زبدة التّفاسير - ج ٦

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني

زبدة التّفاسير - ج ٦

المؤلف:

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني


المحقق: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-7777-08-6
ISBN الدورة:
964-7777-02-5

الصفحات: ٦٤٠

(وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ) لأنّه حين الاضطرار زال ما ينازع العقل في الدلالة على أنّ مبدأ الكلّ منه (ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ) أعطاه. من الخول ، وهو التعهّد ، من قولهم : هو خائل مال وخال مال ، إذا كان متعهّدا له حسن القيام به.

ومنه : ما روي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه كان يتخوّل أصحابه بالموعظة.

أو من الخول ، وهو الافتخار. يقال : خال يخول إذا اختال وافتخر.

(نِعْمَةً مِنْهُ) من الله ، كالصّحة والثروة والأمن (نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ) أي : الضرّ الّذي كان يدعو الله إلى كشفه. أو ربّه الّذي كان يتضرّع إليه. فـ «ما» بمعنى «من» كما في قوله : (وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) (١). (مِنْ قَبْلُ) من قبل النعمة (وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً) أي : سمّى له أمثالا في توجيه عبادته إليها من الأصنام والأوثان (لِيُضِلَ) ليضلّ الناس (عَنْ سَبِيلِهِ) عن دينه.

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وورويس بفتح الياء ، أي : يضلّ هو عن الدين. يعني : أنّ نتيجة جعله لله أندادا ضلاله عن سبيل الله أو إضلاله.

(قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً) أمر تهديد. وفيه إشعار بأنّ الكفر نوع تشهّ لا سند له. وإقناط للكافر من التمتّع في الآخرة. ولذلك علّله بقوله : (إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ) على سبيل الاستئناف للمبالغة. وهذا من باب الخذلان والتخلية. كأنّه قيل له : إذ قد أبيت قبول ما أمرت به من الإيمان والطاعة ، فمن حقّك أن لا تؤمر به بعد ذلك ، وتؤمر بتركه ، مبالغة في خذلانه وتخليته وشأنه ، لأنّه لا مبالغة في الخذلان أشدّ من أن يبعث على عكس ما أمر به. ونظيره في المعنى قوله : (مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ) (٢).

(أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ) «أم» متّصلة بمحذوف ، تقديره : أَهذا الكافر الّذي

__________________

(١) الليل : ٣.

(٢) آل عمران : ١٩٧.

٦١

ذكر وصفه خير (أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ) أي : قائم بوظائف الطاعات ، دائم على رسوم العبادات (آناءَ اللَّيْلِ) ساعاته. وقرأ الحجازيّان وحمزة بتخفيف الميم ، أي : أمّن هو قانت لله كمن جعل له أندادا؟! (ساجِداً) تارة في الصلاة (وَقائِماً) اخرى فيها. وهما حالان من ضمير «قانت». يعني : من صلّى صلاة الليل ويقنت في الوتر. وهو دعاء المصلّي قائما. وفي الحديث : «أفضل الصلاة طول القنوت».

(يَحْذَرُ الْآخِرَةَ) عذابها (وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ) أي : يتردّد بين الخوف والرجاء. وهما في موضع الحال ، أو استئناف للتعليل.

ثمّ نفى استواء الفريقين باعتبار القوّة العلميّة ، بعد نفي استوائهما باعتبار القوّة العمليّة ، على وجه أبلغ ، لمزيد فضل العلم ، فقال :

(قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) وأراد بالّذين يعلمون العاملين من علماء الديانة ، فكأنّه جعل من لا يعمل غير عالم. وفيه ازدراء عظيم بالّذين يقتنون العلوم ، ثمّ لا يقتنون ويفتنون ، ثمّ يفتنون بالدنيا ، فهم عند الله جهلة ، حيث جعل القانتين هم العالمين المتقنين.

وقيل : هذا تقرير للأوّل على سبيل التشبيه ، أي : كما لا يستوي العالمون والجاهلون ، لا يستوي القانتون والعاصون.

(إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ) بأمثال هذه البيانات.

روي عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنّه قال : «نحن الّذين يعلمون ، وعدوّنا الّذين لا يعلمون ، وشيعتنا أولو الألباب».

(قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللهِ واسِعَةٌ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ (١٠)

٦٢

قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (١١) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (١٢) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٣) قُلِ اللهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي (١٤) فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (١٥) لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذلِكَ يُخَوِّفُ اللهُ بِهِ عِبادَهُ يا عِبادِ فَاتَّقُونِ (١٦))

(قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ) عقاب ربّكم بلزوم طاعته واجتناب معاصيه. وفيه دلالة على أنّ الإيمان يبقى مع المعصية.

ثمّ قال في مكافأة اتّقائهم : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ) مثوبة جميلة غير مكتنهة بالوصف في الآخرة. وهي الخلود في الجنّة. وقد علّق السدّي الظرف بـ «حسنة». ومعناه : لهم في هذه الدنيا ثناء حسن ، وذكر جميل ، وصحّة وسلامة وعافية.

