الرحلة السرية للعقيد الروسي عبد العزيز دولتشين إلى الحجاز

عبد العزيز دولتشين

الرحلة السرية للعقيد الروسي عبد العزيز دولتشين إلى الحجاز

المؤلف:

عبد العزيز دولتشين


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: الدار العربيّة للموسوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٦

كل شهر على سبيل المعاش ، وينفق الكثير على أعمال الخير. وهناك أيضا أخوه سازي باشا ، وهو شاب نسبيّا. في الظاهر لا يوجد أحد تعتمد عليه السلطة ، رغم أني رأيت مرة واحدة موظفا بوليسيّا يسير في الشارع. في الأيام الأخيرة ـ حرس عسكري موقت في الساحة. أعتاد الشعب على مراعاة النظام بنفسه ـ.

بين الأشخاص ذوي الألقاب شبه الدينية ، شيخ الحرم ، المشرف على الحرم المحلي ؛ وهو ضابط تركي سابق ، اشترك في الحرب الأخيرة ضد الروس ، وكان مع عثمان باشا في الأسر.

أمس ، بعد صلاة الختام زرنا أحد مواطنينا ، واسمه شريب. منذ ١٦ سنة غادر مسقط رأسه مدينة ترويتسك (محافظة أورنبورغ) ، بسبب تولعه في الأسفار ، وراح إلى تركستان ، وكان في الصين وافغانستان والهند. وذهب إلى مكة المكرّمة عبر بومباي ، ومنها إلى المدينة المنورة ، حيث استقر وتزوج من أرملة عجوز تركية استثار عشقها ، كما يقولون ، مازحا ، بأغانيه (يغني ببراعة) ، وأخذ بفضل هذا الزواج بيتا وعبدة ؛ والآن يعيش بيسر ، مشتغلا بلا كلل على آلة. زار مكة ٦ مرات ، علما بأن وباء الكوليرا لم يكن منتشرا مرتين فقط. تذكر وقائع فظيعة. يتبين من مراقباته التي تؤكدها أفادات أشخاص آخرين أيضا ، أن كل شيء ينتهي بسلامة إذا كان الطقس في منى صحوا في أيام تجمع الحجاج هناك ، وأن المصائب تقع إذا تعتم الجو نوعا ما بسبب الغيوم وإذا أخذت السماء ترذ. ذات مرة ، نشب الكوليرا في القافلة التي كان ينطلق معها من هنا إلى المدينة المنورة ؛ وصلوا إلى مكة وسمحوا لهم بدخولها بدون عائق ، ولم يسمحوا للحجاج بدخول المدينة إلا للركوع أمام القبر المقدس ؛ وبعد يوم انطلقت القافلة في اتجاه ينبع. كانت نسبة الإصابات بالمرض رهيبة.

لم يستطع أن يتذكر السنوات جيدا. وهناك واقع غريب آخر من

١٢١

ميدان آخر. هنا يوجد كثيرون من الخصيان المنفيين من قصر السلطان والعائشين هنا بمعاش يكون أحيانا ، كما يقولون ، كبيرا جدّا ، مثلا ، ٣٠ ليرة. وتبين أن كثيرين منهم يتزوجون ؛ وظننت أنهم يفعلون ذلك لأجل الخدمات البيتية فقط. ولكن كلا ، فلهذا الغرض توجد عبدات ؛ أما الزوجات فلا يفعلن شيئا غير ارتداء وتغيير الملابس الفاخرة. ولم يحدث مرة ، كما يقولون ، أن تذمرت إمرأة تزوجت من مخصي من مصيرها ورغبت في الطلاق.

النساء ، كما سبق أن قلت ، يتمتعن هنا بقدر من الحرية أكبر بكثير مما عندنا ، نحن التتر ؛ وهن يشتركن في الصلاة في الجوامع ، ويتاجرن بحرية ، ويقمن بأمور أخرى ، ويتخطرن من زيارة ، وغير ذلك ، النقل الأول للضيفة القادمة هو النارجيلة التي يدخنها الجميع بلا استثناء ثم فنجان القهوة.

تحادثت مع عز الدين أفندي عن مهاجرينا المحليين. يستفاد من أقواله أن الذنب الرئيسي الذي اقترفه اتباع عبد الستار انما هو استملاك أموال المواطنين الذين يموتون هنا واهمال مشيئتهم الأخيرة. الأموال أمّا لا يعرضونها البتة على السلطات التركية ، وأما لا يعرضون غير قسم منها يطلبونه بالحاح من الورثة في صالحهم ؛ والوصايا لا تنفّذ ؛ وقد روى حارث أن تلميذا قرغيزيا قد أوصى قبل وفاته بما يملكه [...] * في صالح رفاقه الشكيرديين ولكن هؤلاء ، وكان بينهم آنذاك حارث ، لم يحصلوا على شيء. وبالروح نفسه يحكي كثيرون جدّا عن مسلك عبد الستار وناظره ، فلا بد من التصديق سواء شاء المرة أم أبى. ولكن هذا الرجل يحظى بمكانة كبيرة عندنا في روسيا. في السنة الأخيرة خاف أن يذهب بنفسه لجمع النقود فأرسل حسين الملّا وعبد الرحمن الشيخ وصدّيق الناظر.

