زبدة التّفاسير - ج ٦

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني

زبدة التّفاسير - ج ٦

المؤلف:

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني


المحقق: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-7777-08-6
ISBN الدورة:
964-7777-02-5

الصفحات: ٦٤٠

أثرا ، وأعزّ الكتب السماويّة حكما ، إذ هو بإعجازه واشتماله على خلاصتها مصدّق لنفسه ومصداق لها.

ثمّ أتبعه قوله : (خَلَقَ الْإِنْسانَ * عَلَّمَهُ الْبَيانَ) إيماء بأنّ الغرض من خلق البشر ، وما يميّز به عن سائر الحيوان من البيان ، وهو المنطق الفصيح المعرب عمّا في الضمير ، هو معرفة الله سبحانه ، والعلم بالشرعيّات ، والعمل بمقتضاها ، وإفهام الغير بها ، كما تقول : زيد أغناك بعد فقر ، أعزّك بعد ذلّ ، كثّرك بعد قلّة ، فعل بك ما لم يفعل أحد بأحد ، فما تنكر من إحسانه؟

وعن ابن عبّاس : المراد بالإنسان آدم. وتعليم البيان تعليم أسماء كلّ شيء واللغات كلّها.

وعن ابن كيسان : الإنسان محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، علّمه القرآن والبيان.

(الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ) يجريان بحساب معلوم مقدّر في بروجهما ومنازلهما ، وتتّسق بذلك أمور الكائنات السفليّة ، وتختلف الفصول والأوقات ، ويعلم السنون والحساب ، وغير ذلك من المنافع العظيمة للناس ، من الضياء والنور ، ومعرفة الليل والنهار ، ونضج الثمار ، ونظائرها. ولكثرة منافعهما خصّهما بالذكر.

(وَالنَّجْمُ) والنبات الّذي ينجم ، أي : يطلع من الأرض ولا ساق له ، كالبقول (وَالشَّجَرُ) والّذي له ساق (يَسْجُدانِ) ينقادان لله فيما خلقا له طبعا ، انقياد الساجد من المكلّفين طوعا.

وكان حقّ النظم في الجملتين أن يقال : وأجرى الشمس والقمر ، وأسجد النجم والشجر ، أو الشمس والقمر بحسبانه ، والنجم والشجر يسجدان له ، ليطابقا ما قبلهما وما بعدهما في اتّصالهما بالرحمن ، لكنّهما جرّدتا عمّا يدلّ على الاتّصال إشعارا بأنّ وضوحه يغنيه عن البيان.

وإدخال العاطف بينهما للتناسب بينهما ، وهو أنّ الشمس والقمر سماويّان ،

٥٤١

والنجم والشجر أرضيّان ، فبين القبيلين تناسب من حيث التقابل. وأنّ السماء والأرض لا تزالان تذكران قرينتين. وأنّ جري الشمس والقمر بحسبان من جنس الانقياد لأمر الله ، فهو مناسب لسجود النجم والشجر ، لاشتراكهما في الدلالة على أنّ ما يحسّ به من تغيّرات أحوال الأجرام العلويّة والسفليّة بتقديره وتدبيره.

وعن مجاهد : أراد : أنّ نجم السماء ـ وهو موحّد ، والمراد به جميع النجوم ـ والشجر يسجدان لله بكرة وأصيلا ، كما قال : (وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُ) (١).

وقيل : سجودهما سجود ظلالهما ، كقوله : (يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ) (٢). والمعنى : أنّ كلّ جسم له ظلّ فهو يقتضي الخضوع ، بما فيه من دليل الحدوث وإثبات المحدث المدبّر.

(وَالسَّماءَ رَفَعَها) خلقها مرفوعة محلّا ومرتبة ، حيث جعلها منشأ أقضيته ، ومنزل أحكامه ، ومحلّ ملائكته الّذين يهبطون بالوحي على أنبيائه. ونبّه بذلك على كبرياء شأنه ، وتعالي ملكه ، وعظمة سلطانه.

(وَوَضَعَ الْمِيزانَ) العدل ، وهو الإنصاف والانتصاف ، بأن وفّر على كلّ مستعدّ مستحقّه ، ووفّى كلّ ذي حقّ حقّه ، حتّى انتظم أمر العالم واستقام ، كما قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «بالعدل قامت السماوات والأرض».

أو ما يعرف به مقادير الأشياء ، من ميزان ومكيال ومقياس ونحوها. فعلّق به أحكام عباده وقضاياهم وما تعبّدهم به ، من التسوية والتعديل في أخذهم وإعطائهم. كأنّه لمّا وصف السماء بالرفعة من حيث إنّها مصدر القضايا والأقدار ، أراد وصف الأرض بما فيها ، ممّا يظهر به التفاوت ، ويعرف به المقدار ، ويستوي به الحقوق والمواجب.

(أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ) لئلّا تطغوا فيه ، أي : لا تعتدوا ، ولا تجاوزوا

__________________

(١) الحجّ : ١٨.

(٢) النحل : ٤٨.

٥٤٢

الإنصاف.

(وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ) وقوّموا وزنكم بالعدل (وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ) ولا تنقصوه ، فإنّ من حقّه أن يسوّى ، لأنّه المقصود من وضعه. وتكريره مبالغة في التوصية به ، وزيادة حثّ على استعماله.

ثمّ قابل قوله : (وَالسَّماءَ رَفَعَها) بقوله : (وَالْأَرْضَ وَضَعَها) خفضها مدحوّة على الماء (لِلْأَنامِ) للخلق. وهو كلّ ما على ظهر الأرض من دابّة. وعن الحسن : الجنّ والإنس. وقيل : الأنام كلّ ذي روح. فهي كالمهاد لهم يتصرّفون فوقها.

(فِيها فاكِهَةٌ) ضروب ممّا يتفكّه به (وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ) أوعية التمر.

جمع كمّ بكسر الكاف. أو كلّ ما يكمّ ـ أي : يغطّى ـ من لف وسعف وكفرّى (١) ، أوّل ما يبدأ من التمر ، فإنّه ينتفع به كما ينتفع بالمكموم من ثمره وجمّاره (٢) وجذوعه.

(وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ) كالحنطة والشعير وسائر ما يتغذّى به. والعصف ورق النبات اليابس ، كالتبن. (وَالرَّيْحانُ) يعني : المشموم. أو الرزق ، من قولهم : خرجت أطلب ريحان الله ، أي : رزق الله. أراد : أن فيها ما يتلذّذ به من الفواكه ، والجامع بين التلذّذ والتغذّي وهو ثمر النخل ، وما يتغذّى به وهو الحبّ.

وقرأ ابن عامر : والحبّ ذا العصف والريحان ، أي : وخلق الحبّ وخلق الريحان ، أو وأخصّ الحبّ والريحان. ويجوز أن يراد : وذا الريحان ، فحذف المضاف.

وقرأ حمزة والكسائي : والرّيحان بالخفض ، وما عدا ذلك بالرفع. وهو فيعلان من الروح ، فقلبت الواو وأدغم ثمّ حذف. وقيل : روحان ، فقلبت واوه ياء للتخفيف.

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) لأنّها كلّها منعم عليكم بها. والخطاب للثقلين

__________________

(١) الكفرّى : وعاء طلع النخل.

(٢) الجمّار : شحم النخلة.

٥٤٣

المدلول عليهما بقوله : «للأنام» وبقوله : (سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ) (١). والمعنى : أنّه لا يمكن جحد شيء من هذه النعم. ووجه تكرار هذه الآية قد مرّ في سورة (٢) القمر.

(خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ (١٤) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ (١٥) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (١٦) رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (١٧) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (١٨))

(خَلَقَ الْإِنْسانَ) يعني : آدم ، أو جميع البشر ، لأنّ أصلهم آدم عليه‌السلام (مِنْ صَلْصالٍ) من طين يابس له صلصلة ، أي : صوت إذا ضربت يدك عليه (كَالْفَخَّارِ) كالخزف والآجرّ. وقد خلق الله آدم من تراب ، بأن جعله طينا ، ثمّ حمأ مسنونا ، ثمّ صلصالا. فلا يخالف قوله : (خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ) (٣) (حَمَإٍ مَسْنُونٍ) (٤) (مِنْ طِينٍ لازِبٍ) (٥).

(وَخَلَقَ الْجَانَ) أبا الجنّ. وقيل : هو إبليس ، أو جنس الجنّ. (مِنْ مارِجٍ) من لهب صاف من الدخان. وقيل : مختلط أحمر وأسود وأبيض. (مِنْ نارٍ) بيان لـ «مارج» فإنّه في الأصل للمضطرب ، من : مرج إذا اضطرب. كأنّه قيل : من صاف من نار.

__________________

(١) الرحمن : ٣١.

(٢) راجع ص ٥٣٣ ، ذيل الآية ٣٢.

(٣) آل عمران : ٥٩.

(٤) الحجر : ٢٦.

(٥) الصافّات : ١١.

٥٤٤

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) ممّا أفاض عليكما في أطوار خلقتكما ، حتّى صيّركما أفضل المركّبات وخلاصة الكائنات.

(رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ) مشرقي الشتاء والصيف ومغربيهما. وقيل : مشرقي الشمس والقمر ومغربيهما.

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) ممّا في ذلك من الفوائد الّتي لا تحصى ، كاعتدال الهواء ، واختلاف الفصول ، وحدوث ما يناسب كلّ فصل فيه ، إلى غير ذلك.

(مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ (١٩) بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ (٢٠) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢١) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ (٢٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢٣) وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (٢٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢٥))

(مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ) أرسلهما. من : مرجت الدابّة إذا أرسلتها. والمعنى : أرسل البحر الملح والبحر العذب. (يَلْتَقِيانِ) متلاقيين ، لا فصل بين الماءين في مرأى العين.

(بَيْنَهُما بَرْزَخٌ) حاجز من قدرة الله (لا يَبْغِيانِ) لا يبغي أحدهما على الآخر بالممازجة وإبطال الخاصّيّة. أو لا يتجاوزان حدّيهما بإغراق ما بينهما. قيل :إنّهما بحر فارس وبحر الروم.

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) حيث خلق البحرين العذب والمالح يلتقيان بحيث لا يختلطان.

(يَخْرُجُ) وقرأ نافع وأبو عمرو ويعقوب : يخرج (مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ)

٥٤٥

كبار الدرّ وصغاره. وقيل : المرجان الخرز الأحمر ، وهو البسّذ (١). وإن صحّ أنّ الدرّ يخرج من الملح ، فإنّما قال : «منهما» لأنّه لمّا التقيا وصارا كالشيء الواحد جاز أن يقال : يخرجان منهما ، كما يقال : يخرجان من البحر ، ولا يخرجان من جميع البحر ، ولكن من بعضه. وتقول : خرجت من البلد. وإنّما خرجت من محلّة من محالّه ، بل من دار واحدة من دوره.

وقيل : لا يخرجان إلّا من ملتقى الملح والعذب. فيكون العذب كاللقاح للملح ، ولا يخرج اللؤلؤ إلّا من الموضع الّذي يلتقي فيه الملح والعذب ، وذلك معروف عند الغوّاصين.

ومثله قوله : (وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً) (٢) وإنّما هو في واحدة منهنّ. وقوله : (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ) (٣). والرسل من الإنس دون الجنّ.

وعن ابن عبّاس : يخرج من ماء السماء وماء البحر ، فإنّ القطر إذا جاء من السماء تفتّحت الأصداف ، فكان من ذلك القطر اللؤلؤ.

وروي عن سلمان الفارسي وسعيد بن جبير وسفيان الثوري : أنّ «البحرين» عليّ وفاطمة. (بَيْنَهُما بَرْزَخٌ) محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ) الحسن والحسين عليهما‌السلام.

ولا غرو أن يكونا عليهما‌السلام بحرين ، لسعة فضلهما ، وكثرة خيرهما ، فإنّ البحر إنّما يسمّى بحرا لسعته ، وقد قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لفرس ركبه وأجراه فأحمده : «وجدته بحرا» أي : كثير المعاني الحميدة.

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) ممّا أعطاكم من ألبسة الجواهر الحسنة

__________________

(١) البسّذ كسكّر : المرجان. معرّب. الصحاح ١ : ٣٥١.

(٢) نوح : ١٦.

(٣) الأنعام : ١٣٠.

٥٤٦

لتتزيّنوا بها.

(وَلَهُ الْجَوارِ) السفن الجارية في الماء بأمر الله (الْمُنْشَآتُ) المرفوعات الشرع ، أو المصنوعات. وقرأ حمزة وأبو بكر بكسر الشين ، أي : الرافعات الشرع ، أو اللاتي ينشئن الأمواج بجريهنّ ، أو ينشئن السير. (فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ) كالجبال. جمع علم ، وهو الجبل الطويل.

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) من خلق موادّ السفن ، والإرشاد إلى أخذها ، وكيفيّة تركيبها وإجرائها في البحر ، بأسباب لا يقدر على خلقها وجمعها غيره.

(كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ (٢٦) وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (٢٧) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢٨) يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (٢٩) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٠))

(كُلُّ مَنْ عَلَيْها) على الأرض من الحيوانات أو المركّبات. و «من» للتغليب. ولم يذكر مرجع الضمير لكونه معلوما ، كقولهم : ما بين لابتيها ، أي : لابتي المدينة.

(فانٍ) يفنون ويخرجون من الوجود. والتوحيد باعتبار لفظة «كلّ».

(وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ) ذاته. والوجه يعبّر به عن الجملة والذات ، باعتبار أنّ ذات الشيء يعرف بوجهه. ومساكين مكّة يقولون : أين وجه عربيّ كريم ينقذني من الهوان؟ (ذُو الْجَلالِ) ذو العظمة والكبرياء بحيث لا يحيط بكنهه ما سواه. أو ذو الاستغناء المطلق. أو الّذي يجلّه الموحّدون عن التشبيه بخلقه ، وعن أفعالهم. أو الّذي يقال له : ما أجّلك. (وَالْإِكْرامِ) ذو الفضل العامّ. أو الّذي يقال له : ما أكرمك.

