتدائهم السافر على القوافل ، وأما في المقاومة المسلحة التي تبديها بعض القبائل لمرور القافلة في أراضيها.

في الطريق بين مكة وجدّة ، حيث الحركة دائمة ، تشكلت من شتى الأوباش عصابات كاملة من قطاع الطرق تنهب وتسلب على الدوام رغم وجود المخافر ، أمّا في الطرق بين مكة والمدينة المنورة وينبع ، فإن هذا الشر يتطور أثناء حركة الحجاج ؛ فإن قبائل برمتها تتعاطى السلب والنهب ، دون أن تعتبر البتة ذلك جريمة ، وتبيع علنا وبكل حرية ما تحصل عليه من الأشياء بهذه الطريقة ، وأثناء إحدى الوقفات في الطريق بين مكة والمدينة المنورة ، ظهر بدوي من بطن لحابة وأخذ يتنقل على الركب كله عارضا بيع سلاح وحزام والبسة حج وغير ذلك ، وبدلة حاج قتله قبل ذاك ، الأمر الذي اعترف به بنفسه على المكشوف. ورفم السعر التافه الذي طلبه ، لم يعمد أحد من الركب إلى شراء المعروص. لقد أصبح نهب الحجاج حرفة مفيدة ؛ وكما كان التكنيون (١) يقولون في

__________________

(*) إحدى القبائل التركمانية الكبيرة. الناشر.

١٥٧

الأزمنة الغابرة لدائنيهم : ـ «أنتظر قليلا ، سأذهب إلى بلاد الفرس لأجل نهب المال وأدفع ديني» ، كذلك البدو يطمئنون دائنيهم قائلين : «أصبر حتى وصول الحجاج ، انهب أحدا منهم وادفع ديني».

إن البدو الذين يتعاطون النهب والسلب يتتبعون القافلة كما تتتبع الذئاب الجائعة القطيع ، متخفين نهارا في مكان ما في الجوار ، ملاحظين المسافرين المتخلفين ، وخارجين إلى القيام بعملهم عند هبوط الليل. وحين تتوقف القافلة في الظلام لأجل الراحة ، ويحدث في هذه الحال الهرج والمرج العادي ، يتسنى لهؤلاء الضواري أن يختلطوا مع أهل القافلة ويقطعوا الزنانير التي تحفظ فيها النقود عادة ، صاعقين مسبقا بضعة أشخاص بضربات على القفا بالهراوة ، الأمر الذي غالبا جدّا ما يسفر عن الموت. وعند ما تكون القافلة قد وقفت وهدأ الهرج والمرج ، واضيئت المحلة بالمشاعل ، يترصد هؤلاء الأشرار المسافرين الذين يتنحون لقضاء حاجتهم ويبتعدون بدون احتراس ، ونادرا ما يعودون. وفيما بعد ، حين تغفو القافلة ، يعمد هؤلاء البدو إلى السرقة ، متسللين خفية ، ويسلبون كل ما تقع عليه ايديهم. وهناك كثيرون يعتقدون ، وليس دون مبرر ، أن مقترفي أعمال النهب والسلب هم سواقو جمال القافلة بالذات الذين ، كما يقال ، يعرفون جيدا جدّا الأشرار ، ويعطونهم التعليمات بصدد من ينهبون وكيف ، وما إلى ذلك ؛ ولهذا يحاول المسافرون بجميع الوسائل أن يستميلوا سواقي الجمال في قافلتهم ، بإعطائهم يوميا البخشيش ، وبقايا الطعام ، وما شاكل.

والأتراك هم ، لسبب ما ، أكثر من يعانون من عمليات السلب والنهب هذه ؛ وفي هذه السنة ، بلغ عدد القتلى من الحجاج ، أثناء سير قافلة من الحجاج من المدينة المنورة إلى مكة المكرّمة زهاء ٥٠ شخصا ، وبلغ في طريق العودة ١٠ أشخاص ، والقتلى جميعهم تقريبا من الأتراك. ومرد ذلك ، كما يفسرون ، إلى أن الأتراك المسلحين دائما يتنحون بلا

١٥٨

احتراس عن القافلة آملين في سلاحهم ، ويرفضون التكرم بالبخشيش على سواقي الجمال في قافلتهم ، ويحملون ، لما فيه إغراء البدو ، زنانير ضخمة جدّا ؛ ولكن كره العرب العام للأتراك يلعب هو أيضا ، أغلب الظن ، دورا معينا في هذا المجال.

