زبدة التّفاسير - ج ٦

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني

زبدة التّفاسير - ج ٦

المؤلف:

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني


المحقق: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-7777-08-6
ISBN الدورة:
964-7777-02-5

الصفحات: ٦٤٠

يشرب ماء إلّا وثلثاه دمع. وجهد نفسه راغبا إلى الله في العفو عنه ، حتّى كاد يهلك.

واشتغل بذلك عن الملك ، حتّى وثب ابن له يقال له : إيشا على ملكه ، ودعا إلى نفسه ، واجتمع إليه أهل الزيغ من بني إسرائيل.

(فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ) أي : ما استغفر عنه (وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى) لقربة (وَحُسْنَ مَآبٍ) مرجع في الجنّة. ولمّا غفر له حارب ابنه فهزمه. وقيل : إنّه نقش هذه الزلّة في كفّه حتّى لا ينساه.

واختلف في أنّ استغفار داود من أيّ شيء كان؟ فقيل : إنّه حصل منه على سبيل الانقطاع إلى الله تعالى ، والخضوع له ، والتذلّل بالعبادة والسجود. كما حكى سبحانه عن إبراهيم عليه‌السلام بقوله : (وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ) (١).

وأما قوله : (فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ) فمعناه : أنّا قبلناه منه وأثبناه. ولمّا كان المقصود من الاستغفار والتوبة القبول ، قيل في جوابه : غفرنا. وهذا قول من ينزّه الأنبياء عن جميع الذنوب ، من الاماميّة وغيرهم.

ومن جوّز على الأنبياء الصغائر قال : إنّ استغفاره كان لذنب صغير وقع منه.

وهو أنّ أوريا بن حيّان خطب امرأة ، وكان أهلها أرادوا أن يزوّجوها منه ، فبلغ داود جمالها ، فخطبها أيضا فزوّجوها منه ، وقدّموه على أوريا. فعوتب داود على حرصه على الدنيا ، وعلى أن خطب على خطبة أخيه المؤمن مع كثرة نسائه.

وقيل : إنّه خرج أوريا إلى بعض ثغوره فقتل ، فلم يجزع عليه جزعه على أمثاله من جنده ، إذ مالت نفسه إلى نكاح امرأته ، فعوتب على ذلك بنزول الملكين.

وقيل : إنّه كان في شريعته أنّ الرجل إذا مات وخلّف امرأة فأولياؤه أحقّ بها ، إلّا أن يرغبوا عن التزوّج بها ، فحينئذ يجوز لغيرهم أن يتزوّج بها. فلمّا قتل أوريا خطب داود امرأته ، ومنعت هيبة داود وجلالته أولياءه أن يخطبوها ،

__________________

(١) الشعراء : ٨٢.

٢١

فعوتب على ذلك.

وقيل : إنّ داود كان متشاغلا بالعبادة ، فأتاه رجل وامرأة متحاكمين إليه ، فنظر إلى المرأة ليعرفها بعينها ، وذلك نظر مباح ، فمالت نفسه إليها ميل الطباع ، فعاد إلى عبادة ربّه ، فشغله الفكر في أمرها عن بعض نوافله ، فعوتب.

وقيل : إنّه عوتب على عجلته في الحكم قبل التثبّت ، وكان يجب عليه حين سمع الدعوى من أحد الخصمين أن يسأل الآخر عمّا عنده فيها ، ولا يحكم عليه قبل ذلك. وإنّما أنساه التثبّت في الحكم ، فزعه من دخولهما عليه في غير وقت العادة.

وأمّا ما ذكر في القصّة : أنّ داود كان كثير الصلاة ، فقال : يا ربّ فضّلت عليّ إبراهيم فاتّخذته خليلا ، وفضّلت عليّ موسى فكلّمته تكليما. فقال : يا داود إنّا ابتليناهم بما لم نبتلك بمثله ، فإن شئت ابتليتك. فقال : نعم ، يا ربّ فابتلني. فبينا هو في محرابه ذات يوم ، إذ وقعت حمامة ، فأراد أن يأخذها فطارت إلى كوّة المحراب ، فذهب ليأخذها ، فاطّلع من الكوّة فإذا امرأة أوريا بن حيّان تغتسل ، فهواها وهمّ بتزوّجها ، فبعث باوريا إلى بعض سراياه ، وأمر بتقديمه أمام التابوت الّذي فيه السكينة ، ففعل ذلك وقتل ، فلمّا انقضت عدّتها تزوّجها وبنى بها ، فولد له منها سليمان. فبينا هو ذات يوم في محرابه يقرأ الزبور ، إذ دخل عليه رجلان ، ففزع منهما. فقالا : (لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ) إلى قوله : (وَقَلِيلٌ ما هُمْ). فنظر أحد الرجلين إلى صاحبه ثمّ ضحك. فتنبّه داود على أنّهما ملكان ، بعثهما الله إليه في صورة خصمين ، ليبكّتاه على خطيئته.

فممّا (١) لا شبهة في فساد ذلك ، فإنّه ممّا يقدح في العدالة. وكيف يجوز أن

__________________

(١) خبر لقوله : وأمّا ما ذكر ... ، في بداية الفقرة السابقة.

٢٢

يكون أنبياء الله تعالى الّذين هم أمناؤه على وحيه ، وسفراؤه بينه وبين خلقه ، بصفة من لا يجوز قبول شهادته ، وعلى حالة تنفّر عن الاستماع إليه والقبول منه؟! جلّ أنبياء الله عن ذلك.

