زبدة التّفاسير - ج ٦

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني

زبدة التّفاسير - ج ٦

المؤلف:

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني


المحقق: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-7777-08-6
ISBN الدورة:
964-7777-02-5

الصفحات: ٦٤٠

(أَلَيْسَ اللهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٣٦) وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ (٣٧))

روي : أنّ قريشا قالوا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّا نخاف أن تخبّلك آلهتنا ، لعيبك إيّاها. فنزلت : (أَلَيْسَ اللهُ بِكافٍ عَبْدَهُ) استفهام إنكار للنفي مبالغة في الإثبات.

والعبد رسول الله. ويحتمل الجنس. ويؤيّده قراءة حمزة والكسائي بالجمع. وفسّر بالأنبياء. (وَيُخَوِّفُونَكَ) يعني : قريشا (بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) يعني : الأوثان الّتي اتّخذوها آلهة من دونه.

وقيل : إنّه بعث خالدا ليكسر العزّى بالفأس ، فقال له سادنها : أحذّركها ، فإنّ لها شدّة ، أي : حملة لا يقوم لها شيء. فعمد إليها خالد فهشم أنفها. فقال الله عزوجل : أليس الله بكاف نبيّه أن يعصمه من كلّ سوء ، ويدفع عنه كلّ بلاء في مواطن الخوف؟ فنزّل تخويف خالد منزلة تخويفه ، لأنّه الآمر له بما خوّف عليه. وفيه تهكّم بهم ، لأنّهم خوّفوه بما لا يقدر على نفع ولا ضرّ. أو أليس الله بكاف أنبياءه؟

ولقد قالت أممهم نحو ذلك ، فكفاهم الله. وذلك قول هود : (إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ) (١).

(وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ) بالتخلية والخذلان حتّى غفل عن كفاية الله له (فَما لَهُ مِنْ هادٍ) يهديه إلى الرشاد. أو من يضلل الله عن طريق الجنّة بكفره وفرط عناده ومعاصيه فليس له هاد يهديه إليه. أو من وصف وحكم بأنّه ضالّ فليس له من يسمّيه هاديا.

__________________

(١) هود : ٥٤.

٨١

(وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍ) أي : من يهده الله فاهتدى فلا يقدر أحد على صرفه عنه. أو من يهده إلى طريق الجنّة فلا أحد يضلّه عنها ، إذ لا رادّ لفعله ، كما قال : (أَلَيْسَ اللهُ بِعَزِيزٍ) غالب قاهر منيع لا يقدر أحد على مغالبته (ذِي انْتِقامٍ) ينتقم من أعدائه. وفيه وعيد لقريش ، ووعد للمؤمنين بأنّه ينتقم لهم منهم وينصرهم عليهم.

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (٣٨) قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣٩) مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (٤٠) إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (٤١) اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٤٢))

ثمّ قال لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ)

٨٢

لوضوح البرهان على تفرّده بالخالقيّة (قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) بعد ما تحقّقتم أنّ خالق العالم هو الله تعالى (إِنْ أَرادَنِيَ اللهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ) فيكشفنه (أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ) فيمسكنها عليّ.

وقرأ أبو عمرو : كاشفات ضرّه .... ممسكات رحمته ، بالتنوين ونصب «ضرّه ورحمته» على الأصل.

وإنّما فرض المسألة في نفسه دونهم ، لأنّهم خوّفوه معرّة (١) الأوثان ، فامر بأن يقرّرهم أوّلا بأنّ خالق العالم هو الله تعالى وحده ، ثم يقول لهم بعد التقرير : فإن أرادني خالق العالم الّذي أقررتم به بضرّ من مرض أو فقر ، أو غير ذلك من النوازل ، أو رحمة من صحّة أو غنى أو نحوهما ، هل هؤلاء اللّاتي خوّفتموني إيّاهنّ كاشفات على ضرّه ، أو ممسكات رحمته؟ حتّى إذا ألقمهم الحجر وقطعهم فلا يجيبوا بكلمة.

وإنّما قال : «كاشفات .... وممسكات» على التأنيث ، بعد قوله : (وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) ، ليضعّفها ويعجّزها زيادة تضعيف وتعجيز عن كشف الضرّ وإمساك الرحمة ، لأنّ الأنوثة من باب اللين والرخاوة ، كما أنّ الذكورة من باب الشدّة والصلابة. كأنّه قال : الإناث اللّاتي هنّ اللات والعزّى ومناة أضعف ممّا تدعون لهنّ وأعجز. وفيه تهكّم أيضا.