(وَأَرْضُ اللهِ واسِعَةٌ) فمن تعسّر عليه التوفّر على الإحسان في وطنه ، فليهاجر إلى حيث يتمكّن منه. يعني : لا عذر للمفرّطين في الإحسان البتّة ، حتّى إن اعتلوا بأوطانهم وبلادهم ، وأنّهم لا يتمكّنون فيها من التوفّر على الإحسان وصرف الهمم إليه ، فعليهم التحوّل إلى بلاد أخر ، والاقتداء بالأنبياء الصالحين في مهاجرتهم

٦٣

إلى غير بلادهم ، ليزدادوا إحسانا إلى إحسانهم وطاعة إلى طاعتهم.

وقيل : نزلت في الّذين كانوا في بلاد المشركين ، فأمروا بالمهاجرة عنه ، كقوله تعالى : (أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها) (١).

وقيل : هي أرض الجنّة. يعني : أرض الجنّة واسعة ، فاطلبوها بالأعمال الصالحة.

(إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ) على مشاقّ الطاعة ، من احتمال البلاء ، ومهاجرة الأوطان والعشائر والأصدقاء (أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ) أجرا لا يهتدي إليه حساب الحسّاب. وقيل : بغير مكيال ولا ميزان.

وعن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ الله ينصب الموازين يوم القيامة ، فيؤتى بأهل الصلاة فيوفّون أجورهم بالموازين ، ويؤتى بأهل الصدقة فيوفّون أجورهم بالموازين ، ويؤتى بأهل الحجّ فيوفّون أجورهم بالموازين ، ويؤتى بأهل البلاء ، فلا ينصب لهم ميزان ولا ينشر لهم ديوان ، ويصبّ عليهم الأجر صبّا. قال الله تعالى : (إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ) حتّى يتمنّى أهل العافية في الدنيا أنّ أجسادهم تقرض بالمقاريظ ممّا يذهب به أهل البلاء من الفضل».

وروى العيّاشي أيضا بالإسناد عن عبد الله بن سنان ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إذا نشرت الدواوين ، ونصبت الموازين ، لم ينصب لأهل البلاء ميزان ، ولم ينشر لهم ديوان. ثمّ تلا هذه الآية».

(قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ) موحّدا له (وَأُمِرْتُ) بذلك (لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ) لأجل أن أكون مقدّمهم في الدنيا والآخرة ، لأن قصب السبق في الدين بالإخلاص. أو لأن أكون من دعا نفسه إلى ما دعا إليه غيره ، لأكون مقتدى بي في قولي وفعلي جميعا ، ولا تكون صفتي صفة الملوك الّذين

__________________

(١) النساء : ٩٧.

٦٤

يأمرون بما لا يفعلون. أو أكون أوّل من خالف قريشا في خلع الأصنام وحطمها. أو أكون أوّل الّذين دعوتهم إلى الإسلام إسلاما.

والأمران المذكوران ليسا بواحد ، لاختلاف جهتيهما. وبيان ذلك : أنّ الأمر بالإخلاص وتكليفه شيء ، والأمر به ليحرز القائم به قصب السبق في الدين شيء.

وإذا اختلف وجها الشيء وصفتاه ، نزّل بذلك منزلة شيئين مختلفين ، فعطف الأمر الثاني على الأوّل ، لمغايرته إيّاه بتقييده بالعلّة. وفيه إشعار بأنّ العبادة المقرونة بالإخلاص وإن اقتضت لذاتها أن يؤمر بها ، فهي أيضا تقتضيه ، لما يلزمها من السبق في الدين.

ويجوز أن تجعل اللام مزيدة ، كما في : أردت لأن أفعل ، كأنّها زيدت عوضا من ترك الأصل ـ الّذي هو المصدر ـ إلى ما يقوم مقامه ، كما عوّض السين في : اسطاع ، عوضا من ترك الأصل الّذي هو : أطوع. والدليل على هذا الوجه مجيئه بغير لام في قوله : (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (١) (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (٢) (أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ). فيكون أمرا بالتقدّم في الإخلاص ، والبدء بنفسه في الدعاء إليه بعد الأمر به.

(قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي) بترك الإخلاص ، والميل إلى ما أنتم عليه من الشرك والرياء (عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) لعظمة ما فيه.

(قُلِ اللهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي) أمر بالإخبار عن إخلاصه ، وأن يكون مخلصا له دينه ، بعد الأمر بالإخبار عن كونه مأمورا بالعبادة والإخلاص ، خائفا عن المخالفة من العقاب ، قطعا لأطماعهم. ولذلك رتّب عليه قوله : (فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ) تهديدا وخذلانا لهم. فمنطوق هذه الآية غير منطوق قوله : (إِنِّي أُمِرْتُ

__________________

(١) يونس : ٧٢ و١٠٤.

(٢) يونس : ٧٢ و١٠٤.

٦٥

أَنْ أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ) فلا يلزم التكرير.

(قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ) الكاملين في الخسران ، الجامعين لوجوهه وأسبابه (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) لوقوعها في هلكة لا هلكة بعدها بسبب الضلال (وَأَهْلِيهِمْ) وخسروهم بالإضلال كما خسروا أنفسهم بالضلال (يَوْمَ الْقِيامَةِ) حين يدخلون النار بدل الجنّة.

وقيل : وخسروا أهليهم ، لأنّهم إن كانوا من أهل النار فقد خسروهم كما خسروا أنفسهم ، وإن كانوا من أهل الجنّة فقد ذهبوا عنهم ذهابا لا رجوع بعده إليهم ، فلا ينتفعون بأنفسهم ، ولا يجدون في النار أهلا كما كان لهم في الدنيا أهل ، فقد فاتتهم المنفعة بأنفسهم وأهليهم.

وعن ابن عبّاس : إنّ الله تعالى جعل لكلّ إنسان في الجنّة منزلا وأهلا ، فمن عمل بطاعته كان له ذلك ، ومن عصاه دفع منزله إلى من أطاع. فذلك قوله. (أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ) (١) الآية.

(أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ) مبالغة في خسرانهم ، حيث استأنف الجملة ، وصدّرها بحرف التنبيه ، ووسّط الفصل بين المبتدإ والخبر ، وعرّف الخسران ، ووصفه بالمبين.

ثمّ شرح كمال خسرانهم بقوله : (لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ) أي : أطباق وسرادقات (٢) (مِنَ النَّارِ) ودخانها (وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ) من النار ، هي ظلل للآخرين ، فإنّ النار أدراك (ذلِكَ يُخَوِّفُ اللهُ بِهِ عِبادَهُ) ذلك العذاب هو الّذي يخوّفهم به ، ليجتنبوا ما يوقعهم فيه (يا عِبادِ فَاتَّقُونِ) ولا تتعرّضوا لما يوجب سخطي. وهذه نصيحة بالغة ، وعظة بليغة من الله سبحانه.

__________________

(١) المؤمنون : ١٠.

(٢) سرادقات جمع سرادق : الفسطاط الّذي يمدّ فوق صحن البيت ، أو الخيمة.

٦٦

(وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَأَنابُوا إِلَى اللهِ لَهُمُ الْبُشْرى فَبَشِّرْ عِبادِ (١٧) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ (١٨) أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (١٩) لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ الْمِيعادَ (٢٠))

وبعد ذكر التوعّد شرع في الوعد لمن اجتنب عن الشرك وسائر المعاصي ، فقال : (وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ) البالغ غاية الطغيان. فعلوت منه ، كالرحموت والملكوت بمعنى الرحمة الواسعة والملك المبسوط ، إلّا أنّ فيها قلبا بتقديم اللام على العين ، فإنّ أصله الطغيوت أو الطغووت. وهي لمبالغة المصدر. وفيها مبالغات : التسمية بالمصدر ، كأنّ عين الشيطان طغيان ، والبناء بناء المبالغة ، والقلب. وهو للاختصاص ، ولذلك اختصّ بالشيطان. والمراد بها هنا الجمع. والمعنى : كلّ من دعا إلى عبادة غير الله من شياطين الجنّ والإنس.

(أَنْ يَعْبُدُوها) بدل اشتمال من الطاغوت ، أي : اجتنبوا عبادتها (وَأَنابُوا إِلَى اللهِ) وأقبلوا إليه بشراشرهم عمّا سواه (لَهُمُ الْبُشْرى) بالثواب على ألسنة الرسل ، أو الملائكة عند حضور الموت وحين يحشرون ، كقوله تعالى : (يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ) (١).

__________________

(١) الحديد : ١٢.

٦٧

وروي عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «أنتم هم ، ومن أطاع جبّارا فقد عبده».

(فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) وضع فيه الظاهر موضع ضمير (الَّذِينَ اجْتَنَبُوا) للدلالة على مبدأ اجتنابهم ، وأنّهم نقّاد في الدين ، يميّزون بين الحقّ والباطل ، والحسن والأحسن ، والفاضل والأفضل. فإذا اعترضهم أمران : واجب وندب ، اختاروا الواجب. وكذلك اختاروا الندب على المباح ، والعفو على القصاص ، والإغضاء على الانتصار ، والإخفاء على الإبداء ، حراصا على ما هو أقرب عند الله وأكثر ثوابا ، لقوله : (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) (١) (وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) (٢). ويدخل تحته المذاهب ، واختيار أثبتها وأقواها. وقيل : معناه : يستمعون القرآن وغيره فيتّبعون القرآن.

روي عن أبي الدرداء قال : لولا ثلاث ما أحببت أن أعيش يوما واحدا : الظمأ بالهواجر ، والسجود في جوف الليل ، ومجالسة أقوام ينتقون من خير الكلام كما ينتقى طيّب التمر.

وعن ابن عبّاس : هو الرجل يجلس مع القوم ، فيسمع الحديث فيه محاسن ومساوئ ، فيحدّث بأحسن ما سمع ، ويكفّ عمّا سواه.

