زبدة التّفاسير - ج ٦

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني

زبدة التّفاسير - ج ٦

المؤلف:

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني


المحقق: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-7777-08-6
ISBN الدورة:
964-7777-02-5

الصفحات: ٦٤٠

يستدعي مغفرتهم ، من استدعاء الحلم منه تعالى ، وإعداد الأسباب المقرّبة إلى الطاعة. وهذا المعنى يعمّ المؤمن والكافر. بل لو فسّر الاستغفار بالسعي فيما يدفع الخلل المتوقّع عمّ الحيوان ، بل الجماد. والأصحّ أنّ المراد بهم المؤمنون ، لقوله : (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا) (١). وحكايته عنهم : (فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ) (٢). فالمراد بالاستغفار الشفاعة.

(أَلا إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) إذ ما من مخلوق إلّا وهو ذو حظّ من رحمته.

والآية على الأوّل (٣) زيادة تقرير لعظمته. فكأنّه قيل : تكاد السماوات يتفطّرن هيبة من جلاله ، واحتشاما من كبريائه ، والملائكة الّذين هم ملء السبع الطباق ، وحافّون حول العرش صفوفا بعد صفوف ، يداومون ـ خضوعا لعظمته ـ على عبادته وتسبيحه وتحميده ، ويستغفرون لمن في الأرض خوفا عليهم من سطواته.

وعلى الثاني (٤) ؛ دلالة على تقدّسه عمّا نسب إليه. فكأنّه قيل : يكدن ينفطرن من إقدام أهل الشرك على تلك الكلمة الشنعاء ، والملائكة يوحّدون الله وينزّهونه عمّا لا يجوز عليه من الصفات الّتي يضيفها إليه الجاهلون به ، حامدين له على ما أولاهم من ألطافه الّتي علم أنّهم عندها يستعصمون ، مختارين غير ملجئين ، ويستغفرون لمؤمني أهل الأرض الّذين تبرّؤا من تلك الكلمة ومن أهلها. أو يطلبون من ربّهم أن يحلم عن أهل الأرض ، ولا يعاجلهم بالعقاب ، لما عرفوا في ذلك من المصالح ، وحرصا على نجاة الخلق ، وطمعا في توبة الكفّار والفسّاق منهم.

(وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ) شركاء وأندادا (اللهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ) رقيب

__________________

(١) غافر : ٧.

(٢) غافر : ٧.

(٣) أي : على قراءة : يتفطّرن.

(٤) أي : على قراءة : ينفطرن.

٢٠١

على أحوالهم وأعمالهم ، لا يفوته منها شيء ، فيجازيهم بها (وَما أَنْتَ) يا محمّد (عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) بموكّل بهم ، أو بموكل ومفوّض إليك أمرهم ، ولا قسرهم على الإيمان ، بل إنّما أنت منذر فحسب ، فلا يضيقنّ صدرك بتكذيبهم إيّاك. وفيه تسلية له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

(وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (٧) وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٨) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ فَاللهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٩))

(وَكَذلِكَ) الإشارة إلى مصدر : يوحي ، أي : مثل ذلك الإيحاء البيّن المفهم (أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) أو إلى معنى الآية المتقدّمة من أنّ الله هو الرقيب عليهم وما أنت برقيب عليهم ولكن نذير لهم ، فإنّ هذا المعنى كرّره الله في كتابه في مواضع جمّة. فيكون الكاف مفعولا به لـ «أوحينا» ، وقوله : (قُرْآناً عَرَبِيًّا) حالا منه ، أي : أوحيناه إليك وهو قرآن عربيّ بيّن لا لبس فيه عليك ، لتفهم ما يقال لك ، ولا تتجاوز حدّ الإنذار.

(لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى) أهل امّ القرى. وهي مكّة. (وَمَنْ حَوْلَها) من العرب (وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ) يوم القيامة يجمع فيه الخلائق ، أو الأرواح والأشباح ، أو العمّال والأعمال. يقال : أنذرته كذا ، وأنذرته بكذا. وقد عدّي الأوّل ـ أعني «لِتُنْذِرَ

٢٠٢

أُمَّ الْقُرى» ـ إلى المفعول الأوّل ، والثاني ـ وهو قوله : (وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ) ـ إلى المفعول الثاني. فحذف ثاني مفعولي الأوّل ، وأوّل مفعولي الثاني ، للتهويل وإيهام التعميم.

(لا رَيْبَ فِيهِ) اعتراض لا محلّ له (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) أي : يجمعون في الموقف أوّلا ثمّ يفرّقون. والتقدير : منهم فريق. والضمير للمجموعين ، لدلالة الجمع عليه ، فإنّه في معنى : يوم جمع الخلائق.

(وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً) أي : مؤمنين كلّهم على القسر والإكراه ، كقوله : (وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها) (١). وقوله : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً) (٢). والدليل على أنّ المعنى هو الإلجاء إلى الإيمان قوله : (أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) (٣). وإدخال همزة الإنكار على المكره دون فعله ، دليل على أنّ الله وحده هو القادر على هذا الإكراه دون غيره. فالمعنى : ولو شاء ربّك مشيئة قدرة لقسرهم جميعا على الإيمان.

(وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ) مشيئة حكمة. فكلّفهم وبنى أمرهم على ما يختارون ، ليدخل المؤمنين في رحمته ، وهم المرادون بمن يشاء. وتغيير المقابلة لأجل ذلك ، أو للمبالغة في الوعيد ، إذ الكلام في الإنذار. ألا ترى أنّه وضعهم في مقابلة الظالمين ، وترك الظالمين بغير وليّ ولا نصير في عذابه ، بقوله : (وَالظَّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) أي : يدعهم بغير من يتولّى أمرهم وينصرهم.

(أَمِ اتَّخَذُوا) أم منقطعة. ومعنى الهمزة فيها للإنكار ، أي : بل اتّخذوا (مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ) كالأصنام (فَاللهُ هُوَ الْوَلِيُ) هو الّذي يجب أن يتولّى وحده ، ويعتقد أنّه المولى والسيّد. وذكر الفاء لأنّه جواب شرط محذوف ، كأنّه قيل بعد إنكار كلّ

__________________

(١) السجدة : ١٣.

(٢) يونس : ٩٩.

(٣) يونس : ٩٩.

٢٠٣

وليّ سواه : إن أرادوا وليّا بحقّ فالله الوليّ بالحقّ ، لا وليّ سواه.

(وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) كالتقرير لكونه حقيقا بالولاية ، أي : ومن شأن هذا الوليّ أنّه يحيي الموتى للمجازاة ، قادر على كلّ من الإحياء والإماتة وغير ذلك. فهو الحقيق بأن يتّخذ وليّا ، دون من لا يقدر على شيء.

(وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ ذلِكُمُ اللهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (١٠) فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (١١) لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٢))

ثمّ حكى الله سبحانه قول رسوله للمؤمنين ، فقال : (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ) أنتم والكفّار (فِيهِ مِنْ شَيْءٍ) من أمر من أمور الدنيا أو الدين (فَحُكْمُهُ) فحكم ذلك المختلف فيه مفوّض (إِلَى اللهِ) يميّز بين المحقّ والمبطل بالنصر ، أو بالإثابة والمعاقبة.

وقيل : وما اختلفتم فيه من تأويل متشابه فارجعوا إلى المحكم من كتاب الله ، وإلى الظاهر من سنّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وقيل : وما تنازعتم من الخصومات فتحاكموا فيه إلى رسول الله ، ولا تؤثروا على حكومته حكومة غيره ، كقوله : (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ

٢٠٤

وَالرَّسُولِ) (١).

وقيل : وما وقع بينكم الخلاف فيه من العلوم الّتي لا تتّصل بتكليفكم ، ولا طريق لكم إلى علمه ، فقولوا : الله أعلم ، كمعرفة الروح. قال الله تعالى : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) (٢).

(ذلِكُمُ) الحاكم بينكم (اللهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) في ردّ كيد أعداء الدين ، وفي سائر مجامع الأمور (وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) أرجع في كفاية شرّهم ، وغيرها من المعضلات.

(فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) خبر آخر لـ «ذلكم». أو مبتدأ خبره (جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) من جنسكم (أَزْواجاً) نساء لتسكنوا إليها (وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً) أي : خلق للأنعام من جنسها أزواجا. أو خلق لكم من الأنعام أصنافا ، أو ذكورا وإناثا. (يَذْرَؤُكُمْ) يكثّركم. يقال : ذرأ الله الخلق : بثّهم وكثّرهم. من الذرء ، وهو البثّ. وفي معناه : الذرو والذرّ. والضمير راجع إلى المخاطبين والأنعام ، مغلّبا فيه المخاطبون العقلاء على الغيب ممّا لا يعقل. (فِيهِ) في جعل الناس والأنعام أزواجا ليكون بينهم توالد. وإيثار «فيه» على : به ، لإفادة أنّ هذا التدبير كالمنبع والمعدن للبثّ والتكثير.

(لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) أي : شيء يزاوجه ويناسبه. والمراد من مثله ذاته ، كما في قولهم : مثلك لا يبخل ، فنفوا البخل عن مثله ، وهم يريدون نفيه عن ذاته على قصد المبالغة في نفيه ، فسلكوا به طريق الكناية ، لأنّهم إذا نفوه عمّن يناسبه ويسدّ مسدّه ، ويكون على أخصّ أوصافه ، فقد نفوه عنه بطريق أولى.

فإذا علم أنّه من باب الكناية لم يقع فرق بين قوله : ليس كالله شيء ، وبين

__________________

(١) النساء : ٥٩.

