زبدة التّفاسير - ج ٦

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني

زبدة التّفاسير - ج ٦

المؤلف:

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني


المحقق: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-7777-08-6
ISBN الدورة:
964-7777-02-5

الصفحات: ٦٤٠

وعن الحسن : لمّا رأوا أعمالهم الخبيثة مقتوا أنفسهم ، فنودوا : «لمقت الله».

وقيل : معناه : لمقت الله إيّاكم الآن أكبر من مقت بعضكم لبعض ، كقوله تعالى : (يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) (١).

(إِذْ تُدْعَوْنَ) ظرف. وعامله فعل دلّ عليه المقت الأوّل ، لا هو ، لأنّه أخبر عنه ، وقد فصل بينه وبين الظرف خبره ، أعني «أكبر» ، فلا يجوز. ولا المقت الثاني ، لأنّ مقتهم أنفسهم يوم القيامة حين عاينوا جزاء أعمالهم الخبيثة. فالمعنى : مقتكم الله حين كان الأنبياء يدعونكم (إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ) فتأبون قبوله ، وتختارون عليه الكفر. أو تعليل للحكم ، وزمان المتقين واحد.

ثمّ حكى سبحانه عن الكفّار الّذين تقدّم وصفهم بعد حصولهم في النار ، بأنّهم (قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ) إماتتين ، بأن خلقتنا أمواتا أولا ، ثمّ صيّرتنا أمواتا عند انقضاء آجالنا ، فإنّ الإماتة جعل الشيء عادم الحياة ابتداء ، فيصحّ أن يسمّى خلقهم أمواتا إماتة ، كما يصحّ أن تقول : سبحان من صغّر البعوض وكبّر الفيل ، وتقول للحفّار : ضيّق فم الركيّة (٢) ووسّع أسفلها ، وليس ثمّ نقل من كبر إلى صغر ، ولا من صغر إلى كبر ، ولا من ضيق إلى سعة ، ولا من سعة إلى ضيق ، وإنّما أردت الإنشاء على تلك الصفات. والسبب في صحّته أنّ الصغر والكبر جائزان معا على المصنوع الواحد من غير ترجّح لأحدهما ، وكذلك الضيق والسعة ، فإذا اختار الصانع أحد الجائزين وهو متمكّن منهما على السواء ، فقد صرف المصنوع عن الجائز الآخر ، فجعل صرفه عنه كنقله منه.

(وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ) الإحياءة الأولى ، وإحياءة البعث. وناهيك تفسيرا لذلك

__________________

(١) العنكبوت : ٢٥.

(٢) الركيّة : البئر ذات الماء.

١٢١

قوله تعالى : (وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) (١). وكذا عن ابن عبّاس وأئمّة التفسير.

وعن السدّي : أنّ المراد بالإماتتين : الّتي بعد حياة الدنيا ، والّتي بعد حياة القبر. ولزمه إثبات ثلاث إحياءات : إحياءة في ظهر الأرض ، وإحياءة في القبر للسؤال ، وإحياءة للحشر. وهو خلاف ما في القرآن ، إلّا أن يتمحّل فيجعل حياة القبر غير معتدّ بها ، لقلّة زمانها.

ومقصودهم من هذا القول اعترافهم بعد المعاينة بما غفلوا عنه ولم يكترثوا به ، ولذلك تسبّبوا بقولهم : (فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا) فإنّ اقترافهم لها من اغترارهم بالدنيا وإنكارهم البعث. وتبع ذلك من الذنوب ما لا يحصى ، لأنّ من لم يخش العاقبة توسّع في المعاصي. فلمّا رأوا الإماتة والإحياء تكرّرا عليهم ، علموا بأن الله قادر على الإعادة قدرته على الإنشاء ، فاعترفوا بذنوبهم الّتي اقترفوها من إنكار البعث وما تبعه من معاصيهم.

(فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ) نوع خروج سريع أو بطيء من النار (مِنْ سَبِيلٍ) طريق فنسلكه. وذلك إنّما يقولونه من فرط قنوطهم تعلّلا وتحيّرا. ولذلك أجيبوا بقوله : (ذلِكُمْ) الّذي أنتم فيه من أنّه لا سبيل لكم إلى خروج من سبيل (بِأَنَّهُ) بسبب أنّه (إِذا دُعِيَ اللهُ وَحْدَهُ) متّحدا. أو توحّد وحده ، فحذف الفعل وأقيم مقامه في الحاليّة. (كَفَرْتُمْ) بالتوحيد (وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا) بالإشراك (فَالْحُكْمُ لِلَّهِ) المستحقّ للعبادة ، حيث حكم عليكم بالعذاب السرمد (الْعَلِيِ) القادر على كلّ شيء ، ليس فوقه من هو أقدر منه ، أو من يساويه في مقدوره. ونقلت هذه اللفظة من علوّ المكان إلى علوّ الشأن ، ولذلك جاز وصفه سبحانه بذلك ، كما يقال : استعلى فلان عليه بالقوّة وبالحجّة. (الْكَبِيرِ)

__________________

(١) البقرة : ٢٨.