قيل : هاتان الآيتان في ثلاث نفر كانوا يقولون في الجاهليّة : لا إله إلّا الله : عمرو بن نفيل ، وأبو ذرّ الغفاري ، وسلمان الفارسي.

(أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ) لدينه (وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ) من العقول السليمة عن منازعة الوهم والعادة. وفي ذلك دلالة على أنّ الهداية تحصل بفعل الله وقبول النفس لها.

(أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ) جملة شرطيّة معطوفة على محذوف دلّ عليه سوق الكلام. تقديره : أَأنت مالك أمرهم؟ فمن حقّ عليه

__________________

(١) البقرة : ٢٣٧ و٢٧١.

(٢) البقرة : ٢٣٧ و٢٧١.

٦٨

العذاب فأنت تنقذه؟ فكرّرت الهمزة لتأكيد الإنكار والاستبعاد. ووضع (مَنْ فِي النَّارِ) موضع الضمير لذلك ، وللدلالة على أنّ من حكم عليه بالعذاب كالواقع فيه ، لامتناع الخلف فيه ، وأنّ اجتهاد الرسول في دعائهم إلى الايمان سعي في إنقاذهم من النار.

ويجوز أن يكون (أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ) جملة مستأنفة للدلالة على ذلك ، وللإشعار بالجزاء المحذوف. تقديره : أَفمن حقّ ليه كلمة العذاب فأنت تخلّصه؟ أو كمن وجبت له الجنّة. والمراد بكلمة العذاب قوله : (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ) (١) الآية. وإنّما قال ذلك للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لحرصه على إسلام المشركين. والمعنى : إنّك لا تقدر على إدخال الإسلام في قلوبهم قسرا ، فلا عليك إذا لم يؤمنوا. وهذا كقوله : (فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ) (٢) الآية.

ثمّ بيّن سبحانه ما أعدّ للمؤمنين ، كما بيّن ما أعدّه للكفّار ، فقال :

(لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ) علالي (٣) بعضها فوق بعض (مَبْنِيَّةٌ) بنيت بناء المنازل على الأرض. وهذا في مقابلة قوله : (لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ). (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) أي : من تحت الغرف ، فإنّ النظر من الغرف إلى الخضر والمياه أشهى وألذّ (وَعْدَ اللهِ) مصدر مؤكّد ، لأنّ قوله : «لهم غرف» في معنى الوعد ، كأنّه قال : وعد الله وعدا (لا يُخْلِفُ اللهُ الْمِيعادَ) لأنّ الخلف نقص ، وهو على الله محال.

روى أبو سعيد الخدري عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «إنّ أهل الجنّة ليتراءون الغرف من فوقهم ، كما يتراءون الكوكب الدرّيّ في الأفق ، من المشرق أو

__________________

(١) السجدة : ١٣.

(٢) الكهف : ٦.

(٣) علالي جمع علّيّة ، وهي : بيت منفصل عن الأرض ببيت ونحوه.

٦٩

المغرب ، لتفاضل ما بينهم. قالوا : يا رسول الله تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم.

قال : والّذي نفسي بيده لرجال آمنوا بالله وصدّقوا المرسلين».

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٢١) أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٢))

ولمّا قدّم سبحانه ذكر الدعاء إلى التوحيد ، عقّبه بذكر دلائل التوحيد ، فقال مخاطبا لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإن كان المراد جميع المكلّفين :

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) هو المطر (فَسَلَكَهُ) فأدخله وأجراه (يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ) عيونا ومجاري ومسالك كائنة فيها كالعروق في الأجساد. وهو جمع الينبوع. أو مياه نابعات فيها ، إذ الينبوع جاء للنابع. فنصبها على الحال.

(ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ) صنوفه من البرّ والشعير والأرز وغيرها. يقال : هذا لون من الطعام. أو كيفيّاته من حمرة وخضرة وصفرة وغيرها. (ثُمَّ يَهِيجُ) يتمّ جفافه ، لأنّه إذا تمّ جفافه حان له أن يثور عن منابته ويذهب (فَتَراهُ مُصْفَرًّا) من يبسه (ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً) فتاتا.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى) لتذكيرا بأنّه لا بدّ من صانع حكيم دبّره وسوّاه. أو بأنّه مثل الحياة الدنيا ، فلا تغترّ بها (لِأُولِي الْأَلْبابِ) لأولي العقول السليمة في معرفة الصانع المحدث للعالم ، إذ لا يتذكّر به غيرهم.

ولمّا ذكر أدلّة التوحيد الّتي إذا تفكّر فيها متفكّر ، انشرح صدره ، واطمأنّت

٧٠

نفسه إلى التوحيد بلج (١) اليقين ، قال عقيب ذلك :

(أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ) أَفمن عرف الله أنّه من أهل اللطف به ، بنصب الأدلّة وإزاحة العلّة ، حتّى انشرح صدره ووسع قلبه لقبول الإسلام بيسر ، فثبت عليه وتمكّن فيه (فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ) يعني : المعرفة والاهتداء إلى الحقّ ، كمن لا لطف له ، فهو حرج الصدر قاسي القلب. ونور الله هو لطفه ، لأنّ به يعرف الحقّ ، كما بالنور تعرف أمور الدنيا.

وقرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذه الآية ، فقيل : يا رسول الله كيف انشراح الصدر؟ قال : «إذا دخل النور القلب انشرح وانفسح. فقيل : يا رسول الله فما علامة ذلك؟ قال : الإنابة إلى دار الخلود ، والتجافي عن دار الغرور ، والتأهّب للموت قبل نزوله».

ودلّ على حذف خبر «من» : (فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ) من أجل ذكره وبسببه. يعني : إذا ذكر الله عندهم أو آياته اشمأزّت قلوبهم وازدادت قساوة ، كقوله : (فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ) (٢). وهذا المعنى أبلغ من أن يكون «عن» مكان «من» ، لأنّ القاسي من أجل الشيء أشدّ تأبّيا عن قبوله من القاسي عنه لسبب آخر ، ولهذا آثر «من» على «عن». وللمبالغة في وصف أولئك بالقبول وهؤلاء بالامتناع ، ذكر شرح الصدر ، وأسنده إلى الله ، وقابله بقساوة القلب ، وأسنده إليهم.

(أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) يظهر ضلالهم للناظر بأدنى نظر. والآية نزلت في حمزة وعليّ وأبي لهب وولده.

__________________

(١) بلج الحقّ بلجا : وضح وظهر.

(٢) التوبة : ١٢٥.

٧١

(اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٢٣) أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٢٤))

روي : أنّ أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ملّوا ملّة فقالوا : حدّثنا. فنزلت : (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ) يعني : القرآن. وفي الابتداء باسم الله ، وبناء «نزّل» عليه ، تأكيد للإسناد إليه تعالى ، وأنّه من عنده ، وأنّ مثله لا يجوز أن يصدر إلّا عنه ، وتفخيم للمنزل ، واستشهاد على مزيّة حسنه ، وتنبيه على أنّه وحي معجز مباين لسائر الأحاديث.

(كِتاباً مُتَشابِهاً) بدل من «أحسن» أو حال منه. وتشابهه : تشابه أبعاضه في الإعجاز ، وتجاوب النظم ، وصحّة المعنى وإحكامه ، وبناؤه على الحقّ والصدق ، والدلالة على المنافع العامّة ، لاشتماله على جميع ما يحتاج إليه المكلّف ، من التنبيه على أدلّة التوحيد والعدل ، وبيان أحكام الشرع ، وغير ذلك من المواعظ وقصص الأنبياء ، والترغيب والترهيب.

(مَثانِيَ) جمع مثنّى ، بمعنى المردّد والمكرّر. أو مثنى. وصف به «كتابا» مع أنّه جمع باعتبار تفاصيله ، من الأقاصيص والأحكام والمواعظ المكرّرة. وهذا كقولك : القرآن سور وآيات وأسباع وأخماس ، والإنسان : عظام وعروق وأعصاب. أو جعل تمييزا من «متشابها» كقولك : رجلا حسنا شمائل. فالمعنى : كتابا متشابهة مثانيه.

٧٢

وفائدة التكرير في أقاصيصه وأحكامه ومواعظه ركزها في القلوب وغرسها في الصدور ، فإنّ النفوس أنفر شيء عن حديث الوعظ والنصيحة ، فما لم يكرّر عليها عودا عن بدء لم يرسخ فيها ولم يعمل عمله. ومن ثمّ كانت عادة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يكرّر عليهم ما كان يعظ به ، وينصح ثلاث مرّات وسبعا ، ليركّزه في قلوبهم ويغرسه في صدورهم.

(تَقْشَعِرُّ) تتقبّض تقبّضا شديدا (مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ) وقف شعرهم خوفا ممّا فيه من الوعيد. وهو مثل في شدّة الخوف. وتركيبه من حروف القشع ، وهو الأديم اليابس ، بزيادة الراء ليصير رباعيّا ، ويدلّ على معنى زائد ، كتركيب القمطر من القمط ، وهو الشدّ. ويجوز أن يريد الله سبحانه به التمثيل ، تصويرا لإفراط خشيتهم ، وأن يريد التحقيق.

والمعنى : أنّهم إذا سمعوا بالقرآن وبآيات وعيده ، أصابتهم خشية شديدة تقشعرّ منها جلودهم.

(ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ) بالرحمة وعموم المغفرة.

والاقتصار على ذكر الله من غير ذكر الرحمة ، للإشعار بأنّ أصل أمره الرحمة والرأفة ، وإن سبقت رحمته غضبه ، فلأصالة رحمته إذا ذكر لم يخطر بالبال قبل كلّ شيء من صفاته إلّا كونه رؤوفا رحيما.