وقد روي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّه قال : «لا اوتى برجل يزعم أن داود تزوّج امرأة أوريا ، إلّا جلدته حدّين : حدّا للنبوّة ، وحدّا للإسلام».

وبرواية عنه عليه‌السلام : «من حدّث بحديث داود على ما يرويه القصّاص ، جلدته مائة وستّين».

وهي حدّ الفرية على الأنبياء.

ثمّ ذكر سبحانه إتمام نعمته على داود ، فقال : (يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ) استخلفناك على الملك فيها لتدبير أمور العباد من قبلنا بأمرنا ، كمن يستخلفه بعض السلاطين على بعض البلاد ، ويملّكه عليها. ومنه قولهم : خلفاء الله في أرضه. أو جعلناك خليفة ممّن كان قبلك من الأنبياء القائمين بالحقّ. وفيه دليل على أنّ حاله بعد الإنابة والتوبة عن ترك الأولى بقيت على ما كانت عليه لم تتغيّر.

(فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِ) أي : بحكم الله ، إذ كنت خليفته (وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى) ما تهوى الأنفس من مخالفة الحقّ. وهو يؤيّد ما قيل : إنّ زلّته المبادرة إلى تصديق المدّعي ، وتظليم الآخر قبل مسألته. (فَيُضِلَّكَ) أي : إن اتّبعت الهوى فيعدل الهوى بك (عَنْ سَبِيلِ اللهِ) عن دلائله الّتي نصبها في العقول ـ أو في شرائعه بالوحي ـ على الحقّ.

(إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) يعدلون عمّا أمرهم الله به (لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا) بسبب نسيانهم ، أي : تركهم طاعات الله في الدنيا. وعلى هذا يكون قوله : (يَوْمَ الْحِسابِ) متعلّق بـ «عذاب شديد». أولهم عذاب شديد بإعراضهم عن ذكر يوم القيامة. فيكون متعلّقا بـ «نسوا».

٢٣

(وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (٢٧) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (٢٨) كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (٢٩))

ثمّ نبّه العباد على وجوب ملازمة الحقّ ومخالفة الهوى ، بقوله : (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً) خلقا باطلا ، أي : عبثا لا لغرض صحيح وحكمة بالغة ، كما هو مقتضى الهوى. أو ذوي باطل ، بمعنى : مبطلين عابثين ، كقوله : (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ) (١). أو عبثا ، فوضع «باطلا» موضعه ، كما وضعوا «هنيئا لك» موضع المصدر. بل خلقناهما بالحقّ الّذي هو مقتضى الدليل ، من التوحيد والتدرّع بالشرع.

(ذلِكَ) إشارة إلى خلقهما باطلا (ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي : مظنونهم (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ) بسبب هذا الظنّ الباطل.

(أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ) «أم» منقطعة. ومعنى الاستفهام فيها إنكار التسوية بين المؤمنين الصالحين والكافرين المفسدين ، الّتي دلّ على نفيها خلق السماوات والأرض بالحقّ. وكذلك «أم» الّتي في قوله : (أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ). كأنّه أنكر التسوية أوّلا بين المؤمنين والكافرين ، ثمّ بين المتّقين من المؤمنين والمجرمين منهم.

ويجوز أن يكون تكريرا للإنكار الأوّل باعتبار وصفين آخرين يمنعان

__________________

(١) الأنبياء : ١٦.

٢٤

التسوية من الحكيم.

والمعنى : أنّه لو بطل الجزاء كما قال المشركون لاستوت عند الله أحوال من أصلح وأفسد ، واتّقى وفجر ، ومن سوّى بينهما كان سفيها ولم يكن حكيما.

والآية تدلّ على صحّة القول بالحشر ، فإنّ التفاضل بينهما إمّا أن يكون في الدنيا ، والغالب فيها عكس ما تقتضي الحكمة فيه ، أو في غيرها ، وذلك يستدعي أن تكون دار اخرى يجازون فيها.

ثمّ خاطب نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله : (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ) نفّاع (لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ) ليتفكّروا فيها ، فيعرفوا ما يدبّر ظاهرها من التأويلات الصحيحة والمعاني الحسنة ، فإنّ من اقتنع بظاهر المتلوّ ، كان مثله كمثل من له لقحة (١) درور لا يحلبها ، ومهرة نثور لا يستولدها.

وعن الحسن : قد قرأ هذا القرآن عبيد وصبيان لا علم لهم بتأويله ، حفظوا حروفه وضيّعوا حدوده ، حتّى إنّ أحدهم ليقول : والله لقد قرأت القرآن فما أسقطت منه حرفا. وقد والله أسقطه كلّه ، ما يرى للقرآن عليه أثر في خلق ولا عمل. والله ما هو بحفظ حروفه وإضاعة حدوده. والله ما هؤلاء بالحكماء ولا الوزعة (٢) ، لا كثّر الله في الناس مثل هؤلاء. اللهمّ اجعلنا من العلماء المتدبّرين ، وأعذنا من القرّاء المتكبّرين.

(وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (٣٠) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ (٣١) فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ

__________________

(١) اللقحة : الناقة الحلوب الغزيرة اللبن. والدرور أيضا : الناقة الكثيرة الدرّ. والمهرة والمهر : ولد الفرس. والنثور : الكثيرة الولد.

(٢) الوزعة جمع الوازع ، وهو الذي يكفّ عن الضرر ، أو يزجر نفسه عن معاصي الله تعالى.

