زبدة التّفاسير - ج ٦

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني

زبدة التّفاسير - ج ٦

المؤلف:

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني


المحقق: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-7777-08-6
ISBN الدورة:
964-7777-02-5

الصفحات: ٦٤٠

فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أمّا أوّل أشراط الساعة فنار تحشرهم من المشرق إلى المغرب. وأمّا أوّل طعام يأكله أهل الجنّة فزيادة كبد حوت. وأمّا الولد ؛ فإذا سبق ماء الرجل نزعه ، وإن سبق ماء المرأة نزعته.

فقال : أشهد أنّك رسول الله حقّا. ثمّ قال : يا رسول الله إنّ اليهود قوم بهت (١) ، فإن علموا بإسلامي قبل أن تسألهم عنّي بهتوني عندك.

فجاءت اليهود ، فقال لهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أيّ رجل عبد الله فيكم؟

قالوا : خيرنا وابن خيرنا ، وسيّدنا وابن سيّدنا ، وأعلمنا وابن أعلمنا.

قال : أرأيتم إن أسلم عبد الله؟

قالوا : أعاذه الله من ذلك.

فخرج إليهم عبد الله فقال : أشهد أن لا إله إلّا الله ، وأشهد أنّ محمّدا رسول الله.

فقالوا : شرّنا وابن شرّنا ، وانتقصوه.

قال : هذا ما كنت أخاف يا رسول الله وأحذر.

قال سعد بن أبي وقّاص : ما سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول لأحد يمشي على الأرض : إنّه من أهل الجنّة ، إلّا لعبد الله بن سلام. وفيه نزلت : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ)

أخبروني ، أي : ماذا تقولون (إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ) أي : القرآن (وَكَفَرْتُمْ بِهِ) وقد كفرتم به. ويجوز أن تكون الواو عاطفة على الشرط. وكذا الواو في قوله : (وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ) إلّا أنّها تعطفه بما عطف عليه ـ وهو قوله : (فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ) ـ على جملة ما قبله ، وهو قوله : (كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ).

والشاهد عبد الله بن سلام. وعن مسروق : هو موسى. وشهادته : ما في التوراة من نعت الرسول.

__________________

(١) بهت جمع بهّات وبهوت ، وهو الّذي يبهت السامع بما يفتري عليه من الكذب.

٣٢١

(عَلى مِثْلِهِ) مثل القرآن. وهو ما في التوراة من المعاني المصدّقة للقرآن المطابقة له ، من التوحيد والوعد والوعيد ، وغير ذلك. ويدلّ عليه قوله تعالى : (وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ) (١). (إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى) (٢). (كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ) (٣).

ويجوز أن يكون المعنى : إن كان من عند الله وكفرتم به ، وشهد شاهد على نحو ذلك. يعني : كونه من عند الله. (فَآمَنَ) فآمن الشاهد بالقرآن لمّا رآه من جنس الوحي مطابقا للحقّ (وَاسْتَكْبَرْتُمْ) عن الإيمان. وجواب الشرط محذوف ، تقديره : ألستم ظالمين؟ ويدلّ على حذفه قوله : (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) فإنّه استئناف مشعر بأنّ كفرهم به لضلالهم المسبّب عن ظلمهم.

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ (١١) وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ (١٢))

ثمّ أخبر سبحانه عن الكفّار الّذى جحدوا وحدانيّته ، فقال :

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا) أي : لأجلهم وفي حقّهم (لَوْ كانَ) الإيمان ، أو ما أتى به محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (خَيْراً) نفعا عاجلا (ما سَبَقُونا إِلَيْهِ) يعني :

__________________

(١) الشعراء : ١٩٦.

(٢) الأعلى : ١٨.

(٣) الشورى : ٣.

٣٢٢

قالت كفّار مكّة في حقّ من يتّبع محمّدا من الفقراء والموالي والرعاة ـ مثل : عمّار ، وصهيب ، وابن مسعود ، وأمثالهم من السقّاط ـ : لو كان ما جاء به خيرا ما سبقنا إليه هؤلاء الفقراء الأذلّاء.

وقيل : لمّا أسلمت جهينة ومزينة وأسلم وغفار ، قالت بنو عامر وغطفان وأسد وأشجع : لو كان خيرا ما سبقنا إليه رعاء البهم (١).

وقيل : هذا قول اليهود حين أسلم ابن سلام وأصحابه.

(وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ) بالقرآن حيث لم يتدبّروا فيه. والظرف متعلّق بمحذوف تقديره : وإذ لم يهتدوا به ظهر عنادهم. وقوله : (فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ) مسبّب عنه. وهذا كقولهم : أساطير الأوّلين.

