زبدة التّفاسير - ج ٦

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني

زبدة التّفاسير - ج ٦

المؤلف:

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني


المحقق: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-7777-08-6
ISBN الدورة:
964-7777-02-5

الصفحات: ٦٤٠

(وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (٤١) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (٤٢) لا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ (٤٣) فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (٤٤) فَوَقاهُ اللهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ (٤٥) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ (٤٦))

ثمّ وازى بين الدعوتين : دعوته إلى دين الله الّذي ثمرته النجاة ، ودعوتهم إلى اتّخاذ الأنداد الّذي عاقبته النار ، فقال :

(وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ) من النار بالإيمان بالله (وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ) إلى الشرك الّذي يوجب النار. وبّخهم بذلك على ما يقابلون به نصحه.

وعطفه على النداء الثاني ، لأنّه داخل على ما هو بيان لما قبله. ولم يعطف الثاني على الأوّل ، لأنّ ما بعده أيضا تفسير لما أجمل فيه تصريحا أو تعريضا.

(تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللهِ) بدل أو بيان فيه تعليل. والدعاء كالهداية في التعدية بـ «إلى» واللام. فيقال : دعاه إلى كذا ودعا له ، كما يقال : هداه إلى الطريق وهدى له.

١٤١

(وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ) بربوبيّته (عِلْمٌ) المراد بنفي العلم نفي المعلوم. كأنّه قال : وأشرك به ما ليس بإله ، وما ليس بإله كيف يصحّ أن يعلم إلها. وفيه إشعار بأنّ الألوهيّة لا بدّ لها من برهان ، فاعتقادها لا يصحّ إلّا عن إيقان. (وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ) المستجمع لصفات الألوهيّة ، من كمال القدرة والغلبة ، وما يتوقّف عليه من العلم والإرادة ، والتمكّن من المجازاة ، والقدرة على التعذيب والغفران.

(لا جَرَمَ) لا ردّ لما دعاه إليه قومه. و «جرم» فعل بمعنى : حقّ ، وفاعله (أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ) أي : حقّ ووجب عدم دعوة آلهتكم إلى عبادتها أصلا ، لأنّها جمادات ليس لها ما يقتضي ألوهيّتها. أو عدم دعوة مستجابة. أو عدم استجابة دعوة لها.

وقيل : «جرم» بمعنى : كسب ، من قوله تعالى : (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا) (١). وفاعله مستكن في «تدعونني» أي : كسب ذلك الدعاء إليه أن لا دعوة له. بمعنى : ما حصل من ذلك إلّا ظهور بطلان دعوته.

وقيل : «لا جرم» نظير : لا بدّ ، فعل من الجرم بمعنى القطع ، كما أنّ بدّا فعل من التبديد ، وهو التفريق. والمعنى : لا قطع لبطلان دعوى ألوهيّة الأصنام ، أي : لا تزال باطلة ، لا ينقطع ذلك في وقت مّا فينقلب حقّا. ويؤيّده قولهم : لا جرم أنّه يفعل ، فإنّه لغة فيه ، كالرشد والرشد.

(وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللهِ) أي : وجب أنّ مرجعنا ومصيرنا إلى الله بالموت ، فيجازي كلّا بما يستحقّه (وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ) ووجب أنّ المسرفين في الضلالة والطغيان ، كالإشراك وسفك الدماء. وقيل : الّذين غلب شرّهم خيرهم. (هُمْ أَصْحابُ النَّارِ) ملازموها.

__________________

(١) المائدة : ٢.

١٤٢

ثمّ قال لهم على وجه التخويف والوعظ : (فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ) صحّة ما أقول لكم من النصيحة إذا حصلتم في العذاب بكفركم. ثمّ أظهر إيمانه بقوله : (وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ) ليعصمني من كلّ سوء. والأمر : اسم جنس. (إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) عالم بأحوالهم وبما يفعلونه من الطاعة والمعصية.

وهذا جواب توعّدهم المفهوم من قوله : (فَوَقاهُ اللهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا) صرف الله عنه شدائد مكرهم ، وما همّوا به من إلحاق أنواع العذاب بمن خالفهم ، فنجا مع موسى حتّى عبر البحر (وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ) بفرعون وقومه. واستغنى بذكرهم عن ذكره ، للعلم بأنّه أولى بذلك. وقيل : بطلبة المؤمن من قومه ، فإنّه فرّ إلى جبل ، فبعث فرعون بطائفة فوجدوه يصلّي والوحوش صفوف حوله ، فرجعوا رعبا ، فقتلهم.

(سُوءُ الْعَذابِ) الغرق ، أو القتل ، أو النار.

(النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا) جملة مستأنفة. أو «النار» خبر محذوف ، و «يعرضون» استئناف للبيان. أو بدل من «سوء العذاب» ، و «يعرضون» حال من النار ، أو من الآل. والمراد بعرضهم على النار إحراقهم بها. من قولهم : عرض الأسارى على السيف إذا قتلوا به. وذلك لأرواحهم ، كما روى ابن مسعود : أنّ أرواحهم في أجواف طيور سود ، تعرض على النار بكرة وعشيّا إلى يوم القيامة.

وذكر الوقتين يحتمل التخصيص والتأبيد. وفيه دليل على بقاء النفس وعذاب القبر.

وعن نافع ، عن ابن عمر أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «إنّ أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشيّ ، إن كان من أهل الجنّة فمن الجنّة ، وإن كان من أهل النار فمن النار. فيقال : هذا مقعدك حتّى يبعثك الله يوم القيامة». أورده البخاري (١) ومسلم في الصحيح. وقال أبو عبد الله عليه‌السلام : ذلك في البرزخ.

(وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ) أي : هذا ما دامت الدنيا ، فإذا قامت الساعة قيل لهم :

__________________

(١) صحيح البخاري ٢ : ١٢٤. صحيح مسلم ٤ : ٢١٩٩ ح ٦٥.

١٤٣

(أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ) يا آل فرعون (١) (أَشَدَّ الْعَذابِ) عذاب جهنّم ، فإنّه أشدّ ممّا كانوا فيه. أو أشدّ عذاب جهنّم.

وقرأ نافع وحمزة والكسائي ويعقوب وحفص : أدخلوا ، على أمر الملائكة بإدخالهم النار.

(وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ (٤٧) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها إِنَّ اللهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ (٤٨) وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ (٤٩) قالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا بَلى قالُوا فَادْعُوا وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (٥٠) إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ (٥١) يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (٥٢))

ثمّ ذكر سبحانه ما يجري بين أهل النار من الحجاج ، فقال : (وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ) واذكر لقومك وقت تخاصمهم فيها. ويحتمل عطفه على «غدوّا».

ثمّ فصّل التخاصم بقوله : (فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ) وهم الأتباع (لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا) وهم الرؤساء (إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً) أتباعا ، كخدم جمع خادم. أو ذوي

__________________

(١) هذا التفسير على قراءة : ادخلوا.

١٤٤

تبع ، على إضمار مضاف ، بمعنى : أتباع. أو وصف بالمصدر تجوّزا. (فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ) بالدفع أو الحمل ، فإنّه يلزم الرئيس الدفع أو الحمل عن أتباعه والمنقادين لأمره. و «نصيبا» مفعول به لما دلّ عليه «مغنون عنّا» من معنى الدفع أو الحمل. أو مصدر ، كشيئا في قوله : (لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً) (١). و «من» صلة «مغنون».

(قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌ) التنوين عوض عن المضاف إليه. والتقدير : كلّنا. يعني : نحن وأنتم. (فِيها) في النّار ، فكيف نغني عنكم؟! ولو قدرنا لأغنينا عن أنفسنا. و «كلّ فيها» مبتدأ وخبر في موضع رفع بأنّه خبر «إنّ». والمعنى : إنّا مجتمعون في النار. (إِنَّ اللهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ) بأن أدخل أهل الجنّة الجنّة ، وأهل النار النار ، ولا معقّب لحكمه. أو بأن لا يتحمّل أحد عن أحد ، وأنّه يعاقب من أشرك به وعبد معه غيره لا محالة.

(وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ) أي : المتبوعون والأتباع (لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ) لقوّام تعذيب أهل النار. ووضع جهنّم موضع الضمير للتهويل ، أو لبيان محلّهم فيها ، إذ يحتمل أن تكون جهنّم أبعد دركاتها قعرا ، من قولهم : بئر جهنّام بعيدة القعر ، وفيها أعتى الكفّار وأطغاهم ، فلعلّ الملائكة الموكّلين بعذاب أولئك أقرب إجابة للدعوة ، لزيادة قربهم من الله ، فلهذا تعمّدهم أهل النار بطلب الدعوة منهم. (ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً) قدر يوم (مِنَ الْعَذابِ) شيئا من العذاب. ويجوز أن يكون المفعول «يوما» بحذف المضاف ، و «من العذاب» بيانه.

(قالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ) أي : بالحجج والدلالات الواضحة على صحّة التوحيد والنبوّات. أرادوا به إلزامهم للحجّة ، وتوبيخهم على إضاعتهم أوقات الدعاء ، وتعطيلهم أسباب الإجابة.