وتعدية «تلين» بـ «إلى» لتضمّنه معنى السكون والاطمئنان. فكأنّه قيل : سكنت واطمأنّت إلى ذكر الله ، أي : بعد اقشعرار جلودهم منه ، إذا ذكروا الله ورحمته وجوده بالمغفرة ، لانت جلودهم وقلوبهم ، وزال عنها ما كان بها من الخشية والقشعريرة.

وذكر الجلود وحدها أوّلا ، ثمّ قران القلوب بها ثانيا ، لدلالة الخشية الّتي محلّها القلوب عليها ، فهي في حكم الذكر. فكأنّه قيل : تقشعرّ جلودهم من آيات

٧٣

الوعيد ، وتخشى قلوبهم في أوّل وهلة ، فإذا ذكروا الله ومبنى أمره على الرأفة والرحمة ، استبدلوا بالخشية رجاء في قلوبهم ، وبالقشعريرة لينا في جلودهم.

روي عن العبّاس بن عبد المطّلب أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «إذا اقشعرّ جلد العبد من خشية الله ، تحاتّت عنه ذنوبه كما يتحاتّ عن الشجرة اليابسة ورقها».

وعن قتادة : هذا نعت لأولياء الله ، نعتهم الله بأن تقشعرّ جلودهم ، وتطمئنّ قلوبهم إلى ذكر الله. ولم ينعتهم بذهاب عقولهم ، والغشيان عليهم ، إنّما ذلك في أهل البدع ، وهو من الشيطان.

(ذلِكَ) أي : ذلك الكتاب (هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ) يوفّق به بنصب الأدلّة وإزاحة العلّة (مَنْ يَشاءُ) هدايته من عباده المتّقين الطالبين طريق الفوز والنجاة ، كما قال : (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) (١) (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ) من يخذله من أهل العناد والفجور ، بسبب عناده وفرط فجوره (فَما لَهُ مِنْ هادٍ) يخرجهم من الضلال.

أو ذلك الكائن من الخشية والرجاء هدى الله ، أي : أثر هداه ، وهو لطفه. فسمّاه هدى ، لأنّه حاصل بالهدى. يهدي بهذا الأثر من يشاء من عباده. يعني : من صحب أولئك ورءاهم خاشين راجين ، فكان ذلك مرغّبا لهم في الاقتداء بسيرتهم وسلوك طريقتهم. (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ) ومن لم يؤثّر فيه ألطافه ، لقسوة قلبه وإصراره على فجوره (فَما لَهُ مِنْ هادٍ) من مؤثّر فيه بشيء قطّ.

(أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ) يجعله درقة (٢) يقي به نفسه ، لأنّه يكون يداه مغلولة إلى عنقه ، فلا يقدر أن يتّقي إلّا بوجهه (سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ) كمن هو آمن منه. فحذف الخبر كما حذف في نظائره المذكورة غير مرّة.

وتنقيح المعنى : أنّ الإنسان إذا لقي مخوفا من المخاوف استقبله بيده ، وطلب

__________________

(١) البقرة : ٢.

(٢) في هامش النسخة الخطّية : «الدّرقة : التّرس الّذي يتّخذ من الجلود. منه».

٧٤

أن يقي بها وجهه ، لأنّه أعزّ أعضائه عليه. والّذي يلقى في النّار يلقى مغلولة يداه إلى عنقه ، فلا يتهيّأ له أن يتّقي النار إلّا بوجهه الّذي كان يتّقي المخاوف بغيره ، وقاية له ومحاماة عليه. وقيل : المراد بالوجه الجملة ، تسمية للشيء بأشرف أجزائه.

(وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ) أي : لهم. فوضع الظاهر موضع الضمير تسجيلا عليهم بالظلم ، وإشعارا بالموجب لما يقال لهم ، وهو (ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) أي : قال لهم خزنة النار ، ذوقوا وبال ما كنتم تعملون. والواو للحال ، و «قد» مقدّرة.

(كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (٢٥) فَأَذاقَهُمُ اللهُ الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٢٦) وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٧) قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٢٨))

ثمّ وعد كفّار قريش بذكر الأمم المكذّبة الماضية ، واستئصالهم بالعذاب العاجل ، وصليهم بالعذاب الآجل ، فقال :

(كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) بآيات الله وجحدوا رسله (فَأَتاهُمُ الْعَذابُ) عاجلا (مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ) من الجهة الّتي لا يخطر ببالهم أنّ الشرّ يأتيهم منها. يعني : بينا هم آمنون رافهون إذ فوجؤا بالعذاب من مأمنهم.

(فَأَذاقَهُمُ اللهُ الْخِزْيَ) الذلّ والصغار (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) كالمسخ والخسف والقتل والسبي والإجلاء ، وما أشبه ذلك من نكال الله (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ) المعدّ لهم (أَكْبَرُ) لشدّته ودوامه (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) لو كانوا من أهل العلم والنظر لعلموا ذلك واعتبروا به.

٧٥

(وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ) أي : بيّنّا بيانا بليغ الوضوح (فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) يحتاج إليه الناظر في أمر دينه (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) يتدبّرون فيتّعظوا به.