روي : أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سألهم فسكتوا ، فنزل : (قُلْ حَسْبِيَ اللهُ) كافيا في إصابة الخير ودفع الضرّ ، إذ تقرّر بهذا التقرير أنّه القادر الّذي لا مانع لما يريده من خير أو شرّ (عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ) لعلمهم بأنّ النفع والضرّ منه.

ثمّ هدّدهم بقوله : (قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ) على حالاتكم الّتي أنتم عليها ، من العداوة الّتي تمكّنتم منها ، وعلى قدر جهدكم وطاقتكم في إهلاكي. والأمر للتهديد. والمكانة اسم للمكان ، استعير للحال ، كما استعير «هنا» و «حيث»

__________________

(١) المعرّة : المساءة والإثم.

٨٣

من المكان للزمان. وقرأ أبو بكر : مكاناتكم. (إِنِّي عامِلٌ) أي : على مكانتي ، فحذف للاختصار ، والمبالغة في الوعيد ، والإشعار بأنّ حاله لا يقف ، فإنّه تعالى يزيده كلّ يوم قوّة ونصرة. فلذلك توعّدهم بكونه منصورا عليهم في الدارين ، فقال : (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ) فإنّ خزي أعدائه دليل غلبته ، وقد أخزاهم الله يوم بدر (وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ) دائم. وهو عذاب النار.

(إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ) لأجلهم ، فإنّه ، مناط مصالحهم في معاشهم ومعادهم ، ولا حاجة لي إلى ذلك ، فإنّي أنا الغنيّ (بِالْحَقِ) متلبّسا به ، وليس فيه شيء من الباطل رأسا (فَمَنِ اهْتَدى) فمن اختار الهدى (فَلِنَفْسِهِ) أي : فقد نفع به نفسه (وَمَنْ ضَلَ) ومن اختار الضلالة (فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها) فقد ضرّها ، فإنّ وباله لا يتخطّاها (وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) وما وكّلت عليهم لتجبرهم على الهدى ، فإنّ التكليف مبنيّ على الاختيار دون الإجبار ، وإنّما أمرت بالبلاغ وقد بلّغت ، وجزاء أعمالهم على الّذي يقدر على إماتتهم وإحيائهم وحفظ أعمالهم ، وهو الله سبحانه.

كما قال : (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها) أي : يقبضها عن الأبدان ، بأن يقطع تعلّقها عنها ، وتصرّفها فيها ظاهرا وباطنا عند موتها ، أي : موت أبدانها (وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها) ويقبضها عن الأبدان ، ويقطع تعلّقها عنها وتصرّفاتها في النوم. فالنوم شبيه بالموت. ومنه قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ) (١) حيث لا يميّزون ولا يتصرّفون ، كما أنّ الموتى كذلك (فَيُمْسِكُ) الأنفس (الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ) الحقيقي ، ولا يردّها إلى البدن إلى يوم القيامة. وقرأ حمزة والكسائي : قضي ، بضمّ القاف وكسر الضاد ، والموت بالرفع. (وَيُرْسِلُ الْأُخْرى) أي : الأنفس النائمة إلى بدنها عند اليقظة (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) وقت مضروب لموته ، وهو غاية جنس الإرسال.

__________________

(١) الأنعام : ٦٠.

٨٤

وقريب منه ما روي عن ابن عبّاس : أنّ في بني آدم نفسا وروحا بينهما مثل شعاع الشمس. فالنفس الّتي بها العقل والتمييز ، والروح الّتي بها النفس والحياة ، فيتوفّيان عند الموت ، وتتوفّى النفس وحدها عند النوم.

وروى العيّاشي بالإسناد عن الحسن بن محبوب ، عن عمرو بن ثابت أبي المقدام ، عن أبيه ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «ما من أحد ينام إلّا عرجت نفسه إلى السماء ، وبقيت روحه في بدنه ، وصار بينهما سبب كشعاع الشمس. فإن أذن الله في قبض الأرواح أجابت الروح النفس ، وإن أذن الله في ردّ الروح أجابت النفس الروح. وهو قوله : (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها) الآية».

(إِنَّ فِي ذلِكَ) من التوفّي والإمساك والإرسال (لَآياتٍ) دالّة على كمال قدرته وحكمته (لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) يجيلون أفكارهم في كيفيّة تعلّقها بالأبدان ، وتوفّيها عنها بالكلّيّة حين الموت ، وإمساكها باقية لا تفنى بفنائها ، والحكمة في توفّيها عن ظواهرها ، وإرسالها حينا بعد حين إلى توفّي آجالها.

(أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ شُفَعاءَ قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ (٤٣) قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٤٤))

(أَمِ اتَّخَذُوا) بل اتّخذت قريش. والهمزة للإنكار. (مِنْ دُونِ اللهِ) من دون إذنه (شُفَعاءَ) تشفع لهم عند الله ، حيث قالوا : هؤلاء شفعاؤنا عند الله (قُلْ أَوَلَوْ كانُوا) أي : أَيشفعون ولو كانوا (لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً) قطّ حتّى ملكوا الشفاعة (وَلا يَعْقِلُونَ) ولا عقل لهم ، لأنّهم جمادات ، فلا يقدرون ولا يعلمون.

٨٥

(قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً) لا يستطيع أحد شفاعته إلّا بإذنه. ثمّ قرّر ذلك فقال : (لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فإنّه مالك الملك كلّه ، لا يملك أحد أن يتكلّم في أمره دون إذنه ورضاه (ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) يوم القيامة ، ولا يكون الملك في ذلك اليوم إلّا له ، فله ملك الدنيا والآخرة.

(وَإِذا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (٤٥))

ثمّ أخبر سبحانه عن سوء اعتقادهم وشدّة عنادهم ، فقال : (وَإِذا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ) أي : إذا أفرد الله بالذكر ولم يذكر معه آلهتهم ، بأن قيل : لا إله إلّا الله وحده لا شريك له (اشْمَأَزَّتْ) انقبضت ونفرت (قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) يعني : آلهتهم ، سواء ذكر الله معهم أم لم يذكر (إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) لفرط افتتانهم بها ، ونسيانهم حقّ الله إلى هواهم فيها. ولقد بالغ في الأمرين حتّى بلغ الغاية فيهما ، فإنّ الاستبشار أن يمتلئ القلب سرورا حتّى تنبسط بشرة الوجه ، والاشمئزاز أن يمتلئ غمّا وغيظا يظهر الانقباض في أديم الوجه. والعامل في «إذا ذكر» المفاجأة ، تقديره : وقت ذكر الّذين من دونه فاجئوا وقت الاستبشار.

(قُلِ اللهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٤٦))

ولمّا بيّن أدلّة التوحيد بالطريق المذكور فلم ينظروا فيها ، أمر نبيّه أن يحاكمهم إليه ليفعل بهم ما يستحقّونه ، فقال :

٨٦

(قُلِ اللهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) يا خالقهما ومنشئهما (عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) يا عالم ما غاب علمه عن جميع الخلق ، وعالم ما شهدوه وعلموه.

يعني : ألتجئ إلى الله بالدعاء ، فإنّه القادر على الأشياء ، والعالم بالأحوال كلّها (أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ) فأنت وحدك تقدر أن تحكم بينهم يوم القيامة أو الدنيا (فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) في أمر دينهم ودنياهم ، وتفصل بينهم بالحقّ في الحقوق والمظالم ، فاحكم بيني وبين قومي بالحقّ. وفيه وصف لحالهم ، وإعذار له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وتسلية له ، وبشارة للمؤمنين بالظفر والنصر ، ووعيد للمشركين ، لأنّه سبحانه إنّما أمره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم به للإجابة لا محالة.

وعن سعيد بن المسيّب أنّه قال : إنّي لأعرف موضع آية لم يقرأها أحد قطّ ، فسأل الله تعالى شيئا إلّا أعطاه ، وقرأ هذه الآية.

وعن الربيع بن خثيم ـ وكان قليل الكلام ـ : أنّه أخبر بقتل الحسين عليه‌السلام ـ وسخط على قاتله ـ وقالوا : الآن يتكلّم ، فما زاد على أن قال : آه أوقد فعلوا؟ وقرأ هذه الآية. وروي : أنّه قال على أثره : قتل من كان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يجلسه في حجره ، ويضع فاه على فيه.

(وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (٤٧) وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٤٨))

ثمّ أخبر سبحانه عن وقوع العذاب الأليم والعقاب العظيم بالكفّار ، وعن إقناط كلّي لهم من الخلاص ، فقال :

٨٧

(وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ) زيادة عليه (لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ) وقد مضى تفسيره (وَبَدا لَهُمْ) وظهر لهم يوم القيامة من صنوف العذاب (مِنَ اللهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ) من الخلاص. وهذا وعيد لهم لا كنه لفظاعته وشدّته. وهو نظير قوله في الوعد : (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) (١).

والمعنى : وظهر لهم من سخط الله وعذابه ما لم يكن قطّ في حسابهم ، ولم يحدّثوا به نفوسهم.

وقيل : عملوا أعمالا حسبوها حسنات ، فإذا هي سيّئات.