(٢) الإسراء : ٨٥.

٢٠٥

قوله : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) إلّا ما تعطيه الكناية من فائدتها ، فكأنّهما عبارتان معتقبتان على معنى واحد ، وهو نفي المماثلة عن ذاته. ونحوه قوله تعالى : (بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ) (١) ، فإنّ معناه : بل هو جواد من غير تصوّر يد ولا بسطها ، لأنّهما وقعتا عبارة عن الجود ، لا يقصدون شيئا آخر ، حتّى إنّهم استعملوها فيمن لا يد له ، فكذلك استعمل هذا فيمن له مثل ومن لا مثل له.

ومن قال : الكاف فيه زائدة ، لعلّه عنى أنّه يعطي معنى : ليس مثله ، غير أنّه أكّد لما ذكرناه. وقيل : مثله صفته ، أي : ليس كصفته صفة.

(وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) أي : العالم بكلّ ما يسمع ويبصر.

(لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) خزائنها (يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) يوسّع ويضيّق على وفق مشيئته (إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) فيفعله على ما ينبغي. فإذا علم أنّ الغنى خير للعبد أغناه ، وإلّا أفقره.

(شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (١٣) وَما تَفَرَّقُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (١٤) فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كِتابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ اللهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (١٥))

__________________

(١) المائدة : ٦٤.

٢٠٦

(شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى) أي : شرع لكم من الدين ، دين نوح ومحمّد عليهما‌السلام ، ومن بينهما من أرباب الشرائع ، وهو الأصل المشترك فيما بينهم.

ثمّ فسّر الشرع الّذي اشترك هؤلاء الأعلام من رسله فيه بقوله : (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ) وهو الإيمان بما يجب تصديقه ، من توحيد الله وكتبه ورسله وحججه ويوم الجزاء ، وسائر ما يكون الرجل بإقامته مؤمنا. ولم يرد الشرائع الّتي هي مصالح للأمم على حسب أحوالها من فروعات الإسلام ، فإنّها مختلفة متفاوتة. قال الله تعالى : (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً) (١). ومحلّه النصب على البدل من مفعول «شرع». أو الرفع على الاستئناف. كأنّه قيل : وما ذلك المشروع؟ فقيل : هو إقامة الدين. أو الجرّ على البدل من هاء «به».

(وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) ولا تختلفوا في هذا الأصل (كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ) عظم وشقّ عليهم (ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ) من التوحيد (اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ) يجتلب إلى ما تدعوهم. أو إلى الدين بالتوفيق والتسديد. (مَنْ يَشاءُ) من ينفع فيهم توفيقه ، ويجدي عليهم لطفه ، من أصحاب الاسترشاد (وَيَهْدِي إِلَيْهِ) بالإرشاد والتوفيق (مَنْ يُنِيبُ) من يقبل إليه.

__________________

(١) المائدة : ٤٨.

٢٠٧

(وَما تَفَرَّقُوا) يعني : الأمم السالفة. وقيل : أهل الكتاب ، لقوله تعالى : (وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) (١). (إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ) أي : العلم بأن التفرّق ضلال متوعّد عليه على ألسنة الأنبياء. أو العلم بمبعث الرسول ، أو أسباب العلم من الرسل والكتب وغيرهما ، فلم يلتفتوا إليها (بَغْياً بَيْنَهُمْ) عداوة ، أو طلبا للدنيا.

(وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ) بالإمهال (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) هو يوم القيامة ، أو آخر أعمارهم المقدّرة (لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) باستئصال المبطلين حين افترقوا ، لعظم ما اقترفوا (وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ) يعني : أهل الكتاب الّذين كانوا في عهد الرسول ، أو المشركين الّذين أورثوا القرآن من بعد أهل الكتاب (لَفِي شَكٍّ مِنْهُ) من الكتاب ، لا يعلمونه كما هو ، أو لا يؤمنون به حقّ الإيمان. أو من القرآن. (مُرِيبٍ) مقلق ، أو مدخل في الريبة.

وقيل : كان الناس أمّة واحدة مؤمنين ، بعد أن أهلك الله أهل الأرض أجمعين بالطوفان ، فلمّا مات الآباء اختلف الأبناء فيما بينهم ، وذلك حين بعث الله إليهم النبيّين مبشّرين ومنذرين ، وجاءهم العلم ، وإنّما اختلفوا للبغي بينهم.

(فَلِذلِكَ) فلأجل ذلك التفرّق ، ولما حدث بسببه من تشعّب الكفر شعبا. أو لأجل ذلك الكتاب ، أو العلم الذي أوتيته. (فَادْعُ) إلى الاتّفاق على الملّة الحنيفيّة القديمة. أو للاتّباع لما أوتيت فادع. وعلى هذا يجوز أن تكون اللام في موضع «إلى» لإفادة الصلة ، فإنّه يفيد معنى كون ما دخل عليه اللام معمولا متقدّما ، فكأنّه قال : ادع إلى الاتّباع ، لأنّه يقال : دعا إليه.

