يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً (١٧))
(سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ) أي الّذين تخلّفوا عن الحديبية (إِذَا انْطَلَقْتُمْ) أيّها المؤمنون (إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها) يعني : مغانم خيبر ، فإنّه صلىاللهعليهوآلهوسلم رجع من الحديبية في ذي الحجّة من سنة ستّ ، وأقام بالمدينة بقيّتها وأوائل المحرّم ، ثمّ غزا خيبر بمن شهد الحديبية ، ففتحها وغنم أموالا كثيرة ، فخصّها بهم. وسيجيء تفصيل قصّتها عن قريب إن شاء الله.
(ذَرُونا) اتركونا (نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللهِ) يغيّروه. وهو وعده لأهل الحديبية أن يعوّضهم من مغانم مكّة مغانم خيبر ، ولا يشركهم فيها غيرهم. وهذا قول ابن عبّاس ومجاهد وابن إسحاق وغيرهم من المفسّرين.
وقال الجبائي : أراد بقوله : (يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللهِ) قوله : (فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا) (١).
وقال صاحب المجمع : «وهذا غلط ، لأنّ هذه السورة نزلت بعد الانصراف من الحديبية في سنة ستّ من الهجرة ، وتلك الآية نزلت في الّذين تخلّفوا عن غزوة تبوك ، وهذه الغزوة بعد فتح مكّة ، وبعد غزوة حنين والطائف ، ورجوع النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم منها إلى المدينة ، ومقامه ما بين ذي الحجّة إلى رجب ، ثمّ تهيّأ في رجب للخروج إلى تبوك. وكان منصرفه من تبوك في بقيّة رمضان من سنة تسع من الهجرة ، ولم يخرج صلىاللهعليهوآلهوسلم بعد ذلك لقتال ولا غزو إلى أن قبضه الله ، فكيف تكون هذه الآية مرادة
__________________
(١) التوبة : ٨٣.
ها هنا؟!» (١).
والكلام اسم للتكليم ، غلّب في الجملة المفيدة. وقرأ حمزة والكسائي : كلم الله. وهو جمع كلمة.
(قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا) نفي في معنى النهي (كَذلِكُمْ قالَ اللهُ) في الحديبية (مِنْ قَبْلُ) من قبل تهيّئهم للخروج إلى خيبر (فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا) أن نشارككم في الغنائم (بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ) لا يفهمون (إِلَّا قَلِيلاً) إلّا فهما قليلا ، وهو فطنتهم لأمور الدنيا. ومعنى الإضراب الأوّل ردّ منهم أن يكون حكم الله أن لا يتّبعوهم ، وإثبات للحسد. والثاني إضراب عن وصفهم بإضافة الحسد إلى المؤمنين إلى وصفهم بما هو أجلّ منه ، وهو جهلهم بأمور الدين ، كقوله تعالى : (يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا) (٢).
(قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ) كرّر ذكرهم بهذا الاسم مبالغة في الذمّ ، وإشعارا بشناعة التخلّف (سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ) بني حنيفة ، أو قوم مسيلمة ، أو غيرهم ممّن ارتدّوا بعد رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم في زمن أبي بكر ، فإنّه قال : (تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ) وفي زمانه لا يقبل منهم إلّا الإسلام أو السيف. وقيل : فارس والروم. ومعنى «يسلمون» : ينقادون ، لأنّ الروم نصارى ، وفارس مجوس ، يقبل منهم إعطاء الجزية. وعن قتادة : أنّهم ثقيف وهوازن ، وكان ذلك في عهد رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم. وقيل : هم أصحاب معاوية.
وقال صاحب المجمع : «الصحيح : أنّ المراد بالداعي في قوله : «ستدعون» هو النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ، لأنّه قد دعاهم بعد ذلك إلى غزوات كثيرة ، وقتال أقوام ذوي نجدة وشدّة ، مثل أهل حنين والطائف ومؤتة وتبوك وغيرها ، فلا معنى لحمل ذلك على ما
__________________
(١) مجمع البيان ٩ : ١١٥.
(٢) الروم : ٧.
بعد وفاته» (١).
(فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللهُ أَجْراً حَسَناً) هو الغنيمة في الدنيا ، والجنّة في الآخرة (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا) عن القتال (كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ) عن الحديبية (يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً) لتضاعف جرمكم.
ولمّا أوعد على التخلّف نفى الحرج عن المعذورين ، فقال :
(لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ) ضيق في ترك الخروج مع المؤمنين في الجهاد (وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ) فبهذه الآية عذّر الله أهل الزمانة والآفات الّذين تخلّفوا عن المسير إلى الحديبية ، ورخّصهم في التخلّف عن الغزو.
ثمّ فصّل الوعد والوعيد بعد الإجمال مبالغة فيهما ، لسبق رحمته للمطيعين ، وفرط عقابه على المتمرّدين ، فقال على سبيل التعميم :
(وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ) في الأمر بالقتال وغيره (يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَنْ يَتَوَلَ) عن أمر الله وأمر رسوله ، فيقعد عن الجهاد وغيره من أوامره (يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً). وقرأ نافع وابن عامر : ندخله بالنون.
(لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً (١٨) وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً (١٩) وَعَدَكُمُ اللهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ
__________________
(١) مجمع البيان ٩ : ١١٥ ـ ١١٦.
صِراطاً مُسْتَقِيماً (٢٠) وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللهُ بِها وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (٢١))
روي عن ابن عبّاس أنّه قال : إنّ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم خرج يريد مكّة ، فلمّا بلغ الحديبية وقفت ناقته ، فزجرها فلم تنزجر وبركت. فقال أصحابه : خلأت (١) الناقة.
فقال صلىاللهعليهوآلهوسلم : ما هذا لها عادة ، ولكن حبسها حابس الفيل. ودعا عمر بن الخطّاب ليرسله إلى أهل مكّة ، ليأذنوا له بأن يدخل مكّة ، ويحلّ من عمرته ، وينحر هديه.
فقال : يا رسول الله مالي بها حميم ، وإنّي أخاف قريشا لشدّة عداوتي إيّاها ، ولكن أدلّك على رجل هو أعزّ بها منّي : عثمان بن عفّان.
فقال : صدقت. فدعا رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم عثمان فأرسله إلى أبي سفيان وأشراف قريش يخبرهم أنّه لم يأت لحرب ، وإنّما جاء زائرا لهذا البيت ، معظّما لحرمته. فاحتبسته قريش عندها. فبلغ رسول الله والمسلمين أنّ عثمان قد قتل ، فقال صلىاللهعليهوآلهوسلم : لا نبرح حتّى نناجز القوم. ودعا الناس إلى البيعة ، فقام رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم إلى الشجرة ـ وكانت سمرة (٢) ـ فاستند إليها ، وبايع الناس على أن يقاتلوا المشركين ، ولا يفرّوا عنهم.
قال جابر بن عبد الله : لو كنت أبصر لأريتكم مكانها.
وقيل : كان رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم جالسا في أصل الشجرة ، وعلى ظهره غصن من أغصانها.
قال عبد الله بن المغفل : وكنت قائما على رأس رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ذلك اليوم ،
__________________
(١) أي : وقفت ولزمت مكانها ولم تنقد.
(٢) السمرة : شجرة من العضاه ، وليس في العضاه أجود خشبا منها. والعضاه : كلّ شجر يعظم وله شوك.
وبيدي غصن من الشجرة أذبّ عنه ، فرفعت الغصن عن ظهره ، فبايعوه على الموت دونه ، وعلى أن لا يفرّوا. فقال لهم رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : أنتم اليوم خير أهل الأرض. ولا شبهة أنّ هذا مشروط بعدم النكث والارتداد. وكان عدد المبايعين ألفا وخمسمائة وخمسة وعشرين. وقيل : ألفا وأربعمائة. وقيل : ألفا وثلاثمائة.
وروى الزهري وعروة بن الزبير والمسور بن مخزمة قالوا : خرج رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم من الحديبية في بضع عشرة مائة من أصحابه ، حتّى إذا كانوا بذي الحليفة قلّد رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم الهدي وأشعره ، وأحرم بالعمرة ، وبعث بين يديه عينا له من خزاعة يخبره عن قريش. وسار رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم حتّى إذا كان بغدير (١) الأشطاط قريبا من عسفان أتاه عينه الخزاعي فقال : إنّي تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي وغيرهما قد جمعوا لك الأحابيش (٢) وجمعوا جموعا ، وهم قاتلوك وصادّوك عن البيت.
فقال صلىاللهعليهوآلهوسلم : روحوا. فراحوا حتّى إذا كانوا ببعض الطريق قال النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم : إنّ خالد بن الوليد بالغميم (٣) في خيل لقريش طليعة ، فخذوا ذات اليمين. وسار صلىاللهعليهوآلهوسلم حتّى إذا كان بالثنيّة (٤) بركت راحلته ، فقال صلىاللهعليهوآلهوسلم : ما خلأت القصواء (٥) ، ولكن حبسها حابس الفيل ، فزجرها فوثبت به. قال : فعدل حتّى نزل بأقصى الحديبية
__________________
(١) غدير الأشطاط : قريب من عسفان. وعسفان : منهلة من مناهل الطريق ، وهي من مكّة على مرحلتين.
(٢) الأحابيش : الجماعة من الناس ليسوا من قبيلة واحدة.
(٣) الغميم : موضع بين مكّة والمدينة.
(٤) الثنيّة : طريق العقبة. والعقبة : المرقى الصعب من الجبال ، أو الطريق في أعلى الجبال.
(٥) القصواء : الناقة التي قطع طرف أذنها. وفي نهاية ابن الأثير (٤ : ٧٥) : «ولم تكن ناقة النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم قصواء ، وإنّما كان هذا لقبا لها. وقيل : كانت مقطوعة الأذن».
على ثمد (١) قليل الماء ، إنّما يتبرّضه (٢) الناس تبرّضا ، فشكوا إليه العطش ، فانتزع سهما من كنانته فركزه (٣) فيه ، فو الله ما زال يجيش (٤) لهم بالريّ حتّى صدورا عنه.
