زبدة التّفاسير - ج ٦

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني

زبدة التّفاسير - ج ٦

المؤلف:

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني


المحقق: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-7777-08-6
ISBN الدورة:
964-7777-02-5

الصفحات: ٦٤٠

على الّذين أنزل فيهم (وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا) (١). والّذي سوّغ أنّ العرب تمدح بالجمال وحسن الوجوه ـ مع أنّ ذلك من فعل الله تعالى ـ أنّهم رأوا حسن الرواء (٢) ووسامة المنظر في الغالب مشعرا بأخلاق محمودة وخصال رضيّة.

ومن ثمّ قالوا : أحسن ما في الدميم (٣) وجهه. فلم يجعلوه من صفات المدح لذاته ، ولكن لدلالته على غيره. على أنّ من المحقّقين من علماء المعاني من دفع صحّة ذلك ، وخطّأ المادح به ، وقصّر المدح على النعت بأمّهات الخير ، وهي : الفصاحة ، والشجاعة ، والعدل ، والعفّة ، وما يتشعّب منها ويرجع إليها. وجعل الوصف بالجمال والثروة وكثرة الحفدة والأعضاد ، وغير ذلك ممّا ليس للإنسان فيه عمل ، غلطا ومخالفة عن المعقول.

و «كره» يتعدّى بنفسه إلى مفعول واحد ، فإذا شدّد زاد له آخر. لكنّه لمّا تضمّن معنى التبغيض نزّل منزلة : بغّض ، فعدّي إلى آخر بـ «إلى». والكفر : تغطية نعم الله بالجحود. والفسوق : الخروج عن القصد بحقيقة الايمان ومحجّته بركوب الكبائر. وعن ابن عبّاس : هو الكذب. وهذا مرويّ عن أبي جعفر عليه‌السلام. والعصيان : الامتناع عن الانقياد.

(فَضْلاً مِنَ اللهِ وَنِعْمَةً) تعليل للرشد ، فإنّه وإن كان فعل القوم والفضل فعل الله ، لكن لمّا كان الرشد لا يكون إلّا عبارة عن التحبيب والتزيين والتكريه ، مسندة إلى اسمه تعالى ، صار الرشد كأنّه فعله ، فاتّحد الفاعل ، كما هو شرط نصب المفعول له ، فجاز أن ينتصب عنه. أو تعليل لـ «كرّه» و «حبّب» ، وما بينهما اعتراض ، أو تعليل للفعل المقدّر ، كأنّه قيل : جرى ذلك ، أو كان ذلك فضلا من الله. ويجوز أن يكون

__________________

(١) آل عمران : ١٨٨.

(٢) الرواء : حسن المنظر. والوسامة : الحسن والجمال.

(٣) الدميم : القبيح المنظر.

٤٢١

منصوبا على المصدر من غير فعله ، فيوضع موضع : رشدا ، لأنّ رشدهم فضل من الله ، لكونهم موفّقين فيه. والفضل والنعمة بمعنى الإفضال والإنعام.

(وَاللهُ عَلِيمٌ) بأحوال المؤمنين وما بينهم من التفاضل والتمايز (حَكِيمٌ) حين يفضل وينعم بالتوفيق عليهم.

وفي هذه الآية دلالة على بطلان مذهب أهل الجبر ، لأنّه إذا حبّب في قلوبهم الإيمان وكرّه الكفر ، فمن المعلوم أنّه لا يحبّب ما لا يحبّه ولا يكرّه ما لا يكرهه. ولأنّه إذ ألطف في تحبيب الإيمان بألطافه دلّ ذلك على ما نقوله.

روي عن ابن عبّاس أنّه قال : وقف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوما على مجلس بعض الأنصار وهو على حمار ، فبال الحمار ، فأمسك عبد الله بن أبيّ بأنفه وقال : خلّ سبيل حمارك فقد آذانا نتنه (١). فقال عبد الله بن رواحة الخزرجي : والله إنّ بول حماره لأطيب من مسكك. وبرواية اخرى : حماره أفضل منك ، وبول حماره أطيب من مسكك. ومضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وطال الخوض بينهما حتّى استبّا وتجالدا ، وجاء قوماهما ـ وهما : الأوس والخزرج ـ فتجالدوا بالعصيّ ، وقيل : بالأيدي والنعال والسّعف. فرجع إليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأصلح بينهم. ونزلت :

(وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٩) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٠))

__________________

(١) النتن : خبث الرائحة.

٤٢٢

(وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا) تقاتلوا. والجمع باعتبار المعنى ، فإنّ كلّ طائفة جمع. (فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما) بالنصح والدعاء إلى حكم الله (فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما) تعدّت (عَلَى الْأُخْرى) أي : فمالت على الاخرى ، ظالمة لها ، متعدّية عليها (فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي) لأنّها هي الظالمة المتعدّية دون الاخرى (حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ) ترجع إلى حكم الله ، أو ما أمر به. من الفيء بمعنى الرجوع. وقد سمّي به الظلّ والغنيمة ، لأنّ الظلّ يرجع بعد نسخ الشمس ، والغنيمة ما يرجع من أموال المشركين إلى المسلمين.