٢٥

رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ (٣٢) رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ (٣٣) وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ (٣٤) قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (٣٥) فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ (٣٦) وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (٣٧) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (٣٨) هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ (٣٩) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (٤٠))

ثمّ عطف سبحانه على قصّة داود حديث سليمان عليه‌السلام ، فقال : (وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ) أي : نعم العبد سليمان ، إذ ما بعده تعليل للمدح. وهو بيان حال سليمان. (إِنَّهُ أَوَّابٌ) رجّاع إلى الله بالتوبة من ترك الأولى. أو مؤوّب للتسبيح مرجّع له.

(إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ) ظرف لـ «أوّاب» أو لـ «نعم» (بِالْعَشِيِ) بعد الظهر (الصَّافِناتُ) الصافن من الخيل : الّذي يقوم على ثلاث قوائم ، ويضع طرف السنبك (١) الرابع على الأرض. وهو من الصّفات المحمودة في الخيل ، لا يكاد يكون إلّا في العراب (٢) الخلّص. (الْجِيادُ) جمع جواد أو جود. وهو الّذي يسرع في

__________________

(١) السنبك : طرف الحافر. والحافر : هو للدابّة بمنزلة القدم للإنسان.

(٢) العراب من الخيل : ما كانت كرائم سالمة من الهجنة.

٢٦

جريه واسع الخطو. وقيل : الّذي يجود في الركض. وقيل : جمع جيّد. وصف الخيل بالصفون والجودة ، ليجمع لها بين الوصفين المحمودين واقفة وجارية. يعني : إذا وقفت كانت ساكنة مطمئنّة في مواقفها ، وإذا جرت كانت سراعا خفافا في جريها. روي : أنّ سليمان عليه‌السلام غزا دمشق ونصيبين ، فأصاب ألف فرس. وقيل : أصابها أبوه من العمالقة ، فورثها منه فاستعرضها ، فلم تزل تعرض عليه حتّى غربت الشمس ، وغفل عن ورد من الذكر كان له وقت العشيّ.

وفي روايات أصحابنا أنّه فاته العصر أوّل الوقت. ورووا عن قتادة والسدّي : أنّ هذه الخيل شغلته عن صلاة العصر حتّى فات وقتها.

وعن الجبّائي : لم يفته الفرض ، وإنّما فاته نفل كان يفعله آخر النهار ، لاشتغاله بالخيل ، فاغتمّ لما فاته ، فاستردّها فعقرها تقرّبا لله ، وبقي مائة ، فما بقي في أيدي الناس من الجياد فمن نسلها. وقيل : لمّا عقرها أبدله الله خيرا منها.

وقال الحسن : كانت خيلا خرجت من البحر لها أجنحة ، وكان سليمان قد صلّى الصلاة الأولى ، وقعد على كرسيّه ، والخيل تعرض عليه حتّى غابت الشمس.

(فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي) «أحببت» في الأصل متعدّ بـ «على» ، لأنّه بمعنى : آثرت ، لكن لمّا أنيب مناب فعل يتعدّى بـ «عن» ، مثل : أنبت ، عدّي تعديته. كأنّه قال : جعلت حبّ الخير نائبا أو مغنيا عن الطاعة. وقيل : هو بمعنى : تقاعدت. ونصبه على العلّية. والمفعول به محذوف ، مثل : الخيل.

والخير : المال الكثير ، كقوله : (إِنْ تَرَكَ خَيْراً) (١). وقوله : (وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ) (٢). والمراد به هاهنا الخيل الّتي شغلته. ويحتمل أنّه سمّاها خيرا لتعلّق الخير بها ، كما قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة».

__________________

(١) البقرة : ١٨٠.

(٢) العاديات : ٨.

٢٧

وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو بفتح الياء.

(حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ) أي : غربت الشمس. شبّه غروبها بتواري الملك أو المخدّرة بحجابهما. وإضمارها من غير ذكر لدلالة العشيّ عليها. وقيل : الضمير للصافنات ، أي : حتّى توارت بحجاب الليل ، يعني : الظلام.

(رُدُّوها عَلَيَ) الضمير للصافنات. وعن عليّ عليه‌السلام : «الخطاب للملائكة ، والضمير للشمس» أي : قيل للملائكة : ردّوا الشمس لأصلّي العصر ، فردّت الشمس (فَطَفِقَ) فأخذ يمسح السيف (مَسْحاً بِالسُّوقِ) جمع ساق ، كالأسد جمع أسد (وَالْأَعْناقِ) جمع العنق ، أي بسوقها وأعناقها ، أي : يقطعها. من قولهم : مسح علاوته ، أي : ضرب عنقه. ومسح المجلّد الكتاب ، إذا قطع أطرافه بسيفه. وقيل : جعل يمسح بيده أعناقها وسوقها حبّا لها ، ثمّ جعلها مسبّلة في سبيل الله.

وعن ابن كثير : بالسّوق على همز الواو ، لضمّة ما قبلها ، كمؤسى. وعن أبي عمرو : بالسّؤوق ، كغؤور ، مصدر : غارت الشمس.

عن ابن عبّاس : سألت عليّا عليه‌السلام عن هذه الآية. فقال : ما بلغك فيها يا ابن عبّاس؟ قلت : سمعت كعبا يقول : اشتغل سليمان بعرض الأفراس حتّى فاتته الصلاة ، فقال : ردّوها عليّ ـ يعني : الأفراس ـ وكان أربعة عشر ، فأمر بضرب سوقها وأعناقها بالسيف فقتلها ، فسلبه الله ملكه أربعة عشر يوما ، لأنّه ظلم بقتلها.