١٢٢

العظيم في صفاته الّتي لا يشاركه فيها غيره ، ومن أن يشرك به ويسوّى به بعض مخلوقاته.

(هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً وَما يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَنْ يُنِيبُ (١٣) فَادْعُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (١٤) رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ (١٥) يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (١٦) الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (١٧))

(هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ) مصنوعاته الدالّة على توحيده وكمال قدرته ، من الريح والسحاب والرعد والبرق والصواعق والشمس والقمر والنجوم ، وسائر ما في السماوات والأرض (وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً) أسباب رزق ، كالمطر ، مراعاة لمعاشكم.

(وَما يَتَذَكَّرُ) وما يعتبر ويتّعظ بالآيات الّتي هي كالمركوزة في العقول ، لظهورها المغفول عنها ، للانهماك في التقليد واتّباع الهوى (إِلَّا مَنْ يُنِيبُ) يرجع عن الإنكار والعناد بالإقبال عليها والتفكّر فيها ، فإنّ المعاند لا سبيل إلى تذكّره واتّعاظه ، والجازم بشيء لا ينظر فيما ينافيه.

ثمّ قال لمن ينيب : (فَادْعُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) من الشرك (وَلَوْ كَرِهَ

١٢٣

الْكافِرُونَ) إخلاصكم ، وشقّ عليهم.

(رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ) خبران آخران لقوله : «هو». أو خبران لمبتدأ محذوف ، للدلالة على علوّ صمديّته ، من حيث المعقول والمحسوس الدالّ على تفرّده في الألوهيّة ، فإنّ من ارتفعت درجات كماله ومراتب عزّته وملكوته بحيث لا يحيط العقل بكنهه ، وكان العرش الّذي هو أصل العالم الجسماني في قبضة قدرته ، لا يصحّ أن يشرك به.

وقيل : معناه : رافع درجات مراتب المخلوقات من الأنبياء والأولياء في الجنّة. أو درجات ثوابه الّتي ينزلها أولياءه في الجنّة.

(يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ) خبر رابع للدلالة على أنّ الروحانيّات أيضا مسخّرات لأمره. والمراد بالروح الوحي. وتسميته بالروح لأنّه يحيي القلوب من موت الكفر. و «من» لابتداء الغاية. يعني : يلقي الوحي الّذي مبدؤه من أمره. أو بيانيّة. والمعنى : هو يلقي الوحي الّذي هو أمره بالخير.

(عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) على قلب من يشاء ممّن يراه أهلا للنبوّة. يقال : ألقيت عليه كذا ، أي : فهّمته (لِيُنْذِرَ) غاية الإلقاء. والمستكين فيه لله ، أو لـ «من» ، أو لـ «الروح». أي : لينذر الله بالروح ، أو الملقى عليه به ، أو الروح. (يَوْمَ التَّلاقِ) يوم القيامة ، فإنّ فيه تتلاقى الأرواح والأجساد ، وأهل السماء والأرض. أو المعبودون والعبّاد. أو العمّال والأعمال.

(يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ) خارجون من قبورهم. أو ظاهرون لا يسترهم شيء ، من جبل أو أكمة (١) أو بناء ، لأنّ الأرض يومئذ تكون قاعا صفصفا. أو لا عليهم ثياب ، بل إنّما هم عراة مكشوفون ، كما قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يحشرون عراة حفاة

__________________

(١) الأكمة : التلّ ، أو الموضع الّذي يكون أكثر ارتفاعا ممّا حوله.

١٢٤

غرلا» (١). أو ظاهرة نفوسهم ، لا تحجبهم غواشي الأبدان الكثيفة. أو أعمالهم وسرائرهم.

(لا يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ) من أعيانهم وأعمالهم. وهذا تقرير لقوله : «هم بارزون» ، وإزاحة لنحو ما يتوهّم في الدنيا. يعني : أنّهم كانوا يتوهّمون في الدنيا إذا استتروا بالحيطان والحجب أنّ الله لا يراهم ، وتخفى عليه أعمالهم ، فهم اليوم صائرون من البروز والانكشاف إلى حال لا يتوهّمون فيها مثل ما كانوا يتوهّمونه. قال الله تعالى : (وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ) (٢).

(لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ) فيقرّ المؤمنون والكافرون (لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) وهذا حكاية لما يسأل عنه في ذلك اليوم ، ولما يجاب به. ومعناه : أنّه ينادي مناد فيقول : لمن الملك اليوم. فيجيبه أهل المحشر : لله الواحد القهّار.

وقيل : يجمع الله الخلائق يوم القيامة في صعيد واحد بأرض بيضاء ، كأنّها سبيكة فضّة لم يعص الله فيها قطّ ، فأوّل ما يتكلّم به أن ينادي مناد : لمن الملك اليوم لله الواحد القهّار.