وعن سفيان الثوري : أنّه قرأها فقال : ويل لأهل الرياء ، ويل لأهل الرياء. وجزع محمّد بن المنكدر عند موته فقيل له : فقال : أخشى آية من كتاب الله ، وتلاها ، ثمّ قال : أنا أخشى أن يبدوا لي من الله في ذلك ما لم أحتسبه.

(وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا) «ما» موصولة ، أي : جزاء سيّئات أعمالهم. أو مصدريّة ، أي : سيّئات كسبهم حين تعرض صحائفهم ، وكانت خافية عليهم ، كقوله : (أَحْصاهُ اللهُ وَنَسُوهُ) (٢). أو أراد بالسيّئات أنواع العذاب الّتي يجازون بها على ما كسبوا. فسمّاها سيّئات ، كما قال : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) (٣).

(وَحاقَ بِهِمْ) وأحاط بهم (ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) جزاء هزئهم بما ينذرهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ممّا كانوا ينكرونه ويكذّبون به.

(فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٤٩) قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ

__________________

(١) السجدة : ١٧.

(٢) المجادلة : ٦.

(٣) الشورى : ٤٠.

٨٨

قَبْلِهِمْ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (٥٠) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (٥١) أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥٢))

ثمّ أخبر عن مناقضتهم وتعكيسهم في التسبّب ، بأنّهم يشمئزّون عن ذكر الله وحده ، ويستبشرون بذكر الآلهة ، مع أنّهم في حالة الضرّ كانوا يدعون الله وحده ويذرون آلهتهم. فقال عطفا على قوله : (وَإِذا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ) :

(فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا) أي : دعا من اشمأزّ عن ذكره دون من استبشر بذكره. وما بين المعطوف والمعطوف عليه اعتراض مؤكّد لإنكار ذلك عليهم. والسبب في عطف هذه الآية بالفاء السببيّة ، وعطف مثلها في أوّل السورة (١) بالواو : أنّ هذه وقعت تعكيسا في التسبّب.

(ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ) أعطيناه (نِعْمَةً) من الصحّة والسعة في الرزق وغير ذلك ، تخويلا صادرا (مِنَّا) تفضّلا ، فإنّ التخويل مختصّ بالتفضّل ، يقال : خوّلني إذا أعطاك على غير جزاء (قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ) على علم منّي بوجوه كسبه ، كما قال قارون : (عَلى عِلْمٍ عِنْدِي) (٢) يعني : الكيمياء. أو على علم من الله بي واستحقاقي. والهاء لـ «ما» إن جعلت موصولة. وإن جعلت كافّة فللنعمة. وتذكيره ذهابا إلى المعنى ، لأنّ معنى قوله : «نعمة منّا» شيئا

__________________

(١) الزمر : ٨.

(٢) القصص : ٧٨.

٨٩

من النعمة وقسما منها.

ثمّ ردّ ما قاله بقوله : (بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ) أي : امتحان واختبار له أَيشكر أم يكفر؟ لنجازي بحسبها. وتأنيث الضمير باعتبار لفظ النعمة أو الخبر. (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) ذلك. وهو دليل على أنّ الإنسان للجنس.

(قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) الهاء لقوله : (إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ) لأنّها كلمة أو جملة أو مقالة. (وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) قارون وقومه ، حيث قال : (إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي) ورضي له قومه ، فكأنّهم قالوها. ويجوز أن يكون في الأمم الخالية آخرون قائلون مثلها. (فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) من متاع الدنيا ويجمعون منه.

(فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا) جزاء سيّئات أعمالهم ، أو جزاء أعمالهم. وسمّاه سيّئة لأنّه في مقابلة أعمالهم السيّئة ، رمزا إلى أنّ جميع أعمالهم سيّئة. (وَالَّذِينَ ظَلَمُوا) بالعتوّ (مِنْ هؤُلاءِ) المشركين. و «من» للبيان أو للتبعيض. (سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا) كما أصاب أولئك. وقد أصابهم ، فإنّهم قحطوا سبع سنين ، وقتل ببدر صناديدهم. (وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ) بفائتين ، بأن يعجزوا الله بالخروج من قدرته.

(أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) حيث حبس عنهم الرزق سبعا ، ثمّ بسط لهم سبعا ، بحسب ما يعلم من المصلحة (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ) لدلالات واضحات (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) بذلك.

(قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٥٣) وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ

٩٠

وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (٥٤) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (٥٥) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (٥٦) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (٥٧) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٥٨) بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (٥٩))

روي : أنّ أهل مكّة قالوا : يزعم محمّد أنّ من عبد الوثن وقتل النفس بغير حقّ لم يغفر له ، فكيف نغفر ولم نهاجر ، وقد عبدنا الأوثان وقتلنا الأنفس؟! فنزلت : (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) أفرطوا في الجناية عليها بالإسراف في المعاصي والتوغّل فيها. وقد مرّ (١) من قبل في هذه السورة ـ حيث فسّرنا قوله تعالى : (وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ) ـ قول الفاضل النيشابوري في تعميم العباد وتخصيصه في هذه الآية ، ونعيده هنا لتحقيق المقام. قال : «ثمّ إن قلنا : العباد عامّ فالإسراف على النفس يعمّ الشرك ، ولا نزاع أنّ عدم اليأس من الرحمة يكون مشروطا بالتوبة والإيمان. وإن قلنا : العباد المضاف في عرف القرآن مختصّ بالمؤمنين ، فالإسراف إمّا بالصغائر ، ولا خلاف في أنّها مكفّرة ما اجتنب الكبائر.

__________________

(١) راجع ص ٥٨ ذيل الآية (٧) من هذه السورة.

٩١

وإمّا بالكبائر وحينئذ يبقى النزاع بين الفريقين ، فالمعتزلة شرطوا التوبة ، والأشاعرة العفو» (١).

(لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ) لا تيأسوا من مغفرته (إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً) يعني : بشرط التوبة. وقد تكرّر ذكر هذا الشرط في القرآن ، فكان ذكره فيما ذكر فيه ذكرا له فيما لم يذكر فيه ، لأنّ القرآن في حكم كلام واحد ، ولا يجوز فيه التناقض. فإن مات الموحّد الفاسق من غير توبة فهو في مشيئته ، إن شاء عذّبه بعدله ، وإن شاء غفر له بفضله ، كما قال : (وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) (٢). (إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) على المبالغة وإفادة الحصر.

واعلم أنّ في الآية اثني عشر شيئا يدلّ كلّ واحد منها على الرجاء على مغفرة جميع الذنوب :

الأوّل : إضافة العباد إلى ذاته المستلزمة للرحمة والشفقة.

والثاني : إيثار «أسرفوا» على : عصوا ، فإنّ ذكر العصيان مشعر على القهر.

والثالث : إيثاره على : أخطأوا ، فإنّ «أسرفوا» مشتمل على رفق العتاب دون الإخطاء.

والرابع : النهي عن القنوط من رحمته المستلزم لتحريم اليأس من المغفرة.

الخامس : تعليله بأنّ الله يغفر الذنوب.

السادس : وضع اسم الله موضع الضمير ، ليكون إسناد المغفرة إلى صريح اسمه.

السابع : استيعاب المغفرة بجميع الذنوب ، بإيراد صيغة الجمع المحلّى باللام ، لا ببعض غير بعض.

__________________

(١) غرائب القرآن ٦ : ١٠.

(٢) النساء : ٤٨.

٩٢

الثامن : تأكيده بلفظ «جميعا».

التاسع : إيراد كلمة «إنّ» المفيدة للتأكيد.

العاشر : إيراد ضمير الفصل بين الاسم والخبر الّذي يفيد الحصر.

الحادي عشر : تقديم المغفرة على الرحمة ، لشدة عنايته بها.

الثاني عشر : ختم الآية بالرحمة دون بواقي الصفات.

روي عن ثوبان مولى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «ما أحبّ أنّ لي الدنيا وما فيها بهذه الآية. فقال رجل يا رسول الله : ومن أشرك؟ فسكت ساعة ، ثمّ قال : ألا ومن أشرك ، ثلاث مرّات».

وعلى هذا يكون مخصوصا بشرط الإيمان.

وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام قال : «ما في القرآن آية أوسع رحمة من (يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا) الآية».

قيل : إنّ الآية نزلت في وحشي قاتل حمزة حين أراد أن يسلم ، وخاف أن لا تقبل توبته. فلمّا نزلت الآية أسلم. فقيل : يا رسول الله هذه له خاصّة أو للمسلمين عامّة؟ فقال : «بل للمسلمين عامّة».

وفي سبب نزولها دلالة على أنّ المغفرة مشروطة بالتوبة. وكذا يدلّ عليها أنّه سبحانه دعا عباده إلى التوبة بعد هذه الآية ، وأمرهم بالإنابة ، فقال : (وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ) وارجعوا إليه من الشرك والمعاصي (وَأَسْلِمُوا لَهُ) وانقادوا له بالطاعة ، وأخلصوا له العمل (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ) عند نزول العذاب بكم. فذكر الإنابة على أثر المغفرة ، لئلّا يطمع طامع في حصولها بغير توبة ، ويرتكب المعصية اتّكاء على ظاهر الآية المتقدّمة.

(وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) من الحلال والحرام ، والأمر والنهي ، والوعد والوعيد. فمن أتى بالمأمور به ، وترك المنهيّ عنه ، فقد اتّبع أحسن ما أنزل. أو اتّبعوا الواجبات والمندوبات الّتي هي الطاعات دون المباحات. وقيل : المراد

٩٣

العزائم دون الرخص ، أو الناسخ دون المنسوخ. وهذا مثل قوله : (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) (١). (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً) فجأة (وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) بمجيئه ، أي : لا تعرفون وقت نزوله بكم فتتداركوا.

(أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ) كراهة أن تقول. وتنكير «نفس» لأنّ القائل بعض الأنفس ، وهي نفس الكافر. ويجوز أن يراد نفس متميّزة من الأنفس ، إمّا بفرط لجاج في الكفر وشدّة عناد في الطغيان ، أو بعذاب عظيم وعقاب أليم. أو يراد به التكثير. (يا حَسْرَتى) يا ندامتي (عَلى ما فَرَّطْتُ) بما قصّرت. و «ما» مصدريّة ، مثلها في (بِما رَحُبَتْ) (٢). والمعنى : على تقصيري. (فِي جَنْبِ اللهِ) في جانبه ، أي : في حقّه ، وهو طاعته. وقيل : في ذاته ، على تقدير مضاف كالطاعة. وقيل : في قربه وجواره ، وهو الجنّة. يقال : فلان في جنب فلان ، أي : في قربه وجواره. ومنه قوله تعالى : (وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ) (٣). فيكون المعنى : على ما فرّطت في طلب جواره وقربه.

وروى العيّاشي : بالإسناد عن أبي الجارود ، عن أبي جعفر عليه‌السلام أنّه قال : «نحن جنب الله».

(وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ) وإنّي كنت لمن المستهزئين بالقرآن والنبيّ والمؤمنين. ومحلّ «إن كنت» نصب على الحال ، كأنّه قال : فرّطت وأنا ساخر ، أي : فرّطت في حال سخريّتي.

وروي : أنّه كان في بني إسرائيل عالم ترك علمه وفسق ، وأتاه إبليس وقال له : تمتّع من الدنيا ثمّ تب ، فأطاعه ، وكان له مال فأنفقه في الفجور ، فأتاه ملك

__________________

(١) الزمر : ١٨.

(٢) التوبة : ٢٥.

(٣) النساء : ٣٦.

٩٤

الموت في ألّذ ما كان ، فقال : يا حسرتى على ما فرّطت في جنب الله ، ذهب عمري في طاعة الشيطان ، وأسخطت ربّي ، فندم حين لم ينفعه الندم ، فأنزل الله خبره في القرآن.

(أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللهَ هَدانِي) بالإرشاد إلى الحقّ (لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) من الشرك والمعاصي. ولا يخلو : إمّا أن يريد به الهداية بالإلجاء ، أو بالألطاف ، أو بالوحي. والأوّل خارج عن المصلحة والحكمة ، لمنافاته التكليف الّذي هو مدار الشرع عليه. والآخران قد حصلا لكنّه لم ينظر إليه وأعرض عنه ، لأجل اشتغاله بالدنيا والأباطيل.

(أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) في العقيدة والعمل. و «أو» للدلالة على أنّه لا يخلو من هذه الأقوال تحيّرا وتعلّلا بما لا طائل تحته ، كما حكى عنهم الثعلّل بإغواء الرؤساء والشياطين ونحو ذلك. ونحوه : (لَوْ هَدانَا اللهُ لَهَدَيْناكُمْ) (١).

فردّ الله عليه قوله : (لَوْ أَنَّ اللهَ هَدانِي) المتضمّن معنى النفي ، فقال : (بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي) أي : قد هديت بالوحي (فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ) عن قبولها (وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ) وآثرت الكفر على الإيمان ، والضلالة على الهدى.

وتذكير الخطاب على المعنى. فهذه الآية جواب قوله : (لَوْ أَنَّ اللهَ هَدانِي) ، وحقّها أن تذكر متّصلة به ، لكن فصل بينهما ، لأنّ تقديمه يفرّق القرائن الثلاث ، وتأخير المردّد يخلّ بالنظم المطابق للواقع ، لأنّه يتحسّر على التفريط في الطاعة ، ثمّ يتعلّل بفقد الهداية ، ثمّ يتمنّى الرجعة. فكان الصواب ما جاء عليه. وهو أنّه حكى أقوال النفس على ترتيبها ونظمها ، ثمّ أجاب من بينها عمّا اقتضى الجواب.