(وَمِنْ قَبْلِهِ) ومن قبل القرآن. وهو خبر لقوله : (كِتابُ مُوسى) ناصب لقوله : (إِماماً وَرَحْمَةً) على الحال ، كقولك : في الدار زيد قائما. والمعنى : قدوة يؤتمّ به في دين الله وشرائعه ، كما يؤتمّ بالإمام. ورحمة لمن آمن به وعمل بما فيه.

(وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ) لكتاب موسى ، أو لما بين يديه (لِساناً عَرَبِيًّا) حال من ضمير «كتاب» في «مصدّق». أو «كتاب» لتخصّصه بالصفة. وعاملها معنى الإشارة. وذكر اللسان توكيد ، كما تقول : جاءني زيد رجلا صالحا ، فتذكر «رجلا» توكيدا. وفائدة هذه الحال الإشعار بالدلالة على أنّه مع كونه مصدّقا للتوراة ، مفهوم المراد لكفّار قريش ، لأنّه نزل بلغتهم على أفصح الكلام وأبلغ البيان.

وقيل : مفعول «مصدّق». والمعنى : يصدّق ذا لسان عربيّ بإعجازه ، وهو الرسول.

(لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا) علّة «مصدّق». وفيه ضمير الكتاب ، أو الله ، أو الرسول. ويؤيّد الأخير قراءة نافع وابن عامر والبزّي بخلاف عنه ويعقوب بالتاء.

(وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ) عطف على محلّ «لينذر» لأنّه مفعول له.

__________________

(١) رعاء جمع راعي. والبهم : أولاد البقر والمعز والضأن. والواحد : البهمة.

٣٢٣

(إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١٣) أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٤))

(إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا) أي : جمعوا بين التوحيد الّذي هو خلاصة العلم ، والاستقامة في الأمور الّتي هي منتهى العمل. و «ثمّ» للدلالة على تأخّر رتبة العمل ، وتوقّف اعتباره على التوحيد. (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) من لحوق مكروه (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) على فوات محبوب. والفاء لتضمّن الموصول معنى الشرط.

(أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ) المنعّمون فيها (خالِدِينَ فِيها) حال من المستكن في «أصحاب» (جَزاءً) مصدر لفعل دلّ عليه الكلام ، أي : جوزوا جزاء (بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) من اكتساب الفضائل العلميّة والعمليّة.

(وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (١٥) أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (١٦) وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما

٣٢٤

أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَيَقُولُ ما هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٧) أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (١٨) وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١٩) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (٢٠) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً) وقرأ الكوفيّون : إحسانا (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً) انتصابهما على الحال أو على المصدر ، أي : ذات كره ، أو حملا ووضعا ذاكره. والكره هو المشقّة ، فإنّ الحمل موجب لثقل الولد عليها ، والوضع موجب لشدّة الطلق. وقرأ الحجازيّان وأبو عمرو وهشام بالفتح. وهما لغتان ، كالفقر والفقر.

(وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ) أي : مدّتهما (ثَلاثُونَ شَهْراً) وقرأ يعقوب : وفصله ، كالفطام والفطم ، بناء ومعنى. والمراد بالفصال الرضاع ، فإنّه لمّا كان الرضاع يليه الفصال ويلابسه ، لأنّه ينتهي به ويتمّ ، سمّي فصالا. وفائدة تسمية الرضاع به الدلالة على الرضاع التامّ المنتهي بالفصال. وكلّ ذلك بيان لما تكابده الأمّ في تربية الولد ، مبالغة في التوصية بها.

٣٢٥

وفيه دليل على أنّ أقلّ مدّة الحمل ستّة أشهر ، لأنّه إذا حطّ منه للفصال حولان ـ لقوله : (حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ) (١) ـ بقي ستّة أشهر. وبه قال الأطبّاء. ولعلّ تخصيص أقلّ الحمل وأكثر الرضاع لانضباطهما ، وتحقّق ارتباط حكم النسب والرضاع بهما.

(حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ) إذا اكتهل (٢) واستوفى السنّ الّتي تستحكم فيها قوّته وعقله وتمييزه ، وذلك إذا أناف (٣) على الثلاثين وناطح الأربعين. وعن ابن عبّاس وقتادة : ثلاث وثلاثون سنة. ووجهه : أن يكون ذلك أوّل الأشدّ ، وغايته الأربعين.

ولهذا عطف عليه عطفا تفسيريّا فقال : (وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً) فإنّه بيان لزمان كمال الأشدّ. وقيل : لم يبعث نبيّ إلّا بعد الأربعين.

(قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي) ألهمني. وأصله : أولعني ، من : أوزعته بكذا. (أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَ) يعني : نعمة الإسلام ، أو ما يعمّها وغيرها. وجمع بين شكري النعمة عليه وعلى والديه ، لأنّ النعمة عليهما نعمة عليه.

(وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ) نكّره للتعظيم ، أو لأنّه أراد نوعا من الجنس يستجلب رضا الله عزوجل. وقيل : هو الصلوات الخمس.

(وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي) واجعل لي الصلاح واقعا ساريا في ذرّيّتي راسخا فيهم (إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ) عمّا لا ترضاه ، أو يشغل عنك (وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) المنقادين لأمرك ، المخلصين لك.

(أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا) يعني : طاعاتهم الواجبة والمندوبة بإيجاب الثواب لهم ، فإنّ المباح حسن ولا يثاب عليه (وَنَتَجاوَزُ عَنْ

__________________

(١) البقرة : ٢٣٣.

(٢) أي : صار كهلا. والكهل : من كانت سنو عمره بين الثلاثين والخمسين تقريبا.

(٣) أي : زاد. وناطح كناية عن الوصول ، من : نطح الثور إذا أصاب بقرنه.

٣٢٦

سَيِّئاتِهِمْ) لتوبتهم ، أو تفضّلا عليهم. وقرأ حمزة والكسائي وحفص بالنون فيهما.

(فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ) في محلّ النصب على الحال ، أي : كائنين في عدادهم ، أو مثابين ، أو معدودين فيهم (وَعْدَ الصِّدْقِ) مصدر مؤكّد لنفسه ، فإنّ قوله : «نتقبّل» و «نتجاوز» وعد من الله لهم بالتقبّل والتجاوز (الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ) أي : في الدنيا ، بأن يتقبّل من محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم إذا تابوا ، أو إذا شاء أن يتفضّل عليهم.

(وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما) مبتدأ خبره «أولئك» الآتي ، فإنّ المراد بالموصول الجنس. والأفّ صوت إذا صوّت به الإنسان علم أنّه متضجّر. فهي كلمة تبرّم يقصد بها إظهار التسخّط. واللام للبيان. ومعناه : بعدا لكما. وقيل : معناه : نتنا وقذرا لكما ، كما يقال عند شمّ الرائحة الكريهة. ووجوه قراءاته قد مرّت في سورة بني إسرائيل (١). (أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ) أبعث حيّا. وقرأ هشام : أَتعدانّي ، بنون واحدة مشدّدة. (وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي) فما أخرجوا ، ولم يرجع أحد منهم.

(وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللهَ) يطلبان منه الغوث ويقولان : الغياث بالله منك. أو يسألانه أن يغيثه بالتوفيق للإيمان. (وَيْلَكَ آمِنْ) أي : يقولان له : ويلك. وهو دعاء عليه بالثبور. والمراد به الحثّ على ما يخاف على تركه من الايمان ، لا حقيقة الهلاك. (إِنَّ وَعْدَ اللهِ) بالبعث والنشور والثواب والعقاب (حَقٌ) ثابت واقع.

(فَيَقُولُ) هو في جوابهما (ما هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) أباطيلهم الّتي سطّروها ، وليس لها حقيقة.

وقيل : إنّ الآية نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر ، قال له أبواه : أسلم ، وألحّا عليه. فقال : أحيوا لي عبد الله بن جدعان ومشايخ قريش حتّى أسألهم عمّا تقولون.

وروي : أنّ معاوية حين كتب إلى مروان بأن يبايع الناس ليزيد ، قال عبد الرحمن : لقد جئتم بها هرقليّة ، أَتبايعون لأبنائكم؟ فقال مروان : يا أيّها الناس

__________________

(١) راجع ج ٤ ص ٢٣ ، ذيل الآية ٢٣ من سورة بني إسرائيل.

٣٢٧

هو الّذي قال الله فيه : (وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما). فسمعت عائشة فغضبت وقالت : والله ما هو به ، ولو شئت أن أسمّيه لسمّيته ، ولكنّ الله لعن أباك وأنت في صلبه ، فأنت فضض (١) من لعنة الله.

والأصحّ : أنّ الآية عامّة في كلّ كافر عاقّ لوالديه ، كما يدلّ عليه قوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ) أي : كلمة العذاب بأنّهم أهل النار (فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ) كقوله : «فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ» (مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) بيان للأمم. والمعنى : حالهم على مثل حال أولئك ، واعتقادهم كاعتقادهم. (إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ) لأنفسهم. تعليل للحكم على الاستئناف.