٢١ أيار (مايو). يوم الخميس. اليوم ، مات عدد كبير جدّا من الناس. المدينة المنورة منفعلة لموت المدرّس المعروف عبد الندير الذي

١٢٢

توفي فجأة ؛ ومات قرغيزي بارز من مقاطعة سيميبالاتينسك ، كان نائبا في حفلة التتويج ، ومزينا بالأوسمة ، رجلا محترما وفاضلا. مرض في مكة ، نقلوه إلى هنا مريضا ؛ في الطريق التي استغرقت ١٦ يوما لم يأكل شيئا ؛ وأخيرا توفي هنا. ومن عداد الذين مرضوا في مكة ، توفي في الطريق فرغيزيان وتتري من قازان. كذلك دفنوا أربعة جنود.

هنا تقع العين على كثرة كثيرة من البنادق التي تشحن من مؤخرة السبطانة ، ومزلاجها يشبه مزلاج بنادقنا القصيرة من طراز بردان رقم ٢ ؛ وهي من العيار نفسه تقريبا. يقولون أن الجيش اليوناني كان مسلحا بهذه البنادق.

جميع البدو مسلحون حصرا بأسلحة قديمة ؛ أما سكان المدن فعندهم أسلحة كثيرة من أنظمة محسنة ؛ وهذه الأسلحة يستعملونها أحيانا لأجل إجراءات القمع. يروون أن عبدة قتلت سيدتها منذ عشر سنوات تقريبا. فحكمت المحكمة التركية عليها بالأشغال الشاقة لمدة ١٥ سنة ؛ ولكن السكان طالبوا شاهري السلاح باعتدامها ؛ وكاد يحدث اصطدام بين العساكر والسكان ؛ واضطرت السلطات إلى التنازل ، وأعدموا المجرمة علنا ، أمام الملأ.

٢١ أيار (مايو). اليوم تدور جميع الأحاديث حول الرحيل ، ولكن القوافل لا ترتحل بعد ، بانتظار الأخبار من ينبع : أيسمح البدو للقوافل بالعبور أم يمنعونها عند عبور مضايق الجديدة؟ لتأمين الحجاج نوعا ما ، تأخذ السلطات التركية من كل قبيلة رهائن وتحتفظ بهم في السجن حتى لحظة معينة. اليوم ، في الصباح الباكر ، جاءت من مكة قافلة الماليزيين الذين يملأون الآن كل المدينة المقدسة غير الكبيرة والحرم الشريف. يتحدث مهاجرونا كثيرا عن أنعام الحكومة التركية على رئيسهم عبد الستار بمدالية لقاء تبرعه بعشرين ليرة في صالح الحكومة لمناسبة الحرب ضد اليونان.

١٢٣

اليوم قمت بصلاة الجمعة ٣ مرات [.....] * * *.

مساء كنا عند تاجر محلي من مواطنينا ؛ رأيت هناك صدّيق ، ولي أمر مدرسة قازان الدينية ؛ انه يشغل أحد بيوت الأوقاف ؛ في الأيام الأخيرة كنت في جامع قازاني. أنهم يقلدون العرب في التجويد.

خادمي ورفيقي حارث مريض منذ البارحة ؛ يبدو انه مصاب بالحمى. حرارته عالية جدّا. يهذي. نعالجه بالكينا.

اليوم ارتحلت إلى مكة قافلت الهنود.

ما من أمة من الأمم تعرض باجتهاد غلائم الشعور الدينية مثل الفرس ؛ فهم ينوحون ، وينحبون ، ويبكون ، ويبوسون عتبات الباب ، ومقابض البوابة ، غير ذلك.

بفارغ الصبر ينتظر الجميع البريد من مكة ؛ وكان لا بد أن يصل يوم الأربعاء ولكنه لم يصل بعد. جميع رفاق الطريق ينتظرون جوابا من قنصلنا عن رسالتي بصدد الحجر الصحي الذي يخافونه خوفهم من النار ؛ فهو شر لا يبرره بالفعل أي مبرر ، وشر لا لزوم له ، ومزعج إلى أقصى حد ، ولا يعود بأي نفع.

٢٢ أيار (مايو). يوم الجمعة. شيء ما عن تجارة المدينة المنورة. الضواحي لا تنتج شيئا تقريبا. كل شيء مستجلب.

القمح والشعير يستجلبونهما من جهة بغداد ومن مصر عبر ينبع ، والرز من البصرة والهند ومصر ، ومن [.....] ، عبر ينبع ، البضائع المستعمرية والصناعية ؛ والبقالة عبر ينبع. الخضراوات وبعض الأشياء الأخرى تنبت في الضواحي. البن والملح يستجلبونهما من اليمن. المادة الوحيدة للبيع هي البلح الذي يشتريه الحجاج ويرسلونه هديّة من هنا إلى مختلف الأفراد في روسيا والقسطنطينية. وهنا يوجد ١٣ نوعا من البلح وأفضل الجلابي. يجب اعتبار كمية البلح المباع زهاء ٥٠ ألف بود.