فقال عليّ عليه‌السلام : كذب كعب ، لكن اشتغل سليمان بعرض الأفراس ذات يوم ، لأنّه أراد جهاد العدوّ ، حتّى توارت الشمس بالحجاب ، فقال بأمر الله للملائكة : ردّوا الشمس عليّ ، فردّت ، فصلّى العصر في وقتها. وإنّ أنبياء الله لا يظلمون ، ولا يأمرون بالظلم ، لأنّهم معصومون مطهّرون.

وروي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّ سليمان عليه‌السلام قال : «لأطوفنّ الليلة على سبعين امرأة ، تأتي كلّ واحدة بفارس يجاهد في سبيل الله ، ولم يقل : إن شاء الله. فطاف

٢٨

عليهنّ ، فلم تحمل إلّا امرأة واحدة جاءت بشقّ رجل. فو الّذي نفس محمّد بيده لو قال : إن شاء الله ، لجاهدوا فرسانا أجمعين».

وروي عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «أنّه ولد له ابن ، فقالت الشياطين : إن عاش لم ننفكّ من السخرة ، فسبيلنا أن نقتله أو نخبّله. فعلم ذلك ، فأشفق منهم عليه ، فاسترضعه في المزن ، وهو السحاب ، فما أشعر به إلّا أن القي على كرسيّه ميّتا».

فتنبّه على ترك الأولى ، بأن لم يتوكّل على الله ، فاستغفر ربّه وتاب إليه. فأخبر الله سبحانه نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بذلك ليتوكّل عليه ، ولا يترك كلمة المشيئة في أمر من الأمور الّذي أراد فعله ، فقال :

(وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ) اختبرناه وابتليناه ، وشدّدنا المحنة عليه (وَأَلْقَيْنا) وطرحنا (عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً) لا روح فيه (ثُمَّ أَنابَ) رجع إلى الله ، وفزع إلى الصلاة والدعاء على وجه الانقطاع إليه سبحانه. وهذا لا يقتضي أنّه وقع منه معصية صغيرة أو كبيرة ، لأنّه عليه‌السلام وإن لم يستثن ذلك لفظا ، فلا بدّ من أن يكون قد استثناه ضميرا واعتقادا ، إلّا أنّه لمّا لم يذكر لفظة الاستثناء عوتب على ذلك ، من حيث ترك ما هو مندوب إليه.

وقيل : فتن سليمان بعد ما ملك عشرين سنة ، وملك بعد الفتنة عشرين سنة.

وما قيل : من أنّ سليمان بلغه خبر صيدون ، وهي مدينة في بعض الجزائر ، وأنّ بها ملكا عظيم الشأن لا يقوى عليه ، لتحصّنه بالبحر. فخرج إليه تحمله الريح حتّى أناخ بها بجنوده ، فقتل ملكها ، وأصاب بنتا له اسمها جرادة ، من أحسن الناس وجها ، فاصطفاها لنفسه ، وأسلمت وأحبّها. وكان لا يرقأ دمعها جزعا على أبيها ، فأمر الشياطين فمثّلوا لها صورة أبيها ، فكستها مثل كسوته ، وكانت تغدو إليها وتروح مع ولائدها ـ أي : جواريها ـ يسجدن له ، كعادتهنّ في ملكه. فأخبره آصف سليمان بذلك ، فكسر الصورة وضرب المرأة ، وخرج وحده إلى الفلاة باكيا ، وفرش

٢٩

له الرماد ، فجلس عليه تائبا إلى الله متضرّعا.

وكانت له أمّ ولد اسمها أمينة ، إذا دخل للطهارة أو لإصابة امرأة وضع خاتمه عندها ، وكان ملكه فيه. فوضعه عندها يوما ، فتمثّل لها بصورته شيطان هو صاحب البحر ، اسمه صخر ، فقال : يا أمينة أعطني خاتمي. فأخذ الخاتم فتختّم به ، وجلس على كرسيّ سليمان ، فاجتمع عليه الجنّ والإنس والطير ، ونفذ حكمه في كلّ شيء.

وغيّر سليمان عن هيئته ، فأتاها لطلب الخاتم فطردته ، فعرف أنّ الخطيئة قد أدركته. فكان يدور على البيوت يتكفّف (١) ، فإذا قال : أنا سليمان حثوا عليه التراب وسبّوه. ثمّ عمد إلى السمّاكين ينقل لهم السموك ، فيعطونه كلّ يوم سمكتين. فمكث على ذلك أربعين يوما ، عدد ما عبدت الصورة في بيته.

فأنكر آصف وعظماء بني إسرائيل حكم الشيطان. وسأل آصف نساء سليمان ، فقلن : ما يدع امرأة منّا في دمها ، ولا يغتسل من جنابة. وقيل : بل نفذ حكمه في كلّ شيء إلّا فيهنّ.

ثمّ طار الشيطان ، وقذف الخاتم في البحر ، فابتلعته سمكة. وكان سليمان يستطعم فلا يطعم ، حتّى أعطته امرأة يوما حوتا ، فشقّ بطنه فوجد خاتمه فيه ، فتختّم وخرّ ساجدا ، ورجع إليه الملك. وجاب (٢) صخرة لصخر فجعله فيها ، وسدّ عليه بأخرى ، ثمّ أوثقهما بالحديد والرصاص ، وقذفه في البحر.