وبعث قريش حويطب بن عبد العزّى ، وبديل بن ورقاء الخزاعي ، وعروة بن مسعود الثقفي ، مع جماعة ، وابتدر عروة وجعل يكلّم النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وكلّما كلّمه أخذ بلحيته ، والمغيرة بن شعبة قائم على رأس النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ومعه السيف وعليه المغفرة (٥) ، فكلّما أهوى عروة بيده إلى لحية رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ضرب يده بنعل (٦) السيف وقال : أخّر يدك عن لحية رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم قبل أن لا ترجع إليك. فقال : من هذا؟ قال : المغيرة بن شعبة.
فخيّرهم رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم بين المصالحة إلى مدّة معيّنة ، ورجوعه عن مكّة إلى أن تنقضي المدّة ، وبين أن يدعوه وأصحابه أن يدخلوا مكّة ويطوفوا ويحلّوا ويرجعوا. ثمّ قال صلىاللهعليهوآلهوسلم : والّذي نفسي بيده لأقاتلنّهم على أمري هذا حتّى تنفرد سالفتي (٧) أو لينفذنّ الله عزوجل أمره.
فجعل عروة يرمق صحابة النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم : إذا أمرهم رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ابتدروا أمره ، وإذا توضّأ كادوا يقتتلون على وضوئه ، وإذا تكلّم خفضوا أصواتهم عنده ، وما يحدّون إليه النظر تعظيما له.
فرجع إلى قريش ، فقال لهم : والله لقد وفدت على الملوك ، وفدت على قيصر
__________________
(١) الثمد : الحفرة يجتمع فيها ماء المطر.
(٢) تبرّض الماء : ترشّفه ، أي : مصّه بشفتيه.
(٣) ركز الرمح ونحوه : غرزه في الأرض وأثبته.
(٤) أي : يفيض. والريّ والريّ : أن يشرب الماء حتّى يشبع.
(٥) المغفرة : زرد ـ أي : درع ـ يلبسه المحارب تحت القلنسوة.
(٦) نعل السيف : ما يكون في أسفل غمده من حديد أو فضّة.
(٧) السالفة : صفحة العنق. أراد صلىاللهعليهوآلهوسلم : حتّى يفرّق بين رأسي وجسدي.
وكسرى والنجاشي ، والله إن رأيت ملكا قطّ يعظّمه أصحابه ما يعظّم أصحاب محمّد محمدا ، إذا أمرهم ابتدروا أمره ، وإذا توضّأ كادوا يقتتلون على وضوئه ، وإذا تكلّم خفضوا أصواتهم عنده ، وما يحدّون إليه النظر تعظيما له. وإنّه قد عرض عليكم خطّة رشد فاقبلوها.
فقال رجل من بني كنانة : دعوني آته.
فقالوا : ائته. فلمّا أشرف عليهم قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم لأصحابه : هذا فلان ، وهو من قوم يعظّمون البدن (١) ، فابعثوها. فبعثت له. واستقبله القوم يلبّون ، فلمّا رأى ذلك قال : سبحان الله ما ينبغي لهؤلاء أن يصدّوا عن البيت.
فقام رجل منهم يقال له : مكرز بن حفص ، فقال : دعوني آته.
فقالوا : ائته. فلمّا أشرف عليهم قال النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم : هذا مكرز ، وهو رجل فاجر. فجعل يكلّم النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فبينا هو يكلّمه إذ جاء سهيل بن عمرو ، فقال صلىاللهعليهوآلهوسلم قد سهل عليكم أمركم.
فقال : اكتب بيننا وبينك كتابا.
فدعا رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم عليّ بن أبي طالب عليه الصلاة والسلام فقال له : اكتب : بسم الله الرحمن الرحيم.
فقال سهيل : أمّا الرحمن فو الله ما أدري ما هو. فهمّ المسلمون أن يأبوا ذلك ويبطشوا عليهم ، فأنزل الله سكينته عليهم فحلموا.
فقال النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم : من محمّد رسول الله.
فقال سهيل : لو كنّا نعلم أنّك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك ، ولكن اكتب : محمّد بن عبد الله.
فقال النبيّ : إنّي لرسول الله وإن كذّبتموني.
__________________
(١) البدن جمع البدنة : الناقة أو البقرة المسمّنة.
ثمّ قال لعليّ عليهالسلام : امح : رسول الله.
فقال له : يا رسول الله إنّ يدي لا تنطلق بمحو اسمك من النبوّة.
فأخذه رسول الله فمحاه. ثمّ قال : اكتب : هذا ما قاضى عليه محمّد بن عبد الله سهيل بن عمرو ، واصطلحا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين ، يأمن فيهنّ الناس ، ويكفّ بعضهم عن بعض. وعلى أنّه من قدم مكّة من أصحاب محمّد حاجّا أو معتمرا ، أو يبتغي من فضل الله فهو آمن على دمه وماله ، ومن أحبّ أن يدخل في عقد محمّد وعهده دخل فيه ، ومن أحبّ أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه.