١٢٤

السمنة من حليب الابقار يستجلبونها من جهة البصرة. لحم الغنم يستجلبونه من مخيمات البدو الرحل المجاورة. الكاز أميركي ومن باكو. يحدث أن تقطع القبائل البدوية العاصية الطريق إلى ينبع ، فيصبح الوضع في المدينة المنورة صعبا ، وترتفع كل الأسعار كثيرا. ويشرف المحاسب مباشرة على البازار وعلى النظام في ساحة البازار ؛ وتحت تصرفه دورية عسكرية. الخرداوات يشتريها تجار الجملة في القسطنطينية. التجارة المحلية تشتد مع وصول الحجاج وتهدأ بعد رحيلهم.

٢٣ أيار (مايو). يوم السبت. اليوم أفادنا ادلّتنا أن رحيلنا إلى ينبع غدا ، أو بعد غد على الأكثر. استقبل جميع الحجاج الخبر بفرح كبير لأن الحياة هنا بالنسبة للكثيرين ممن اعتقادوا على الرحب والسعة مرهقة غاية الأرهاق. أدوا جميع الطقوس والمراسم ، فليقبلها الله ؛ والآن آن أوان العودة.

٢٤ أيار (مايو). يوم الأحد. أرجئ رحيلنا إلى أجل غير مسمى ؛ تروج إشاعات مقلقة جدّا.

في الحديث مع مختلف الأفراد من غير العرب عن العرب ، عرفت بضع سمات طريفة من طبعهم. كل قادم يقدمون له القهوة في الحال ؛ والامتناع عن شرب هذه القهوة ، رفضها ، يعتبر إهانة مؤلمة خطيرة قد تعطي ذريعة لعداء لا نهاية له. مثلا. يأتي الوسطاء الشيوخ إلى ممثلي قبيلة ما ، ويطلبون أما تمرير القافلة وأما إعادة الأموال المنهوبة ، وما إلى ذلك ؛ يقدمون للقادمين القهوة ؛ هؤلاء لا يشربونها كأنما لم يروها ؛ القهوة تبرد ، ويستعيضون عنها مرارا بقهوة جديدة ، ساخنة ؛ الضيوف يشربون ؛ أخيرا يطلب المضيفون تذوق قهوتهم ؛ الضيوف يرفضون بحجة عدم تلبية مطلبهم ؛ عادة تنتهي المشكلة حبيا ، وفي النهاية يشربون القهوة ، عربون المصالحة.

١٢٥

أثناء السفر ، لاحظت كيف يهيئ البدو القهوة لأنفسهم. البن المحمّص يطحنونه في هاون زمنا طويلا جدّا ؛ ولا يدقون كيفما اتفق ، بل بإيقاع وانقطاعات مختلفة ؛ ثم يسكبون الماء الغالي على البن ، ويضعونه على النار ، ولكن لا يدعونه يغلي من جديد. وحين تصبح القهوة جاهزة ، يبدأ تقديمها لجميع الحاضرين بلا استثناء. القهوة يشربونها ساخنة جدّا ؛ ولهذا لا يسكبون في الفنجان أكثر من جرعتين أو ثلاث. القهوة من تحضير البدو مشروب ثقيل ومرّ جدّا يستحيل شربه بدون الاعتياد عليه.

٢٥ أيار (مايو). يوم الأثنين. في الحديث مع ثابت ، سمعت منه قصة طريفة عن سفره للسنة الثالثة من ينبع إلى جدّة. بما أن موعد سفر الباخرة لم يكن متوقعا عما قريب ، فقد سافر مع قرابة ٧٠ شخصا على متن زورق شراعي. (الزورق من هذا الطراز يسمونه «سمبك» ، وهو بلا متن وله شراع واحد. حمولته زهاء ٣٠٠٠ بود ، ويأخذ كذلك ركابا بأجر قدره بورون واحد (الريال ـ ٨٨ كوبيكا) بين المدينتين المذكورتين. تنطلق الزوارق بمحاذاة الشاطئ ، وترسو ليلا على البر).

قرب رابغ اصطدم الزورق بصخرة تحت الماء وجنح كثيرا. رأى البدو من الشاطئ سوء أحوال السمبك ، فاقتربوا بأعداد كبيرة على زوارقهم الصغيرة ، ولكن شرعوا يساومون غير مستعجلين للانقاذ. طفق أحد الركاب ، وهو شيخ جليل ، مصري ، يحاول اقناع الرحل ينقلهم إلى الشاطئ معلنا أن كل ما معهم يصبح ملكا لهم ، شرط أن ينقذوا حياتهم. وافق البدو على نقلهم جميعا ، لا إلى الشاطئ حيث كانوا يخافون من أن يسلبهم أبناء قبيلتهم ، بل إلى جزيرة صغيرة ، وتركوهم فيها وعكفوا على أن يستخرجوا لأنفسهم من الماء أكياس القمح التي كانت في الزورق الذ غرق فور اقلاعه. دام هذا العمل طوال الليل كله. وأخيرا جاء البدو في الصباح إلى الجزيرة حيث الركاب المنقذين. وهنا من جديد ، أصغوا إلى وعود المصري المذكور ووافقوا على نقلهم جميعا إلى جدة بأجر قدره

١٢٦

مجيدية واحدة عن كل شخص. أركبوهم ، كل ٣ أو ٤ ، في زوارقهم الصغيرة ، وأوصلوهم بسرعة إلى المقصد ؛ واستبقوا لأنفسهم جميع أمتعة الركاب. يخيل إلىّ أن البدو هم في المقام الأول متوحشون ذوو ميول بربرية لا شك فيها ، وذوو مفاهيم فريدة بصدد حقوق الملكية ولكنهم يملكون قدرا معينا من حضور الضمير والوجدان ، ويتأثرون بالمثل الطيب. وهم على العموم متوحشون تعوزهم التربية.