(وَلِكُلٍ) من الفريقين ، أعني : المؤمنين البررة ، والكافرين الفجرة (دَرَجاتٌ) مراتب عالية (مِمَّا عَمِلُوا) من جزاء ما عملوا من الخير والشرّ. أو من أجل ما عملوا منهما. والدرجات غالبة في المثوبة ، وها هنا جاءت على التغليب.

وحقيقة المعنى : قدّر جزاءهم على مقادير أعمالهم ، فجعل الثواب درجات ، والعقاب دركات. (وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) بعقاب لا يستحقّونه ، أو بمنع ثواب يستحقّونه. وقرأ نافع وحمزة والكسائي وابن ذكوان بالنون.

(وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ) يعذّبون بها ، كما يقال : عرض بنو فلان على السيف ، إذا قتلوا به. ومنه قوله : (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها) (٢). أو يكون المعنى : عرضت النار عليهم قبل أن يدخلوها ليروا أهوالها.

(أَذْهَبْتُمْ) أي : يقال لهم : أذهبتم. وهو ناصب اليوم. وقرأ ابن كثير وابن عامر ويعقوب بالاستفهام ، غير أنّ ابن كثير يقرأ بهمزة ممدودة ، وهما يقرآن بها وبهمزتين محقّقين. (طَيِّباتِكُمْ) لذائذكم (فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا) باستيفائها

__________________

(١) الفضض : كلّ متفرّق ومنتشر. أي : أنت حصيلة تلك اللعنة ، فضضت وتفرّقت منها.

(٢) غافر : ٤٦.

٣٢٨

(وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها) انتفعتم بها ، فما بقي لكم منها شيء.

والمعنى : ما كتب لكم حظّ من الطيّبات إلّا ما قد أصبتموه في دنياكم ، وقد ذهبتم به وأخذتموه ، فلم يبق لكم بعد استيفاء حظّكم شيء منها.

وقيل : معناه : أنفقتم طيّبات ما رزقتم في شهواتكم وفي ملاذّ الدنيا ، ولم تنفقوها في مرضات الله عزوجل.

(فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ) الهوان (بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ) بسبب الاستكبار الباطل ، والفسوق عن طاعة الله.

واعلم أنّ الله سبحانه لمّا وبّخ الكفّار بالتمتّع بالطيّبات واللذّات في هذه الدار ، آثر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأمير المؤمنين عليه‌السلام الزهد والتعفّف ، واجتناب الترفّه والنعمة. وقد ورد في الحديث أنّ عمر بن الخطّاب قال : استأذنت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فدخلت عليه في مشربة أمّ إبراهيم ، وإنّه لمضطجع على خصفة (١) ، وإنّ بعضه لعلى التراب ، وتحت رأسه وسادة محشوّة ليفا. فسلّمت ثمّ جلست فقلت : يا رسول الله أنت نبيّ الله وصفوته وخيرته من خلقه ، وكسرى وقيصر على سرر الذهب وفرش الديباج والحرير. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أولئك قوم عجّلت طيّباتهم ، وهي وشيكة الانقطاع ، وإنّما أخّرت لنا طيّباتنا».

وقال عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام في بعض خطبه : «والله لقد رقعت مدرعتي (٢) هذه حتّى استحييت من راقعها. ولقد قال لي قائل : الا تنبذها؟ فقلت : اعزب (٣) عنّي ، فعند الصباح يحمد القوم السرى».

وروى محمد بن قيس عن أبي جعفر عليه‌السلام أنّه قال : «والله كان عليّا عليه‌السلام ليأكل

__________________

(١) الخصفة : الثوب الغليظ ، أو جلّة تعمل من الخوص.

(٢) المدرعة : جبّة مشقوقة المقدّم.

(٣) أي : ابتعد عنّي.

٣٢٩

أكلة العبد ، ويجلس جلسة العبد. وإن كان ليشتري القميصين فيخيّر غلامه خيرهما ، ثمّ يلبس الآخر ، فإذا جاز أصابعه قطعه ، وإذا جاز كعبه حذفه. ولقد ولي خمس سنين ما وضع آجرّة على آجرّة ، ولا لبنة على لبنة ، ولا أورث بيضاء ولا حمراء. وكان يطعم الناس خبز البرّ واللحم ، وينصرف إلى منزله فيأكل خبز الشعير والزيت والخلّ. وما ورد عليه أمران كلاهما لله عزوجل فيه رضا ، إلّا أخذ بأشدّهما على بدنه. ولقد أعتق ألف مملوك من كدّ يمينه ، تربت منه يداه ، وعرق فيه وجهه. وما أطاق عمله أحد من الناس بعده.