فتواثبت بنو خزاعة فقالوا : نحن في عقد محمّد وعهده. وتواثبت بنو بكر فقالوا : نحن في عقد قريش وعهدهم.
فقال صلىاللهعليهوآلهوسلم : على أن تخلّوا بيننا وبين البيت فنطوف.
فقال سهيل : ذلك من العام المقبل.
ثمّ قال سهيل : على أنّه لا يأتيك منّا رجل وإن كان على دينك إلّا رددته إلينا ، ومن جاءنا ممّن معك لم نردّه عليك.
فقال المسلمون : سبحان الله كيف يردّ إلى المشركين وقد جاء مسلما؟! فقال صلىاللهعليهوآلهوسلم : من جاءهم منّا فأبعده الله ، ومن جاءنا منهم رددناه إليهم ، فلو علم الله الإسلام من قلبه جعل له مخرجا.
فقال سهيل : وعلى أنّك ترجع عنّا عامك هذا ، فلا تدخل علينا مكّة. فإذا كان عام قابل خرجنا عنها لك ، فدخلتها بأصحابك ، فأقمت بها ثلاثا. ولا تدخلها بالسلاح ، إلّا السيوف في القراب (١) وسلاح الراكب. وعلى أنّ هذا الهدي حيث ما حبسناه محلّه ، لا تقدّمه علينا.
__________________
(١) القراب : الغمد ، أي : جفن السيف.
فقال صلىاللهعليهوآلهوسلم : نحن نسوق ، وأنتم تردّون.
قال عمر بن الخطّاب : ما شككت مذ أسلمت إلّا يومئذ ، فأتيت النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم فقلت : أَلست نبيّ الله؟
قال : بلى.
قلت : ألسنا على الحقّ ، وعدوّنا على الباطل؟
قال : بلى.
قلت : فلم نعطي الدنيّة في ديننا إذا؟
قال : إنّي رسول الله ، ولست أعصيه ، وهو ناصري.
قلت : أو لست كنت تحدّثنا أنّا سنأتي البيت ونطوف به؟
قال : بلى. أَفأخبرتك أنّك تأتيه العام؟
قلت : لا.
قال : فإنّك تأتيه وتطوف به. فنحر رسول الله بدنة ، ودعا بحالقه ، فحلق شعره ، ثمّ رجع مع أصحابه.
وأخبر سبحانه مجملا عمّا ذكرنا مفصّلا ، فقال : (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ) شجرة السمرة (فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ) من الإخلاص وصدق الضمائر فيما بايعوا (فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ) الطمأنينة وسكون النفس بالتشجيع أو الصلح (عَلَيْهِمْ) على قلوبهم. والمراد بإنزالها اللطف المقوّي لها. (وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً) فتح خيبر غبّ انصرافهم من مكّة. وقيل : مكّة. وعن الحسن : فتح حجر. وهو أجلّ فتح اتّسعوا بثمرها زمانا. والأوّل أصحّ وأشهر.
(وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها) يعني : مغانم خيبر وكانت أرضا ذات عقار وأموال ، فقسّمها رسول الله عليهم. (وَكانَ اللهُ عَزِيزاً) غالبا قاهرا (حَكِيماً) مراعيا مقتضى الحكمة.
(وَعَدَكُمُ اللهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها) وهي ما يفيء على المؤمنين إلى يوم القيامة (فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ) يعني : مغانم خيبر (وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ) أيدي أهل خيبر وحلفائهم من بني أسد وغلطفان حين جاءوا لنصرتهم ، فقذف في قلوبهم الرعب فنكصوا. أو أيدي قريش بالصلح.
(وَلِتَكُونَ) هذه الكفّة ، أو الغنيمة (آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ) أمارة يعرفون بها أنّهم من الله بمكان ، وأنّه ضامن نصرهم والفتح عليهم. أو صدق الرسول في وعدهم بفتح خيبر في حين رجوعه من الحديبية ، أو وعد المغانم.
قيل : رأى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فتح مكّة في منامه ـ ورؤيا الأنبياء وحي ـ فتأخّر ذلك إلى السنة القابلة ، فجعل فتح خيبر علامة وعنوانا لفتح مكّة.
وهو علّة الكفّ ، أو «عجّل» ، معطوف على محذوف ، مثل : لتسلموا ، أو لتأخذوا. أو العلّة لمحذوف تقديره : وليكون آية للمؤمنين فعل ذلك.
(وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً) ويزيدكم بصيرة ويقينا وثقة بفضل الله والتوكّل عليه ، من عدة الله في القرآن بالفتح والغنيمة.
(وَأُخْرى) ومغانم اخرى. معطوفة على «هذه». أو منصوبة بفعل يفسّره (قَدْ أَحاطَ اللهُ بِها) مثل : قضى. ويحتمل رفعها بالابتداء ، لأنّها موصوفة. وجرّها بإضمار «ربّ» أي : ربّ مغانم اخرى. (لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها) لما كان فيها من الشدّة العظيمة والصعوبة التامّة (قَدْ أَحاطَ اللهُ بِها) قد علم بها وقدر عليها واستولى ، فأظفركم بها وغنّمكموها. وهو مغانم هوازن في غزوة حنين ، ومغانم فارس. (وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً) لأنّ قدرته ذاتيّة لا تختصّ بشيء دون شيء.