(قُرْآناً عَرَبِيًّا) حال مؤكّدة من «هذا». والاعتماد فيها على الصفة ، كقولك : جاءني زيد رجلا صالحا وإنسانا عاقلا. ويجوز أن ينتصب على المدح. (غَيْرَ ذِي عِوَجٍ) أي : لا اختلال فيه بوجه مّا ، بريئا من التناقض والاختلاف قطعا ورأسا.

وفي إيثار «غير ذي عوج» على : غير معوجّ وعلى : «مستقيما» فائدتان : إحداهما : نفي أن يكون فيه عوج قطّ ، كما قال : (وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً) (١). والثانية : ليدلّ على أنّ استقامته من حيث المعنى ، فإنّ لفظ العوج مختصّ بالمعاني دون الأعيان.

وقيل : العوج : الشكّ واللبس ، استشهادا بقوله :

وقد أتاك يقين غير ذي عوج

من الإله وقول غير مكذوب

(لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) لكي يتّقوا معاصي الله. وهذا علّة اخرى مرتّبة على الأولى.

(ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٢٩))

ثمّ مثّل حال من يثبت آلهة شتّى ، وما يلزمه من سوء العواقب ، ومن يتّخذ الله وحده إلها ، وما يتبعه من حسن الخواتيم ، فقال :

(ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلاً) بدل من «مثلا» (فِيهِ) صلة قوله : (شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ) من التشاكس بمعنى الاختلاف. وهذا مثل المشرك. (وَرَجُلاً سَلَماً) أي : خالصا (لِرَجُلٍ) وهذا مثل الموحّد. وقرأ نافع وابن عامر والكوفيّون : سلما

__________________

(١) الكهف : ١.

٧٦

بفتحتين ، مصدر : سلم ، نعت به. أو على حذف المضاف ، أي : ذا سلامة وخلوص لرجل من غير شركة. وتخصيص الرجل لأنّه أفطن للضرّ والنفع.

وتوضيح المعنى : أن اضرب يا محمّد لقومك مثلا ، فقل لهم : ما تقولون في رجل من المماليك قد اشترك فيه شركاء بينهم اختلاف وتنازع ، كلّ واحد منهم يدّعي أنّه عبده ، فهم يتجاذبونه ويتعاورونه (١) في مهن شتّى ومشاغل كثيرة ، وإذا عنت له حاجة تدافعوه ، فهو متحيّر في أمره ، وقد تشعّبت الهموم قلبه ، وتوزّعت أفكاره ، ولا يدري أيّهم يرضى بخدمته ، وعلى أيّهم يعتمد في حاجاته. وفي رجل قد سلم لمالك واحد ، وخلص له ، فهو معتمد على المالك فيما يصلحه من صنوف الخدمة ، فهمّه واحد ، وقلبه مجتمع ، أيّ هذين العبدين أحسن حالا وأحمد شأنا؟

روى الحاكم أبو الحسن الحسكاني بالإسناد عن عليّ عليه‌السلام أنّه قال : «أنا ذلك الرجل السالم لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» (٢).

وروى العيّاشي بإسناده عن أبي خالد ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «الرجل السلم لرجل عليّ حقّا وشيعته».

(هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً) صفة أو حالا. ونصبه على التمييز. ووحّد لأنّه جنس. والمعنى : هل يستوي هذان الرجلان صفة وشبها في حسن العاقبة وحصول المنفعة ، أي : لا يستويان ، فإنّ الخالص لمالك واحد يستحقّ من معونته وحياطته ما لا يستحقّه صاحب الشركاء المختلفين في أمره.

(الْحَمْدُ لِلَّهِ) كلّ الحمد لله الواحد الّذي لا يشاركه فيه على الحقيقة سواه ، لأنّه المنعم بالذات ، والمالك على الإطلاق ، أي : يجب أن يكون الحمد والعبادة متوجّها إليه وحده ، فقد ثبت أنّه لا إله إلّا هو.

__________________

(١) تعاور القوم الشيء : تعاطوه وتداولوه.

(٢) شواهد التنزيل ٢ : ١٧٦ ح ٨٠٧.

٧٧

وقيل : معناه : احمدوا الله المستحقّ للشكر والثناء على هذا المثل الّذي علّمكموه ، فأزال به للمؤمنين الشبهة ، وأوضح لهم الدلالة الهادية. أو احمدوا الله حيث لطف بكم حتّى عبدتموه وحده ، وأخلصتم له الإيمان والتوحيد ، فهي النعمة السابغة.

(بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) فيشركون به غيره من فرط جهلهم.

(إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (٣٠) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (٣١) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (٣٢) وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (٣٣) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (٣٤) لِيُكَفِّرَ اللهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (٣٥))

روي : أنّ المشركين كانوا يتربّصون برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم موته ، فأخبر سبحانه أنّ الموت يعمّهم ، فلا معنى للتربّص وشماتة الباقي بالفاني ، فقال :

(إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) أي : إنّك وإيّاهم وإن كنتم أحياء ، فإنّكم بصدد الموت وفي عداد الموتى ، لأنّ ما هو كائن فكأن قد كان.