__________________

(١) آل عمران : ١٠.

١٤٥

(قالُوا بَلى) جاءتنا الرسل والبيّنات ، فكذّبناهم وجحدنا نبوّتهم.

(قالُوا فَادْعُوا) أنتم فإنّا لا نجترئ فيه ، أو لم يؤذن لنا في الدعاء لأمثالكم. وفيه إقناط لهم عن الإجابة ، ودلالة على الخيبة ، فإنّ الملك المقرّب إذا لم يسمع دعاؤه فكيف يسمع دعاء الكافر؟! كما قال : (وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) في ضياع لا يجاب.

(إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا) بالحجّة والظفر والنصرة والغلبة ، والانتقام لهم من الكفرة (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ) أي : في الدارين ، وإن غلبوا في الدنيا في بعض الأحيان امتحانا من الله ، فالعاقبة لهم ، فإنّه يتيح الله من يقتصّ من أعدائهم ، كما نصر يحيى بن زكريّا ـ لمّا قتل ـ حين قتل به سبعون ألفا. فهم لا محالة منصورون في الدنيا. والأشهاد جمع شاهد ، كصاحب وأصحاب. والمراد بهم من يقوم يوم القيامة للشهادة على الناس ، من الملائكة والأنبياء والمؤمنين.

ثمّ أخبر سبحانه عن ذلك اليوم بقوله : (يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ) بدل من الأوّل. وعدم نفع المعذرة لأنّها باطلة ، أو لأنّه لم يؤذن لهم فيعتذروا. وقرأ غير الكوفيّين ونافع بالتاء. (وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ) البعد من الرحمة (وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) سوء دار الآخرة. وهو عذابها.

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ (٥٣) هُدىً وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٥٤) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (٥٥))

ثمّ ذكر حسن عاقبة موسى وقومه ونجاتهم من فرعون ، فقال : (وَلَقَدْ

١٤٦

آتَيْنا مُوسَى الْهُدى) ما يهتدي به في الدين ، من المعجزات وصحف التوراة والشرائع ، بعد استئصال آل فرعون (وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ) وتركنا عليهم بعده ذلك التوراة (هُدىً) هداية يعرفون بها معالم دينهم (وَذِكْرى) وتذكرة لهم بها وعبرة. أو هاديا ومذكّرا. (لِأُولِي الْأَلْبابِ) لذوي العقول السليمة.

ثمّ أمر نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالصبر على تحمّل أذى قومه ، فإنّ الصبر مفتاح الفرج ، ولكلّ عسر يسر ، ولكلّ نازلة حسن عاقبة ، كعواقب أمور موسى بعد تحمّل المشاقّ من آل فرعون ، فقال :

(فَاصْبِرْ) على أذى المشركين في تكذيبهم إيّاك (إِنَّ وَعْدَ اللهِ) بنصرة الرسل (حَقٌ) واجب عليه ثابت لا يخلفه. واستشهد بموسى وما آتاه من أسباب الهدى والنصرة على فرعون وجنوده ، وإبقاء آثار هداه في بني إسرائيل. فالله ناصرك كما نصرهم ، ومظهرك على الدين كلّه ، ومبلغ ملك أمّتك مشارق الأرض ومغاربها.

(وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ) وأقبل على أمر دينك ، وتدارك فرطاتك ـ كترك الأولى ـ بالاستغفار ، فإنّه تعالى كافيك في النصر وإظهار الأمر. ومثل هذا تعبّد من الله سبحانه لنبيّه ، لكي يزيد في الدرجات ، وليصير سنّة لمن بعده. (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ) ودم على التسبيح والتحميد لربّك. وقيل : من زوال الشمس إلى الليل ، ومن طلوع الفجر إلى طلوع الشمس. وعن ابن عبّاس : يريد الصلوات الخمس. وقيل : صلّ لهذين الوقتين ، إذ كان الواجب بمكّة ركعتين بكرة وركعتين عشيّا.

وروي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «قال الله عزوجل : يا ابن آدم اذكرني بعد الغداة ساعة ، وبعد العصر ساعة ، أكفك ما أهمّك».