وقيل : معنى جلاله وإكرامه : من عنده الجلال والإكرام للمخلصين من أنبيائه

٥٤٧

وأوليائه بألطافه وإفضاله ، مع كمال جلاله وعظمته. وهذه الصفة من أعظم صفات الله. ولقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ألظّوا ـ يعني : الزموا ـ بـ «يا ذا الجلال والإكرام».

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «أنّه مرّ برجل وهو يصلّي ويقول : يا ذا الجلال والإكرام. فقال : قد استجيب لك».

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أي : من بقاء الربّ ، وإبقاء ما لا يحصى ممّا هو على صدد الفناء رحمة وفضلا. أو ممّا يترتّب على فناء الكلّ ، من الإعادة والحياة الدائمة والنعيم المقيم.

(يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فإنّهم مفتقرون إليه في ذواتهم وصفاتهم وسائر ما يهمّهم ويعنّ لهم. فيسأله أهل السماوات ما يتعلّق بدينهم ، وأهل الأرض ما يتعلّق بدينهم ودنياهم. والمراد بالسؤال ما يدلّ على الحاجة إلى تحصيل الشيء ، نطقا كان أو غيره. (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) كلّ وقت وحين يحدث أشخاصا ويجدّد أحوالا ، على ما سبق به قضاؤه ، كما

روي عن أبي الدرداء : «أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تلاها ، فقيل له : وما ذلك الشأن؟ فقال : من شأنه أن يغفر ذنبا ، ويفرّج كربا ، ويرفع قوما ، ويضع آخرين».

وعن ابن عبّاس قال : إنّ ممّا خلق الله تعالى لوحا من درّة بيضاء ، دواته ياقوتة حمراء ، قلمه نور ، وكتابه نور ، ينظر الله فيه كلّ يوم ثلاثمائة وستّين نظرة ، يخلق ويرزق ، ويحيي ويميت ، ويعزّ ويذلّ ، ويفعل ما يشاء ، فذلك قوله : (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ).

وقيل : شأنه جلّ ذكره أن يخرج في كلّ يوم وليلة ثلاثة عساكر : عسكرا من أصلاب الآباء إلى الأرحام ، وعسكرا من الأرحام إلى الدنيا ، وعسكرا من الدنيا إلى القبر ، ثمّ يرتحلون جميعا إلى الله.

وقيل : شأنه إيصال المنافع إليك ، ودفع المضارّ عنك ، فلا تغفل عن طاعة من

٥٤٨

لا يغفل عن برّك.

وعن ابن عيينة : الدهر عند الله يومان ، أحدهما : اليوم الّذي هو مدّة عمر الدنيا ، فشأنه فيه الأمر والنهي ، والإماتة والإحياء ، والإعطاء والمنع. والآخر : يوم القيامة ، فشأنه فيه الجزاء والحساب.

وعن مقاتل : نزل في ردّ اليهود حين قالوا : إنّ الله لا يقضي يوم السبت شيئا.

وسأل بعض الملوك وزيره عن هذه الآية ، فاستمهله إلى الغد ، وذهب كئيبا يفكّر فيها. فقال غلام له أسود : يا مولاي أخبرني ما أصابك ، لعلّ الله يسهّل لك على يدي. فأخبره ، فقال له : أنا أفسّرها للملك فأعلمه.

فقال : أيّها الملك شأن الله أن يولج الليل في النهار ، ويولج النهار في الليل ، ويخرج الحيّ من الميّت ، ويخرج الميّت من الحيّ ، ويشفي سقيما ، ويسقم سليما ، ويبتلي معافى ، ويعافي مبتلى ، ويعزّ ذليلا ، ويذلّ عزيزا ، ويفقر غنيّا ، ويغني فقيرا.

فقال الأمير : أحسنت. وأمر الوزير أن يخلع عليه ثياب الوزارة.

فقال : يا مولاي هذا من شأن الله.

وعن عبد الله بن طاهر : أنّه دعا الحسين بن الفضل فقال له : أشكلت عليّ ثلاث آيات ، دعوتك لتكشفها لي. قوله تعالى : (فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ) (١). وقد صحّ أنّ الندم توبة. وقوله : (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) (٢). وصحّ أنّ القلم جفّ بما هو كائن إلى يوم القيامة. وقوله : (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) (٣). فما بال الأضعاف؟

فقال الحسين : يجوز أن لا يكون الندم توبة في تلك الأمّة ، ويكون توبة في

__________________

(١) المائدة : ٣١.

(٢) الرحمن : ٢٩.

(٣) النجم : ٣٩.