٢٦ أيار (مايو). يوم الثلاثاء. تقرر أن تأتي القافلة اليوم مساء وتبيت الليل قرب البوابة الأنبارية للمدينة. فكرت فيما إذا كنت أسافر الآن مع هذه القافلة الأخيرة أم أبقى ، وقررت أن أسافر. البقاء ، حين يكون الحج قد انتهى ، قلما يتسم بالأهمية والطرافة ؛ وإذا بقيت ، يتعين علىّ أن أبقى حتى كانون الأول (ديسمبر) أو كانون الثاني (يناير) ، لأنه لم يكن متوقعا وصول قافلة أخرى ، ولأنه لم يكن من الممكن أن تتسنى لي زيارة المراكز الهامة التي تمر بها حركة الحجاج. إذن ، لنذهب ، وان يكن يخوفونني كثيرا بالسفر إلى ينبع إذ يقولون أن البدو لا يمررون. أمرت حارث بالاستعداد للرحيل. وعلى كل حال قررت أن آخذ معي ، كمرافق ومدّبر في الطريق ، دليلنا اللطيف إبراهيم ، رغم أن هذا سيكلف مبلغا من النقود لا يستهان به. أراد إبراهيم أن يأخذ معه إبنه عبد الملك الذي يحظى بعطف الجميع لاستعداده لتقديم الخدمات ومرحه المتواصل. استعداداتنا تتألف من شراء زوج من الشقادف وسجادة لأجل التغطية من فوق ، والمؤن. وعد فخر الإسلام بأعداد الشقادف أي بتغطيتها بالقماش ، وما إلى ذلك. الشقادف والجمال لا يجيزون ادخالها إلى المدينة ، من جراء الضيق ، ولذا كانت نقطة الانطلاق ضاحية المناخة.

بعد الغداء زارنا كثيرون من مواطنينا بحجة تمني السفر الميمون ؛ ولكن الهدف الحقيقي كان الحصول على شيء ما ؛ القسم الباقي منهم رافقنا للهدف نفسه إلى المناخة. فكان لا بد من توزيع قد لا يستهان به

١٢٧

من النقود. وأخيرا ، حوالي الساعة ٥ مساء ، دفعنا للدليل عمر اتعابه ، وحمّلنا الأمتعة على[...] ، وغادرنا البيت المضياف والأدّلة ، واتجهنا إلى المناخة. كانت الشقادف معدة ببالغ الاجتهاد. طرح فحر الإسلام في أعلى سجادة ، كما خاط جيوبا وأعشاشا لأجل جرار الماء. وحين انتهى التحميل ، اتجهت الجمال إلى البوابة الانبارية ، ورحنا وراءها برفقة جمع غفير من مواطنينا. خروج الجمال يجري باذن خطى من العامل.

ما إن خرجنا من المدينة حتى توقفنا لمبيت الليل ؛ وإلى هنا توافدت تدريجيا جميع القوافل.

٢٧ أيار (مايو). يوم الأربعاء. اليوم ، في الساعة الخامسة والنصف صباحا انطلقنا في اتجاه ينبع. قافلتنا تتألف من قسمين برئاسة مقوّمين. مقوّمنا محيسن المشهور. القسم الثالث المؤلف من الحجاج الفرس لا ينطلق اليوم ، لأن مفاوضاتهم لم تنته بعد بصدد دفع فدية للبدو ؛ القافلتان الأوليان تتألفان بمعظمهما من المصريين والمغاربة والسوريين والاتراك ومسلمينا. الأقسام الثلاثة جميعها تتألف من ١٥٠٠ جمل تقريبا يحمل ثلثاها الشقادف. للمرة الأولى تعين علىّ تسلق هذه الأداة البدائية لأجل الركوب. ركبنا أنا وحارث ، وانطلقت قافلتنا تدريجيا في ٤ خطوط.

كان الوداع مع عمر وديا للغاية. في الصباح تسنى لرشيد القاضي أيضا أن يأتي لتوديعنا ؛ انه يفكر في الذهاب إلى جدّة بعد عيد المولد النبوي. يرى حارث أن مشية جملنا ناعمة ، رغم انه كان لي رأي مغاير تماما. وبما انه توجد قرب المدينة المنورة كثرة من المرتفعات والمنحدرات ، فإنه يتعين ، لأجل الاحتفاظ بالتوازن ، التحرك تارة إلى الأمام وطورا إلى الحلف. وفي آخر الأمر ، كنت استوي بنحو أو آخر ؛ وواقع انه أصبح من الممكن التمدد كان بحد ذاته فرجا كبيرا.