ثمّ إنّه قد اشتهر في الرواية أنّه عليه‌السلام لمّا دخل على العلاء بن زياد بالبصرة يعوده قال له العلاء : يا أمير المؤمنين أشكو إليك أخي عاصم بن زياد ، لبس العباءة وتخلّى من الدنيا.

فقال عليه‌السلام : عليّ به. فلمّا جاء به قال : يا عديّ (١) نفسه لقد استهام بك الخبيث ، أما رحمت أهلك وولدك. أَترى الله أحلّ لك الطيّبات وهو يكره أن تأخذها؟! أنت أهون على الله من ذلك.

قال : يا أمير المؤمنين هذا أنت في خشونة ملبسك ، وجشوبة (٢) مأكلك! قال : ويحك! إنّي لست كأنت ، إنّ الله تعالى فرض على أئمّة الحقّ أن يقدّروا أنفسهم بضعفة الناس ، كيلا يتبيّغ (٣) بالفقير فقره.

روي : أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دخل على أهل الصفّة (٤) وهم يرقّعون ثيابهم

__________________

(١) أي : مبغض نفسه. من : عدي لفلان : أبغضه. فهو على زنة : وفيّ. واستهام بك الخبيث أي : وسوس فيك الشيطان ، فذهب فؤادك ، وسلب عقلك. من : استهيم فؤاده أي : ذهب فؤاده وسلب عقله من الحبّ أو غيره.

(٢) جشب الطعام : غلظ. فهو جشب.

(٣) أي : يهيج ويثور. من : باغ الدم أي : هاج وثار.

(٤) أهل الصفّة : فقراء كانوا يجلسون في صفّة مسجد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. وصفّة المسجد : مقعد بالقرب منه مظلّل.

٣٣٠

بالأدم (١) ، ما يجدون لها رقاعا ، فقال : «أَأنتم اليوم خير أم يوم يغدو أحدكم في حلّة (٢) ويروح في اخرى ، ويغدى عليه بجفنة (٣) ويراح عليه بأخرى ، ويستر بيته كما تستر الكعبة؟ قالوا : نحن يومئذ خير. قال : بل أنتم اليوم خير».

(وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٢١) قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٢) قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (٢٣) فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٤) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلاَّ مَساكِنُهُمْ كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (٢٥) وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ

__________________

(١) الأدم جمع الأديم. وهو : الجلد المدبوغ.

(٢) الحلّة : كلّ ثوب جديد ، أو الثوب الساتر لجميع البدن.

(٣) الجفنة : القصعة الكبيرة ، أي : آنية الطعام.

٣٣١

بِآياتِ اللهِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٢٦) وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢٧) فَلَوْ لا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ قُرْباناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذلِكَ إِفْكُهُمْ وَما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٨))

ثمّ خوّف سبحانه كفّار مكّة بما وقع على قوم هود لعنادهم ، فقال :

(وَاذْكُرْ) يا محمد لأهل مكّة (أَخا عادٍ) يعني : هودا (إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ) خوّفهم بالله تعالى (بِالْأَحْقافِ) جمع حقف. وهو رمل مستطيل مرتفع ، فيه انحناء.

من : احقوقف الشيء إذا اعوجّ. وكانوا يسكنون بين رمال مشرفة على البحر بأرض يقال لها : الشحر ، من بلاد اليمن. وقيل : بين عمان ومهرة.

(وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ) جمع نذير بمعنى المنذر ، أي : الرسل المنذرون (مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ) قبل هود وبعده. يعني : الرسل الّذين بعثوا قبل هود والّذين بعثوا بعده. والجملة حال ، أو اعتراض بين قوله : (أَنْذَرَ قَوْمَهُ) و (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ) «أن» مفسّرة للإنذار. والمعنى : أنّ هودا عليه‌السلام قد أنذرهم فقال لهم : لا تعبدوا إلّا الله ، فإنّ النهي عن الشيء إنذار من مضرّته (إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) هائل بسبب شرككم.

(قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا) لتصرفنا (عَنْ آلِهَتِنا) عن عبادته. يقال : أفكه عن رأيه إذا صرفه عنه (فَأْتِنا بِما تَعِدُنا) من معاجلة العذاب على الشرك (إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) في وعدك.

(قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ) لا علم لي بوقت عذابكم ، ولا مدخل لي فيه فأستعجل به ، وإنّما علمه عند الله ، فيأتيكم به في وقته المقدّر له (وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ) وما على الرسول إلّا البلاغ (وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ) لا تعلمون

٣٣٢

أنّ الرسل بعثوا مبلّغين منذرين ، لا معذّبين مقترحين غير ما أذن لهم فيه.