١٤٧

(إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (٥٦) لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٥٧) وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلا الْمُسِيءُ قَلِيلاً ما تَتَذَكَّرُونَ (٥٨) إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (٥٩) وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ (٦٠))

(إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ) في دفعها (بِغَيْرِ سُلْطانٍ) بغير حجّة (أَتاهُمْ) عامّ في كلّ مجادل مبطل ، وإن نزلت في مشركي مكّة واليهود حين قالوا : سيخرج صاحبنا المسيح بن داود ـ يريدون الدجّال ـ ويبلغ سلطانه البرّ والبحر ، وتسير معه الأنهار ، وهو آية من آيات الله ، فيرجع إلينا الملك. فسمّى الله تمنّيهم ذلك كبرا ، ونفى أن يبلغوا متمنّاهم ، وقال : (إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ) إلّا تكبّر عن الحقّ ، وتعظّم عن التفكّر والتعلّم. أو إرادة التقدّم والرئاسة. (ما هُمْ بِبالِغِيهِ) ببالغي موجب الكبر ومقتضيه. وهو الرئاسة أو النبوّة. أو ببالغي دفع الآيات.

(فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) فالتجئ إليه من كيد من يحسدك ويبغي عليك (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) بما تعمل ويعملون. فهو ناصرك عليهم ، وعاصمك من شرّهم.

١٤٨

ولمّا كانت مجادلتهم في آيات الله مشتملة على إنكار البعث ، وهو أصل المجادلة ومدار المخاصمة ، فاحتجّ بخلق السماوات والأرض ، لأنّهم كانوا مقرّين بأنّ الله خالقهما ، فقال :

(لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ) فمن قدر على خلقهما مع عظمهما من غير أصل ، ووقوفهما بغير عمد ، قدر على خلق الإنسان مع مهانته (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) لأنّهم لا ينظرون ولا يتأمّلون ، لفرط غفلتهم واتّباعهم أهواءهم. يعني : أنّهم إذا أقرّوا بأنّ الله تعالى خلق السماوات والأرض ، فكيف أنكروا قدرته على إحياء الموتى؟! ولكنّهم أعرضوا عن التدبّر ، فحلّوا محلّ الجاهل الّذي لا يعلم شيئا.

(وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ) الغافل المتكبّر والعاقل المستبصر ، أي : لا يستوي من أهمل نفسه ومن تفكّر فعرف الحقّ (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلَا الْمُسِيءُ) أي : المحسن والمسيء ، في الكرامة والإهانة ، والهدى والضلال. فينبغي أن يكون لهم حال يظهر فيها التفاوت ، وهي فيما بعد البعث.

وزيادة لفظة «لا» في «المسيء» لأنّ المقصود نفي مساواة المسيء للمحسن فيما له من الفضل والكرامة. والعاطف الثاني عطف الموصول بما عطف عليه على الأعمى والبصير ، لتغاير الوصفين في المقصود ، أو الدلالة بالصراحة والتمثيل.

(قَلِيلاً ما تَتَذَكَّرُونَ) أي : تذكّرا قليلا يتذكّرون. أو قليلا تذكّرهم. والضمير للناس ، أو الكفّار. وقرأ الكوفيّون بالتاء ، على تغليب المخاطب ، أو الالتفات ، أو أمر الرسول بالمخاطبة.

(إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها) لا شكّ في مجيئها ، لوضوح الدلالة على جوازها ، وإجماع الرسل على الوعد بوقوعها (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) لا يصدّقون بها ، لقصور نظرهم على ظاهر ما يحسّون به.

١٤٩

(وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي) اعبدوني. وعن الحسن ـ وقد سئل عنها ـ : اعملوا وأبشروا ، فإنّه حقّ على الله أن يستجيب للّذين آمنوا وعملوا الصالحات ، ويزيدهم من فضله.

وعن الثوري أنّه قيل له : ادع الله. فقال : إنّ ترك الذنوب هو الدعاء.

وفي الحديث : «إذا شغل عبدي طاعتي عن الدعاء ، أعطيته أفضل ما أعطي السائلين».

وعن النعمان بن بشير عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «الدعاء هو العبادة. ثمّ قرأ : (وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي).

(أَسْتَجِبْ لَكُمْ) أثب لكم لقوله : (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ) صاغرين. وقرأ ابن كثير وأبو بكر بضمّ الياء وفتح الخاء.

وعن ابن عبّاس : وحّدوني أغفر لكم. وهذا تفسير للدعاء بالعبادة ، ثمّ للعبادة بالتوحيد.

ويجوز أن يريد الدعاء والاستجابة على ظاهرهما ، ويريد بـ «عبادتي» دعائي ، لأنّ الدعاء باب من العبادة ، ومن أفضل أبوابها. ويصدّقه قول ابن عبّاس : «أفضل العبادة الدعاء». وعلى هذا ؛ استجابته مشروط باقتضاء المصلحة.