لقد أبى (٣) عقول العلماء الراسخين في العلم قبوله ، وقالوا : هذا من أباطيل اليهود ، والشياطين لا يتمكّنون من مثل هذه الأفاعيل. كيف وتسليط الله إيّاهم على عباده حتّى يقعوا في تغيير الأحكام ، وعلى نساء الأنبياء حتّى يفجروا بهنّ ،

__________________

(١) أي : يستعطي الناس بكفّه.

(٢) جاب الصخرة : خرقها.

(٣) خبر لقوله : وما قيل ... ، في بداية القصّة.

٣٠

وتمكينهم من التمثيل بصورة النبيّ ، ومن القعود على سريره ، قبيح. وأيضا لا يجوز عقلا أن تكون النبوّة في الخاتم ، ويسلبها عن النبيّ عند الخلع.

وأمّا اتّخاذ التماثيل ، فيجوز أن تختلف فيه الشرائع. ألا ترى إلى قوله : (مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ) (١). وأمّا السجود للصورة ، فلا يظنّ بنبيّ الله أن يأذن فيه. وإذا كان بغير علمه فلا عليه. وقوله : (وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً) ناب وآب عن إفادة معنى إنابة الشيطان منابه نبوّا وإباء ظاهرا.

(قالَ) على وجه الانقطاع إلى الله (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ) لا يتسهّل له ولا يكون ، لعظمته (مِنْ بَعْدِي) أي : من دوني. ولا يستلزم منه الحسد والحرص على الاستبداد بالنعم ، حيث استعطى الله ما لا يعطيه غيره ، لأنّه عليه‌السلام كان ناشئا في بيت الملك والنبوّة ، وارثا لهما. فأراد أن يطلب معجزة ، فطلب على حسب ألفه (٢) ملكا زائدا على الممالك ، زيادة خارقة للعادة بالغة حدّ الإعجاز ، ليكون ذلك دليلا على نبوّته قاهرا للمبعوث إليهم ، وأن يكون معجزة تخرق العادات. فذلك معنى قوله : (لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي).

وقيل : كان ملكا عظيما ، فخاف أن يعطى أحد مثله ، فلا يحافظ على حدود الله فيه.

وقيل : ملكا لا اسلبه ولا يقوم غيري فيه مقامي ، كما سلبته مرّة وأقيم مقامي غيري.

ويجوز أن يقال : علم الله فيما اختصّه به من ذلك الملك العظيم مصالح في الدين ، وعلم أنّه لا يضطلع بأعبائه غيره ، وأوجبت الحكمة استيهابه ، فأمره أن يستوهبه إيّاه ، فاستوهبه بأمر من الله على الصفة الّتي على الله أنّه لا يضبطه عليها إلّا

__________________

(١) سبأ : ١٣.

(٢) مصدر : ألف يألف ألفا.

٣١

هو وحده دون سائر عباده.

أو أراد أن يقول : ملكا عظيما ، فقال : (لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي). ولا يقصد بذلك إلّا عظم الملك وسعته ، كما تقول : لفلان ما ليس لأحد من الفضل والمال ، وربّما كان للناس أمثال ذلك ، ولكنّك تريد تعظيم ما عنده.

وكيف يكون نبيّ الله موصوفا بالصفات السيّئة الرديئة ، من الحسد والضنّة (١) والمنافسة ، والحال أنّ الغرض من بعثة الأنبياء تزكيتهم عن الأخلاق السيّئة المذمومة ، وتعليمهم الأخلاق الحسنة المرضيّة؟! فكيف أمروا بما لم يتّصفوا به؟

وما ذلك إلّا اعتقاد الزنادقة ، ومنهم الحجّاج لعنه الله حين قيل له : إنّك حسود ، فقال : أحسد منّي من قال : «هب لي ملكا». ومن جرأته على الله وشيطنته أنّه قال : طاعتنا على العباد أوجب من طاعة الله عليهم ، لأنّه شرط في طاعته فقال : (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) (٢) ، وأطلق طاعتنا فقال : (وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) (٣).

وتقديم الاستغفار على الاستيهاب جريا على عادة الأنبياء والصالحين في مزيد اهتمامهم بأمر دينهم ، وتقديمه على أمور دنياهم ، ووجوب تقديم ما يجعل الدعاء بصدد الإجابة. وقرأ نافع وأبو عمرو بفتح الياء. (إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) المعطي ما تشاء لمن تشاء.

ثمّ بيّن سبحانه أنّه أجاب دعاه بقوله : (فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ) فذلّلناها لطاعته إجابة لدعوته (تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً) من الرخاوة ، أي : ليّنة لا تزعزع. أو مطيعة لا تخالف إرادته ، كالمأمور المنقاد. (حَيْثُ أَصابَ) حيث قصد وأراد. من قولهم : أصاب الصواب فأخطأ الجواب. عن رؤبة : أنّ رجلين من أهل اللغة قصداه ليسألاه

__________________

(١) الضنّة : البخل.

(٢) التغابن : ١٦.

(٣) النساء : ٥٩.

٣٢

عن هذه الكلمة ، فخرج إليهما فقال : أين تصيبان؟ فقالا : هذه طلبتنا ورجعا.