وبيان قصّة وقعة خيبر على ما روى كبراء المفسّرين وعظماء المؤرّخين : أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم لمّا قدم المدينة من الحديبية مكث بها عشرين ليلة ، ثمّ خرج منها قاصدا إلى خيبر.
ورووا عن ابن إسحاق بإسناده ، عن أبي مروان الأسلمي ، عن أبيه ، عن جدّه قال : خرجنا مع رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم إلى خيبر ، حتّى إذا أشرفنا عليها قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : قفوا. فوقف الناس. فقال : اللهمّ ربّ السماوات السبع وما أظللن ، وربّ الأرضين السبع وما أقللن ، وربّ الشياطين وما أضللن ، إنّا نسألك خير هذه القرية وخير أهلها وخير ما فيها ، ونعوذ بك من شرّ هذه القرية وشرّ أهلها وشرّ ما فيها. أقدموا بسم الله.
وعن سلمة بن الأكوع قال : خرجنا مع رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم إلى خيبر ، فسرنا ليلا ، فلمّا جدّ الحرب وتصافّ القوم خرج يهوديّ وهو يقول :
قد علمت خيبر أنّي مرحب |
|
شاكي السلاح بطل مجرّب |
إذا الحروب أقبلت تلهّب
فبرز إليه عامر بن الأكوع وهو يقول :
قد علمت خيبر أنّي عامر |
|
شاكي السلاح بطل مغامر |
فاختلفا ضربتين ، فوقع سيف اليهوديّ في ترس عامر ، وكان سيف عامر فيه قصر ، فتناول به ساق اليهوديّ ليضربه ، فرجع ذباب (١) سيفه فأصاب عين ركبة عامر ، فمات منه.
قال سلمة : فإذا نفر من أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يقولون : بطل عمل عامر قتل نفسه.
قال : فأتيت النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم وأنا أبكي ، فقلت : قالوا : إنّ عامرا بطل عمله.
فقال : من قال ذلك؟
قلت : نفر من أصحابك.
فقال : كذب أولئك ، بل أوتي من الأجر مرّتين.
__________________
(١) ذباب السيف : طرفه الّذي يضرب به.
قال : فحاصرناهم حتّى أصابتنا مخمصة شديدة. ثمّ إنّ الله فتحها علينا.
وذلك أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم أعطى اللواء عمر بن الخطّاب ، ونهض من نهض معه من الناس ، فلقوا أهل خيبر ، فانكشف عمر وأصحابه ، فرجعوا إلى رسول الله ، يجبّنه أصحابه ويجبّنهم. وكان رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أخذته الشقيقة ، فلم يخرج إلى الناس ، فقال حين أفاق من وجعه : ما فعل الناس بخيبر؟ فأخبر. فقال : لأعطينّ الراية غدا رجلا يحبّ الله ورسوله ، ويحبّه الله ورسوله ، كرّارا غير فرّار ، لا يرجع حتّى يفتح الله على يديه.
وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما ، عن قتيبة بن سعيد قال : حدّثنا يعقوب بن عبد الرحمن الاسكندراني ، عن أبي حازم ، قال : أخبرني سهل بن سعد : «أنّ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم قال يوم خيبر : لاعطينّ هذه الراية غدا رجلا يفتح الله على يديه ، يحبّ الله ورسوله ، ويحبّه الله ورسوله.
قال : فبات الناس يدوكون (١) بجملتهم أيّهم يعطاها. فلمّا أصبح الناس غدوا على رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم كلّهم يرجون أن يعطاها.
فقال : أين عليّ بن أبي طالب؟
فقالوا : يا رسول الله يشتكي عينيه.
قال : فأرسلوا إليه ، فأتي به ، فبصق رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم في عينيه ، ودعا له ، فبرىء حتّى كأن لم يكن به وجع ، فأعطاه الراية.
فقال عليّ عليهالسلام : يا رسول الله أقاتلهم حتّى يكونوا مثلنا؟ قال : أنفذ على رسلك (٢) حتّى تنزل بساحتهم ، ثمّ ادعهم إلى الإسلام ، وأخبرهم بما يجب عليهم من حقّ الله ، فو الله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من أن يكون حمر النعم.
__________________
(١) داك القوم : خاضوا واضطربوا وماجوا.
(٢) الرسلة : التمهّل والتؤدة والرفق. يقال : على رسلك ، أي : على مهلك وتأنّ.
قال سلمة : فبرز مرحب وهو يقول : قد علمت خيبر أنّي مرحب ... (١) الأبيات. فبرز له عليّ عليهالسلام وهو يقول :
أنا الّذي سمّتني أمّي حيدرة |
|
كليث غابات كريه المنظرة |
أو فيهم بالصاع كيل السندرة (٢) |
|
أكيلكم بالسيف كيل السندرة |
فضرب مرحبا ففلق رأسه فقتله ، وكان الفتح على يده».