٥٤٩

هذه الأمّة ، لأنّ الله تعالى خصّ هذه الأمّة بخصائص لم يشاركهم فيها الأمم. أو ندم قابيل لم يكن على قتل هابيل ، ولكن على حمله. وأمّا قوله : (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) فمعناه : ليس له إلّا ما سعى عدلا ، ولي أن أجزيه بواحدة ألفا فضلا. وأمّا قوله : (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) فإنّها شؤون يبديها ، لا شؤون يبتدئها.

فقام عبد الله وقبّل رأسه ، وسوّغ خراجه.

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) ممّا يسعف به سؤلكما ، وما يخرج لكما من مكمن العدم حينا فحينا.

(سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ (٣١) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٢) يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطانٍ (٣٣) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٤) يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ (٣٥) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٦))

ولمّا ذكر سبحانه الفناء والإعادة ، عقّب ذلك بذكر الوعيد والتهديد ، فقال :

(سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ) سنتجرّد لحسابكم وجزائكم. وذلك يوم القيامة ، فإنّها تعالى لا يفعل فيه غيره.

وتنقيح المعنى : ستنتهي الدنيا وتبلغ آخرها ، وتنتهي عند ذلك شؤون الخلق الّتي أرادها بقوله : (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) ، فلا يبقى إلّا شأن واحد ، وهو جزاؤكم ، فجعل ذلك فراغا لهم على طريق المثل.

٥٥٠

وقيل : تهديد مستعار من قولك لمن تهدّده : سأفرغ لك. تريد : سأتجرّد للإيقاع بك من كلّ ما يشغلني عنك حتّى لا يكون لي شغل سواه. والمراد : التوفّر على النكاية فيه والانتقام منه ، فإنّ المتجرّد للشيء كان أقوى عليه وأجدّ فيه.

وقرأ حمزة والكسائي بالياء. والثقلان : الإنس والجنّ. سمّيا بذلك لثقلهما على الأرض ، أو لرزانة رأيهما وقدرهما ، أو لأنّهما مثقلان بالتكليف.

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) من جملتها إعلامكم الحساب والجزاء ، لتتهيّئوا في أعمال الخير ، وتجتنبوا عن أفعال الشرّ.

(يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) كالترجمة لقوله : «أَيُّهَ الثَّقَلانِ» (إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) إن قدرتم أن تخرجوا من جوانب السماوات والأرض هاربين من الموت ، أو فارّين من قضائه وقدره. يقال : نفذ الشيء من الشيء إذا خلص منه ، كالسهم ينفذ من الرمية. (فَانْفُذُوا) فاخرجوا. ثمّ قال : (لا تَنْفُذُونَ) لا تقدرون على النفوذ (إِلَّا بِسُلْطانٍ) إلّا بقوّة وقهر وغلبة ، وأنّى لكم ذلك؟ فإنّكم حيث توجّهتم فثمّ ملكي وسلطاني.

بيّن سبحانه بذلك أنّهم في حبسه ، وأنّه مقتدر عليهم لا يفوتونه. وجعل ذلك دلالة على توحيده وقدرته ، وزجرا لهم عن معصيته ومخالفته. ونحوه : (وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) (١).

روي : أنّ الملائكة تنزل فتحيط بجميع الخلائق ، فإذا رآهم الجنّ والإنس هربوا ، فلا يأتون وجها إلّا وجدوا الملائكة أحاطت به.

وقيل : المعنى : إن قدرتم أن تنفذوا لتعلموا ما في السماوات والأرض فانفذوا لتعلموا ، لكن لا تنفذون ولا تعلمون إلّا ببيّنة نصبها الله ، فتعرجون عليها بأفكاركم.

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أي : من التنبيه والتحذير ، والمساهلة والعفو مع

__________________

(١) العنكبوت : ٢٢.

٥٥١

كمال القدرة ، لترغبوا بالطاعة ، وتجتنبوا عن المعصية. أو ممّا نصب من المصاعد العقليّة والمعارج النقليّة ، فتنفذون بها إلى فوق السماوات العلى.

(يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ) لهب أخضر منقطع (مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ) ودخان. أو صفر مذاب يصبّ على رؤوسهم. وعن ابن عبّاس : إذا خرجوا من قبورهم ساقهم شواظ إلى المحشر.

وقرأ ابن كثير : شواظ بكسر الشين. وهو لغة. ونحاس بالجرّ ، عطفا على «نار». ووافقه أبو عمرو ويعقوب في رواية.

(فَلا تَنْتَصِرانِ) فلا تقدران على دفع ذلك عنكما وعن غيركما. وجاء في الحديث : «يحاط على الخلق بالملائكة بلسان من نار ، ثمّ ينادون : (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) إلى قوله : (شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ).