وعن الحسن : كان سليمان عليه‌السلام يغدو من إيليا ، ويقيل بقزوين ، ويبيت بكابل. واعلم أنّ الآية لا تنافي قوله تعالى : (وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً) (١) ، لأنّ المراد أنّ الله تعالى جعلها عاصفة تارة ورخاء اخرى بحسب ما أراد سليمان. أو الرخاء كانت تحمل سريره لئلّا تضطرب ، والعاصفة كانت تجريه على الهواء سريعا.

(وَالشَّياطِينَ) عطف على الريح ، أي : وسخّرنا له الشياطين أيضا (كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ) بدل الكلّ من الكلّ. روي : أنّهم كانوا يبنون لسليمان ما شاء من الأبنية الرفيعة ، وبعضهم يغوصون له فيستخرجون اللؤلؤ. وهو أوّل من استخرج الدرّ من البحر.

(وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ) عطف على «كلّ» داخل في حكم البدل. كأنّه فصّل الشياطين إلى عملة استعملهم في الأعمال الشاقّة كالبناء والغوص ، ومردة قرن بعضهم مع بعض في السلاسل ليكفّوا عن الشرّ. وعن السدّي : كان يجمع أيديهم إلى أعناقهم مغلّلين في الأغلال. والصفد : هو القيد. وسمّي به العطاء ، لأنّه يرتبط به المنعم عليه. وفرّقوا بين فعليهما ، فقالوا : صفده قيّده ، وأصفده أعطاه ، كوعده وأوعده ، فإنّ الهمزة تكون للسلب.

(هذا) هذا الّذي أعطيناك (عَطاؤُنا) من الملك الّذي لا ينبغي لأحد من بعدك ، والبسطة في المال والرجال وسائر المنال ، والتسلّط على ما لم يسلّط به غيرك (فَامْنُنْ) فأعط من شئت. من المنّة ، وهي العطاء. (أَوْ أَمْسِكْ) امنع من شئت (بِغَيْرِ حِسابٍ) حال من المستكن في الأمر ، أي : غير محاسب على منّه وإمساكه ، لتفويض التصرّف فيه إليك. أو حال من العطاء. أو صلة له ، وما بينهما اعتراض. والمعنى : أنّه عطاء كثير لا يكاد يمكن حصره.

__________________

(١) الأنبياء : ٨١.

٣٣

وقيل : الإشارة إلى تسخير الشياطين. والمعنى : هذا التسخير عطاؤنا ، فامنن على من شئت من الشياطين بالإطلاق ، وأمسك من شئت منهم في الوثاق بغير حساب ، أي : لا حساب عليك في ذلك.

(وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى) أي : منزلته القربى. وهي النعمة الدائمة الباقية في الآخرة ، مع ما له من الملك العظيم في الدنيا (وَحُسْنَ مَآبٍ) وهو الجنّة.

(وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ (٤١) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ (٤٢) وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٤٣) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (٤٤))

ثمّ ذكر سبحانه قصّة أيّوب عليه‌السلام ، فقال : (وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ) وهو ابن عيص بن رعوبك بن عنصو بن إسحاق صلوات الله عليهم. شرّفه سبحانه بإضافته إلى نفسه. وكان في زمن يعقوب بن إسحاق ، وتزوّج ليا بنت يعقوب عليه‌السلام. والمعنى : اذكر يا محمّد حال أيّوب في الصبر على الشدائد واقتد به.

(إِذْ نادى رَبَّهُ) بدل اشتمال من «عبدنا» ، و «أيّوب» عطف بيان له ، أي : اذكر حين دعا أيّوب ربّه رافعا صوته يقول : يا ربّ ، لأنّ النداء هو الدعاء بطريقة : يا فلان (أَنِّي مَسَّنِيَ) بأنّي مسّني. وقرأ حمزة بإسكان الياء وإسقاطها في الوصل.

(الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ) بتعب ومشقّة. وقرأ يعقوب : بنصب بفتحتين. والباقون بضمّ النون وسكون الصاد ، كالرشد والرشد. وهما مترادفان. (وَعَذابٍ) وألم. وهذا حكاية لكلامه الّذي ناداه به ، ولولا هي لقال : إنّه مسّه.

٣٤

والمراد من تعبه وألمه مرضه ، وما كان يقاسي فيه من أنواع الوصب (١). وقيل : النصب الضرّ في البدن ، والعذاب في ذهاب الأهل والمال.

وإنّما نسبه إلى الشيطان ، لما كان يوسوس به إليه في مرضه من تعظيم ما نزل به من البلاء ، ويغريه على الجزع ، فالتجأ إلى الله سبحانه في أن يكفيه ذلك بكشف البلاء ، أو بالتوفيق في دفعه وردّه بالصبر الجميل.

وعن مقاتل : يوسوسه بأن طال مرضك ، ولا يرحمك ربّك.

وقيل : بأن يذكّره ما كان فيه من نعم الله ، من الأهل والولد والمال ، ليزلّه بذلك.

وقيل : اشتدّ مرضه حتّى تجنّبه الناس ، فوسوس الشيطان إلى الناس أن يستقذروه ، ويخرجوه من بين أيديهم ، ويمنعوا امرأته الّتي تخدمه أن تدخل عليه.

فكان أيّوب يتأذّى بذلك ويتألّم منه ، ولم يشك الألم الّذي كان من أمر الله تعالى. روي عن أبي عبد الله عليه‌السلام : أنّه دام ذلك سبع سنين.

وقالت الاماميّة : إنّه لا يجوز أن يكون بصفة يستقذره الناس عليها ، لأنّ في ذلك تنفيرا. وأمّا المرض والفقر وذهاب الأهل فيجوز أن يمتحنه الله بذلك.