وقال القرظي : يقول الله تعالى ذلك بين النفختين حين يفني الخلائق كلّها ، ثمّ يجيب نفسه ، لأنّه بقي وحده.

ويضعّف هذا القول ، إذ بيّن أنّه يقول ذلك يوم التلاق ، يوم يبرز العباد فيه من قبورهم. وإنّما خصّ ذلك اليوم بأنّ له الملك فيه ، لأنّه قد ملك العباد بعض الأمور في الدنيا ، ولا يملك أحد شيئا ذلك اليوم. أو حكاية لما دلّ عليه ظاهر الحال فيه من زوال الأسباب وارتفاع الوسائط ، وأمّا حقيقة الحال فناطقة بذلك دائما.

ولمّا قرّر أنّ الملك لله وحده في ذلك اليوم ، عدّد نتائج ذلك بقوله : (الْيَوْمَ

__________________

(١) غرل جمع أغرل ، وهو الصبي الذي لم يختن.

(٢) فصلت : ٢٢.

١٢٥

تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) يجزي المحسن بإحسانه ، والمسيء بإساءته. وتحقيقه : أنّ النفوس تكتسب بالعقائد والأعمال هيئات توجب لذّتها وألمها ، لكنّها لا تشعر بها في الدنيا لعوائق تشغلها ، فإذا قامت قيامتها زالت العوائق وأدركت لذّتها وألمها.

وفي الحديث : «إنّ الله تعالى يقول : أنا الملك ، أنا الديّان ، لا ينبغي لأحد من أهل الجنّة أن يدخل الجنّة ، ولا لأحد من أهل النار أن يدخل النار ، وعنده مظلمة حتّى أقضيه منه. وتلا هذه الآية».

(لا ظُلْمَ الْيَوْمَ) بنقص الثواب وزيادة العذاب (إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) إذ لا يشغله شأن عن شأن ، فيصل إليهم ما يستحقّونه سريعا في وقت واحد ، وهو أسرع الحاسبين. وعن ابن عبّاس : إذا أخذ في حسابهم لم يقل (١) أهل الجنّة إلّا فيها ، ولا أهل النار إلّا فيها.

(وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ (١٨) يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ (١٩) وَاللهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (٢٠))

ثمّ أمر سبحانه نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يخوّف المكلّفين يوم القيامة ، فقال : (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ) أي : القيامة سمّيت بها لأزوفها ، أي : قربها. ويجوز ان يريد بيوم الآزفة وقت الخطّة الآزفة ، وهي مشارفتهم دخول النار. (إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ) فإنّها

__________________

(١) من : قال يقيل قيلولة : نام في القائلة ، أي : في منتصف النهار.

١٢٦

ترتفع عن مقارّها فتلتصق بحلوقهم ، فلا هي تخرج فيموتوا ، ولا ترجع إلى موضعها فيتنفّسوا ويتروّحوا ، ولكنّها معترضة كالشجا (١).

(كاظِمِينَ) ممتلئين غمّا وخوفا. حال من أصحاب القلوب على المعنى ، لأنّ المعنى : إذ قلوبهم لدى حناجرهم كاظمين عليها. ويجوز أن يكون حالا من القلوب ، أي : حال كون القلوب كاظمة على غمّ وكرب فيها مع بلوغها الحناجر.

وإنّما جمع جمع السلامة ، لأنّه وصفها بالكظم الّذي هو من أفعال العقلاء ، كما قال : (رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ) (٢). وقال : (فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ) (٣). أو من مفعول «أنذرهم» على أنّه حال مقدّرة ، أي : أنذرهم مقدّرين أو مشارفين الكظم ، كقوله : (فَادْخُلُوها خالِدِينَ) (٤).

(ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ) قريب مشفق (وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ) أي : شفيع يشفع ، فإنّ المطاع مجاز في المشفع ، لأنّ حقيقة الطاعة نحو حقيقة الأمر ، في أنّها لا تكون إلّا لمن فوقك ، فلو كان المطاع على حقيقته لكان الله مطيعا ، والمطيع يكون أدنى مرتبة ، تعالى الله عن ذلك. والضمائر إن كانت للكفّار ـ وهو الظاهر ـ كان وضع الظالمين موضع ضميرهم ، للدلالة على اختصاص ذلك بهم ، وأنّه لظلمهم.

واعلم أنّ معنى قوله : (وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ) نفي الشفاعة والطاعة معا ، لا نفي الطاعة دون الشفاعة. كما تقول : ما عندي كتاب يباع. فهو محتمل نفي البيع وحده ، وأنّ عندك كتابا إلّا أنّك لا تبيعه ، ونفيهما جميعا ، بأن لا كتاب عندك ، ولا كونه مبيعا. لأنّ الشفعاء هم أولياء الله ، وأولياء الله لا يحبّون ولا يرضون إلّا من أحبّه الله

__________________

(١) الشجا : ما اعترض في الحلق من عظم ونحوه.

(٢) يوسف : ٤.

(٣) الشعراء : ٤.

(٤) الزمر : ٧٣.