وروى مسعدة بن صدقة عن كليب قال : «كنّا عند أبي عبد الله عليه‌السلام فأنشأ يحدّثنا ، فقال : إذا كان يوم القيامة جمع الله العباد في صعيد واحد ، وذلك أنّه يوحي إلى السماء الدنيا أن اهبطي بمن فيك ، فيهبط أهل السماء الدنيا بمثلي من في الأرض من الجنّ والإنس والملائكة ، فلا يزالون كذلك حتّى يهبط أهل سبع سماوات ، فيصير الجنّ والإنس في سبع سرادقات من سبعة أطواق من الملائكة ، فينظرون فإذا قد أحاط بهم سبعة أطواق من الملائكة ، ثمّ ينادي مناد : (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) إلى قوله : (فَلا تَنْتَصِرانِ).

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) فإنّ التهديد لطف. والتمييز بين المطيع والعاصي بالجزاء والانتقام من الكفّار في عداد الآلاء.

(فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ (٣٧) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٨) فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ (٣٩) فَبِأَيِّ آلاءِ

٥٥٢

رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٠) يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ (٤١) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٢) هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (٤٣) يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (٤٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٥))

(فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ) يعني : يوم القيامة تصدّعت السماء ، وانفكّ بعضها من بعض (فَكانَتْ وَرْدَةً) فصارت وردة في الاحمرار. وهي جمع الورد. (كَالدِّهانِ) أي : مذابة كالدهن. وهو اسم لما يدهن به ، كالحزام. أو جمع دهن. وقيل : هو الأديم (١) الأحمر.

وقال الفرّاء : شبّه تلوّن السماء بتلوّن الوردة (٢) من الخيل ، وشبّه الوردة في اختلاف ألوانها بالدهن واختلاف ألوانه.

وقيل : هو دهن الزيت ، كما قال : (كَالْمُهْلِ) (٣). وهو : درديّ (٤) الزيت.

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) وجه النعمة في انشقاق السماء واحمرارها وذوبانها ، فإنّ في الإخبار به زجرا وتخويفا في دار الدنيا يوجب الانقياد لأوامر الله ، فيكون فيه لطف.

(فَيَوْمَئِذٍ) أي : فيوم تنشقّ السماء (لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ) بعض من

__________________

(١) أي : الجلد.

(٢) الورد من الخيل : ما كان أحمر اللون إلى صفرة. والوردة : لون الورد.

(٣) المعارج : ٨.

(٤) الدرديّ من الزيت : الكدر الراسب في أسفله.

٥٥٣

الإنس (وَلا جَانٌ) أريد به : ولا جنّ ، أي : ولا بعض من الجنّ ، فوضع الجانّ الّذي هو أبو الجنّ موضع الجنّ ، كما يقال : هاشم ويراد به ولده.

والمعنى : لا يسأل عصاة الإنس والجنّ ، لأنّهم يعرفون بسيماهم ، وذلك حينما يخرجون من قبورهم ويحشرون إلى الموقف ذودا ذودا (١) على اختلاف مراتبهم.

وأمّا قوله : (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ) (٢) (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ) (٣) فحين يحاسبون في المجمع. قال قتادة : قد كانت مسألة ثمّ ختم على أفواه القوم ، وتكلّمت أيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون.

وقيل : معناه : لا يسأل عن ذنبه ليعلم من جهته ، ولكن يسأل سؤال توبيخ.

وروي عن الرضا عليه‌السلام أنّه قال : «فيومئذ لا يسأل منكم عن ذنبه إنس ولا جان».

والمعنى : أنّ من اعتقد الحقّ ثمّ أذنب ولم يتب في الدنيا عذّب عليه في البرزخ ، ثمّ يخرج يوم القيامة وليس له ذنب يسأل عنه.

والضمير للإنس باعتبار اللفظ ، فإنّه وإن تأخّر لفظا تقدّم رتبة. وتوحيد ضمير الإنس لكونه في معنى البعض.

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أي : ممّا أنعم الله على عباده المؤمنين في هذا اليوم.

(يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ) بعلامتهم من سواد الوجه وزرقة العيون ، ومن الكآبة والحزن (فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ) مجموعا بينهما ، أي : فتأخذهم

__________________

(١) ذاده ذودا : دفعه وطرده.

(٢) الحجر : ٩٢.

(٣) الصافّات : ٢٤.

٥٥٤

الزبانية فتجمع بين نواصيهم وأقدامهم بالغلّ ، ثمّ يسحبون ويقذفون في النار.

وعن الضحّاك : يجمع بين ناصيته وقدمه في سلسلة من وراء ظهره.

وقيل : تسحبهم الملائكة ، تارة تأخذ بالنواصي ، وتارة بالأقدام.

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) ممّا أعلمكم من تعذيب العاصين ، لتجتنبوا المعصية وترغبوا في الطاعة.