(فَإِنْ فاءَتْ) رجعت إلى طاعة الله (فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ) بالفصل بينهما على حكم الله حتّى يكونوا سواء ، لا يكون من إحداهما على الاخرى جور فيما يتعلّق بالضمانات والأروش. وتقييد الإصلاح بالعدل هاهنا لأنّه مظنّة الحيف ، من حيث إنّه بعد المقاتلة.

ثمّ أمر باستعمال القسط على طريق العموم ، بعد ما أمر به في إصلاح ذات البين ، فقال :(وَأَقْسِطُوا) واعدلوا في كلّ الأمور. من القسط بالفتح بمعنى الجور. ومنه : القسط ، وهو اعوجاج في الرجلين. فـ «أقسط» همزته للسلب ، أي : أزال القسط.

وأمّا القسط بالكسر بمعنى العدل. (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) يحمد فعلهم بحسن الجزاء.

روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «يا بن أمّ عبد هل تدري كيف حكم الله فيمن بغى من هذه الأمّة؟ قال : الله ورسوله أعلم. قال : لا يجهز على جريحها ، ولا يقتل أسيرها ، ولا يطلب هاربها ، ولا يقسّم فيئها».

والآية تدلّ على أنّ الباغي مؤمن. وأنّه إذا قبض عن الحرب ترك ، كما جاء في الحديث ، لأنّه فاء إلى أمر الله. وأنّه يجب معاونة من بغى عليه بعد تقديم النصح

٤٢٣

والسعي في المصالحة.

ثمّ علّل الأمر بالصلاح وقرّره بقوله : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) من حيث إنّهم منتسبون إلى أصل واحد ، وهو الإيمان الموجب للحياة الأبديّة. ولذلك كرّر الأمر بالصلاح مرتّبا عليه بالفاء ، فقال : (فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) ووضع الظاهر موضع الضمير مضافا إلى المأمورين ، للمبالغة في التقرير والتخصيص. وخصّ الاثنين بالذكر ، لأنّهما أقلّ من يقع بينهم الشقاق ، وللإشعار على أنّه إذا لزمت المصالحة بين الأقلّ كانت بين الأكثر ألزم ، لأنّ الفساد في شقاق الجميع أكثر من الفساد في شقاق الاثنين. وقيل : المراد بالأخوين الأوس والخزرج.

ومعنى الآية : ليس المؤمنون إلّا إخوة ، وأنّهم خلّص لذلك متمحّضون ، قد انزاحت عنهم شبهات الأجنبيّة ، وأبى لطف حالهم في التمازج والاتّحاد أن يقدموا على ما يتولّد منه التقاطع.

(وَاتَّقُوا اللهَ) في مخالفة حكمه في العدل والإصلاح والإهمال فيه (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) على تقواكم. أي : عند التواصل والائتلاف وترك الخلاف ، فإنّ وصول رحمة الله واشتمال رأفته عليكم حقيق بأن تعقدوا به رجاءكم.

أورد البخاري ومسلم في صحيحيهما عن الزهري ، عن سالم ، عن أبيه أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «المسلم أخو المسلم ، لا يظلمه ، ولا يخذله ، ولا يعيبه ، ولا يتطاول عليه في البنيان فيستر عنه الريح إلّا بإذنه ، ولا يؤذيه بقتار (١) قدره». ثمّ قال : «احفظوا ، ولا يحفظه منكم إلّا قليل».

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته ، ومن فرّج عن مسلم كربة فرّج الله بها عنه كربة من كرب يوم القيامة ، ومن ستر عن مسلم يستره الله يوم القيامة».

__________________

(١) القتار : الدخان من المطبوخ ، ورائحة اللحم والشواء.

٤٢٤

وفي وصيّة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأمير المؤمنين عليه‌السلام : «يا عليّ سر ميلا عد مريضا ، سر ميلين شيّع جنازة ، سر ثلاثة أميال أجب دعوة ، سر أربعة أميال زر أخا في الله ، سر خمسة أميال أجب دعوة الملهوف ، سر ستّة أميال انصر المظلوم ، وعليك بالاستغفار».