(وَاسْتَقِمْ) على الدعوة (كَما أُمِرْتَ) كما أمرك الله (وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ) المختلفة الباطلة.

(وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كِتابٍ) أيّ كتاب صحّ أنّ الله أنزله. يعني :

__________________

(١) آل عمران : ١٩.

٢٠٨

الإيمان بجميع الكتب المنزلة ، لا كالكفّار الّذين آمنوا ببعض وكفروا ببعض ، كقوله : (وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ) إلى قوله : (هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا) (١).

(وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ) في تبليغ الحكومات والشرائع. والأوّل إشارة إلى كمال القوّة النظريّة ، وهذا إشارة إلى كمال القوّة العمليّة.

(اللهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ) خالق الكلّ ومتولّي أمره. وإنّما قال ذلك لأنّ المشركين قد اعترفوا بأنّ الله هو الخالق. (لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ) وكلّ مجازى بعمله ، ولا يؤاخذ أحد بذنب غيره ، فلا يضرّنا إصراركم على الكفر. (لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ) لا حجاج بمعنى : لا خصومة ، إذ الحقّ قد ظهر ، ولم يبق للمحاجّة مجال ، ولا للخلاف مبدأ ، سوى العناد ، فلا حاجة إلى المحاجّة.

(اللهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا) يوم القيامة ، فيفصل بيننا ، وينتقم لنا منكم (وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) مرجع الكلّ لفصل القضاء.

وهذه محاجزة في مواقف المقاولة لا المقاتلة ، ومتاركة بعد ظهور الحقّ وقيام الحجّة والإلزام. فليس في الآية ما يدلّ على متاركة الكفّار رأسا ، حتّى تكون منسوخة بآية القتال (٢).

(وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (١٦) اللهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (١٧) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا

__________________

(١) النساء : ١٥٠ ـ ١٥١.

(٢) التوبة : ٢٩.

٢٠٩

يُؤْمِنُونَ بِها وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (١٨) اللهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (١٩) مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (٢٠))

ولمّا تقدّم ظهور الحجّة وانقطاع المحاجّة ، عقّبه بذكر من يحاجّ بالباطل ، فقال : (وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللهِ) في دينه (مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ) من بعد ما استجاب له الناس ودخلوا في الإسلام ، ليردّوهم إلى دين الجاهليّة ، كقوله : (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً) (١).

وقيل : نزلت في اليهود والنصارى كانوا يقولون للمؤمنين : كتابنا قبل كتابكم ، ونبيّنا قبل نبيّكم ، ونحن خير منكم.

وقيل : من بعد ما استجاب الله لرسوله ، وأظهر دينه بنصره يوم بدر. أو من بعد ما استجاب له أهل الكتاب ، بأن أقرّوا بنبوّته واستفتحوا به.

(حُجَّتُهُمْ) أي : ما سمّوه حجّة على اعتقادهم (داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ) زائلة باطلة (وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ) لمعاندتهم (وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) على كفرهم.

(اللهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ) جنس الكتاب (بِالْحَقِ) ملتبسا بالحقّ ، مقترنا به ، بعيدا من الباطل. أو بالغرض الصحيح كما اقتضته الحكمة ، أو بالواجب من التحليل والتحريم ، وغير ذلك من العقائد والأحكام. (وَالْمِيزانَ) والشرع الّذي توزن به الحقوق ، ويسوّى بين الناس. أو العدل. ومعنى إنزاله : أنّه أمر به في كتبه المنزلة.

__________________

(١) البقرة : ١٠٩.

٢١٠

وقيل : الّذي توزن به الأجناس. وإنزاله الوحي بإعداده والأمر به في الكتب السماويّة.

(وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ) إتيانها ، فاتّبع الكتاب ، واعمل بالشرع ، وواظب على العدل ، قبل أن يفاجئك اليوم الّذي توزن فيه أعمالك وتوفى جزاؤك. وقيل : تذكير القريب لأنّه بمعنى : ذات قرب ، أو لأنّ الساعة بمعنى البعث.

(يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها) استهزاء (وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها) خائفون من مجيئها ، مع اعتنائهم بها ، لتوقّع الثواب (وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُ) الكائن لا محالة (أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ) يجادلون فيها ، فيخاصمون في مجيئها على وجه الإنكار لها. من المرية ، أي : يدخلهم المرية والشكّ. أو من : مريت الناقة ، إذا مسحت ضرعها بشدّة للحلب ، لأنّ كلّا من المتجادلين يستخرج ما عند صاحبه بكلام فيه شدّة. (لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) عن الحقّ ، لأنّ قيام الساعة غير مستبعد من قدرة الله ، ولدلالة الكتاب المعجز على أنّها آتية ، ولشهادة العقول على أنّه لا بدّ من دار جزاء. فالبعث أشبه الغائبات إلى المحسوسات ، فمن لم يهتد لتجويزه فهو أبعد عن الاهتداء إلى ما وراءه.

(اللهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ) برّ بهم بصنوف من البرّ بحيث لا تبلغها الأفهام. أو عالم بخفيّات الأمور والغيوب ، فيوصل النعمة إلى العباد من وجه يدقّ إدراكه ، بأن يعطيهم النعم الّتي لا يترقّبونها ، ويصرف الآفات عنهم ، ويدخل السرور والملاذّ إليهم ، بحيث خفي أسبابها عنهم ، وغير ذلك من الألطاف الّتي لا يوقف على كنهها لغموضها.

(يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ) أي : يرزقه كما يشاء ، فيخصّ كلّا من عباده بنوع من البرّ على ما اقتضته حكمته. يعني : كلّهم مبرورون بحيث لا يخلو أحد من برّه ، إلّا أنّ البرّ أصناف ، وله أوصاف ، والقسمة بين العباد تتفاوت على حسب تفاوت قضايا

٢١١

الحكمة والتدبير ، فيطير (١) لبعض العباد صنف من البرّ لم يطر مثله لآخر ، ويصيب هذا حظّ له وصف ليس ذلك الوصف لحظّ صاحبه. فمن قسّم له منهم ما لم يقسّم للآخر فقد رزقه ، كما يرزق أحد الأخوين ولدا دون الآخر ، على أنّه أصابه بنعمة اخرى لم يرزقها صاحب الولد. أو معناه : يوسع الرزق على من يشاء. يقال : فلان مرزوق ، إذا وصف بسعة الرزق.

وقيل : معناه : يرزق من يشاء في خفض ودعة ، ومن يشاء في كدّ وتعب. وكلّ من يرزقه الله من ذي روح ، فهو ممّن يشاء أن يرزقه.

(وَهُوَ الْقَوِيُ) الباهر القدرة (الْعَزِيزُ) المنيع الغالب الّذي لا يغلب.

(مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ) ثوابها ، أو العمل الّذي يوجب ثوابها. شبّهه بالزرع من حيث إنّه فائدة تحصل بعمل الدنيا ، ولذلك قيل : الدنيا مزرعة الآخرة. والحرث في الأصل إلقاء البذر في الأرض. ويقال للزرع الحاصل منه أيضا. (نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ) فنعطه بالواحد عشرا إلى سبعمائة فما فوقها. أو نوفّقه في عمله ، فضوعفت حسناته. فسمّى ما يعمله العامل ممّا يبغي به الفائدة والزكاء حرثا على المجاز.

(وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها) شيئا منها ، لا ما يريده ويبتغيه. وهو رزقه الّذي قسمنا له. (وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ) إذ الأعمال بالنيّات ، ولكلّ امرئ ما نوى.

وقيل : معناه من قصد بالجهاد وجه الله فله سهم الغانمين والثواب في الآخرة ، ومن قصد به الغنيمة لم يحرم ذلك ، وحصل له سهمه من الغنيمة ، ولكن لا نصيب له من الثواب في الآخرة.

وروي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «من كانت نيّته الآخرة جمع الله شمله ،

__________________

(١) أي : يقسم ، من : أطار المال : قسمه.

٢١٢

وجعل غناه في قلبه ، وأتته الدنيا وهي راغمة. ومن كانت نيّته الدنيا فرّق الله عليه أمره ، وجعل الفقر بين عينيه ، ولم يأته من الدنيا إلّا ما كتب له».

وعن الحسن : من كان يعمل للآخرة نال الدنيا والآخرة ، ومن عمل للدنيا فلا حظّ له في الآخرة ، لأنّ الأعلى لا يجعل تبعا للأدون.

(أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ وَلَوْ لا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢١) تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (٢٢) ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً إِنَّ اللهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (٢٣))

ولمّا أخبر سبحانه أنّ من يطلب الدنيا بأعماله فلا حظّ له في الآخرة ، قال : (أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ) بل ألهم شركاء. والهمزة للتقريع والتقرير. وشركاؤهم شياطينهم.

(شَرَعُوا لَهُمْ) بالتزيين (مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ) كالشرك ، وإنكار البعث ، والعمل للدنيا.

وقيل : شركاؤهم أوثانهم. وإضافتها إليهم لأنّهم متّخذوها شركاء لله ، فتارة تضاف إليهم لهذه الملابسة ، وتارة إلى الله. وإسناد الشرع إليها لأنّها سبب ضلالتهم

٢١٣

وافتتانهم بما تديّنوا به ، فكأنّها شارعة لهم دين الكفر ، كما قال إبراهيم عليه‌السلام : (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ) (١). أو صور من سنّه لهم ، كما قيل : إنّ جمشيد أخذ تماثيل مصوّرة بصورته ، فأرسلها إلى الأقاليم ليعظّموها.