(هذِهِ جَهَنَّمُ) أي : يقال لهم : هذه جهنّم (الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ) الكافرون (يَطُوفُونَ بَيْنَها) بين النار يحرقون بها (وَبَيْنَ حَمِيمٍ) ماء حارّ (آنٍ) بلغ النهاية في الحرارة. يصبّ عليهم ، أو يسقون منه.

وقيل : إذا استغاثوا من النار أغيثوا بالحميم.

وقيل : إنّ واديا من أودية جهنّم يجتمع فيه صديد أهل النار ، فينطلق بهم في الأغلال ، فيغمسون فيه حتّى تنخلع أوصالهم ، ثمّ يخرجون منه وقد أحدث الله لهم خلقا جديدا ، وذلك قوله : (كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ) (١). الآية.

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) ولا شبهة أنّ التذكير بفعل العقاب والإنذار به من أكبر النعم ، لما فيه من الزجر عمّا يستحقّ به العقاب ، والبعث والحثّ على فعل ما يستحقّ به الثواب ، وهذا نهاية اللطف.

(وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ (٤٦) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٧) ذَواتا أَفْنانٍ (٤٨) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٩) فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ (٥٠) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥١) فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ

__________________

(١) النساء : ٥٦.

٥٥٥

زَوْجانِ (٥٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٣) مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ (٥٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٥) فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (٥٦) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٧) كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ (٥٨) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٩) هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلاَّ الْإِحْسانُ (٦٠) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦١) وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ) موقفه الّذي يقف فيه العباد للحساب. أو مقام الخائف عند ربّه للحساب ، كقوله : (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) (١). أو قيامه على أحواله ، من : قام عليه إذا راقبه. وعلى التقادير ؛ أضاف المقام إلى الربّ تفخيما وتهويلا. أو المراد : خاف ربّه ، و «مقام» مقحم. (جَنَّتانِ) جنّة للخائف الإنسي ، وجنّة للخائف الجنّي ، فإنّ الخطاب للفريقين.

والمعنى : لكلّ خائفين منكما أو لكلّ واحد جنّة لعقيدته ، واخرى لعمله. أو جنّة لفعل الطاعات ، واخرى لترك المعاصي ، لأنّ التكليف دائر عليهما. أو جنّة يثاب بها ، واخرى يتفضّل بها عليه ، كقوله : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) (٢). أو جنّة داخل القصر ، والاخرى خارج القصر ، كما يشتهي الإنسان في الدنيا. وقيل :

__________________

(١) المطفّفين : ٦.

(٢) يونس : ٢٦.

٥٥٦

إحدى الجنّتين منزله ، والاخرى منزل أزواجه وخدمه. وقيل : جنّة من ذهب ، وجنّة من فضّة. أو روحانيّة وجسمانيّة. وكذا ما جاء مثنى بعد.

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) ممّا أعطاكم من نعم الجنّة.

ثمّ وصف الجنّتين بقوله : (ذَواتا أَفْنانٍ) أنواع من الأشجار والثمار ، جمع فنّ. أو أغصان ، جمع فنن ، وهي الغصنة الّتي تتشعّب من فروع الشجر. وتخصيصها بالذكر لأنّها الّتي تورق وتثمر ، ومنها يمتدّ الظلّ. (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ).

(فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ) حيث شاؤا في الأعالي والأسافل. وقيل : تجريان من جبل من مسك. وعن الحسن : تجريان بالماء الزلال ، إحداهما : التسنيم ، والاخرى : السلسبيل. وقيل : إحداهما من ماء غير آسن ، والاخرى من خمر لذّة للشاربين. (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ).

(فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ) صنفان : غريب ومعروف ، أو رطب ويابس.

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ).

(مُتَّكِئِينَ) نصبه على المدح للخائفين ، أو حال منهم ، لأنّ «من خاف» في معنى الجمع ، أي : قاعدين اتّكاء كالملوك (عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ) من ديباج ثخين. وإذا كانت البطائن كذلك فما ظنّك بالظهائر؟! وقيل : ظهائرها من سندس. وقيل : من نور. وقيل لسعيد بن جبير : البطائن من إستبرق فما الظواهر؟

قال : هذا ممّا قال الله : (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) (١).

(وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ) قريب يناله القائم والقاعد ، والمضطجع والمستلقي.

و «جنى» اسم بمعنى : مجنيّ. (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ).

(فِيهِنَ) في الجنان ، فإنّ الجنّتين تدلّ على الجنان. وهي للخائفين. أو في الأماكن والقصور. أو في هذه الآلاء المعدودة ، من الجنّتين والعينين

__________________

(١) السجدة : ١٧.