فأجاب الله تعالى دعاءه وقال : (ارْكُضْ بِرِجْلِكَ) اضرب برجلك الأرض.

فضربها ، فنبعت عين. فقيل له : (هذا) هذا الموضع (مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ) فتغتسل به وتشرب منه ، فيبرأ باطنك وظاهرك.

وقيل : نبعت له عينان : حارّة وباردة ، فاغتسل من الحارّة وشرب من الباردة ، فذهب الداء من ظاهره وباطنه بإذن الله تعالى.

وقيل : ضرب برجله اليمنى فنبعت عين حارّة فاغتسل منها ، ثمّ باليسرى فنبعت باردة فشرب منها.

__________________

(١) الوصب : المرض ، والوجع الدائم ، ونحول الجسم.

٣٥

(وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ) بأن أحييناهم بعد موتهم (وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ) حتّى كان له ضعف ما كان.

وعن أبي عبد الله عليه‌السلام : «إنّ الله تعالى أحيا له أهله الّذين كانوا ماتوا قبل البليّة ، وأحيا له أهله الّذين ماتوا وهو في البليّة».

(رَحْمَةً مِنَّا) لرحمتنا عليه (وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ) ولتذكير ذوي العقول الخالصة ، لينتظروا الفرج بالصبر على البلاء واللجأ إلى الله فيما يحيق بهم.

(وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً) عطف على «اركض» أي : وقلنا له ذلك. والضغث : الحزمة الصغيرة من الشماريخ (١) والحشيش وما أشبه ذلك. (فَاضْرِبْ بِهِ) دفعة واحدة (وَلا تَحْنَثْ) في يمينك. وذلك أنّ زوجته ليا بنت يعقوب ـ وقيل : رحمة بنت افرائيم بن يوسف ـ ذهبت لحاجة في مرضه ، فأبطأت في الرجوع ، فضاق صدر المريض ، فحلف إن برىء ضربها مائة ضربة ، فحلّل الله يمينه بأهون شيء عليه وعليها ، لحسن خدمتها إيّاه ورضاه عنها.

وروي عن ابن عبّاس أنّه قال : سبب صدور هذا الحلف من أيّوب أنّ إبليس لقيها في صورة طبيب ، فدعته لمداواة أيّوب. فقال : أداويه بشرط أنّه إذا برىء قال : أنت شفيتني ، لا أريد جزاء سواه. قالت : نعم. فأشارت إلى أيّوب بذلك ، فحلف ليضربنّها. وهذه رخصة باقية في الحدود إلى الآن.

وعن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنّه قد أتي بمخدج ـ أي : ناقص البدن ـ قد خبث بأمة ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «خذوا عثكالا (٢) فيه مائة شمراخ ، فاضربوه بها ضربة».

وروى العيّاشي بإسناده أنّ عبّاد المكّي قال : قال لي سفيان الثوري : إنّي أرى لك من أبي عبد الله منزلة ، فاسأله عن رجل زنى وهو مريض ، فإن أقيم الحدّ عليه خافوا أن يموت ، ما تقول فيه؟ قال : فسألته فقال لي : «هذه المسألة من تلقاء

__________________

(١) الشماريخ جمع الشمراخ ، وهو الغصن عليه تمر أو عنب.

(٢) العثكال : هو في النخل بمنزلة العنقود في الكرم.

٣٦

نفسك ، أو أمرك به إنسان؟ فقلت : إنّ سفيان الثوري أمرني أن أسألك عنها. فقال : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أتي برجل قد استسقى بطنه ، وبدت عروق فخذيه ، وقد زنى بامرأة مريضة ، فأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأتي بعرجون فيه مائة شمراخ ، وضربه به ضربة وضربها به ضربة ، وخلّى سبيلهما. وذلك قوله تعالى : (وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ).

(إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً) فيما أصابه في النفس والأهل والمال. ولا يخلّ به شكواه إلى الله من الشيطان ، فإنّه لا يسمّى جزعا ، كتمنّي العافية وطلب الشفاء. مع أنّه قال ذلك خيفة على قومه ، حيث كان الشيطان يوسوس إليهم ، كما كان يوسوس إليه أنّه لو كان نبيّا لما ابتلي بمثل ما ابتلي به. وأيضا أراد بذلك القول القوّة على الطاعة ، فقد بلغ أمره إلى أن لم يبق عضو غير مؤف إلّا القلب واللسان.

وروي : أنّه قال في مناجاته : إلهي قد علمت أنّه لم يخالف لساني قلبي ، ولم يتّبع قلبي بصري ، ولم يهبّني (١) ما ملكت يميني ، ولم آكل إلّا ومعي يتيم ، ولم أبت شبعان ولا كاسيا ومعي جائع أو عريان. فكشف الله عنه.

(نِعْمَ الْعَبْدُ) أيّوب (إِنَّهُ أَوَّابٌ) رجّاع إلى الله ، منقطع إليه ، مقبل بشراشره عليه.

(وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ (٤٥) إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (٤٦) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ (٤٧) وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ (٤٨))

__________________

(١) أي : لم يهيّجني ولم ينشطني. من : هبّ الرجل : نشط وأسرع. وهبّت الريح : هاجت.