(فَلَمَّا رَأَوْهُ) رأوا ما يوعدون. والهاء تعود إلى «ما تعدنا». (عارِضاً) سحابا عرض في أفق السماء (مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ) متوجّه أوديتهم. والإضافة فيه لفظيّة. وكذا في قوله : (قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا) أي : يأتينا بالمطر.

روي : كانت عاد قد حبس عنهم المطر أيّاما ، فساق الله إليهم سحابة سوداء خرجت عليهم من واد لهم يقال له : المغيث ، فلمّا رأوه عارضا مستقبل أوديتهم استبشروا وقالوا : هذا سحاب عارض ممطرنا. فقال هود : ليس الأمر كما زعمتم (بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ) من العذاب (رِيحٌ) هي ريح. ويجوز أن يكون بدل «ما» (فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ) صفتها. وكذا قوله : (تُدَمِّرُ) تهلك (كُلَّ شَيْءٍ) من نفوسهم وأموالهم (بِأَمْرِ رَبِّها). وإضافة الربّ إلى الريح دلالة على أنّ الريح وتصريف أعنّتها ممّا يشهد لعظم قدرته ، لأنّها من أعاجيب خلقه وأكابر جنوده. وذكر الأمر ، وكونها مأمورة من جهته عزّ وعلا ، يعضد ذلك ويقوّيه.

(فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ) أي : فجاءتهم الريح فدمّرتهم ، فأصبحوا بحيث لو حضرت بلادهم لما ترى إلّا مساكنهم. وقرأ عاصم وحمزة : لا يرى إلّا مساكنهم ، بالياء المضمومة ، ورفع مساكنهم.

روي : أنّ الريح كانت تحمل الفسطاط والظعينة (١) فترفعها في الجوّ حتّى ترى كأنّها جرادة.

وقيل : أوّل من أبصر العذاب امرأة منهم قالت : رأيت ريحا فيها كشهب النار. وروي : أوّل ما عرفوا به أنّه عذاب : رأوا ما كان في الصحراء من رحالهم ومواشيهم تطير به الريح بين السماء والأرض ، فدخلوا بيوتهم وغلّقوا أبوابهم ، فقلعت الريح الأبواب وصرعتهم ، وأمال الله عليهم الأحقاف ، فكانوا تحتها سبع ليال

__________________

(١) الظعينة : الهودج.

٣٣٣

وثمانية أيّام لهم أنين ، ثمّ كشفت الريح عنهم ، فاحتملتهم فطرحتهم في البحر.

وروي : أنّ هودا لمّا أحسّ بالريح خطّ على نفسه وعلى المؤمنين خطّا إلى جنب عين تنبع.

وعن ابن عبّاس : اعتزل هود ومن معه في حظيرة ما يصيبهم من الريح إلّا ما يلين على الجلود وتلذّه الأنفس ، وإنّها لتمرّ من عاد بالظعن بين السماء والأرض ، وتدمغهم بالحجارة.

وعن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه كان إذا رأى الريح فزع وقال : اللهمّ إنّي أسألك خيرها وخير ما أرسلت به ، وأعوذ بك من شرّها وشرّ ما أرسلت به. وإذا رأى مخيلة (١) قام وقعد ، وجاء وذهب ، وتغيّر لونه. فيقال له : يا رسول الله ما تخاف؟ فيقول : إنّي أخاف أن يكون مثل قوم عاد حيث قالوا : (هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا).

(كَذلِكَ) مثل ما أهلكنا أهل الأحقاف ، وجازيناهم بالعذاب (نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ) الكافرين الّذين يسلكون مسالكهم.

(وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ) «إن» نافية. وهي أحسن من «ما» في اللفظ ، لما في مجامعة «ما» مثلها من التكرير المستبشع ، ومثله مجتنب. ألا ترى أنّ الأصل في «مهما» : ماما ، فلبشاعة التكرير قلبوا الألف هاء. أو شرطيّة محذوفة الجواب. والتقدير : ولقد مكّنّاهم في الّذي أو في شيء إن مكّنّاكم فيه كان بغيكم أكثر.

وقيل : زائدة ، مثلها فيما أنشده الأخفش :

يرجّي المرء ما إن لا يراه

وتعرض دون أدناه الخطوب

والمعنى : مكّنّاهم من الطاعات ، وجعلناهم قادرين متمكّنين بنصب الأدلّة على التوحيد ، والتمكين من النظر فيها ، والترغيب والترهيب ، وإزاحة العلل في

__________________

(١) المخيلة : السحابة الّتي تحسبها ما طرة.

٣٣٤

جميع ذلك ، كما مكّنّاكم بها.