كان حداة جمالنا من البدو ؛ رشيد ، وهو أكثرهم همة ، واوفرهم نشاطا ومبادرة ، يتكلم قليلا بالتركية ؛ إبراهيم ، أو كما يسمونه إبرايم ،

١٢٨

يمشي دائما برأس مكشوف ؛ انه شخص متوان ، وكائن حقير جدّا ؛ وأخيرا ، الزنجي سعيد ، العبد السابق لمحيسن الذي اعتقه ، وزوّجه ؛ وتبناه ؛ وسعيد قصير القامة ولكنه قوي البنية ؛ وهو يسوق مفرزتنا. إن الاحتفاظ على الدوام بالتوازن في الشقدف ، وخاصة إذا كان أحد الراكبين اثقل من الآخر ، أم صعب جدّا ؛ ودائما كنت أسمع ، وبخاصة في البداية ، صيحة البدو «حاجي متاعك» أو «قدام» أو «وراء». بفضل الشقدف الجيد والوزن الواحد مع حارث ، لم يتسنّ لي أن أسمع هذه التعليمات.

على بعد نحو ٦ فرستات من المدينة المنورة ، تدخل الطريق في مضيق عريض ذي جانبين منحدرين تدريجيّا ، نمضي فيه حتى الحمرا. والطريق على طول امتداده هذا ملائم لأجل التحرك ، متساو ومنبسط تماما ، وذو تربة رملية صلبة ، وكمية كافية من الماء والوقود. في هذا اليوم سرنا في أوج القيظ حتى ساعة متأخرة من المساء ٢ / ١ ٨ ساعات ، وبالأجمال سرنا ١٤ ساعة ، وتوقفنا لمبيت الليل عند بئر درويش ، بينما سبقنا القسم الأمامي من القافلة شوطا وتوقف عند بئر الشهداء.

في الليل ، دفنا شيخا من مواطنينا! كان مريضا في المدينة المنورة ، ومريضا سافر. وعند الرحيل طلب عمر بالحاح من الشيخ أن يبقى قائلا له انه لن يتحمل مشقة الطريق ، ولكن المسكين كان يريد العودة إلى الوطن بأسرع وقت ، فلم يبق ، ومات في الشقدف بعد الرحيل بساعتين ؛ كذلك ماتت إمرأة من المغاربة. في القسم الأمامي كانت أيضا بضع وفيات.

٢٨ أيار (مايو). يوم الخميس. اليوم قطعنا مرحلة غير كبيرة من الساعة ٢ / ١ ١١ صباحا إلى الساعة ٢ / ١ ٧ مساء ، بانتظار القافلة الفارسية لأن الطريق لاحقا محفوف بمخاطر كبيرة ؛ ومقوّمونا لا يتجرؤون على السير وحدهم.

مكان قضاء الليل عند بئر أخرى. من الصعب أن يتصور المرء مبلغ صعوبة الانطلاق والسير في أوج القيظ! في الليلة السابقة قتلوا في القسم

١٢٩

الأمامي ، بهدف السلب ، حاجين اثنين تخلفا لقضاء حاجة. لا نزال نسير في أراضي قبيلة مقوّمينا ، ولهذا لا نخشى الهجوم السافر.

قدم إبراهيم وابنه عبد الملك خدمات تفوق التقدير ، إذ يتخذان جميع التدابير لضمان سلامة سفرنا ناهيك عن شتى الإجراءات الإقتصادية. وبما أننا نصل في الليل إلى مكان المبيت ، فلا يسمحان لنا بالنزول قبل إنارة المحلة بالمشاعل إذ أن حوادث القتل والنهب تقع على الأغلب في هذا الهرج والمرج ؛ وإذا راح شخص ما إلى قضاء حاجته ، فإن الأب أو الابن يراقبانه من المرتفع الأقرب. وعنهما أحفظ أطيب الذكريات.

١٣٠

الرحلة إلى الحجاز

١٣١
١٣٢

الفصل الأول

سري

الرحلة إلى الحجاز

الحدود

الحجاز التي تتجه إليه حركة حج المسلمين إنما هو جزء من الجزيرة العربية يمتد شريطا ضيقا بمحاذاة ساحل البحر الأحمر ويبلغ طوله زهاء ١٥٠٠ فرستا ، ويتراوح عرضه بين ١٥٠ فرستا و ٣٠٠ فرستا. الحجاز تجده في الشمال فلسطين ، وفي الشرق نجد ، وفي الجنوب اليمن وفي الغرب البحر الأحمر. وأسم «الحجاز» من فعل «حجز» ، أطلق ، حسب تفسير العرب ، نظرا لوجود هذه المنطقة بين نجد والبحر الأحمر. وبالنسبة لنا لا يتسم بأهمية غير القسم الجنوبي (٣ / ١) من الحجاز حيث تقع مدينتا مكة المكرّمة والمدينة المنورة المقدستان بنظر المسلمين وحيث في زمن الحج تبلغ حركة الحجاج أوجها.

طوبو غرافية السطح

الحجاز بلد جبلي جدّا. سلاسل الجبال المؤلفة من كتل حجرية عارية ، وغير العالية نسبيّا (١٠٠٠ ـ ٣٠٠٠ قدم) ، تمتد بموازاة ساحل البحر ، متشعبة بكثرة من الذيول الجبلية الفرعية ، النازلة إلى الغرب نحو البحر وإلى الشرق نحو سهل نجد. وأحيانا ، تتواجد بين الجبال ،

١٣٣

وبخاصة على مقربة من البحر ، صخور مميزة حادة الأطراف. وإلى الشرق من مكة ، تبلغ سلسلة الجبال المسماة هناك «السراة» ارتفاعها الأعلى ، ـ زهاء ٦٥٠٠ قدم في جبل القرى.