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (١١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (١٢))

ولمّا أمر سبحانه بإصلاح ذات البين ، ونهى عن التفرّق ، عقّب ذلك بالنهي عن أسباب الفرقة ، من السخريّة والازدراء بأهل الفقر والمسكنة ونحو ذلك ، فقال :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ) أي : بعض المؤمنين من بعض. والقوم مختصّ بالرجال ، لأنّهم القوّام بأمور النساء ، كما قال الله تعالى : (الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ) (١). وكقول زهير : أقوم آل حصن أم نساء (٢). وأمّا قولهم : قوم عاد وقوم فرعون ، فإمّا على التغليب ، أو الاكتفاء بذكر الرجال عن

__________________

(١) النساء : ٣٤.

(٢) صدره : وما أدري وسوف إخال أدري.

٤٢٥

ذكرهنّ ، لأنّهنّ توابع. وهو في الأصل جمع قائم ، كصوم وزور في جمع صائم وزائر. أو مصدر نعت به ، فشاع في الجمع. واختيار الجمع لأنّ السخريّة تغلب في المجامع.

ثمّ استأنف بالعلّة الموجبة للنهي ، فقال : (عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ) ترك خبر «عسى» لإغناء الاسم عنه. وهذا كلام مستأنف قد ورد مورد جواب المستخبر عن العلّة الموجبة لما جاء النهي عنه ، وإلّا فقد كان حقّه أن يوصل بما قبله بالفاء.

والمعنى : وجوب أن يعتقد كلّ أحد أنّ المسخور منه ربّما يكون عند الله خيرا من الساخر ، لأنّ الناس لا يطّلعون إلّا على ظواهر الأحوال ، ولا علم لهم بالخفيّات. وإنّما الّذي يزن عند الله خلوص الضمائر وتقوى القلوب ، وعلمهم من ذلك بمعزل. فينبغي أن لا يجترئ أحد على الاستهزاء بمن تزدريه عينه ، إذا رآه رثّ (١) الحال ، أو ذا عاهة في بدنه ، أو غير لبيق (٢) في محادثته ، فلعلّه أخلص ضميرا وأتقى قلبا ممّن هو على ضدّ صفته. فيظلم نفسه بتحقير من وقّره الله ، والاستهانة بمن عظّمه الله.

وقيل : نزلت هذه الآية في بني تميم استهزؤا ببلال وخباب وعمّار وصهيب وأبي ذرّ وسالم مولى حذيفة.

وعن ابن عبّاس : نزلت في ثابت بن قيس بن شماس ، فإنّه كان في أذنيه وقر (٣) ، وكان إذا دخل تفسّحوا له حتّى يقعد عند النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فيسمع ما يقول.

فدخل المسجد يوما والناس قد فرغوا من الصلاة وأخذوا مكانهم ، فجعل يتخطّى رقاب الناس ويقول : تفسّحوا تفسّحوا ، حتّى انتهى إلى رجل فقال له : أصبت مجلسا فاجلس ، فجلس خلفه مغضبا. فلمّا انجلت الظلمة قال : من هذا؟ قال

__________________

(١) أي : ضعيف الحال.

(٢) أي : حاذق.

(٣) أي : ثقل.

٤٢٦

الرجل : أنا فلان. فقال ثابت : بل أنت ابن فلانة. ذكر أمّا له كان يعيّر بها في الجاهليّة. فنكس الرجل رأسه حياء.

وعن أنس : نساء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سخرن من أمّ سلمة. وذلك أنّها ربطت حقويها بسبيبة ـ وهي : ثوب أبيض من الكتّان ـ وسدلت طرفيها خلفها ، فكانت تجرّه.

فقالت عائشة لحفصة : انظري ماذا تجرّ خلفها ، كأنّه لسان كلب. فهذا كانت سخريّتهما.

وقيل : إنّها عيّرت زينب بنت خزيمة الهلاليّة.

وعن أنس : عيّرت نساء رسول الله أمّ سلمة بالقصر ، وأشرن بأيديهنّ أنّها قصيرة. فنزل فيهنّ قوله :

(وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ) ولا تسخر بعض المؤمنات من بعض (عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَ) كلام مستأنف كما مرّ آنفا. وتنكير القوم والنساء يحتمل معنيين : أن يراد : لا يسخر بعض المؤمنين والمؤمنات من بعض ، كما فسّرنا به. وأن يقصد إفادة الشياع ، وأن تصير كلّ جماعة منهم ومنهنّ منهيّة عن السخريّة.

وإنّما لم يقل : رجل من رجل ، ولا امرأة من امرأة ، على التوحيد ، إعلاما بإقدام غير واحد من رجالهم وغير واحدة من نسائهم على السخريّة ، واستفظاعا للشأن الّذي كانوا عليه. ولأن مشهد الساخر لا يكاد يخلو ممّن يتلهّى ويستضحك على قوله ، ولا يأتي ما عليه من النهي والإنكار ، فيكون شريك الساخر في تحمّل الوزر. وكذلك كلّ من يطرق سمعه فيستطيبه ويضحك به ، فيؤدّي ذلك ـ وإن أوجده واحد ـ إلى تكثّر السخرة.

(وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ) ولا يغتب بعضكم بعضا ، فإنّ المؤمنين كنفس واحدة. والمعنى : خصّوا أيّها المؤمنون أنفسكم بالانتهاء عن عيبها والطعن فيها ، ولا عليكم أن تعيبوا غيركم ممّن لا يدين بدينكم ولا يسير بسيرتكم. ففي الحديث : «اذكروا الفاجر بما فيه كي يحذره الناس».

وقيل : معناه : ولا تفعلوا ما تلمزون به ، فإنّ من فعل ما استحقّ به اللمز فقد

٤٢٧

لمز نفسه حقيقة. واللمز : الطعن باللسان. وقرأ يعقوب بالضمّ (١).

وعن ابن عبّاس : أنّ صفيّة بنت حييّ أتت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالت : إنّ النساء يعيّرنني ويقلن لي : يا يهوديّة بنت يهوديّين. فقال لها : «هلّا قلت : إنّ أبي هارون ، وعمّي موسى ، وزوجي محمّد».

وكان من شتائمهم لمن أسلم من اليهود : يا يهوديّ ، يا فاسق ، فنهوا عنه بقوله : (وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ) لا يدع بعضكم بعضا بلقب السوء ، فإنّ النبز مختصّ بلقب السوء عرفا (بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ) الاسم ها هنا بمعنى الذكر ، من قولهم : طار اسمه في الناس بالكرم أو باللؤم ، كما يقال : طار ثناؤه وصيته.

وحقيقته : ما سما من ذكره وارتفع بين الناس. فالمعنى : بئس الذكر المرتفع للمؤمنين بسبب السخريّة والتنابز ، أن يذكروا بالفسق بعد دخولهم في الإيمان واشتهارهم به. والمراد به إمّا تهجين نسبة الكفر والفسق إلى المؤمنين ، أو استقباح الجمع بين الإيمان وبين الفسق الّذي يأباه الإيمان ويحظره ، كما تقول : بئس الشأن بعد الكبرة (٢) الصبوة.

(وَمَنْ لَمْ يَتُبْ) عمّا نهى عنه (فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) بوضع العصيان موضع الطاعة ، وتعريض النفس للعذاب.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِ) أي : كونوا على جانب. يقال : جنّبه الشرّ إذا أبعده عنه. وحقيقته : جعله منه في جانب. فيعدّى إلى مفعولين. قال الله تعالى : (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ) (٣). ثمّ يقال في مطاوعه : اجتنب الشرّ. فينقص المطاوعة مفعولا.

وإبهام الكثير ليحتاط في كلّ ظنّ ويتأمّل حتّى يعلم أنّه من أيّ القبيل ، فإنّ

__________________

(١) أي : ولا تلمزوا.

(٢) الكبرة : الكبر في السنّ. والصبوة : الميل إلى جهلة الصبيان.

(٣) إبراهيم : ٣٥.

٤٢٨

من الظنّ ما يجب اتّباعه ، كالظنّ حيث لا قاطع فيه ، من العمليّات وحسن الظنّ بالله.

وما يحرم حيث يخالفه قاطع ، كظنّ السوء بالمؤمنين. وما يباح ، كالظنّ في الأمور المعاشيّة ، وفيمن جاهر بين الناس بالخبائث.

(إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) تعليل مستأنف للأمر. والإثم : الذنب الّذي يستحقّ صاحبه العقوبة عليه. والهمزة فيه بدل من الواو. كأنّه يثمّ (١) الأعمال ، أي : يكسر مرتبتها عند الله.

(وَلا تَجَسَّسُوا) ولا تبحثوا عن عورات المسلمين. تفعّل من الجسّ ، باعتبار ما فيه من معنى الطّلب ، كالتلمّس. والمراد : النهي عن تتبّع عورات المسلمين ومعايبهم ، والاستكشاف عمّا ستروه.

وعن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه خطب فرفع صوته حتّى أسمع العواتق ـ أي : الشوابّ ـ في خدورهنّ. قال : «يا معشر من آمن بلسانه ، ولم يخلص الإيمان إلى قلبه ، لا تتّبعوا عورات المسلمين ، فإنّ من تتبّع عوراتهم تتبّع الله عورته حتّى يفضحه ولو في جوف بيته».

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ الله حرّم من المسلم دمه وعرضه ، وأن يظنّ به ظنّ السوء».

وعن الحسن : إنّ الفاسق إذا أظهر فسقه وهتك ستره هتكه الله ، وإذا استتر لم يظهر الله عليه لعلّه أن يتوب.

وقد روي : «من ألقى جلباب (٢) الحياء فلا غيبة له».

وعن مجاهد : خذوا ما ظهر ، ودعوا ما ستره الله.

وعن أبي قلابة : أنّ أبا محجن الثقفي كان يشرب الخمر في بيته هو وأصحابه ، فانطلق عمر حتّى دخل عليه ، فإذا ليس عنده إلا رجل.