والأوّل أظهر وأوفق ، لقوله : (هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً) (١). (كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً) (٢). وهو أبلغ في التوبيخ ، وأدخل في الحثّ على الاعتبار.

فمعنى الآية : ولقد مكّنّاهم في الشيء الّذي لم نمكّنكم فيه ، من قوّة الأبدان ، وبسطة الأجسام ، وطول العمر ، وكثرة المال.

(وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً) ليعرفوا بذلك النعم ، ويستدلّوا بها على واهبها ، ويواظبوا على شكرها (فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ) من الإغناء. وهو القليل منه ، إذ لم يستعملوا هذه القوى في النظر والتفكّر فيما يدلّهم على التوحيد ، فلم ينفعهم جميع ذلك.

(إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللهِ) صلة لـ «ما أغنى». وهو ظرف جرى مجرى التعليل. وكذلك «حيث». وذلك لاستواء التعليل والظرف في قولك : ضربته لإساءته ، وضربته إذا أساء ، لأنّك إذا ضربته في وقت إساءته ، فإنّما ضربته فيه لوجود إساءته فيه ، إلّا أنّ «إذ» و «حيث» غلبتا ـ دون سائر الظروف ـ في ذلك.

(وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا) جزاء ما كانوا (بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) من العذاب.

(وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ) يا أهل مكّة (مِنَ الْقُرى) أي : من أهل القرى. وهم : قوم هود كانوا باليمن ، وقوم صالح بالحجر ، وقوم لوط على طريقهم إلى الشام. (وَصَرَّفْنَا الْآياتِ) أي : نكرّرها تارة في الإعجاز ، وتارة في الإهلاك ، وتارة في التذكير بالنعم ، وتارة في التذكير بالنقم ، وتارة في وصف الأبرار ليقتدى بهم ، وتارة في وصف الفجّار ليجتنب مثل فعلهم (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) لكي يرجعوا عن كفرهم.

__________________

(١) مريم : ٧٤.

(٢) غافر : ٨٢.

٣٣٥

(فَلَوْ لا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ قُرْباناً آلِهَةً) فهلّا منعتهم من الهلاك آلهتهم الّذين يتقرّبون بهم إلى الله ، حيث قالوا : (هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) (١).

والقربان ما يتقرّب به إلى الله. وأوّل مفعولي «اتّخذوا» الراجع إلى الموصول محذوف. وثانيهما «قربانا». و «آلهة» بدل ، أو عطف بيان. أو المفعول الثاني «آلهة» و «قربانا» حال ، أو مفعول له ، على أنّه بمعنى التقرّب.

(بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ) غابوا عن نصرهم ، فلم تنفعهم عند نزول العذاب بهم ، وامتنع أن يستمدّوا بهم امتناع الاستمداد بالضالّ (وَذلِكَ) الاتّخاذ الّذي هذا أثره (إِفْكُهُمْ) صرفهم عن الحقّ (وَما كانُوا يَفْتَرُونَ) وافتراؤهم على الله الكذب من كونه ذا شركاء.

(وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (٢٩) قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (٣٠) يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (٣١) وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٣٢))

ثمّ بيّن سبحانه أنّ في الجنّ مؤمنين وكافرين كما في الإنس ، فقال :

__________________

(١) يونس : ١٨.

٣٣٦

(وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِ) أملناهم إليك ، وأقبلنا بهم نحوك. والنفر دون العشرة.

وجمعه أنفار. (يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ) حال محمولة على المعنى (فَلَمَّا حَضَرُوهُ) أي : القرآن ، أي : فلمّا كان بمسمع منهم. أو الرسول. (قالُوا أَنْصِتُوا) قال بعضهم لبعض : اسكتوا لنسمعه (فَلَمَّا قُضِيَ) أتمّ وفرغ من قراءته ، على بناء الفاعل ، وهو ضمير الرسول (وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ) أي : منذرين إيّاهم بما يسمعوا.

عن سعيد بن جبير والزهري وجماعة : أنّه لمّا توفّي أبو طالب اشتدّ البلاء على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فعمد ليقف بالطائف رجاء أن يؤووه ، فوجد ثلاثة نفر منهم ، هم سادة ، وهم إخوة : عبد ياليل ، ومسعود ، وحبيب بنو عمرو. فعرض عليهم نفسه. فقال أحدهم : أنا أسرق ثياب الكعبة إن كان الله بعثك بشيء قطّ.

وقال الآخر : أعجز على الله أن يرسل غيرك.