١٢٧

ورضيه ، وأنّ الله لا يحبّ الظالمين ، فلا يحبّونهم ، وإذا لم ينصروهم ولم يشفعوا لهم. قال الله تعالى : (وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ) (١). وقال : (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) (٢). ولأنّ الشفاعة لا تكون إلّا في زيادة التفضّل ، وأهل التفضّل وزيادته إنّما هم أهل الثواب ، بدليل قوله : (وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) (٣). وعن الحسن : والله ما يكون لهم شفيع البتّة.

والفائدة في ذكر الصفة ونفيها ـ مع أنّ الغرض حاصل بذكر الشفيع ونفيه فقط ـ إقامة انتفاء الموصوف مقام الشاهد على انتفاء الصفة ، لأن الصفة لا تتأتّى بدون موصوفها ، فيكون ضمّها إليه إزالة لتوهّم وجود الموصوف. بيانه : إنّك إذا عوتبت على القعود عن الغزو فقلت : ما لي فرس أركبه ، ولا معي سلاح أحارب به ، فقد جعلت عدم الفرس وفقد السلاح علّة مانعة من الركوب والمحاربة. كأنّك تقول : كيف يتأتّى منّي الركوب والمحاربة ولا فرس لي ولا سلاح معي؟ فكذلك قوله : (وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ) معناه : كيف يتأتّى التشفيع ولا شفيع؟

(يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ) أي : النظرة الخائنة ، كالنظرة الثانية إلى غير المحرم ، واستراق النظر إليه ، على أن تكون صفة للنظرة. أو خيانة الأعين ، على أن تكون مصدرا بمعنى الخيانة ، كالعافية بمعنى المعافاة. ولا يحسن أن يراد الخائنة من الأعين ، لأنّه لا يساعد عليه قوله : (وَما تُخْفِي الصُّدُورُ) من الضمائر.

والجملة خبر خامس ، للدلالة على أنّها ما من خفيّ إلّا وهو متعلّق العلم والجزاء ، مثل «يلقي الروح» ، ولكن «يلقي الروح» قد علّل بقوله : (لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ). ثمّ استطرد ذكر أحوال يوم التلاق إلى قوله : (وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ) ، فبعد

__________________

(١) البقرة : ٢٧٠.

(٢) الأنبياء : ٢٨.

(٣) النساء : ١٧٣.

١٢٨

لذلك عن أخواته.

(وَاللهُ) والّذي هذه صفاته (يَقْضِي) يفصل بين الخلائق (بِالْحَقِ) فيوصل كلّ ذي حقّ إلى حقّه ، لأنّه المالك الحاكم على الإطلاق ، المستغني عن الجور ، فلا يقضي بشيء إلّا وهو حقّ (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ) من الأصنام (لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ) تهكّم بهم ، لأنّ الجماد لا يقال فيه إنّه يقضي أو لا يقضي. وقرأ نافع وهشام بالتاء ، على الالتفات ، أو إضمار : قل.

(إِنَّ اللهَ هُوَ السَّمِيعُ) فيسمع المسموعات (الْبَصِيرُ) يبصر المبصرات.

وهذا تقرير لعلمه بخائنة الأعين وما تخفي الصدور ، وقضائه بالحقّ. ووعيد لهم على ما يقولون ويفعلون. وتعريض بحال ما يدعون من دونه من الأصنام ، وأنّها لا تسمع ولا تبصر. وهاتان الصفتان إذا أطلقتا على الله يرجعان إلى كونه حيّا عالما بجميع المسموعات والمبصرات ، لاستغنائه عن آلتي السمع والبصر.

(أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ (٢١) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢٢))

ثمّ نبّههم سبحانه على أن ينظروا في حال الأمم المكذّبة الخالية نظر اعتبار وتفكّر ، فقال :

(أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ) مآل حال الّذين كذّبوا الرسل قبلهم ، كعاد وثمود (كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً) قدرة وتمكّنا.

١٢٩

وإنّما جيء بالفصل بين معرفة وغير معرفة ، وحقّه أن يقع بين معرفتين ، لمضارعة «افعل من» للمعرفة في امتناع دخول اللام عليه ، فأجري مجراه. وقرأ ابن عامر : ةأشدّ منكم بالكاف. (وَآثاراً فِي الْأَرْضِ) مثل القلاع والمدائن الحصينة. وقيل : المعنى : وأكثر آثارا ، كقوله : متقلّدا سيفا ورمحا (١) ، أي : وحاملا رمحا ، لأنّ الرمح لا يتقلّد. (فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ) يمنع العذاب عنهم.

(ذلِكَ) الأخذ (بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) بالمعجزات الباهرات ، والأحكام الواضحات (فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللهُ) أهلكهم عقوبة على كفرهم (إِنَّهُ قَوِيٌ) قادر على الانتقام منهم ، متمكّن ممّا يريده غاية التمكّن (شَدِيدُ الْعِقابِ) لا يؤبه بعقاب دون عقابه.