والفرق بين الميّت والمائت : أنّ الميّت صفة لازمة كالسيّد ، وأمّا المائت فصفة حادثة. تقول : زيد مائت غدا ، كما تقول : سائد غدا ، أي : سيموت وسيسود.

٧٨

وإذا قلت : زيد ميّت ، فكما تقول : حيّ ، في نقيضه ، فيما يرجع إلى اللزوم والثبوت.

(ثُمَّ إِنَّكُمْ) على تغليب المخاطب على الغيّب (يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ) فتحتجّ عليهم بأنّك كنت على الحقّ في التوحيد ، وكانوا على الباطل في التشريك ، واجتهدت في الإرشاد والتبليغ ، ولجّوا في التكذيب والعناد ، ويعتذرون بالأباطيل الّتي لا طائل تحته ، بأن يقول الأتباع : أطعنا سادتنا وكبراءنا ، ويقول السادات : أغوتنا الشياطين وآباؤنا الأقدمون.

وقيل : المراد به اختصام الجميع ، فإنّ الكفّار يخاصم بعضهم بعضا ، حتّى يقال لهم : (لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَ) (١). والمؤمنون الكافرين ، يبكّتونهم بالحجج. وأهل القبلة يكون بينهم الخصام.

وقال أبو سعيد الخدري : كنّا نقول : ربّنا واحد ، ونبيّنا واحد ، وديننا واحد ، فما هذه الخصومة؟ فلمّا كان يوم صفّين ، وشدّ ـ يعني : حمل ـ بعضنا على بعض بالسيوف ، قلنا : نعم هو هذا.

وعن ابن عمر : كنّا نرى أنّ هذه الآية أنزلت فينا وفي أهل الكتابين ، وقلنا : كيف نختصم نحن ونبيّنا واحد وكتابنا واحد ، حتّى رأيت بعضنا يضرب وجوه بعض بالسيف ، فعلمت أنّها فينا نزلت.

ثمّ بيّن سبحانه حال الفريقين ، فقال : (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللهِ) بإضافة الولد والشريك إليه (وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ) بالأمر الّذي هو الصدق بعينه. وهو ما جاء به محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. (إِذْ جاءَهُ) من غير توقّف وتفكرّ في أمره ، واهتمام بتمييز بين حقّ وباطل ، كما يفعل أهل النصفة فيما يسمعون.

ثمّ هدّد سبحانه من هذه صفته بأن قال : (أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ) الهمزة للتقرير ، أي : يكفيهم ذلك مجازاة لأعمالهم. واللام للعهد ، أي : لهؤلاء الّذين

__________________

(١) ق : ٢٨.

٧٩

كذبوا على الله وكذّبوا بالصدق. أو لجنس الكفرة. واستدلّ به على تكفير المبتدعة ، فإنّهم يكذّبون بما علم صدقه. وهو ضعيف ، لأنّه مخصوص بمن فاجأ ما علم مجيء الرسول به بالتكذيب بلا تفكّر فيه وتمييز.

(وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ) هو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، جاء بالحقّ وآمن به.

والمراد هو ومن تبعه ، لقوله : (أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) كما في قوله (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) (١). أو المراد جنس الرسل والمؤمنين.

وقيل : الّذي جاء بالصدق محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وصدّق به عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام.

وهذا منقول عن مجاهد. ورواه الضحّاك عن ابن عبّاس. وهو المرويّ عن أئمّة الهدى من آل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

(لَهُمْ ما يَشاؤُنَ) من الثواب وأنواع النعيم في الجنّة (عِنْدَ رَبِّهِمْ) ينالونه من جهته (ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ) على إحسانهم.

(لِيُكَفِّرَ اللهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا) خصّ الأسوأ للمبالغة ، فإنّه إذا كفّر كان غيره أولى بذلك. أو للإشعار بأنّهم لاستعظامهم الذنوب يحسبون أنّهم مقصّرون مذنبون ، وأنّ ما يفرط منهم من الصغائر أسوأ ذنوبهم. ويجوز أن يكون من قبيل إضافة الشيء إلى ما هو بعضه من غير تفضيل. فيكون الأسوأ بمعنى السيّء ، كقولهم : الناقص والأشجّ أعدلا بني مروان ، يعني : عمر بن عبد العزيز ومحمّد بن الخليفة عدلان من بينهم.

(وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ) ويعطيهم ثوابهم (بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ) فتعدّ لهم محاسن أعمالهم بأحسنها ، في زيادة الأجر وعظمه ، لفرط إخلاصهم فيها.

والمعنى : يجزيهم ثوابهم بالفرائض والنوافل. فهي أحسن أعمالهم ، لأنّ المباح وإن كان حسنا فلا يستحقّ به ثواب ولا مدح.

__________________

(١) المؤمنون : ٤٩.

٨٠