__________________

(١) إبراهيم : ٢١.

٩٥

(وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ (٦٠))

(وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ) بأن وصفوه بما لا يجوز عليه ، وهو متعال عنه. فأضافوا إليه الولد والشريك ، وقالوا : (هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا) (١).

وقالوا : (لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ) (٢). وقالوا : (وَاللهُ أَمَرَنا بِها) (٣). ولا يبعد عنهم قوم ينسبون القبائح إليه ، ويجوّزون أن يخلق خلقا لا لغرض ، ويؤلم لا لعوض ، ويكلّف ما لا يطاق ، ويجسّمونه بكونه مرئيّا معاينا مدركا بالحاسّة ، ويثبتون له قدما ويدا وجنبا ، ويجعلون معاني قدماء ، تعالى الله عمّا يقول الظالمون علوّا كبيرا.

(وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ) بما ينالهم من الشدّة ، أو بما يتخيّل عليها من ظلمة الجهل. والجملة حال ، إذ الظاهر أن «ترى» من رؤية البصر. واكتفى فيها بالضمير عن الواو. ويحتمل أن يكون من رؤية القلب. فهو مفعول ثان لـ «ترى».

(أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً) مقام (لِلْمُتَكَبِّرِينَ) عن الإيمان والطاعة. والاستفهام تقرير ، لأنّهم يرون كذلك.

وروى العيّاشي بإسناده عن خثيمة قال : «سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : من حدّث عنّا بحديث فنحن سائلوه عنه يوما ، فإن صدق علينا فإنّما يصدق على الله وعلى رسوله ، وإن كذب علينا فإنّما يكذب على الله وعلى رسوله ، لأنّا إذا حدّثنا لا

__________________

(١) يونس : ١٨.

(٢) الزخرف : ٢٠.

(٣) الأعراف : ٢٨.

٩٦

نقول : قال فلان وقال فلان ، بل إنّما نقول : قال الله وقال رسول الله. ثمّ تلا هذه الآية : (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ). ثمّ أشار خثيمة إلى أذنيه ، فقال : صمّتا إن لم أكن سمعته».

وعن سورة بن كليب قال : سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن هذه الآية فقال : «كلّ إمام انتحل إمامة ليست له من الله. قلت : وإن كان علويّا؟ قال : وإن كان علويّا. قلت : وإن كان فاطميّا؟ قال : وإن كان فاطميّا».

(وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦١))

ولمّا أخبر سبحانه عن حال الكفّار ، عقّبه بذكر حال الأتقياء الأبرار ، فقال :

(وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا) معاصيه (بِمَفازَتِهِمْ) بسبب فلاحهم. مفعلة من الفوز. يقال : فاز بكذا ، إذا أفلح به وظفر بمراده منه. أو بسبب منجاتهم ، من قوله تعالى : (فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ) (١) ، أي : بمنجاة منه. وقرأ الكوفيّون غير حفص بالجمع ، تطبيقا له بالمضاف إليه. والباء صلة لـ «ينجّي» ، أو لقوله : (لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ) المكروه والشدّة (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) وهو حال ، أو استئناف لبيان المفازة. كأنّه قيل : وما مفازتهم؟ فقيل : لا يمسّهم السوء ، أي : ينجّيهم بنفي السوء والحزن عنهم ، والنجاة من أعظم الفلاح. وسبب نجاتهم العمل الصالح. ولهذا فسّر ابن عبّاس المفازة بالأعمال الحسنة ، من قبيل تسمية المسبّب باسم السبب. ولا شبهة أنّ العمل الصالح سبب الفلاح ، وهو دخول الجنّة.

__________________

(١) آل عمران : ١٨٨.

٩٧

(اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (٦٢) لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٦٣))

ولمّا ذكر الوعد والوعيد بيّن أنّه القادر على كلّ شيء بقوله : (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) محدث كلّ شيء ومبدعه (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) مدبّر حافظ يتولّى التصرّف فيه.

(لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) لا يملك أمرها ولا يتمكّن من التصرّف فيها غيره. وهو كناية عن قدرته وحفظه لهما. وفيها مزيد دلالة على الاختصاص ، لأنّ الخزائن لا يدخلها ولا يتصرّف فيها إلّا من بيده مفاتيحها. ولا واحد لها من لفظها. وقيل : جمع مقليد أو مقلاد ، من : قلدته إذا ألزمته. وقيل : جمع إقليد معرّب اكليد على الشذوذ ، كمذاكير. فالتعريب أحالها عربيّة.