(وَلَوْ لا كَلِمَةُ الْفَصْلِ) أي : القضاء السابق بتأجيل الجزاء ، أو العدّة بأنّ الفصل يكون يوم القيامة (لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) بين الكافرين والمؤمنين ، أو المشركين وشركائهم (وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ).

(تَرَى الظَّالِمِينَ) في القيامة (مُشْفِقِينَ) خائفين خوفا شديدا أرقّ (٢) قلوبهم (مِمَّا كَسَبُوا) من السيّئات (وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ) أي : وباله لا حق بهم ، وواصل إليهم ، لا بدّ لهم منه ، أشفقوا أولم يشفقوا (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ) في أطيب بقاعها وأنزهها ، فإنّ الروضة الأرض الخضرة بحسن النبات والأشجار المثمرة المورقة المونقة (لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ) أي : ما يشتهونه ثابت لهم عند ربّهم (ذلِكَ) إشارة إلى ما للمؤمنين (هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) الّذي يصغر عنده ما لغيرهم في الدنيا.

(ذلِكَ الَّذِي) ذلك الثواب الّذي (يُبَشِّرُ اللهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أي : يبشّرهم الله به ، فحذف الجارّ ثمّ العائد. أو ذلك التبشير الّذي يبشّره الله عباده ، ليستعجلوا بذلك السرور في الدنيا.

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي : يبشر ، من بشره. ومن شدّد الشين أراد به التكثير ، ومن خفّفها فلأنّه يدلّ على القليل والكثير.

روي : أنّه اجتمع المشركون في مجمع لهم فقال بعضهم لبعض : أَترون محمّدا يسأل على ما يتعاطاه أجرا؟ فنزلت : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ) على ما أتعاطاه من

__________________

(١) إبراهيم : ٣٦.

(٢) أي : ألانه.

٢١٤

التبليغ والبشارة (أَجْراً) نفعا منكم (إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) إلّا أن تودّوا أهل قرابتي. ولم يكن هذا أجرا في الحقيقة ، لأنّ قرابته قرابتهم ، فكانت صلتهم لازمة لهم في المروءة. ويجوز أن يكون منقطعا ، أي : لا أسألكم أجرا قطّ ، ولكن أسألكم أن تودّوا قرابتي الّذين هم قرابتكم ، ولا تؤذوهم.

ولم يقل : إلّا مودّة القربى ، أو إلّا المودّة للقربى ، بل قال : إلّا المودّة في القربى ، لإفادة أنّهم جعلوا مكانا للمودّة ومقرّا لها ، كقولك : لي في آل فلان مودّة ، ولي فيهم هوى وحبّ شديد. تريد : أحبّهم ، وهم مكان حبّي ومحلّه. وليست «في» بصلة للمودّة ، كاللام إذا قلت : إلّا المودّة للقربى ، بل هي متعلّقة بمحذوف تعلّق الظرف به في قولك : المال في الكيس. وتقديره : إلّا المودّة ثابتة في القربى ومتمكّنة فيها. والقربى مصدر كالزلفى والبشرى ، بمعنى القرابة. والمراد : في أهل القربى ، كما فسّرنا به.

روي عن قيس ، عن الأعمش ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عبّاس أنّها لمّا نزلت قيل : يا رسول الله من قرابتك هؤلاء الّذين وجبت علينا مودّتهم؟ قال : «عليّ ، وفاطمة ، وابناهما».

قال النيشابوري في تفسيره بعد ذكر هذا الحديث : «ولا ريب أنّ هذا فخر عظيم وشرف تامّ. ويؤيّده ما روي عن عليّ عليه‌السلام : شكوت إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حسد الناس لي ، فقال : «أما ترضى أن تكون رابع أربعة : أوّل من يدخل الجنّة أنا وأنت والحسن والحسين ، وأزواجنا عن أيماننا وشمائلنا ، وذرّيّتنا خلف أزواجنا» (١).

وعن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «حرّمت الجنّة على من ظلم أهل بيتي وآذاني في عترتي.

ومن اصطنع صنيعة إلى أحد من ولد عبد المطّلب ، ولم يجازه عليها ، فأنا أجازيه عليها غدا إذا لقيني يوم القيامة».

__________________

(١) غرائب القرآن ٦ : ٧٤.

٢١٥

وقال النيشابوري : إنّه كان يقول : «فاطمة بضعة منّي ، يؤذيني ما يؤذيها».

وثبت بالنقل المتواتر أنّه كان يحبّ عليّا والحسن والحسين ، وإذا كان كذلك وجب علينا محبّتهم ، لقوله : (فَاتَّبِعُوهُ) (١). وكفى شرفا لآل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفخرا ختم التشهّد بذكرهم ، والصلاة عليهم في كلّ صلاة» (٢). انتهى كلامه.