والجبال تتقطعها فجاج رملية خالية من الماء يسمون الواحد منها هنا «وادي» ، وأهمها تتجه نحو البحر. وفي قاع هذه الفجاج فقط توجد ينابيع الماء النادرة في الحجاز. فليس البتة في الحجاز لا نهر ولا حتى نهير. وماء الينابيع الذي يسيل هنا وهناك في قاع الوادي ينفقونه في الحال لري البساتين ومباقل الخضراوات. والسكان الرحل يستعملون في المعتاد الآبار والصهاريج التي تمتلئ بالماء السائل من الجبال أثناء الأمطار الغزيرة.

وأغنى الفجاج بالماء ومظاهر السيول (١) هي وادي فاطمة ، وادي الليمون ، السيل الكبير قرب مكة ، وادي الصفراء غربي المدينة المنورة.

إن منظر الحجاز هو على العموم واحد ـ كئيب وصارم ومرهق بقحله وانعدام الحياة فيه ؛ ففي كل مكان تلال حجرية ، عارية ، خالية من أي نبات ، صخور متراكمة بوثوق وبلا نظام ، مكسوة دائما بعتمة رمادية ما ، واودية ضيقة ذات جوانب معلقة تقريبا ؛ أما الخلفية العامة للوحة ، فرمل أصفر في كل مكان يشكل قاع الفجاج ويملأ الفجوات بين الصخور وغالبا ما يبدو بصورة انهيالات قرب ذري الجبال بالذات.

بين الجبال والبحر يمتد شريط ساحلي منخفض ، متساو ، عرضه ٥ ـ ١٠ فرستات، اسمه «تهامة» ، وتتشكل تربته من رمل بحري مكثف جدّا. ومن جراء تسرب ماء البحر ، كانت مياه جميع الآبار في تهامة مالحة نوعا ما ؛ وسكان الساحل يستخدمون في المعتاد الصهاريج.

__________________

(*) كلمة «سيل» («سيول») ـ اسم محلي مستعمل ، مثلا ، في تركستان أيضا للإشارة إلى سيول ماء المطر العاصفة المتدفقة من الجبال. ملاحظة هيئة التحرير.

١٣٤

النباتات والحيوانات

الحجاز فقير جدّا بالنباتات من جراء القيظ الخارق ونقص الرطوبة. ومن عداد النباتات الخشبية رأيت في جميع الفجاج شجرة شائكة جدّا من نوع الطلح (الاقاصيا) أسمها «الشوك» ، وتبلغ مقاييس كبيرة وتشكل الصنف الوحيد من المحروقات. في أوائل نيسان (ابريل) ، في طريقي إلى مكة ، كانت هذه الشجرة لا تزال تحمل أوراقا ، ولكن في حزيران (يونيو) لم يبق على الغصون سوى قرون ناضجة قوسية الشكل. وهذه القرون تباع في البازارات لأجل علف الجمال وغيرها من المواشي ؛ والرحل يعلفون بها أيضا قطعانهم من الماعز والغنم ؛ ولهذا الغرض يسقط الراعي القرون بعصى طويلة ، وسرعان ما تتلقفها الماشية السائرة وراءه.

وبصورة اندر تقع العين على أصناف أخرى من النباتات ومنها أم غيلان والسنط. وأقرب إلى البحر تقع العين على مجموعات كبيرة من نبات يشبه الايندرا كثيرا ، ولكن مقاييسه كبيرة ويسمى العشّر.

في الشتاء ، حين تتساقط الأمطار تظهر أعشاب ما يتسنى للبدو أن يخزنوا منها كمية ما من الهشيم.

في ضواحي مكة ينمر بأعداد كبيرة السنا المكي ؛ وأوراقه معروفة في البيع باسم «الورق الاسكندري».

الحجاز الفقير بالنباتات فقير أيضا بالحيوانات. ومن عالم الحيوان ، رأيت شخصا ، بالشكل البري ، نوعا صغيرا من القرود ، والثعالب ، ورأيت من الطيور الحمام والغراب ، والقنابر الكبيرة والحدآن. يقولون انه توجد أيضا ذئاب وضباع وظباء ، ومن الطيور اللقلق والهدهد ، وغيرهما. حياة الحشرات لا تتكشف إلا في وقت ابرد من السنة : في أوائل نيسان (ابريل) ، ليلا ، على نور المصباح ، تطير من

١٣٥

كل حدب وصوب أعداد غير كبيرة من الفراشات والجعلان. فيما بعد لم أرى أية حشرة. يؤكدون أن حتى البراغيث ذاتها تختفي في الوقت الحار من السنة. ومما له دلالته انه يوجد في بعض جبال الحجاز ، رغم هذه الطبيعة الشحيحة ، نوع محلي من النحل الأصفر البري الصغير جدّا ؛ وعسل هذا النحل يقطفه البدو من الصخور ، ويظهر أحيانا للبيع في السوق في مكة والمدينة المنورة.

وفي الحجاز أصناف متنوعة كثيرة جدّا من الأفاعي والعقارب والعناكب السامة. وبين هذه العناكب يوجد في مضيق وادي فاطمة نوع يسمى «اللادغ» وتعتبر لدغته مميتة حتما.

خلافا لليابسة ، يتميز البحر الأحمر بتنوع وغنى خارقين في الحياة العضوية ؛ فعدا مختلف أنواع الأسماك ذات الصفات غير الرفيعة جدّا ، يعج بشتى النقاعيات وغيرها من العضويات الدنيا.