فقال أبو محجن : يا أمير المؤمنين إنّ هذا لا يحلّ لك ، قد نهاك الله تعالى عن

__________________

(١) من : وثم يثم الشيء : كسره ودقّه.

(٢) الجلباب : القميص أو الثوب الواسع.

٤٢٩

التجسّس.

فقال عمر : ما يقول هذا؟

قال زيد بن ثابت وعبد الله بن الأرقم : صدق يا أمير المؤمنين.

قال : فخرج عمر وتركه.

وروي : أنّ عمر أيضا خرج ومعه عبد الرحمن بن عوف يعسّان (١) ، فتبيّنت لهما نار ، فأتيا واستأذنا ففتح الباب فدخلا ، فإذا رجل وامرأة تغنّي ، وعلى يد الرجل قدح. فقال عمر من هذه منك؟

قال : امرأتي.

قال : وما في القدح؟

قال : ماء.

فقال للمرأة : ما الّذي تغنّين به؟

قالت : أقول :

تطاول هذا الليل واسودّ جانبه

وأرّقني ألّا حبيب ألاعبه

فو الله لولا خشية الله والتقى

لزعزع من هذا السّرير جوانبه

ولكنّ عقلي والحياء يكفّني

وأكرم بعلي أن تنال مراكبه

ثم قال الرجل : ما بهذا أمرنا يا أمير المؤمنين ، قال الله تعالى : (وَلا تَجَسَّسُوا).

فقال عمر : صدقت ، وانصرف.

وفي الحديث : «إيّاكم والظنّ ، فإنّ الظنّ أكذب الحديث ، ولا تجسّسوا ، ولا تقاطعوا ، ولا تحاسدوا ، ولا تدابروا ، وكونوا عباد الله إخوانا».

وروي : أنّ سلمان كان يخدم رجلين من الصحابة ، ويسوّي لهما طعامهما ،

__________________

(١) عسّ يعسّ عسّا : طاف بالليل يحرس الناس ويكشف أهل الريبة.

٤٣٠

فنام عن شأنه يوما ، فبعثاه إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يبغي لهما إداما ـ وكان أسامة على طعام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : ما عندي شيء. فأخبرهما سلمان بذلك. فقالا : بخل أسامة. وقالا لسلمان : لو بعثناه إلى بئر سميحة لغار ماؤها. فلمّا راحا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لهما : مالي أرى خضرة اللحم في أفواهكما؟ فقالا : ما تناولنا يومنا هذا طعاما. فقال : ظللتم تأكلون لحم سلمان وأسامة. فنزلت :

(وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) ولا يذكر بعضكم بعضا بالسوء في غيبته. يقال : غابه واغتابه ، كغاله واغتاله. والغيبة من الاغتياب ، كالغيلة (١) من الاغتيال. وهي : ذكر السوء في الغيبة. وسئل صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن الغيبة ، فقال : «أن تذكر أخاك بما يكرهه ، فإن كان فيه فقد اغتبته ، وإن لم يكن فيه فقد بهتّه».

وعن جابر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الغيبة أشدّ من الزنا».

وعن ابن عبّاس : الغيبة إدام كلاب النار.

(أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً) تمثيل وتصوير لما يناله المغتاب من عرض المغتاب على أفحش وجه ، مع مبالغات : الاستفهام المقرّر. وإسناد الفعل إلى «أحد» للتعميم المشعر بأنّ أحدا من الأحدين لا يحبّ ذلك. وتعليق المحبّة بما هو في غاية الكراهة. وتمثيل الاغتياب بأكل لحم الإنسان. وجعل المأكول أخا وميتا. وتعقيب ذلك بقوله : (فَكَرِهْتُمُوهُ) تقريرا وتحقيقا لذلك.

وانتصاب «ميتا» على الحال من اللحم أو الأخ. وشدّده نافع. والفاء هي الفصيحة المظهرة لشرط مقدّر. والمعنى : إن صحّ ذلك أو عرض عليكم هذا فقد كرهتموه ، ولا يمكنكم إنكار كراهته.

وعن قتادة : كما تكره إن وجدت جيفة مدوّدة أن تأكل منها ، كذلك فاكره لحم أخيك وهو حيّ.

__________________

(١) الغيلة : الخديعة والاغتيال. يقال : قتله غيلة ، أي : خدعه فذهب به إلى موضع فقتله.