وورد من طرق الخاصّة والعامّة أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «مثل أهل بيتي كمثل سفينة نوح ، من ركب فيها نجا ، ومن تخلّف عنها غرق».

فنحن نركب سفينة حبّ آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لنتخلّص في بحر التكليف وظلمة الجهالة من أمواج الشبه والضلالة.

وروي : أنّ الأنصار قالوا : فعلنا وفعلنا ، كأنّهم افتخروا. فقال عبّاس : لنا الفضل عليكم. فبلغ ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فأتاهم في مجالسهم ، فقال : «يا معشر الأنصار الم تكونوا أذلّة فأعزّكم الله بي؟

قالوا : بلى يا رسول الله.

قال : ألم تكونوا ضلّالا فهداكم الله بي؟

قالوا : بلى يا رسول الله.

قال : أَفلا تجيبونني؟ يعني : لم لم تفتخروا أنتم أيضا؟

قالوا : ما نقول يا رسول الله؟

قال : ألا تقولون : ألم يخرجك قومك فآويناك؟ أولم يكذّبوك فصدّقناك؟ أو لم يخذلوك فنصرناك؟

قال : فما زال يقول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتّى جثوا على الركب وقالوا : أموالنا وما في أيدينا لله ولرسوله». فنزلت الآية.

__________________

(١) الأنعام : ١٥٣.

(٢) غرائب القرآن ٦ : ٧٤.

٢١٦

وروى الزمخشري والثعلبي في تفسيريهما أنّه قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من مات على حبّ آل محمد مات شهيدا ، ألا ومن مات على حبّ آل محمّد مات مغفورا له ، ألا ومن مات على حبّ آل محمّد مات تائبا ، ألا ومن مات على حبّ آل محمد مات مؤمنا مستكمل الإيمان ، ألا ومن مات على حبّ آل محمّد بشّره ملك الموت بالجنّة ، ثمّ منكر ونكير ، ألا ومن مات على حبّ آل محمّد يزفّ إلى الجنّة كما تزفّ العروس إلى بيت زوجها ، ألا ومن مات على حبّ آل محمّد فتح له في قبره بابان إلى الجنّة ، ألا ومن مات على حبّ آل محمّد جعل الله قبره مزار ملائكة الرحمة ، ألا ومن مات على حبّ آل محمّد مات على السنّة والجماعة ، ألا ومن مات على بغض آل محمّد جاء يوم القيامة مكتوب بين عينيه : آيس من رحمة الله ، ألا ومن مات على بغض آل محمّد مات كافرا ، ألا ومن مات على بغض آل محمّد لم يشمّ رائحة الجنّة» (١).

وقيل : لم يكن بطن من بطون قريش إلّا وبين رسول الله وبينهم قربى ، فلمّا كذّبوه وأبوا أن يبايعوه نزلت. والمعنى : إلّا أن تودّوني في القربى ، أي : في حقّ القربى ومن أجلها ، كما تقول : الحبّ في الله والبغض في الله ، بمعنى : في حقّه ومن أجله. يعني : أنّكم قومي وأحقّ من أجابني وأطاعني ، فإذا قد أبيتم ذلك فاحفظوا حقّ القربى ، ولا تؤذوني ، ولا تهيّجوا عليّ.

وقيل : أتت الأنصار رسول الله بمال جمعوه وقالوا : يا رسول الله قد هدانا الله بك ، أنت ابن أختنا وتعروك نوائب وحقوق ومالك سعة ، فاستعن بهذا على ما ينوبك. فنزلت ، وردّه.

وقيل : «القربى» التقرّب إلى الله ، أي : لا أسألكم على تبليغ الرسالة وتعليم الشريعة أجرا ، إلّا أن تحبّوا الله ورسوله في تقرّبكم إليه بالطاعة والعمل الصالح.

__________________

(١) الكشّاف ٤ : ٢٢٠ ـ ٢٢١.

٢١٧

والقول الأوّل منقول عن عليّ بن الحسين ، وسعيد بن جبير ، وعمرو بن شعيب ، وجماعة كثيرة. وهو المرويّ عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما‌السلام.

وفي شواهد التنزيل مرفوعا إلى أبي امامة الباهلي قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ الله خلق الأنبياء من أشجار شتّى ، وخلقت أنا وعليّ من شجرة واحدة. فأنا أصلها ، وعليّ فرعها ، وفاطمة لقاحها ، والحسن والحسين ثمارها ، وأشياعنا أوراقها. فمن تعلّق بغصن من أغصانها نجا ، ومن زاغ عنها هوى. ولو أنّ عبدا عبد الله بين الصفا والمروة ألف عام ثمّ ألف عام ثمّ ألف عام ، حتّى يصير كالشنّ (١) البالي ، ثمّ لم يدرك محبّتنا ، أكبّه الله في النار على منخريه. ثمّ تلا : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً) الآية» (٢).