المناخ

مناخ الحجاز ، وبخاصة في قسمه الجنوبي الواقع تحت خط الاستواء ، هو بلا ريب من احرّ المناخات في الدنيا. الكتل الحجرية في الجبال المتلاصقة بوثوق ، التربة الرملية ، التي تتأجج بشدة تحت الشمس الاستوائية ، وغياب النباتات ـ كل هذا يجعل الحجاز احرّ من البلدان المجاورة ، ومنها اليمن ونجد. الحرارة على ساحل البحر أدننى نوعا ما ، لوكن التبخر الشديد ورطوبة الجو الخارقة يخلقان هنا جوا منافيا جدّا للصحة.

وبما أن زراعة بعض النباتات ، ومنها مثلا ، البطيخ والشمام ، تجري طوال السنة كلها ، ويحالفها النجاح حتى في احرّ أوقات السنة ، فإنه يخيل إلىّ أن مناخ الحجاز خارق الرطوبة في اقسامه الداخلية أيضا وانه من الصعب بالتالي على الناس غير المعتادين عله احتماله.

١٣٦

تقلبات الحرارة ، بقدر ما استطعت أن أراقب ، ليست كبيرة في سياق اليوم الواحد.

في الطريق من مكة المكرّمة إلى المدينة المنورة ، في النصف الأول من أيار (مايو) ، اسفرت المراقبات عن نتائج متنوعة ، تبعا لمحلة ؛ وكانت الحرارة بالمتوسط في الخيمة ٣٥ درجة ريومور فوق الصفر كحد أقصى و ٢٨ درجة فوق الصفر كحد أدنى.

وتسنى لي أن أراقب أعلى درجات الحرارة في أوائل تموز (يوليو) بين المدينة المنورة وينبع ، قرب بير السيّد ، حيث أشار ميزان الحرارة إلى ٤٤ درجة ريومور فوق الصفر في الظل ؛ ولكن لم يتسن وضع ميزان الحرارة في الشمس نظرا لقلة طول مقياس الحرارة.

إن ما هو رهيب بخاصة على الإنسان في الحجاز ليس الحرارة العالية ، بل الرياح الحارقة التي تهب في حزيران وتموز (يونيو ويوليو) في عموم الحجاز والتي تسمى هنا السأم. وهذه الرياح ليس لها اتجاه معين. والرياح التي اضطررت إلى معاناتها كانت تتجه من الجنوب الغربي ؛ وهي لا تتسم بطابع زوبعة ما ، ولكن وجودها يتبدى دائما بشعور مؤلم مرهق تحدثه في الجسم البشري. وحين كانت تهب السأم ، كانت نظاراتي تتأجج إلى حد انه كان يتعين عليّ نزعها ؛ والماء النازل عن غير قصد على الجسم يثير في حال التبخر الما روماتزميا قويا.

يعرف البدو كيف يمزون السأم الخالصة عن السأم المختلطة مع رياح أخرى ، وكيف يميزون الريح الضارة جدّا عن ريح أقل ضررا ، ويتنبأون ببداية الريح ؛ والاسم الرهيب «السأم» لا يطلقونه على جميع الرياح الحارة التي تهب في الأوقات الحارة من السنة.

هذه الظاهرة ليست رهيبة على الغرباء وحدهم ؛ فإن بدويينا سواقي الجمال قد عانوا هم أيضا من شعور القلق حين هبت السأم ، ودسوا في

١٣٧

مناخرهم وآذانهم الثوم ، وتدثروا بكل عناية. والأسلوب الأخير ، أي التدثر من الرأس بالذات هو الوسيلة الوحيدة ، كما اقتنعت ، للتخفيف بعض الشيء من العذاب حين تهب السأم. ويروون حوادث فتكت فيها السأم بعدد كبير من الناس ؛ وفي المرة الأخيرة ، في سنة ١٨٩٥ ، أخذ الحجاج في المدينة المنورة يعتزمون الذهاب إلى مكة ، ونقلوا أمتعتهم إلى ضواحي المدينة ، وإذا سأم تهب ؛ وبعد بضع ساعات ، لمّوا عشرات الموتى في الشارع.

ويقول الأطباء أن نسبة الوفيات في مكة والمدينة المنورة تزداد كثيرا حين تهب السأم. ولكن العرب يعتقدون أن هذه الريح ضرورية لأجل نضج البلح.

وللحجاز فصلان في السنة : الشتاء البارد نسبيّا ، من منتصف تشرين الثاني (نوفمبر) إلى منتصف شباط (فبراير) ، حين تتساقط الأمطار بين الفينة والفينة ويظهر العشب هنا وهناك ، والصيف الحار الذي يحل فورا محل الشتاء. إن الانتقال من البرد إلى القيظ يكون حادا جدّا في المدينة المنورة حيث الحرارة الصيفية أدنى نوعا ما مما في مكة ، نظرا لوقوعها أبعد إلى الشمال وفي أرض عالية ، ولكن في الشتاء ، كما يقولون ، يكون البرد أحيانا قارصا جدّا.