وروى أبو عبد الله الحافظ بإسناده عن أبي رافع مولى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم قال : خرجنا مع عليّ عليهالسلام حين بعثه رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فلمّا دنا من الحصن خرج إليه أهله ، فقاتلهم فضربه رجل من اليهود فطرح ترسه من يده ، فتناول عليّ باب الحصن فتترّس به عن نفسه ، فلم يزل في يده وهو يقاتل حتّى فتح الله عليه ، ثمّ ألقاه من يده. فلقد رأيتني في نفر مع سبعة ـ أنا ثامنهم ـ نجهد على أن نقلب ذلك الباب فما استطعنا أن نقلبه.
وبإسناده عن ليث بن أبي سليم ، عن أبي جعفر محمّد بن عليّ عليهالسلام قال : «حدّثني جابر بن عبد الله أنّ عليّا عليهالسلام حمل الباب يوم خيبر حتّى صعد المسلمون عليه فافتتحوها ، وأنّه حرّك بعد ذلك فلم يحمله أربعون رجلا».
قال : وروي من وجه آخر عن جابر : ثمّ اجتمع عليه سبعون رجلا فكان جهدهم أن أعادوا الباب.
وبإسناده عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال : كان عليّ عليهالسلام يلبس في الحرّ والشتاء القباء المحشوّ الثخين ، وما يبالي الحرّ. فأتاني أصحابي فقالوا : إنّا رأينا من
__________________
(١) ورد صدر الحديث في صحيح البخاري ٥ : ١٧١ ، وذيله من قوله : «قال سلمة ...» في صحيح مسلم ٣ : ١٤٤١.
(٢) السندرة : ضرب من الكيل ضخم. يقال : أكيلكم بالسيف كيل السندرة ، يعني : أقتلكم قتلا واسعا ذريعا.
أمير المؤمنين عليهالسلام شيئا ، فهل رأيت؟
فقلت : وما هو؟
قالوا : رأيناه يخرج علينا في الحرّ الشديد في القباء المحشوّ الثخين ، وما يبالي الحرّ ، ويخرج علينا في البرد الشديد في الثوبين الخفيفين ، وما يبالي البرد.
فهل سمعت في ذلك شيئا؟
فقلت : لا.
فقالوا : فسل لنا أباك عن ذلك.
فسألته. فقال : ما سمعت في ذلك شيئا. فدخل على عليّ عليهالسلام ، فسمر معه ، ثمّ سأله عن ذلك. فقال : أو ما شهدت معنا خيبر؟
فقلت : بلى.
قال : أو ما رأيت رسول الله حين دعا أبا بكر ، فعقد له وبعثه إلى القوم ، فانطلق فلقي القوم ، ثمّ جاء بالناس وقد هزموا؟
فقال : بلى.
قال : ثمّ بعث إلى عمر فعقد له ، ثمّ بعثه إلى القوم ، فانطلق فلقي القوم فقاتلهم ، ثمّ رجع وقد هزم. فقال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : لأعطينّ الراية اليوم رجلا يحبّ الله ورسوله ، ـ ويحبّه الله ورسوله ، يفتح الله على يديه ، كرّارا غير فرّار. فدعاني فأعطاني الراية ، ثمّ قال : اللهمّ اكفه الحرّ والبرد. فما وجدت بعد ذلك بردا ولا حرّا.
وهذا كلّه أيضا منقول من كتاب دلائل (١) النبوّة للإمام أبي بكر البيهقي.
ثمّ لم يزل رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يفتح الحصون حصنا حصنا ، ويحوز الأموال ، حتّى انتهوا إلى حصن الوطيح والسلالم ، وكان آخر حصون خيبر ، افتتح ، وحاصرهم رسول الله بضع عشرة ليلة.
__________________
(١) دلائل النبوّة ٤ : ٢١٢ ـ ٢١٣.
قال ابن إسحاق : ولمّا افتتح القموص حصن ابن أبي الحقيق ، أتي رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم بصفيّة بنت حييّ بن أخطب وبأخرى معها. فمرّ بهما بلال ـ وهو الّذي جاء بهما ـ على قتلى من قتلى يهود ، فلمّا رأتهم الّتي معها صفيّة صاحت وصكّت وجهها ، وحثت التراب على رأسها. فلمّا رآها رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم قال : اغربوا (١) عنّي هذه الشيطانة. وأمر بصفيّة فحيزت خلفه ، وألقى عليها رداءه. فعرف المسلمون أنّه قد اصطفاها لنفسه.
وقال صلىاللهعليهوآلهوسلم لبلال لمّا رأى من تلك اليهوديّة ما رأى : أنزعت منك الرحمة يا بلال ، حيث تمرّ بامرأتين على قتلى رجالهما؟
وكانت صفيّة قد رأت في المنام ، وهي عروس بكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق ، أنّ قمرا وقع في حجرها ، فعرضت رؤياها على زوجها. فقال : ما هذا إلّا أنّك تتمنّين ملك الحجاز محمّدا ، ولطم وجهها لطمة اخضرّت عينها منها. فأتي بها رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وبها أثر منها. فسألها رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ما هو؟ فأخبرته.