في هذه السنة ، لم يتضرر سوى مسلم واحد من رعايا روسيا ؛ ففي الليل ضربوه بحجر أثناء الوقفة في جوار رابغ. ولكنه أصيب بخدش بسيط فقط ؛ وفي الليل نفسه سرقوا منه كيسا كان فيه كل ما يملكه. وقد عرفت بهذه الحادثة في الطريق من المدينة المنورة إلى ينبع ؛ صحيح أن المتضرر تقدم من القائمقام بشكوى عند وصوله إلى ينبع ، ولكن الشكوى لم تلق قبولا لأنها لم ترد في الوقت المناسب. وهذا الحاج أكمل الطريق الباقي بأموال مواطنيه. وعمليات نهب المسلمين من رعايا روسيا نادرة جدّا على العموم ، وذلك جزئيّا بفضل المقوّم العجوز محيسن الذي يقوم منذ أكثر من ٤٠ سنة بنقل الحجاج الروس ويعرف كيف يردع بدويّيه ؛ ولربما أيضا بفضل سحر الأسم الروسي.

وهناك أمثلة على الإعتداءات السافرة على القوافل. وهذا ما يحدث عند ما يمرّ المقوّم عبر منطقة القبيلة المعادية له. وفي مثل هذه الأحوال تتلخص مهمة المقوّم ، أما في عقد الصلح أو في شق طريق له بالسلاح عبر الأرض المعادية. وفي شهر نيسان (ابريل) من السنة الجارية وقع في جوار رابغ إعتداء من هذا النوع على قافلة محيسن المذكور أعلاه ؛ وقد تسنى لرجاله المتفوقين عددا صد الاعتداء. ولم يسمع الحجاج غير صفير الرصاص ؛ وكان نصيبهم الخوف وحسب. وفي سنة ١٨٩٥ ، وقع إعتداء مماثل ؛ ولكن بعد تبادل اطلاق النار زمنا طويلا ، تجمع المتعادون في حلقة وعقدوا الصلح.

وهناك ظاهرة أخطر ، هي حجز جميع القوافل بسبب عدم دفع الإعانة المالية التي وعدت بها الحكومة التركية لبعض القبائل المشاغبة

١٥٩

التي تشغل الطريق بين المدينة المنورة وينبع. إن البدو ، كما سبق أن أشرنا ، يعتبرون أنفسهم الأسياد الحقيقيين لمناطقهم ، ويعتقدون على هذا الأساس انه يحق لهم أن يجيزوا أو يمنعوا أن تمر في أراضيهم القوافل التي للسلطات مصلحة بهذا النحو أو ذاك في سلامتها. وفي هذه الحوال يرسلون لأجل التفاوض وسطاء من ممثلي القبائل المجاورة المحترمين ، ولكن ليس دائما يبلغ هؤلاء الهدف المنشود. وفي سنة ١٨٩٧ ، أبقى بنو حرب الطريق بين ينبع والمدينة المنورة مغلقة طوال ثمانية أشهر ، فارتفعت أسعار جميع سلع الضرورة الأولية ـ الشاي ، السكر ، الطحين ، الكاز ، وخلافها ـ بضع مرات في المدينة المنورة.

ويعتبر العرب أنفسهم أن الشريف الحالي ووالي الحجاز الحالي مسؤولان عن الإساءات المذكورة أعلاه ، إذ انهما لا يعطيان البدو ما يحصلان عليه لأجلهم ولا يتخذان إجراءات أخرى أشد فعالية لوضع حد لنزواتهم.

المحملان السوري والمصري

نظرا لمخاطر الطريق ، يلجأون من سحيق الزمان إلى إرسال قوافل الحجاج كل سنة إلى مكة والمدينة المنورة لمناسبة زمن الحج ، بحيث تكون قوافل كبيرة جدّا ، ويحميها خفر قوي ، ويسير على رأسها محمل. وباسم المحمل كان يسمى من قبل البعير الذي كانت اسرة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) تقوم عليه بفريضة الحج من المدينة المنورة إلى مكة المكرّمة ؛ وفيما بعد ، أخذوا يطلقون هذا الأسم على خيام مزينة ببالغ الغنى محمولة باحتفال خاص على جمال معدة خصيصا لها.

أحد المحامل ـ المحمل السوري ـ ينطلق من دمشق ، حيث يتجمع قبيل إنطلاقه عدد كبير من الحجاج ، سواء من سوريا ذاتها أم من الأناضول وبلاد فارس المجاورتين. وتخصص لحماية القافلة فصيلة

١٦٠