٤٣١

ولهذا يقال للمغتاب : فلان يأكل لحوم الناس ، كما قال الشاعر :

وليس الذئب يأكل لحم ذئب

ويأكل بعضنا بعضا عيانا

وقال آخر : فإن يأكلوا لحمي وفرت لحومهم

وإن يهدموا مجدي بنيت لهم مجدا

وعن ميمون بن شاة قال : بينا أنا نائم إذا بجيفة زنجيّ ، وقائل يقول لي : كل يا عبد الله. قلت : ولم آكل؟ قال : بما اغتيب عندك فلان. قلت : والله ما ذكرت فيه خيرا ولا شرّا. قال : لكنّك استمعت فرضيت. فكان ميمون بعد ذلك لا يدع أن يغتاب عنده أحد.

(وَاتَّقُوا اللهَ) بترك ما أمرتم باجتنابه ، والندم على ما وجد منكم منه (إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ) لمن اتّقى ما نهى عنه ، وتاب ممّا فرط منه. والمبالغة في التوّاب لأنّه بليغ في قبول التوبة ، إذ يجعل صاحبها كمن لم يذنب ، أو لكثرة المتوب عليهم ، أو لكثرة ذنوبهم.

(يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (١٣))

عن يزيد بن شجرة : مرّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في سوق المدينة ، فرأى غلاما أسود يقول : من اشتراني فعلى شرط ، لا يمنعني عن الصلوات الخمس خلف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. فاشتراه رجل. فكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يراه عند كلّ صلاة ، ففقده يوما فسأل عنه صاحبه ، فقال : محموم. فعاده ، ثمّ سأل عنه بعد ثلاثة أيّام ، فقال : هو لما به. فجاءه رسول الله وهو في ذمائه (١) ، فتولّى غسله ودفنه. فدخل على المهاجرين

__________________

(١) الذماء : بقيّة الروح.

٤٣٢

والأنصار أمر عظيم. فنزلت :

(يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى) من آدم وحوّاء. أو خلقنا كلّ واحد منكم من أب وأمّ ، فالكلّ سواء في ذلك ، فلا وجه للتفاخر بالنسب.

وعن مقاتل : لمّا كان يوم فتح مكّة أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بلالا حتّى علا ظهر الكعبة وأذّن. فقال عتاب بن أسيد : الحمد لله الّذي قبض أبي حتى لم ير هذا اليوم. وقال الحارث بن هشام : أما وجد محمد غير هذا الغراب الأسود مؤذّنا؟ وقال سهيل بن عمرو : إن يرد الله شيئا يغيّره لغيّره. وقال أبو سفيان : إنّي لا أقول شيئا ، أخاف أن يخبره به ربّ السماء. فأتى جبرئيل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأخبره بما قالوا. فدعاهم رسول الله وسألهم عمّا قالوا ، فأقرّوا به. فنزلت هذه الآية. وزجرهم عن التفاخر بالأنساب والأحساب ، والازدراء بالفقراء ، والتكاثر بالأموال.

وعن ابن عبّاس : نزلت في ثابت بن قيس بن شماس لمّا قال للرجل الّذي لم يتفسّح له : ابن فلانة. فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من الذاكر فلانة؟ فقام ثابت فقال : أنا يا رسول الله. فقال : انظر في وجوه القوم. فنظر إليهم. فقال : ما رأيت يا ثابت؟ قال : رأيت أبيض وأحمر وأسود. قال : فإنّك لا تفضلهم إلا بالتقوى. وهو الّذي نزل فيه قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ) (١) الآية.

وعلى التقادير ؛ يجوز أن تكون هذه الآية تقريرا للأخوّة.

(وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ) الشعب : الطبقة الأولى من الطبقات الستّ الّتي عليها العرب. وهي : الشعب ، والقبيلة تجمع العمائر ، والعمارة تجمع البطون ، والبطن تجمع الأفخاذ ، والفخذ تجمع الفصائل. فخزيمة شعب ، وكنانة قبيلة ، وقريش عمارة ، وقصيّ بطن ، وهاشم فخذ ، وعبّاس فصيلة. وقيل : الشعوب بطون العجم ،

__________________

(١) المجادلة : ١١.

٤٣٣

والقبائل بطون العرب.

(لِتَعارَفُوا) أي : الحكمة الّتي من أجلها رتّبكم على شعوب وقبائل ، هي أن يعرف بعضكم نسب بعض ، فلا يعتزي (١) إلى غير آبائه ، لا أن تتفاخروا بالآباء والأجداد ، وتدّعوا التفاوت والتفاضل في الأنساب والقبائل.

ثمّ بيّن الخصلة الّتي بها يفضل الإنسان غيره ، ويكتسب الشرف والكرم عند الله ، فقال :

(إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) فإنّ التقوى بها تكمل النفوس ، وتتفاضل بها الأشخاص. فمن أراد شرفا فليلتمسه منها ، كما قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من سرّه أن يكون أكرم الناس فليتّق الله». وقال : «أيّها النّاس إنما الناس رجلان : مؤمن تقيّ كريم على الله ، وفاجر شقيّ هيّن على الله».