وعن كعب : أعطى الله هذه الأمّة ثلاث خلال لم يعطهنّ إلّا نبيّا مرسلا. كان يقول لكلّ نبيّ : أنت شاهدي على خلقي. وقال لهذه الأمّة : (لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) (١). وكان يقول : ما عليك من حرج. وقال لها : (ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ) (٢). وكان يقول : ادعني أستجب لك. وقال لها : (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ).

وعلى القول الأخير ؛ الآية دالّة على عظم قدر الدعاء عند الله تعالى ، وعلى

__________________

(١) البقرة : ١٤٣.

(٢) المائدة : ٦.

١٥٠

فضل الانقطاع إليه. وقد روي عن معاوية بن عمّار قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : جعلني الله فداك ما تقول في رجلين دخلا المسجد جميعا ، كان أحدهما أكثر صلاة ، والآخر أكثر دعاء ، فأيّهما أفضل؟ قال : كلّ حسن. قلت : قد علمت ، ولكن أيّهما أفضل؟ قال : أكثرهما دعاء. أما تسمع قول الله تعالى : (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) إلى آخر الآية. وقال : هي العبادة الكبرى».

وروى زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام أيضا في هذه الآية قال : «هو الدعاء. وأفضل العبادة الدعاء».

وروى حنان بن سدير ، عن أبيه ، قال : «قلت لأبي جعفر عليه‌السلام : أيّ العبادة أفضل؟ قال : ما من شيء أحبّ إلى الله من أن يسأل ويطلب ما عنده. وما أحد أبغض إلى الله عزوجل ممّن يستكبر عن عبادته ، ولا يسأل ما عنده.»

(اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (٦١) ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٦٢) كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ (٦٣))

ثمّ ذكر ما يدلّ على توحيده ، فقال : (اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ) وهو ما بين غروب الشمس إلى طلوع الفجر الثاني (لِتَسْكُنُوا فِيهِ) لتستريحوا فيه ، بأن خلقه باردا مظلما ليؤدّي إلى ضعف المحرّكات وهدوء الحواسّ (وَالنَّهارَ مُبْصِراً) أي : مضيئا تبصرون فيه مواضع حاجاتكم. وإسناد الإبصار إلى النهار مجاز ، لأنّ الإبصار في الحقيقة لأهل النهار ، فعدل إلى المجاز مبالغة ، ولذلك لم يقل : لتبصروا

١٥١

فيه ، ليقابل قوله : «لتسكنوا».

(إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ) لا يوازيه فضل. وللإشعار بهذا المعنى ـ الّذي هو مفاد تنكير الفضل ـ لم يقل : لمفضّل أو لمتفضّل. (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ) لجهلهم بالمنعم ، وإغفالهم مواقع النعم. وتكرير الناس ، وعدم الاكتفاء بالضمير ، لتخصيص الكفران بالناس ، كقوله : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ) (١). (إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ) (٢). (إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) (٣).

(ذلِكُمُ) المخصوص بهذه الأفعال المقتضية للألوهيّة والربوبيّة (اللهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) من السماوات والأرض وما بينهما (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) أخبار مترادفة تخصّص اللاحقة السابقة وتقرّرها ، أي : هو الجامع لهذه الأوصاف ، من الإلهيّة والربوبيّة ، وخلق كلّ شيء وإنشائه بحيث لا يمتنع عليه شيء ، والوحدانيّة الّتي لا ثاني له (فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) فكيف ومن أيّ وجه تصرفون عن عبادته إلى عبادة غيره ، مع وضوح الدلالة على توحيده؟! (كَذلِكَ) مثل ما أفك وصرف هؤلاء (يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ) أي : يؤفك عن الحقّ كلّ من جحد بآيات الله ولم يتأمّلها ، ولم يكن همّه طلب الحقّ وخشية العاقبة. وهم من تقدّمهم من أكابرهم ورؤسائهم ، فإنّهم هم الّذين صرفوهم عن الحقّ.

(اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ

__________________

(١) الحجّ : ٦٦.

(٢) العاديات : ٦.

(٣) إبراهيم : ٣٤.

١٥٢

(٦٤) هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٦٥) قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (٦٦) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٦٧) هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٦٨))

ثمّ ذكر سبحانه استدلالا آخر بأفعال أخر مخصوصة على توحيده ، فقال :

(اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً) أي : قبّة. ومنه : أبنية العرب لمضاربهم ، لأنّ السماء في منظر العين كقبّة مضروبة على وجه الأرض. (وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ) بأن خلقكم منتصبي القامة ، بادي البشرة ، متناسبي الأعضاء والتخطيطات ، متهيّئين لمزاولة الصنائع واكتساب الكمالات. قيل لم يخلق حيوانا أحسن صورة من الإنسان.