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (٢٣) إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ (٢٤) فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (٢٥) وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ (٢٦) وَقالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ (٢٧) وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ وَقَدْ جاءَكُمْ

__________________

(١) صدره : ورأيت زوجك في الوغى متقلّدا ....

١٣٠

بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (٢٨))

ثمّ ذكر قصّة موسى وفرعون لينظروا فيها نظر اعتبار ، فقال : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا) يعني : المعجزات (وَسُلْطانٍ مُبِينٍ) وحجّة ظاهرة. والعطف لتغاير الوصفين ، أو لإفراد بعض المعجزات كالعصا ، تقديما لشأنه.

(إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ) كان موسى عليه‌السلام رسولا إلى كافّتهم ، إلّا أنّه خصّ فرعون وهامان وقارون بالذكر ، لأنّ فرعون رئيسهم ، وكان هامان وزيره ، وقارون صاحب كنوزه ، والباقون تبع لهم (فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ) يعنون : موسى عليه‌السلام.

وفيه تسلية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبيان لعاقبة من هو أشدّ من الّذين كانوا من قبلهم بطشا وأقربهم زمانا.

(فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِ) بالنبوّة (مِنْ عِنْدِنا قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ) أي : أعيدوا عليهم ما كنتم تفعلون بهم أوّلا ، كي يصدّوا عن مظاهرة موسى (وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) في ضياع. يعني : أنّهم باشروا قتلهم أوّلا فما أغنى عنهم ، ونفذ قضاء الله بإظهار من خافوه ، فما يغني عنهم هذا القتل الثاني. ووضع الظاهر فيه موضع الضمير لتعميم الحكم ، والدلالة على العلّة.

(وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي) اتركوني (أَقْتُلْ مُوسى) كانوا يكفّونه عن قتله ، ويقولون : إنّه ليس الّذي تخافه ، وهو أقلّ من ذلك وأضعف ، وما هو إلّا بعض السحرة ، ومثله لا يقاوم إلّا ساحرا مثله ، ولو قتلته أدخلت الشبهة على الناس أنّك عجزت عن معارضته بالحجّة.

والظاهر أنّ فرعون كان قد استيقن أنّه نبيّ ، وأنّ ما جاء به آيات وما هو

١٣١

بسحر ، ولكنّه كان فيه خبّ (١) وجربزة ، وكان قتّالا سفّاكا للدماء في أهون شيء ، فكيف لا يقتل من أحسّ منه بأنّه هو الّذي يثلّ (٢) عرشه ويهدم ملكه؟! ولكنّه كان يخاف إن همّ بقتله لا يتيسّر له ويعاجل بالهلاك.

وقوله : (وَلْيَدْعُ رَبَّهُ) شاهد صدق على فرط خوفه منه ومن دعوته ربّه. وكان قوله : «ذروني أقتل موسى» تمويها على قومه ، وإيهاما أنّهم هم الّذين يكفّونه ، وما كان يكفّه إلّا ما في نفسه من هول الفزع.

(إِنِّي أَخافُ) إن لم أقتله (أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ) أن يغيّر ما أنتم عليه من عبادتي وعبادة الأصنام ، لقوله : (وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ) (٣) (أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ) ما يفسد دنياكم من التفاتن (٤) والتهارج الّذي يذهب معه الأمن ، وتتعطّل المزارع والمكاسب والمعايش ، ويهلك الناس قتلا وضياعا ، إن لم يقدر أن يبدلّ دينكم بالكلّيّة.

وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر (٥) بالواو ، على معنى الجمع. وابن كثير وابن عامر والكوفيّون غير حفص بفتح الياء والهاء ورفع «الفساد».

(وَقالَ مُوسى) أي : لقومه لمّا سمع كلام فرعون (إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ) عن الإذعان للحقّ. وهو أقبح استكبار وأدلّه على دناءة صاحبه ومهانة نفسه ، وعلى فرط ظلمه.

ثمّ قال (لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ) لأنّه إذا اجتمع في الرجل التجبّر والتكذيب

__________________

(١) الخبّ : الخديعة. ورجل خبّ : خدّاع.

(٢) أي : يهدم ويسقط.

(٣) الأعراف : ١٢٧.

(٤) أي : الوقوع في الفتنة والتحارب. والتهارج : القتال والمهارشة.

(٥) أي : وأن يظهر ....

١٣٢

بالجزاء ، وقلّة المبالاة بالعاقبة ، فقد استكمل أسباب القسوة والجراءة على الله وعباده ، ولم يترك معصية عظيمة إلّا ارتكبها. وصدّر الكلام بـ «إنّ» تأكيدا وإشعارا على أنّ السبب المؤكّد في دفع الشرّ هو العياذ بالله. وخصّ اسم الربّ ، لأنّ المطلوب هو الحفظ والتربية. وإضافته إليه وإليهم حثّا لهم على اقتدائهم به ، فيعوذوا به عياذه ، لما في تظاهر الأرواح من استجلاب الإجابة. ولم يسمّ فرعون ، وذكر وصفا يعمّه وغيره ، لتعميم الاستعاذة ، والدلالة على الحامل له على هذا القول.

وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي : عدتّ ـ فيه وفي الدخان (١) ـ بالإدغام. وعن نافع مثله.

ولمّا قصد فرعون قتل موسى وعظه المؤمن من آله ، كما قال عزّ اسمه : (وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ) وكان قبطيّا ابن عمّ لفرعون ، آمن بموسى سرّا. وقيل : «من» متعلّق بقوله : (يَكْتُمُ إِيمانَهُ) من آل فرعون على وجه التقيّة. اسمه سمعان ، أو حبيب ، أو خربيل. وقيل : حزبيل.

قال أبو عبد الله عليه‌السلام : «التقيّة من ديني ودين آبائي». و «لا دين لمن لا تقيّه له».

و «التقيّة ترس الله في أرضه ، لأنّ مؤمن آل فرعون لو أظهر الإسلام لقتل».

وقال ابن عبّاس : لم يكن من آل فرعون مؤمن غيره ، وغير امرأة فرعون ، وغير المؤمن الّذي أنذر موسى ، وهو الّذي جاء من أقصى المدينة.

(أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً) أَتقصدون قتله (أَنْ يَقُولَ) لأن يقول ، أو وقت أن يقول ، من غير رؤية وتأمّل في أمره (رَبِّيَ اللهُ) وحده. وهو في الدلالة على الحصر مثل : صديقي زيد. وفيه إنكار منه عظيم ، وتبكيت شديد. كأنّه قال : أَترتكبون الفعلة الشنعاء الّتي هي قتل نفس محرّمة ، وما لكم علّة قطّ في ارتكاب قتلها إلّا كلمة الحقّ الّتي نطق بها ، وهي قوله : «ربّي الله»؟!

__________________

(١) الدخان : ٢٠.

١٣٣

(وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ) المتكثّرة على صدقه ، من المعجزات والاستدلالات ، أي : لم يحضر لتصحيح قوله بيّنة واحدة ، ولكن بيّنات عدّة (مِنْ رَبِّكُمْ) أضافه إليهم بعد ذكر البيّنات احتجاجا عليهم ، واستدراجا لهم إلى الاعتراف به.

ثمّ أخذهم بالاحتجاج على طريقة التقسيم من باب الاحتياط ، فقال : لا يخلو من أن يكون كاذبا أو صادقا (وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ) يعود عليه ، ولا يتخطّاه وبال كذبه ، فيحتاج في دفعه إلى قتله (وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ) فلا أقلّ من أن يصيبكم بعضه إن تعرّضتم له.

وفيه مبالغة في التحذير ، وإظهار للإنصاف والمداراة والتلطّف وعدم التعصّب ، كقوله : (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (١). فجاء بما علم أنّه أقرب إلى تسليمهم لقوله ، وأدخل في تصديقهم له وقبولهم منه ، ولذلك قدّم كونه كاذبا. ثمّ قال : (بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ) ، ولم يقل : يصبكم جميع الّذي يعدكم ، مع أنّ موسى نبيّ صادق لا بدّ لما يعدهم أن يصيبهم كلّه. والمراد بالبعض : عذاب الدنيا ، وهو بعض مواعيده. كأنّه خوّفهم بما هو أظهر احتمالا عندهم.

(إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ) احتجاج ثالث. ومعناه : لو كان موسى مسرفا كذّابا لما هداه الله إلى ما يدّعي من النبوّة ، ولما عضده بتلك المعجزات.

ويحتمل أن يكون معناه : أنّ من خذله الله وأهلكه ولم يستقم له أمر فلا حاجة لكم إلى قتله. ولعلّه أراد به المعنى الأوّل ، وخيّل إليهم الثاني لتلين شكيمتهم ، وعرّض به لفرعون بأنّه مسرف كذّاب لا يهديه الله سبيل الصواب وطريق النجاة. ويجوز أن يكون ذلك ابتداء كلام من الله تعالى.

__________________

(١) سبأ : ٢٤.

١٣٤

(يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللهِ إِنْ جاءَنا قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ إِلاَّ ما أَرى وَما أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشادِ (٢٩) وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ (٣٠) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ (٣١) وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ (٣٢) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٣٣) وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ (٣٤) الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (٣٥))

ثمّ ذكّرهم مؤمن من آل فرعون ما هم فيه من الملك ليشكروا الله تعالى على ذلك بالإيمان به ، فقال :

(يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ) عالين على الناس غالبين (فِي الْأَرْضِ) أرض مصر (فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللهِ) عذابه (إِنْ جاءَنا) أي : فلا تفسدوا

١٣٥

أمركم ، ولا تعرّضوا لبأس الله بقتله ، فإنّه إن جاءنا لم يمنعنا منه أحد. وإنّما أدرج نفسه في الضميرين ، لأنّه كان منهم في القرابة ، وليريهم أنّه معهم ومساهمهم فيما ينصح لهم.

(قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ) ما أشير عليكم (إِلَّا ما أَرى) لنفسي ، وأستصوبه من قتله (وَما أَهْدِيكُمْ) وما أعلمكم (إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ) إلّا ما علمت من طريق الصواب. ولا أدّخر منه شيئا ، ولا أسرّ عنكم خلاف ما أظهر. يعني : أنّ قلبي ولساني متواطئان على ما أقول لكم. وقد كذب لعنه الله ، فإنّه كان مستشعرا للخوف الشديد من جهة موسى ، ولكنّه كان يتجلّد ، ولولا استشعاره لم يستشر أحدا ، ولم يقف الأمر على الإشارة.

(وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ) في تكذيبه. والتعرّض له (مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ) مثل أيّام الأمم الماضية. يعني : وقائعهم. وجمع الأحزاب مع التفسير أغنى عن جمع اليوم ، فإنّه لم يلبس أنّ كلّ حزب منهم كان له يوم دمار.

(مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ) مثل جزاء ما كانوا عليه دائبا ـ أي : دائما ـ من الكفر وإيذاء الرسل ، ولا يفترون عنه ساعة (وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ) كقوم لوط عليه‌السلام (وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ) يعني : أنّ تدميرهم كان عدلا وقسطا ، فلا يعاقبهم بغير ذنب ، ولا يخلّي الظالم منهم بغير انتقام. وهو أبلغ من قوله : (وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) (١) ، من حيث جعل المنفيّ إرادة الظلم ، لأنّ من كان عن إرادة الظلم بعيدا كان عن الظلم أبعد. وفي هذا أوضح دليل على فساد قول المجبّرة القائلة بأنّ كلّ ظلم يكون في العالم فهو بإرادة الله تعالى.

ثمّ حذّرهم من عذاب الآخرة أيضا ، فقال : (وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ) يوم القيامة ينادي بعضهم بعضا للاستغاثة ، أو يتصايحون بالويل والثبور. أو

__________________

(١) فصّلت : ٤٦.

١٣٦

يتنادى أصحاب الجنّة وأصحاب النار ، كما حكى في الأعراف في قوله : (وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ) (١) (وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ) (٢).

(يَوْمَ تُوَلُّونَ) عن الموقف (مُدْبِرِينَ) منصرفين عنه إلى النار. وقيل : فارّين عنها. (ما لَكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ) يعصمكم من عذابه (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ) خذلانا وتخلية ، لفرط عناده. أو عن طريق الجنّة. (فَما لَهُ مِنْ هادٍ) يهديه.

(وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ) بن يعقوب ، على أنّ فرعونه فرعون موسى ، أو على نسبة أحوال الآباء إلى الأولاد. أو سبطه يوسف بن إبراهيم بن يوسف بن يعقوب.

أقام فيهم نبيّا عشرين سنة. (مِنْ قَبْلُ) من قبل موسى (بِالْبَيِّناتِ) بالمعجزات ، فشككتم فيها (فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍ) فلم تزالوا شاكّين كافرين (مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ) من الدين (حَتَّى إِذا هَلَكَ) مات (قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً) ضمّا إلى تكذيب رسالته تكذيب رسالة من بعده. أو جزما بأن لا يبعث من بعده رسول مع الشكّ في رسالته ، حكما من عند أنفسكم من غير برهان منكم على تكذيب الرسل.

(كَذلِكَ) مثل ذلك الضلال ، أي : الخذلان (يُضِلُّ اللهُ) يخذل الله في العصيان لفرط العناد (مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ) مفرط فيه (مُرْتابٌ) شاكّ فيما تشهد به البيّنات ، لغلبة الوهم والانهماك في التقليد.

(الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ) بدل من الموصول الأوّل ، لأنّه بمعنى الجمع ، فكأنّه قال : كلّ مسرف (بِغَيْرِ سُلْطانٍ) بغير حجّة ، بل إمّا بتقليد أو بشبهة داحضة (أَتاهُمْ كَبُرَ) فيه ضمير «من». وإفراده للفظ ، كما جمع البدل منه للمعنى. وليس ببدع أن يحمل على اللفظ تارة ، وعلى المعنى اخرى. (مَقْتاً) تمييز (عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا) ويجوز أن يكون مبتدأ خبره «كبر» على حذف مضاف ، أي : وجدال الّذين يجادلون كبر مقتا. أو خبره «بغير سلطان» وفاعل «كبر» (كَذلِكَ)

__________________

(١) الأعراف : ٤٤ و٥٠.

(٢) الأعراف : ٤٤ و٥٠.

١٣٧

أي : كبر مقتا مثل ذلك الجدال. فيكون قوله : (يَطْبَعُ اللهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ) استئنافا للدلالة على الموجب لجدالهم. والطبع بمعنى الخذلان والتخلية ، كما مرّ غير مرّة.

وقرأ أبو عمرو وابن ذكوان : قلب بالتنوين ، على وصفه بالتكبّر والتجبّر ، لأنّه منبعهما ، كقولهم : رأت عيني ، وسمعت أذني. أو على حذف مضاف ، أي : كلّ ذي قلب متكبّر.

(وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ (٣٦) أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبابٍ (٣٧) وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ (٣٨) يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ (٣٩) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ (٤٠))

ثمّ بيّن سبحانه ما موّه به فرعون على قومه ، لمّا وعظه المؤمن ، وخوّفه من قتل موسى ، وانقطعت حجّته ، فقال :

(وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً) بناء مكشوفا عاليا مشيّدا بالآجرّ. من : صرح الشيء إذا ظهر ، أي : بناء ظاهرا لا يخفى على الناظر. (لَعَلِّي أَبْلُغُ

١٣٨

الْأَسْبابَ) الطرق. وكلّ ما أوصلك إلى شيء فهو سبب إليه.

(أَسْبابَ السَّماواتِ) بيان لها. وفي إبهامها ثمّ إيضاحها تفخيم لشأنها ، وتشويق للسامع إلى معرفتها ، فإنّه لمّا كان بلوغها أمرا عجيبا ، أراد أن يورده على نفس متشوّفة (١) إليه ، ليعطيه السامع حقّه من التعجّب ، فأبهمه ليشوّف إليه نفس هامان.

ثمّ أوضحه (فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى) عطف على «أبلغ». وقرأ حفص بالنصب ، على جواب الترجّي. ولعلّه أراد أن يبني له رصدا في موضع عال ، يرصد منه أحوال الكواكب ، الّتي هي أسباب سماويّة تدلّ على الحوادث الأرضيّة ، فيرى هل فيها ما يدلّ على إرسال الله إيّاه؟! أو أن يرى فساد قول موسى ، بأنّ إخباره من إله السماء يتوقّف على اطّلاعه ووصوله إليه ، وذلك لا يتأتّى إلّا بالصعود إلى السماء ، وهو ممّا لا يقوى عليه الإنسان. وذلك لجهله بالله ، وكيفيّة استنبائه.

(وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً) في دعوى الرسالة (وَكَذلِكَ) ومثل ذلك التزيين (زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ) سبيل الرشاد. ومزيّنه هو الشيطان بوسوسته ، كقوله : (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ) (٢). أو الله على وجه التخلية ، فإنّه مكّن الشيطان وأمهله. ومثله : (زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ) (٣).

وقرأ الحجازيّان والشامي وأبو عمرو : وصدّ ، على أنّ فرعون صدّ الناس عن الهدى بأمثال هذه التمويهات والشبهات. ويؤيّده (وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبابٍ)

__________________

(١) تشوّف إلى الشيء : تطلّع إليه.

(٢) النمل : ٢٤ و٤.

(٣) النمل : ٢٤ و٤.

١٣٩

في خسار وهلاك.

ثمّ عاد الكلام إلى ذكر نصيحة مؤمن آل فرعون ، فقال : (وَقالَ الَّذِي آمَنَ) يعني : مؤمن آل فرعون. وقيل : موسى عليه‌السلام. (يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ) بالدلالة (سَبِيلَ الرَّشادِ) سبيلا يصل سالكه إلى المقصود.

وفيه تعريض بأنّ ما عليه فرعون وقومه سبيل الغيّ. وتكرّر النداء لزيادة تنبيه لهم ، وإيقاظ عن سنة الغفلة ، وأنّهم قومه وعشيرته ، وهم فيما يوبقهم ، وهو يعلم وجه خلاصهم ، ونصيحتهم عليه واجبة ، فهو يتحزّن لهم ويتلطّف بهم ، ويستدعي بذلك أن لا يتّهموه ، وأن يتنبّهوا على أنّ سرورهم سروره ، وغمّهم غمّه ، وينزلوا على تنصيحه لهم. كما كرّر إبراهيم عليه‌السلام في نصيحة أبيه : (يا أَبَتِ) (١).

فلأجل ذلك كرّر النداء مرّة اخرى بقوله : (يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ) تمتّع يسير ، لسرعة زوالها.

ثمّ ذكّرهم تعظيم الآخرة والاطّلاع على حقيقتها ، وأنّها هي الوطن الحقيقي والمستقرّ الأصلي. وذكر الأعمال سيّئها وحسنها ، وعاقبة كلّ منهما ، ليثبّط عمّا يتلف ، وينشط لما يزلف ، فقال :

(وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ) لخلودها (مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها) عدلا من الله. وفيه دليل على أنّ الجنايات تغرم بمثلها. (وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ) بغير تقدير وموازنة بالعمل ، بل أضعافا مضاعفة ، فضلا منه ورحمة. وتقسيم العمّال ، وجعل الجزاء جملة اسميّة مصدّرة باسم الاشارة ، وتفضيل الثواب ، لتغليب الرحمة. وجعل العمل عمدة والإيمان حالا ، للدلالة على أنّه شرط في اعتبار العمل ، وأنّ ثوابه أعلى من ذلك.

__________________

(١) مريم : ٤٢ ـ ٤٥.

١٤٠