وأرسل ابن أبي الحقيق إلى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : انزل فأكلّمك. قال : نعم. فنزل وصالح رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم على حقن دماء من في حصونهم من المقاتلة ، وترك الذرّيّة لهم ، ويخرجون من خيبر وأرضها بذراريهم ، ويخلّون بين رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وبين ما كان لهم من مال وأرض ، وعلى الصفراء والبيضاء ، والكراع (٢) والحلقة ، وعلى البزّ (٣) إلّا ثوبا على ظهر إنسان.
وقال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : فبرئت منكم ذمّة الله وذمّة رسوله إن كتمتموني شيئا. فصالحوه على ذلك.
__________________
(١) اغرب عنّي ، أي : تباعد.
(٢) الكراع : اسم يطلق على الخيل والبغال والحمير. والحلقة : الدرع.
(٣) البزّ : الثياب.
فلمّا سمع بهم أهل فدك قد صنعوا ما صنعوا ، بعثوا إلى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يسألونه أن يسيّرهم ، ويحقن دماءهم ، ويخلّون بينه وبين الأموال. ففعل. وكان ممّن مشى بين رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وبينهم في ذلك محيّصة بن مسعود ، أحد بني حارثة.
فلمّا نزل أهل خيبر على ذلك سألوا رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أن يعاملهم الأموال على النصف. وقالوا : نحن أعلم بها منكم وأعمر لها. فصالحهم رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم على النصف ، على أنّا إذا شئنا أن نخرجكم أخرجناكم. وصالحه أهل فدك على مثل ذلك. فكانت أموال خيبر فيئا بين المسلمين. وكانت فدك خالصة لرسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، لأنّهم لم يوجفوا عليها بخيل ولا ركاب.
ولمّا اطمأنّ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أهدت له زينب بنت الحارث امرأة سلام بن مشكم ـ وهي ابنة أخي مرحب ـ شاة مصليّة (١) ، وقد سألت : أيّ عضو من الشاة أحبّ إلى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم؟ فقيل لها : الذراع. فأكثرت فيها السمّ ، وسمّت سائر الشاة ، ثمّ جاءت بها. فلمّا وضعتها بين يديه تناول الذراع ، فأخذها فلاك منها مضغة ، وانتهش منها ، ومعه بشر بن البراء بن معرور ، فتناول عظما ، فانتهش منه.
فقال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : ارفعوا أيديكم ، فإنّ كتف هذه الشاة تخبرني أنّها مسمومة. ثمّ دعاها فاعترفت.
فقال : ما حملك على ذلك؟
فقالت : بلغت من قومي ما لم يخف عليك ، فقلت : إن كان نبيّا فسيخبر ، وإن كان ملكا استرحت منه.
فتجاوز عنها رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ومات بشر بن البراء من أكلته الّتي أكل.
قال : ودخلت أمّ بشر بن البراء على رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم تعوده في مرضه الّذي توفّي فيه ، فقال صلىاللهعليهوآلهوسلم : يا أمّ بشر ما زالت أكلة خيبر الّتي أكلت بخيبر مع ابنك
__________________
(١) صلى اللحم : شواه ، فاللحم مصليّ.
تعاودني ، فهذا أوان قطعت أبهري (١). وكان المسلمون يرون أنّ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم مات شهيدا ، مع ما أكرمه الله به من النبوّة.
(وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (٢٢) سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً (٢٣) وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (٢٤))
ثمّ ذكر نصرة أهل الإيمان على المشركين ، فقال : (وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) من أهل مكّة يوم الحديبية ، ولم يصالحوا. وقيل : من حلفاء أهل خيبر. (لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ) لا نهزموا وغلبوا (ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا) يحرسهم (وَلا نَصِيراً) ينصرهم.
وفي الآية دلالة على أنّه يعلم ما لم يكن أن لو كان كيف يكون ، وإشارة إلى أنّ المعدوم معلوم عنده.
(سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ) أي : سنّ غلبة أنبيائه سنّة قديمة فيمن مضى من الأمم ، كما قال : (لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي) (٢) (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً) في نصرة الله تغييرا.
(وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ) أيدي كفّار مكّة بالرعب (وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ)
__________________
(١) الأبهر : وريد العنق ، إذا انقطع لم يبق صاحبه. يقال : ما زال يراجعه الألم حتّى قطع أبهره ، أي : أهلكه.
(٢) المجادلة : ٢١.
بالنهي (بِبَطْنِ مَكَّةَ) يوم الحديبية ، فإن بعضها من الحرم. وروي أنّ مضارب (١) رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم كانت في الحلّ ، ومصلّاه في الحرم.
(مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ) أظهركم عليهم. وذلك أنّ عكرمة بن أبي جهل خرج في خمسمائة إلى الحديبية ، فبعث رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم خالد بن الوليد على جند ، فهزمهم حتّى أدخلهم حيطان مكّة ثمّ عاد.