وسئل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن المقاليد فقال : «تفسيرها : لا إله إلّا الله ، والله أكبر ، وسبحان الله وبحمده ، وأستغفر الله ، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله ، هو الأوّل والآخر ، والظاهر والباطن ، بيده الخير ، يحيي ويميت ، وهو على كلّ شيء قدير». والمعنى على هذا : أنّ لله هذه الكلمات ، يوحّد بها ويمجّد ، وهي مفاتيح خير السماوات والأرض ، من تكلّم بها أصابه.

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) متّصل بقوله : (وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا). والمعنى : وينجّي الله المتّقين بمفازتهم ، والّذين كفروا هم الخاسرون. وما بينهما اعتراض للدلالة على أنّه هو خالق الأشياء كلّها ، ومهيمن على العباد ، مطّلع على أفعالهم ، فلا يخفى عليه شيء من أعمالهم ، وما

٩٨

يستحقّون عليها من الجزاء.

وحقّ النظم أن يقال : ويحشر الّذين كفروا إلى النار. لكن غيّر للتصريح بالوعد والتعريض بالوعيد ، قضيّة للكرم.

وعلى التفسير الثاني متّصل بقوله : (لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ). على معنى : أنّ من له المقاليد يليق بأن يؤمن به وبآياته ، لينال خير الدارين. فمن كفر به يكون خاسرا ، لأنّهم يخسرون على أنفسهم الجنّة ونعيمها ، ويصلون النار وسعيرها.

وعلى هذا التفسير : المراد بآيات الله كلمات توحيده وتمجيده. وتخصيص الخسار بهم ، لأنّ غيرهم ذو حظّ من الثواب والرحمة.

(قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ (٦٤) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (٦٥) بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٦٦))

(قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ) منصوب بـ «أعبد» أي : أَفغير الله أعبد بعد هذه الدلائل والمواعيد؟ وقوله : «تأمرونّي» اعتراض. ومعناه : أَفغير الله أعبد بأمركم؟ وذلك حين قال له المشركون عقيب ذلك : استلم بعض آلهتنا ونؤمن بإلهك ، لفرط غباوتهم. ويجوز أن ينتصب بما دلّ عليه «تأمرونّي أعبد» لأنّه بمعنى : تعبدونني وتقولون لي اعبد. على أنّ أصله : تأمرونني أن أعبد ، فحذف «أن» ورفع الفعل ، كقوله : ألا أيّهذا الزاجري أحضر الوغى (١).

وقرأ ابن عامر : تأمرونني ، بإظهار النونين على الأصل. ونافع بحذف الثانية ، فإنّها تحذف كثيرا.

__________________

(١) لطرفة بن العبد. وعجزه : وأن أشهد اللذّات هل أنت مخلّدي

٩٩

ثمّ قال لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قطعا لطمع الكفّار فيما قالوا له : (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ) من الرسل (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) كلام على سبيل فرض المحال ، والأمر المحال يصحّ فرضه لغرض من الأغراض. ألا ترى إلى قوله : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً) (١). يعني : على سبيل الإلجاء ، ولن يكون ذلك لامتناع الداعي إليه ، ووجود الصارف عنه. والغرض هاهنا من هذا الفرض تهييج الرسل ، وإقناط المرسلين عنهم ، وإشعار على تهديد الأمّة على الإشراك. وإفراد الخطاب باعتبار كلّ واحد. واللام الأولى موطّئة للقسم المحذوف ، والثانية للجواب. وهذا الجواب سادّ مسدّ الجوابين ، أعني : جوابي القسم والشرط.

وإطلاق الإحباط يحتمل أن يكون من خصائصهم ، لأنّ شركهم أقبح. ألا ترى إلى قوله : (إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ) (٢). وأن يكون على التقييد بالموت ، كما صرّح به في قوله : (وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) (٣). وليس فيه ما يدلّ على صحّة القول بالإحباط على ما يذهب إليه أهل الوعيد ، لأنّ المعنى فيه : أنّ من أشرك في عبادة الله غيره ـ من الأصنام وغيرها ـ وقعت عبادته على وجه لا يستحقّ عليها الثواب به. ولأجل ذلك وصفها بأنّها محبطة ، إذ لو كانت العبادة خالصة لوجه الله لاستحقّ عليها الثواب. وعطف الخسران عليه من عطف المسبّب على السبب.

ثمّ ردّ ما أمروه به من استلام بعض آلهتهم بقوله : (بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ) كأنّه قال : لا تعبد ما أمروك بعبادته ، بل إن كنت عاقلا فاعبد الله. فحذف الشرط ، وجعل

__________________

(١) يونس : ٩٩.

(٢) الإسراء : ٧٥.

(٣) البقرة : ٢١٧.

١٠٠