٣٧

ثمّ عطف سبحانه على ما تقدّم حديث الأنبياء الصابرين على البلوى ، فقال : (وَاذْكُرْ) يا محمّد لأمّتك (عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ) ليقتدوا بهم في حميد أفعالهم وكريم خلالهم ، فيستحقّوا بذلك حسن الثناء في الدنيا وجزيل الثواب في العقبى ، كما استحقّ هؤلاء الأنبياء.

وقرأ ابن كثير : عبدنا ، فوضع الجنس موضع الجمع ، على أنّ إبراهيم وحده ـ لمزيد شرفه ـ عطف بيان له ، ثمّ عطف ذرّيّته على : عبدنا.

(أُولِي الْأَيْدِي) اولي القوّة في الطاعة (وَالْأَبْصارِ) واولي البصيرة في الدين. أو المعنى : اولي الأعمال الجليلة والعلوم الشريفة. ولمّا كانت أكثر الأعمال تباشر بالأيدي غلّبت ، فقيل في كلّ عمل : هذا ممّا عملت أيديهم ، وإن كان عملا لا يتأتّى فيه المباشرة بالأيدي ، أو كان العمّال جذما (١) لا أيدي لهم.

وفيه تعريض بأنّ الّذين لا يعملون أعمال الآخرة ، ولا يجاهدون في الله ، ولا يفكّرون أفكار ذوي الديانات ، ولا يستبصرون ، في حكم الزمنى (٢) الّذين لا يقدرون على أعمال جوارحهم ، والمسلوبي العقول الّذين لا استبصار لهم.

(إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ) أي : جعلناهم خالصين لنا (بِخالِصَةٍ) بخصلة خالصة لا شوب فيها. يعني : بسبب هذه الخصلة أخلصناهم. أو أخلصناهم بتوفيقهم لها ، واللطف بهم في اختيارها.

ثمّ فسّر هذه الخصلة الخالصة بقوله : (ذِكْرَى الدَّارِ) تذكيرهم الآخرة ، وترغيبهم فيها ، وتزهيدهم في الدنيا ، كما هو شأن الأنبياء وديدنهم. وإنّما قال : خلوصهم في الطاعة بسبب التذكير ، لأنّ مطمح نظرهم فيما يأتون ويذرون جوار الله والفوز بلقائه ، وذلك في الآخرة.

__________________

(١) أي : مقطوعي الأيدي.

(٢) أي : المبتلين بالزمانة وتعطيل القوى.

٣٨

وقيل : ذكرى الدار : الثناء الجميل في الدنيا ، ولسان الصدق الّذي ليس لغيرهم.

وإطلاق الدار للإشعار بأنّها الدار الحقيقيّة ، فإنّ الدنيا معبر وممرّ لا مقرّ ، فإطلاق الدار عليها مجاز. يعني : إنّما همّهم ذكر الدار ، لا غيرها من ذكر الدنيا.

وأضاف نافع وهشام «بخالصة» إلى «ذكرى» للبيان ، أو لأنّه مصدر بمعنى الخلوص ، فأضيف إلى فاعله.

(وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا) بحسب ما سبق في علمنا (لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ) لمن المختارين من بين أمثالهم (الْأَخْيارِ) العاملون فعل الخيرات. جمع خير ، كشرّ وأشرار. وقيل : جمع خيّر أو خير على تخفيفه ، كأموات في جمع ميّت أو ميت.

(وَاذْكُرْ) أيضا لأمّتك (إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ) وهو ابن أخطوب. استخلفه إلياس على بني إسرائيل ، ثمّ استنبئ. والظاهر أنّه اسم عجمي ، فدخل عليه اللام ، كما في قوله : رأيت الوليد بن اليزيد مباركا.

وقرأ حمزة والكسائي : والليسع ، بإدخال حرف التعريف على ليسع ، تشبيها بالمنقول ، من : ليسع ، فيعل من اللسع.

(وَذَا الْكِفْلِ) ابن عمّ يسع ، أو بشر بن أيّوب. وفي نبوّته ولقبه اختلاف.

فقيل : فرّ إليه مائة نبيّ من بني إسرائيل من القتل ، فآواهم وكفلهم. وقيل كفل بعمل رجل صالح كان يصلّي كلّ يوم مائة صلاة الجنّة. (وَكُلٌ) التنوين عوض من المضاف إليه. والمعنى : وكلّهم (مِنَ الْأَخْيارِ).

(هذا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (٤٩) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ (٥٠) مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ (٥١)

٣٩

وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ (٥٢) هذا ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ (٥٣) إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ (٥٤) هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (٥٥) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمِهادُ (٥٦) هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (٥٧) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ (٥٨) هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ (٥٩) قالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا فَبِئْسَ الْقَرارُ (٦٠) قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ (٦١) وَقالُوا ما لَنا لا نَرى رِجالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ (٦٢) أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ (٦٣) إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (٦٤) هذا) إشارة إلى ما تقدّم من أمورهم (ذِكْرٌ) ذكر جميل وشرف لهم. أو نوع من الذكر ، وهو القرآن.

وفي الكشّاف : «لمّا أجرى ذكر الأنبياء وأتمّه ، وهو باب من أبواب التنزيل ، ونوع من أنواعه ، وأراد أن يذكر على عقبه بابا آخر ، وهو ذكر الجنّة وأهلها ، وما أعدّ لهم فيها ، قال : هذا ذكر» (١).

ثمّ قال : (وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ) مرجع حسن (جَنَّاتِ عَدْنٍ) عطف بيان

__________________

(١) الكشّاف ٤ : ١٠٠.

٤٠