٥٥٧

والفاكهة والفرش. (قاصِراتُ الطَّرْفِ) نساء حور عين قصرن أبصارهنّ على أزواجهنّ ، لا ينظرن إلى غيرهم. وقال أبو ذرّ : إنّها تقول لزوجها : وعزّة ربّي ما أرى في الجنّة شيئا أحسن منك ، فالحمد لله الّذي جعلني زوجتك ، وجعلك زوجي. (لَمْ يَطْمِثْهُنَ) لم يفتضّهنّ. والافتضاض النكاح بالتدمية. (إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌ) أي : لم يمسّ الإنسيّات إنس ، ولا الجنّيّات جنّ ، فهنّ خلقن أبكارا في الجنّة.

وقيل : هنّ من نساء الدنيا لم يمسسهنّ منذ أنشئن خلق ، أي : لم يجامعهنّ في هذا الخلق الّذي أنشئن فيه إنس ولا جانّ.

وفيه دليل على أنّ الجنّ يطمثون كما يطمث الإنس. وقرأ الكسائي بضمّ الميم. (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ).

(كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ) أي : في حمرة الوجنة وبياض البشرة وصفائهما. والمرجان : صغار الدرّ ، وهو أنصع بياضا. وفي الحديث : «إنّ الحوراء تلبس سبعين حلّة ، فيرى مخّ ساقها من ورائها ، كما يرى الشراب الأحمر في الزجاجة البيضاء».

وعن ابن مسعود : كما يرى السلك من وراء الياقوت. (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ).

(هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ) في العمل (إِلَّا الْإِحْسانُ) في الثواب ، أي : ليس جزاء من أحسن في الدنيا إلّا أن يحسن إليه في الآخرة.

وعن ابن عبّاس : هل جزاء من قال : لا إله إلّا الله ، وعمل بما جاء به محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إلّا الجنّة؟

وقيل : معناه : هل جزاء من أحسن إليكم بهذه النعم إلّا أن تحسنوا في شكره وعبادته؟

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ).

٥٥٨

(وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ (٦٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٣) مُدْهامَّتانِ (٦٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٥) فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ (٦٦) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٧) فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (٦٨) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٩) فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ (٧٠) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧١) حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ (٧٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧٣) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (٧٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧٥) مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ (٧٦) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧٧) تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (٧٨))

(وَمِنْ دُونِهِما) ومن دون تينك الجنّتين الموعودتين للخائفين المقرّبين (جَنَّتانِ) لمن دونهم من أصحاب اليمين (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ).

(مُدْهامَّتانِ) خضراوان تضربان إلى السواد من شدّة الخضرة. وفيه إشعار بأنّ الغالب على هاتين الجنّتين النبات والرياحين المنبسطة على وجه الأرض ، وعلى الأوليين الأشجار والفواكه ، دلالة على ما بينهما من التفاوت.

وعن أبي عبد الله عليه‌السلام : «لا تقولنّ : الجنّة واحدة ، إنّ الله تعالى يقول : (وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ) ولا تقولنّ : درجة واحدة ، إنّ الله يقول : (وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ

٥٥٩

بَعْضٍ دَرَجاتٍ) (١). إنّما تفاضل القوم بالأعمال».

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ).

(فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ) فوّارتان بالماء ، ثمّ تجريان. قال ابن عبّاس : تنضخ على أولياء الله بالمسك والعنبر والكافور. وقيل : تنضخان بأنواع الخيرات.

والنضخ أكثر من النضخ غير المعجمة ، لأنّ النضخ غير المعجمة مثل الرشّ. وهو أيضا أقلّ ممّا وصف به الأوليين. وكذا ما بعده. (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ).

(فِيهِما فاكِهَةٌ) ألوان الفاكهة (وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ) عطفهما على الفاكهة بيانا لفضلهما. كأنّهما لما لهما من المزيّة جنسان آخران ، كقوله تعالى : (مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ) (٢).

وقيل : لأنّ ثمرة النخل فاكهة وغذاء ، وثمرة الرمّان فاكهة ودواء ، فلم يخلصا للتفكّه.

قال الأزهري : «ما علمت أحدا من العرب قال في النخيل والكروم وثمارها إنّها ليست من الفاكهة. وإنّما قال ذلك من قال لقلّة علمه بكلام العرب. والعرب تذكر الأشياء جملة ، ثمّ تخصّ منها شيئا بالتسمية ، تنبيها على فضل فيه» (٣).

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ).

(فِيهِنَّ خَيْراتٌ) أي : خيّرات ، فخفّفت ، لأنّ خيرا الّذي بمعنى الأخير لا يجمع ، فلا يقال فيه : خيرون ولا خيرات. والمعنى : فاضلات الأخلاق (حِسانٌ) حسان الخلق. (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ).

(حُورٌ) بيض حسان البياض. يقال : العين الحوراء إذا كانت شديدة بياض

__________________

(١) الزخرف : ٣٢.

(٢) البقرة : ٩٨.

(٣) تهذيب اللغة ٦ : ٢٥.

٥٦٠