وعن ابن عبّاس : أظهر الله المسلمين عليهم بالحجارة حتّى أدخلوهم البيوت.
وعن عبد الله بن المغفل : كان رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم جالسا في ظلّ شجرة ، وبين يديه عليّ عليهالسلام يكتب كتاب الصلح ، فخرج ثلاثون شابّا عليهم السلاح ، فدعا عليهم رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فأخذ الله تعالى بأبصارهم ، فقمنا فأخذناهم ، فخلّى عليهالسلام سبيلهم.
وقيل : كان ذلك يوم الفتح.
(وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ) من مقاتلتهم أوّلا طاعة لرسوله ، وكفّهم ثانيا لتعظيم بيته. وقرأ أبو عمرو بالياء. (بَصِيراً) فيجازيهم عليه.
(هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (٢٥) إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ
__________________
(١) أي : مواضع خيامه.
الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٢٦))
ثمّ ذكر سبحانه سبب منعه رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ذلك العام دخول مكّة ، فقال :
(هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) أن تطوفوا وتحلّوا من عمرتكم (وَالْهَدْيَ) ما يهدى إلى مكّة. وهي البدن الّتي ساقها رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم معه ، وكانت سبعين بدنة. عطف على الضمير المنصوب في «صدّوكم» أي : صدّوا الهدي.
(مَعْكُوفاً) محبوسا (أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ) أي : مكانه الّذي يحلّ فيه نحره ـ أي : يجب ـ يعني : مكّة ، لأنّ هدي العمرة لا يذبح إلّا بمكّة ، كما أنّ هدي الحجّ لا يذبح إلّا بمنى.
(وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ) يعني : المستضعفين الّذين كانوا بمكّة بين الكفّار من أهل الإيمان ، غير مستطيعين للمهاجرة عنهم (لَمْ تَعْلَمُوهُمْ) صفة للرجال والنساء جميعا. والتذكير للتغليب ، أي : لم تعرفوا المؤمنين والمؤمنات بأعيانهم ، لاختلاطهم بالمشركين. (أَنْ تَطَؤُهُمْ) أن توقعوا بهم وتبيدوهم ، فإنّ الوطء والدوس عبارة عن الإيقاع والإبادة. وهو بدل اشتمال من «رجال ونساء». أو من ضمير «هم» في «تعلموهم».
(فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ) من جهتهم مكروه ، كوجوب الدية والكفّارة بقتلهم ، والتأسّف عليهم ، وتعيير الكفّار بأنّهم فعلوا بأهل دينهم ما فعلوا بنا ، والإثم بالتقصير في البحث عنهم. مفعلة من : عرّه إذا أغراه ، أي : أصابه ما يكرهه.
(بِغَيْرِ عِلْمٍ) متعلّق بـ «أن تطؤهم» أي : تطؤهم غير عالمين بهم.
وجواب «لولا» محذوف ، لدلالة الكلام عليه. والمعنى : لولا كراهة أن تهلكوا أناسا مؤمنين بين اظهر المشركين ، جاهلين بهم ، لاختلاطهم بالكافرين ، غير متميّزين منهم ، ولا معروفي الأماكن ، فيصيبكم بإهلاكهم مكروه ومشقّة ، لما كفّ أيديكم عنهم.
وقوله : (لِيُدْخِلَ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ) علّة لما دلّ عليه كفّ الأيدي عن أهل مكّة صونا لمن فيها من المؤمنين ، أي : كان الكفّ ومنع التعذيب ليدخل الله في رحمته ـ أي : في توفيقه للسلامة من القتل ، ولزيادة الخير والطاعة ـ (مَنْ يَشاءُ) من مؤمنيهم.
(لَوْ تَزَيَّلُوا) لو تفرّقوا ، وتميّز بعضهم من بعض. من : زاله يزيله. (لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً) بالقتل والسبي. فلحرمة اختلاط المؤمنين بالمشركين لم يعذّب الله المشركين.
(إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا) مقدّر بـ : اذكر. أو ظرف لـ «لعذّبنا» أو «صدّوكم».
(فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ) الخصلة الّتي تحمي الإنسان ، أي : حميت قلوبهم بالغضب.
والمراد : أنفتهم واستنكافهم من الإقرار بالرسالة ، والاستفتاح ببسم الله الرحمن الرحيم.
ثمّ فسّر تلك الحميّة بقوله : (حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ) أي : عادة آبائهم في الجاهليّة أن لا يذعنوا لأحد ، ولا ينقادوا له ، ويمتنعوا عن اتّباعه وإن كان في الحقّ.
(فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ) الثبات والوقار (عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ) وذلك حين قال النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم لعليّ عليهالسلام : اكتب في صكّ المصالحة : بسم الله الرحمن الرحيم.
فقال سهيل : ما نعرف هذا ، ولكن اكتب : باسمك اللهمّ.
ثمّ قال : اكتب : هذا ما صالح عليه رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أهل مكّة.
فقالوا : لو كنّا نعلم أنّك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك ، ولكن