وروي عن عليّ عليه‌السلام قال : «فينا في آل حم آية ، لا يحفظ مودّتنا إلّا كلّ مؤمن. ثمّ قرأ هذه الآية».

(وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً) ومن يكتسب طاعة سيّما حبّ آل الرسول (نَزِدْ لَهُ فِيها) في الحسنة (حُسْناً) بمضاعفة الثواب (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ) لمن أذنب (شَكُورٌ) لمن أطاع ، بتوفية الثواب والتفضّل عليه بالزيادة ، فإنّ الشكور في صفة الله مجاز للاعتداد بالطاعة ، وتوفية ثوابها ، والتفضّل على المثاب. وعن السدّي : أنّها ـ أي : الحسنة ـ المودّة لآل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وصحّ عن الحسن بن عليّ أنّه عليه‌السلام خطب الناس فقال في خطبته : «أنا من أهل البيت الّذين افترض الله مودّتهم على كلّ مسلم ، فقال : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً) فاقتراف الحسنة مودّتنا أهل البيت».

__________________

(١) الشنّ : القربة البالية الصغيرة.

(٢) شواهد التنزيل ٢ : ٢٠٣ ح ٨٣٧.

٢١٨

وروى إسماعيل بن عبد الخالق ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «إنّها نزلت فينا أهل البيت أصحاب الكساء».

والظاهر العموم في أيّ حسنة كانت ، إلّا أنّها لمّا ذكرت عقيب ذكر المودّة في القربى ، دلّ ذلك على أنّها تناولت المودّة تناولا أوّليّا ، وكان سائر الحسنات لها توابع.

(أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَإِ اللهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٢٤) وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (٢٥) وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (٢٦))

(أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى) بل أَيقولون افترى محمّد (عَلَى اللهِ كَذِباً) بدعوى النبوّة أو القرآن. فـ «أم» منقطعة ، والهمزة للتوبيخ. كأنّه قيل : أَيتمالكون أن ينسبوا مثل الرسول إلى الافتراء ، ثم إلى الافتراء على الله الّذي هو أعظم الفري وأفحشها؟

(فَإِنْ يَشَإِ اللهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ) استبعاد للافتراء عن مثله ، مع الإشعار على أنّه إنّما يجترئ عليه من كان مختوما على قلبه جاهلا بربّه ، فأمّا من كان ذا بصيرة ومعرفة فلا. وكأنّه قال : إن يشأ الله يجعلك من المختوم على قلوبهم ، حتّى تفتري عليه الكذب ، فإنّه لا يجترئ على افتراء الكذب على الله إلّا من كان في مثل حالهم.

٢١٩

وعن قتادة : معنى (يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ) ينسك القرآن ، ويقطع عنك الوحي.

يعني : لو حدّث نفسك بأن تفتري على الله كذبا لطبع الله على قلبك ، ولأنساك القرآن. وهذا كقوله : (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) (١).

وقيل : (يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ) يربط عليه بالصبر ، حتّى لا يشقّ عليك أذاهم.

(وَيَمْحُ اللهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ) استئناف لنفي الافتراء عمّا يقوله ، بأنّه لو كان مفترى لمحقه ، إذ من عادته تعالى محو الباطل وإثبات الحقّ بوحيه أو بقضائه ، كقوله : (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ) (٢). يعني : لو كان مفتريا كما تزعمون لكشف الله افتراءه ومحقه ، وقذف بالحقّ على باطله فدمغه. ويجوز أن يكون عدة لرسول الله بأنّه يمحو الباطل الّذي هم عليه من البهتان والتكذيب ، وتثبيت الحقّ الّذي أنت عليه بالقرآن وبقضائه الّذي لا مردّ له من نصرك عليهم.

(إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) بما في صدرك وصدورهم ، فيجري الأمر على حسب ذلك. وسقوط الواو من «يمح» في بعض المصاحف لاتّباع اللفظ ، كما في قوله : (وَيَدْعُ الْإِنْسانُ) (٣) و (سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ) (٤).

(وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ) بالتجاوز عمّا تابوا عنه وإن عظمت معاصيهم. فكأنّه قال : من نسب محمّدا إلى الافتراء ثمّ تاب قبلت توبته وإن جلّت معصيته. والقبول يعدّى إلى مفعول ثان بـ «من» و «عن» ، لتضمّنه معنى الأخذ والإبانة. يقال : قبلت منه الشيء ، وقبلته عنه. فمعنى قبلته منه : أخذته منه ، وجعلته مبدأ قبولي ومنشأه. ومعنى قبلته عنه : عزلته وأبنته عنه. والتوبة أن يرجع عن

__________________

(١) الزمر : ٦٥.

(٢) الأنبياء : ١٨.

(٣) الإسراء : ١١.

(٤) العلق : ١٨.

٢٢٠