روي : أنّ رجلا سأل عيسى بن مريم : أيّ الناس أفضل؟ فأخذ قبضتين من تراب ثمّ قال : أيّ هاتين أفضل؟ الناس خلقوا من تراب ، فأكرمهم أتقاهم.

عن أبي بكر البيهقي بالإسناد عن عباية بن ربعي ، عن ابن عبّاس قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ الله عزوجل جعل الخلق قسمين ، فجعلني في خيرهم قسما. وذلك قوله : «وأصحاب اليمين وأصحاب الشمال» (٢). فأنا من أصحاب اليمين ، وأنا خير أصحاب اليمين. ثمّ جعل القسمين أثلاثا ، فجعلني في خيرها ثلثا. وذلك قوله : (فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ) (٣). فأنا من السابقين ، وأنا خير السابقين. ثمّ جعل الأثلاث قبائل ، فجعلني في خيرها قبيلة. وذلك قوله : (وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ) الآية. فأنا أتقى ولد آدم وأكرمهم على الله ، ولا فخر. ثمّ جعل القبائل بيوتا ، فجعلني في خيرها بيتا. وذلك قوله عزوجل : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ

__________________

(١) أي : ينتسب. من : عزى يعزي فلانا إلى فلان : نسبه إليه. واعتزى إليه : انتسب.

(٢) إشارة إلى الآيات ٢٧ و٤١ و٨ ـ ١٠ من سورة الواقعة.

(٣) إشارة إلى الآيات ٢٧ و٤١ و٨ ـ ١٠ من سورة الواقعة.

٤٣٤

عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) (١). فأنا وأهل بيتي مطهّرون من الذنوب».

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «يقول الله تعالى يوم القيامة : أمرتكم فضيّعتم ما عهدت إليكم فيه ، ورفعتم أنسابكم ، فاليوم أرفع نسبي وأضع أنسابكم. أين المتّقون؟ إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم».

(إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ) بأعمالكم (خَبِيرٌ) ببواطنكم.

(قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (١٥) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللهَ بِدِينِكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٦) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٧) إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٨))

__________________

(١) الأحزاب : ٣٣.

٤٣٥

روي عن ابن عبّاس : أنّ نفرا من بني أسد قدموا المدينة في سنة جدبة ، فأظهروا الشهادتين ، وأفسدوا طرق المدينة بالعذرات ، وأغلوا أسعارهم ، وهم يغدون ويروحون على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويقولون : أتتك العرب بأنفسها على ظهور رواحلها ، وجئناك بالأثقال والذراري ، ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان ، يريدون الصدقة ويمنّون عليه ، فنزلت :

(قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا) إذ الإيمان تصديق مع ثقة وطمأنينة قلب ، ولم يحصل لكم وإلا لمّا مننتم على الرسول بالإسلام وترك المقاتلة كما دلّ عليه آخر السورة (وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا) فإن الإسلام ـ الّذي هو انقياد ـ دخول في السلم وإظهار الشهادة. وترك المحاربة يشعر به.

وكان نظم الكلام أن يقول : لا تقولوا آمنّا ولكن قولوا أسلمنا ، أو لم تؤمنوا ولكن أسلمتم. فعدل منه إلى هذا النظم احترازا من النهي عن القول بالإيمان والجزم بإسلامهم. فإنّه لو قيل : ولكن أسلمتم لكان خروجه في معرض التسليم لهم والاعتداد بقولهم ، وهو غير معتدّ به ، لفقد شرط اعتباره شرعا ، وهو التصديق القلبي. فأفاد هذا النظم تكذيب دعواهم أوّلا ، ودفع ما انتحلوه ، فقيل : «قل لم تؤمنوا». وروعي في هذا النوع من التكذيب أدب حسن حين لم يصرّح بلفظه ، فلم يقل : كذبتم ، ووضع «لم تؤمنوا» الّذي هو نفي ما ادّعوا إثباته موضعه. ثمّ نبّه على ما فعل من وضعه موضع : كذبتم ، في قوله بعد في صفة المخلصين : (أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) (١) تعريضا بأنّ هؤلاء هم الكاذبون.

(وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) توقيت لـ «قولوا» ، فإنّه حال من ضميره ، أي : ولكن قولوا : أسلمنا ، ولم تواطئ قلوبكم ألسنتكم بعد. ولمّا كان فائدة قوله : (قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا) تكذيب دعواهم ، وقوله : (وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) توقيت

__________________

(١) الحجرات : ١٥.

٤٣٦

لما أمروا به أن يقولوه ، فلا يكون تكريرا من غير فائدة متجدّدة.