السكان (خارج المدن)

يتألف سكان الحجاز من مختلف قبائل البدو ، أو كما يسمونهم هناك ، «الأعراب» (العرب الذين يعيشون في المدن يسمونهم «بلدي») وهم ، حسب اسطورتهم ، اخلاف مباشرون لإسماعيل ، ابن إبراهيم. وبين البدو يوجد أيضا كثيرون من الزنوج والأحباش الذين صاروا بينهم بوصفهم عبيدا. وهؤلاء يشكلون طبقة دنيا خاصة ولا يختلطون مع السكان الأصليين.

١٣٨

مجمل عدد السكان في الحجاز يقدّر ب ٧٠٠ ـ ٨٠٠ ألف نسمة (حسب المعلومات الرسمية التركية ٥ ملايين). ينقسم البدو إلى كثرة من القبائل التي يشرف على كل منها شيخها والتي تشغل كل منها منطقة معينة للترحل. وهناك قبائل غالبا جدّا ما تعادى فيما بينها ، وتهاجم بعضها بعضا ، ولها حسابات دائمة بصدد الدم.

البدو الرحل يربون الماشية ، ويتعاطون الزراعة أيضا إذا سمحت الظروف. أثناء أشهر الحج الأربعة أو الخمسة ، ينصرف كثيرون منهم بوجه الحصر إلى نقل الحجاج وأمتعتهم. وسكان السواحل ، بوصفهم بحارة ماهرين ، يمارسون النقل الساحلي على زوارقهم الشراعية التي لا متن لها ، والمسمى الواحد منها «سمبك» ، كما يمارسون صيد السمك ، واستخراج المرجان واللؤلؤ والصدف والمحار ، وما إلى ذلك من قاع البحر.

والبدو الذين تسنى لي مراقبتهم ، متوسطو القامة ، نحيلون خارق النحول ، وقسمات وجوههم متناسقة ، ولون جلدهم برونزي قاتم ، وقلما يختلف عن لون الحجارة التي يعيشون في وسطها ؛ وارجلهم خالية تماما من بطات السيقان ؛ مشيتهم رشقيقة أصيلة. ولكن أول ما يستلفت النظر عند رؤية البدو ، هو أنهم أقوياء بدنيّا ، وجلودون ولبقون جدّا.

ألبسة البدوي بسيطة جدّا ـ قميص حتى الركبة ، واسعة الكمين ؛ على الرأس دائما منديل قطني كبير مثبت بحزام خاص مسمى «عقال» ؛ وبهذا المنديل يغطي اذنيه ، وكذلك انفه في غالب الأحيان. فوق القميص يلقي عباءة صوفية سوداء عريضة بأشرطة بيضاء نادرة.

يحمل البدو دائما الأسلحة ـ في اليدين بندقية شطف (بقداحة) أو بندقية بفتيل أو رمح ؛ على الكتف أو على الظهر يتدلى سيف ذو حد واحد أو سيف ذو حدين ؛ على حزام جلدي فرد وخنجر ، ولوازم معدنية مختلفة لحفظ الباردو والرصاص.

١٣٩

ترتدي المرأة قيمصا أسود طويلا ، ومنديلا على الرأس من اللون نفسه. وتغطي وجهها أدنى من خط العينين بقطعة من القماش الأسود.

كل لباس الأولاد يتألف من حزام ذي هدب جلدي من نوع الهدب الذي يستعمله التركمان لحماية عيني الحصان من الذباب.

ومسكن البدو عبارة عن نموذج خفيف جدّا من خيمة من نفس القماش الأسود الذي يخيطون منه العباءة. مفروشات الخيام فقيرة جدّا ـ الآنية المنزلية الضرورية ، رحل الجمل ، جلود غنم مدبوغة ومصبوغة لأجل المفرش ، قربة لأجل الماء. وكل شيء يدل على أن متطلبات هؤلاء الرحل أقل بكثير من متطلبات القرغيز ، مثلا ، أو التركمان في بلادنا. والخيام تكون منصوبة مجموعات صغيرة جدّا.

المواد الغذائية الرئيسية هي منتوجات تربية المواشي والبلح ، وعند عرب السواحل السمك. الغذاء الأكثر استعمالا اللبن (الحليب الرائب) ؛ الطعام اللذيذ هو التمر مع السمنة ؛ يبدأ العرب أكل البلح عندما لا يزال أخضر تماما [...] «زحف» [؟] ؛ وحين يكتسب التمر لونا أصفر نوعا ما ، ـ «الرطب» ـ يظهر كذلك في الأسواق لأجل البيع.

وحيث توجد مزروعات الذرة الصفراء والدخن ، يصنعون منهما أرغفة مثل الأرغفة التركمانية. والقهوة المقدمة عند الأغنياء أو عند حضور الضيوف يعتبرها البدو مشروبا لذيذا. وأغلبية البدو تدخن التبغ ، ولهذا الغرض يستعملون غلايين طويلة الشبق.

والبدو ، بوصفهم رحلا ، يربون المواعز والأغنام والجمال.

المواعز يستعملونها على الأغلب لأجل الحليب واللحم ، وثمن الواحد منها بنقودنا زهاء روبلين. ويربون الأغنام لأجل الحليب واللحم ، وثمن الواحد منها بنقودنا زهاء ٤ روبلات. لحم الأغنام والمواعز المحلية جاسئ جدّا وغير لذيذ. الجمال نوعان. نوع اثقل وأقوى مستعمل لنقل

١٤٠