وعن ابن عبّاس : خلق ابن آدم قائما معتدلا ، يأكل بيده ، ويتناول بيده ، وكلّ ما خلق الله غيره يتناول بفيه.

(وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) اللذائذ ، فإنّه ليس شيء من الحيوان له طيّبات المآكل والمشارب مثل ما خلق الله سبحانه لابن آدم ، فإنّ أنواع اللذّات والطيّبات الّتي خلقها الله تعالى لهم ـ من الثمار وفنون النبات واللحوم وغير ذلك ـ ممّا لا

١٥٣

يحصى كثرة.

(ذلِكُمُ) أي : فاعل هذه الأشياء (اللهُ رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) فإنّ كلّ ما سواه مربوب ؛ مفتقر بالذات ، معرض للزوال.

(هُوَ الْحَيُ) المتفرّد بالحياة الذاتيّة (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) إذ لا موجود يساويه أو يدانيه في ذاته وصفاته (فَادْعُوهُ) فاعبدوه (مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) أي : الطاعة ، من الشرك والرياء. قائلين (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) عن ابن عبّاس : من قال لا إله إلّا الله فليقل على أثرها : الحمد لله ربّ العالمين.

(قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي) من الحجج العقليّة والآيات السمعيّة ، فإنّها مقوّية لأدلّة العقل ، ومؤكّدة لها ، ومضمّنة ذكرها ، نحو قوله تعالى : (أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) (١). وأشباه ذلك من التنبيهات على أدلّة العقل. ولا شبهة أنّ تناصر الأدلّة العقليّة والسمعيّة أقوى في إبطال مذهبهم ، وإن كانت أدلّة العقل وحدها كافية.

(وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) أن أنقاد له. أو أخلص له ديني.

(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً) أطفالا. والتوحيد لإرادة الجنس ، أو على تأويل كلّ واحد منكم (ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ) يتعلّق اللام فيه بمحذوف تقديره : ثمّ يبقيكم لتبلغوا. وكذا في قوله : (ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً) ويجوز عطفه على «لتبلغوا». وقرأ نافع وأبو عمرو وحفص وهشام : شيوخا بضمّ الشين. (وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ) من قبل الشيخوخة. أو قبل بلوغ الأشدّ. أو من قبل هذه الأحوال إذا خرج سقطا. (وَلِتَبْلُغُوا) أي : ويفعل ذلك لتبلغوا (أَجَلاً مُسَمًّى) هو وقت الموت. وقيل : يوم القيامة. (وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) ما في ذلك من الحجج والعبر.

(هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) يحييكم ويميتكم. فأوّلكم من تراب ، وآخركم إلى

__________________

(١) الصافّات : ٩٥ ـ ٩٦.

١٥٤

تراب. (فَإِذا قَضى أَمْراً) فإذا أراده (فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) فإنّما يكوّنه من غير كلفة ولا معاناة ، ولا مدّة ولا عدّة ، ومن غير أن يتعذّر بل يتعسّر عليه. فهو بمنزلة ما يقال له : كن فيكون ، لأنّه سبحانه يخاطب المعدوم بالتكوّن. والفاء الأولى للدلالة على أنّ ذلك نتيجة ما سبق من قدرته على الإحياء والإماتة ، وسائر أفعاله المحكمة المتقنة ، من حيث إنّه يقتضي قدرة ذاتيّة غير متوقّفة على العدد والموادّ.

كأنّه قال : فلذلك الاقتدار الذاتي إذا قضى أمرا كان أهون شيء وأسرعه.

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (٦٩) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٧٠) إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ (٧١) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (٧٢) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (٧٣) مِنْ دُونِ اللهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ الْكافِرِينَ (٧٤) ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (٧٥) ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٧٦))

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ) في إبطالها ودفعها (أَنَّى يُصْرَفُونَ) أين يقلبون عن التصديق به؟ ولو كانوا يخاصمون في آيات الله بالنظر في صحّتها والفكر فيها ، لما ذمّهم الله تعالى. وكرّر (١) ذمّ المجادلة لتعدّد المجادل ، أو

__________________

(١) في الآية ٣٥ و٥٦ و٦٩.

١٥٥

المجادل فيه ، أو للتوكيد.

ثمّ وصفهم بالتكذيب فقال : (الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ) بالقرآن ، أو بجنس الكتب السماويّة (وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا) من سائر الكتب ، أو الوحي والشرائع (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) جزاء تكذيبهم ، فيعرفون أنّ ما دعوتهم إليه حقّ ، وما ارتكبوه ضلال وفساد.

(إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ) ظرف لـ «يعلمون» إذ المعنى على الاستقبال ، وإن كان «إذ» للمضيّ. والتعبير عن الاستقبال بلفظ المضيّ لتيقّنه ، فلا يكون ذلك مثل قولك : سوف أصوم أمس. (وَالسَّلاسِلُ) عطف على الأغلال. أو مبتدأ خبره (يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ) والعائد محذوف ، تقديره : يسحبون ـ أي : يجرّون ـ بها في الماء الحارّ الّذي قد انتهت حرارته. وهو على الأوّل حال.

(ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ) أي : يقذفون وتوقد بهم في جميع جوانبهم. من : سجر التنّور إذا ملأه بالوقود. ومنه : السجير للصديق ، كأنّه سجر بالحبّ ، أي : مليء. والمعنى : أنّهم في النار ، فهي محيطة بهم ، وهم مسجورون بالنار ، مملوءة بها أجوافهم. ومنه : قوله : (نارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ) (١). والمراد : تعذيبهم بأنواع من العذاب ، وينقلون من بعضها إلى بعض.

(ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) من الأصنام (قالُوا ضَلُّوا عَنَّا) غابوا عن عيوننا ، فلا نراهم لننتفع بهم (بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً) بل تبيّن لنا أنّا لم نكن نعبد شيئا بعبادتهم ، كقولك : حسبت أنّ فلانا شيء ، فإذا هو ليس بشيء ، إذا لم تر عنده خيرا.

(كَذلِكَ) مثل ضلال آلهتهم عنهم (يُضِلُّ اللهُ الْكافِرِينَ) يضلّهم عن آلهتهم ، حتّى لو طلبوا الآلهة أو طلبتهم الآلهة لم يتصادفوا. أو المعنى : كما أضلّ الله أعمال هؤلاء وأبطل ما كانوا يؤمّلونه ، كذلك يفعل بجميع من يتديّن بالكفر ، فلا ينتفعون

__________________

(١) الهمزة : ٦ ـ ٧.

١٥٦

بشيء من أعمالهم.

وقيل : يضلّ الكافرين عن طريق الجنّة والثواب ، كما أضلّهم عمّا اتّخذوه إلها ، بأن صرفهم عن الطمع في نيل منفعة من جهتها.

والآية لا تنافي تفسير قوله تعالى : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) (١) بأنّهم مقرونون بآلهتهم ، لجواز أن يضلّوا عنهم حين وبّخوا وقيل لهم : أينما كنتم تشركون من دون الله فيغيثوكم ويشفعوا لكم ، وأن يكونوا معهم في سائر الأوقات.

(ذلِكُمْ) الإضلال (بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ) وهو الشرك والطغيان (وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ) تتوسّعون في الفرح تبطّرا وتكبّرا ، والعدول إلى الخطاب للمبالغة في التوبيخ.

ثمّ حكى سبحانه عن هؤلاء الكفّار أنّه يقال لهم : (ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ) الأبواب السبعة المقسومة لكم في قوله تعالى : (لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ) (٢) (خالِدِينَ فِيها) مقدّرين الخلود (فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) عن الحقّ جهنّم. وكان مقتضى النظم : فبئس مدخل المتكبّرين ، كما تقول : زر بيت الله فنعم المزار ، ولكن لمّا كان الدخول المقيّد بالخلود سبب الثواء ـ أي : الإقامة ـ عبّر بالمثوى. وإنّما أطلق عليه اسم «بئس» مع كونه حسنا ، لأنّ الطبع ينفر عنه كما ينفر العقل عن القبيح.

(فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (٧٧))

__________________

(١) الأنبياء : ٩٨.

(٢) الحجر : ٤٤.

١٥٧

وبعد تهديد الكفّار أمر نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالصبر على مقاساته أذيّتهم ، فقال :

(فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ) بالنصر لأنبيائه ، والانتقام من أعدائه (حَقٌ) كائن لا محالة. أو ما وعد الله به المؤمنين على الصبر ـ من الثواب في الجنّة ـ حقّ لا شكّ فيه.

(فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ) في حياتك. أصله : إن نرك. و «ما» مزيدة لتأكيد الشرطيّة ، ولذلك لحقت النون الفعل ، ولا تلحق مع «إن» وحدها بدون «ما» ، فلا يقال : إن تكرمنّي أكرمك ، ولكن : إمّا تكرمنّي أكرمك. (بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ) وهو القتل والأسر. وإنّما قال : «بعض الّذي» لأنّ المعجّل من عذابهم في الدنيا هو بعض ما يستحقّونه.

(أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ) قبل أن تراه (فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ) يوم القيامة ، فننتقم منهم أشدّ الانتقام ، ولا يفوتوننا. ونحوه قوله تعالى : (فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ * أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ) (١). وهو جواب «نتوفّينّك». وجواب «نرينّك» محذوف ، مثل : فذاك. ويجوز أن يكون جوابا لهما ، بمعنى : إن نعذّبهم في حياتك أو لم نعذّبهم ، فإنّا نعذّبهم في الآخرة أشدّ العذاب. ويدلّ على شدّته الاقتصار بذكر الرجوع في هذا المعرض.

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ (٧٨))

__________________

(١) الزخرف : ٤١ ـ ٤٢.

١٥٨

روي : أنّ المشركين قد اقترحوا بالمعجزات عنادا بعد ظهور ما يغنيهم عنها ، فقال سبحانه تسلية لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ) أخبارهم (وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ) ذكرهم ، إذ على المشهور عدد الأنبياء مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا ، والمذكور قصصهم أشخاص معدودة.

وقيل : إنّ عددهم ثمانية آلاف نبيّ ، أربعة آلاف من بني إسرائيل ، وأربعة آلاف من غيرهم.

(وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ) بمعجزة (إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) وأمره ، فإنّ المعجزات عطايا قسّمها بينهم على ما اقتضته حكمته كسائر القسم ، ليس لهم اختيار في إيثار بعضها والاستبداد بإتيان المقترح بها.

(فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللهِ) بالعذاب في الدنيا أو الآخرة (قُضِيَ بِالْحَقِ) بإنجاء المحقّ وتعذيب المبطل (وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ) المعاندون باقتراح الآيات ، فأنكروها وسمّوها سحرا. والمبطل بمعنى صاحب الباطل ، أو الّذي يخسر الجنّة ، ويدخل في النار بدلا منها.

(اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٧٩) وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (٨٠) وَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَأَيَّ آياتِ اللهِ تُنْكِرُونَ (٨١))

ثمّ عدّد سبحانه نعمه على خلقه فقال : (اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ) من الإبل والبقر والغنم (لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَأْكُلُونَ) فإنّ من جنسها ما يؤكل كالغنم ، ومنها

١٥٩

ما يؤكل ويركب ، كالإبل والبقر.

وقيل : المراد بالأنعام هاهنا الإبل خاصّة ، لأنّها الّتي تركب ويحمل عليها في أكثر العادات.

(وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ) كالألبان والجلود والأوبار والأصواف والأشعار (وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ) بأن تركبوها وتبلغوا المواضع الّتي تقصدونها بحوائجكم بالمسافرة عليها (وَعَلَيْها) في البرّ (وَعَلَى الْفُلْكِ) في البحر (تُحْمَلُونَ).

وإنّما قال : (وَعَلَى الْفُلْكِ) ولم يقل : في الفلك ، للمزاوجة. أو لأنّ معنى الإيعاء (١) ومعنى الاستعلاء كلاهما مستقيم ، لأنّ الفلك وعاء لمن يكون فيها حمولة له يستعليها. فلمّا صحّ المعنيان صحّت العبارتان ، كما قال : (قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) (٢).

ولم يقل : ولتأكلوا ، ليكون موافقا لما قبله وما بعده في التعليل ، كما هو مقتضى النظم ، لأنّ الركوب قد يكون في الحجّ والغزو ، وفي بلوغ الحاجة : الهجرة من بلد إلى بلد لإقامة دين أو طلب علم. وهذه أغراض دينيّة إمّا واجبة أو مندوبة ممّا يتعلّق به إرادة الحكيم. وأمّا الأكل وإصابة المنافع فمن جنس المباح الّذي لا يتعلّق به أمره ، لأنّ الأمر لا يكون إلّا بما فيه ترجيح من واجب أو ندب ، والمباح إنّما يكون مساوي الطرفين لا رجحان فيهما أصلا في نظر الشرع. فلأجل ذلك الفرق أورد الغرض في الركوب ، وترك في الأكل. أو للفرق بين العين والمنفعة.

(وَيُرِيكُمْ آياتِهِ) دلالة الدالّة على كمال قدرته وفرط رحمته (فَأَيَّ آياتِ اللهِ) جاءت على اللغة المستفيضة المشهورة. وقولك : فأيّة آيات الله ، قليل ، لأنّ

__________________

(١) أوعيت الزاد والمتاع في الوعاء ، إذا جعلته في الوعاء وأدخلته فيه.

(٢) هود : ٤٠.

١٦٠