(وَإِنْ تُطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) بالإخلاص القلبي وترك النفاق (لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ) لا ينقصكم من أجورها (شَيْئاً) من : لات ليتا إذا نقص. وقرأ البصريّان : لا يألتكم ، من الألت. وهو لغة غطفان. وفي الصحاح : «الته حقّه يألته ألتا ، أي : نقصه. وألته أيضا : حبسه عن وجهه وصرفه. مثل : لاته يليته. وهما لغتان ، حكاهما اليزيدي عن أبي عمرو بن العلاء» (١).

(إِنَّ اللهَ غَفُورٌ) لما فرط من المطيعين (رَحِيمٌ) بالتفضّل عليهم.

(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا) لم يشكّوا ـ يعني : لم يقع في نفوسهم شكّ ـ فيما آمنوا به. من : ارتاب مطاوع : رابه ، إذا أوقعه في الشكّ مع التهمة. وفيه إشارة إلى ما أوجب نفي الإيمان عنهم. و «ثمّ» للإشعار بأنّ اشتراط عدم الارتياب في اعتبار الإيمان ليس حال الإيمان فقط ، بل فيه وفيما يستقبل إلى آخر العمر. فـ «ثمّ» هاهنا كما في قوله : (ثُمَّ اسْتَقامُوا) (٢).

(وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) في طاعته. والمجاهدة بالأموال والأنفس تصلح للعبادات الماليّة والبدنيّة بأسرها. فتشمل مجاهدة العدوّ والمحارب ، أو الشيطان ، أو الهوى ، وفي تحمّل أنواع الطاعات ومشاقّ صنوف العبادات.

(أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) الّذين صدقوا في قولهم : آمنّا ، ولم يكذبوا كما كذب أعراب بني أسد.

روي : أنّه لمّا نزلت الآيتان أتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فحلفوا أنّهم مؤمنون صادقون في دعواهم الإيمان ، فأنزل الله سبحانه :

__________________

(١) الصحاح ١ : ٢٤١.

(٢) فصّلت : ٣٠.

٤٣٧

(قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللهَ بِدِينِكُمْ) أَتخبرون بقولكم : «آمنّا»؟ والهمزة للإنكار والتوبيخ ، أي : كيف تعلّمون الله بدينكم؟ (وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) لا يخفى عليه خافية. وفيه تجهيل لهم ، لأنّه العالم بالذات ، فيعلم المعلومات كلّها بنفسه ، فلا يحتاج إلى معلّم يعلّمه ، كما أنّه كان قديما موجودا في الأزل بالذات ، واستغنى عن موجد أوجده.

وكانوا يقولون : آمنّا بك من غير قتال ، وقاتلك بنو فلان. فأجابهم الله سبحانه بقوله :

(يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا) يعدّون إسلامهم عليك منّة. وهي : النعمة الّتي لا يستثيب مسديها (١) ممّن يزلّها إليه. من المنّ بمعنى القطع ، لأنّه إنّما يسديها إليه ليقطع بها حاجته لا غير ، من غير أن يعمد لطلب مثوبة. ثم يقال : منّ عليه صنعه ، إذا اعتدّه عليه منّة وإنعاما.

(قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ) أي : بإسلامكم. فنصب بنزع الخافض ، أو تضمين الفعل معنى الاعتداد. (بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ) بل الله يعتدّ عليكم أن أمدّكم بتوفيقه حيث هداكم للإيمان على ما زعمتم ، وادّعيتم أنّكم أرشدتم إليه ووفّقتم له (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في ادّعاء الإيمان ، إلّا أنّكم تزعمون وتدّعون ما الله عليم بخلافه. وجواب الشرط محذوف يدلّ عليه ما قبله ، أي : فلله المنّة عليكم.

وفي سياق الآية لطف ، وهو أنّهم لمّا سمّوا ما صدر عنهم إيمانا ومنّوا به ، فنفى أنّه إيمان ، وسمّاه إسلاما ، فقال : يمنّون عليك بما هو في الحقيقة إسلام ، وليس بجدير أن يمنّ به عليك ، بل لو صحّ ادّعاؤهم للإيمان فلله المنّة عليهم بالهداية له ، لا لهم.

__________________

(١) من : أسدى إليه : أحسن. وأزلّ إليه نعمة : أعطاها.

٤٣٨

(إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ما غاب فيهما (وَاللهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) في سرّكم وعلانيتكم ، فكيف يخفى عليه ما في ضمائركم؟

وفي هذه الآية بيان لكونهم غير صادقين في دعواهم. وتوضيح المعنى : أنّه عزوجل يعلم كلّ مستتر في العالم ، ويبصر كلّ عمل تعملونه في سرّكم وعلانيتكم ، لا يخفى عليه منه شيء ، فكيف يخفى عليه ما في ضمائركم ، ولا يظهر على صدقكم وكذبكم؟ وذلك أنّ حاله مع كلّ معلوم واحدة لا تختلف.

وقرأ ابن كثير بالياء ، لما في الآية من الغيبة.

٤٣٩
٤٤٠