وقال الآخر : والله لا أكلّمك بعد مجلسك هذا أبدا. فلئن كنت رسولا كما تقول ، فأنت أعظم خطرا من أن يردّ عليك الكلام. وإن كنت تكذب على الله ، فما ينبغي لي أن أكلّمك بعد.

وتهزّؤا به ، وأفشوا في قومه ما راجعوه به. فقعدوا له صفّين على طريقه ، فلمّا مرّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين صفّيهم جعلوا لا يرفع رجليه ولا يضعهما إلّا رضخوهما بالحجارة ، حتّى أدموا رجليه ، فخلص منهم وهما تسيلان دما.

فعمد إلى حائط من حوائطهم ، واستظلّ في ظلّ نخلة منه ، وهو مكروب موجع ، تسيل رجلاه دما ، فإذا في الحائط عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة ، فلمّا رآهما كره مكانهما ، لما يعلم من عداوتهما لله ورسوله. فلمّا رأياه أرسلا إليه غلاما لهما يدعى عداس ، معه عنب ، وهو نصرانيّ من أهل نينوى. فلمّا جاءه قال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من أيّ أرض أنت؟

قال : من أهل نينوى.

٣٣٧

قال عليه‌السلام : من مدينة العبد الصالح يونس بن متّى؟

فقال له عداس : وما يدريك من يونس بن متّى؟

قال : أنا رسول الله ، والله تعالى أخبرني خبر يونس بن متّى. فلمّا أخبره بما أوحى الله إليه من شأن يونس ، خرّ عداس ساجدا لله ولرسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وجعل يقبّل قدميه ، وهما يسيلان الدم.

فلمّا أبصر عتبة وشيبة ما يصنع غلامهما سكتا. فلمّا أتاهما قالا : ما شأنك سجدت لمحمّد ، وقبّلت قدميه ، ولم نرك فعلت ذلك بأحد منّا.

قال : هذا رجل صالح أخبرني بشيء عرفته من شأن رسول بعثه الله إلينا ، يدعى : يونس بن متّى.

فضحكا وقالا : لا يفتننّك عن نصر انيّتك ، فإنّه رجل خدّاع.

فرجع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى مكّة ، حتّى إذا كان بنخلة قام في جوف الليل يصلّي ، فمرّ به نفر من جنّ أهل نصيبين ـ وقيل : من اليمن ـ فوجدوه يصلّي صلاة الغداة ويتلو القرآن ، فاستمعوا له.

وروي : أنّ الجنّ كانت تسترق السمع ، فلمّا حرست السماء ورجموا بالشهب قالوا : ما هذا إلّا لنبأ حدث. فنهض سبعة أو تسعة من أشراف جنّ نصيبين أو نينوى ـ منهم زوبعة ـ فضربوا حتّى بلغوا تهامة ، ثمّ اندفعوا إلى وادي نخلة ، فوافوا رسول الله وهو قائم في جوف الليل يصلّي ، أو في صلاة الفجر ، فاستمعوا لقراءته.

وقال آخرون : أمر رسول الله أن ينذر الجنّ ويدعوهم إلى الله ، ويقرأ عليهم القرآن. فصرف الله إليه نفرا من الجنّ من نينوى. فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّي أمرت أن أقرأ على الجنّ الليلة ، فأيّكم يتبعني؟ قالها ثلاثا. فأطرقوا إلّا عبد الله بن مسعود.

قال : ولم يحضر معه أحد غيري ، فانطلقنا حتّى إذا كنّا بأعلى مكّة ، ودخل نبيّ الله شعبا يقال له شعب الحجون ، فخطّ لي خطّا ثمّ أمرني أن أجلس فيه ، وقال :

٣٣٨

لا تخرج منه حتّى أعود إليك. ثمّ انطلق حتّى قام ، فافتتح القرآن فغشيته أسودة كثيرة حالت بيني وبينه ، حتّى لم أسمع صوته. ثمّ انطلقوا وطفقوا يتقطّعون مثل قطع السحاب ذاهبين.

فقال لي رسول الله : هل رأيت شيئا؟

فقلت : نعم ، رأيت رجالا سودا مستثفري (١) ثياب بيض.

قال : أولئك جنّ نصيبين. وكانوا اثني عشر ألفا. والسورة الّتي قرأها عليهم (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ).

وروى علقمة عن عبد الله قال : لم أكن مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليلة الجنّ ، ووددت أنّي كنت معه.

وروي عن ابن عبّاس : أنّهم كانوا سبعة نفر من جنّ نصيبين ، فجعلهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رسلا إلى قومهم.

وقال زرّ بن حبيش : كانوا تسعة نفر ، منهم زوبعة.

وروى محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال : لمّا قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الرحمن على الناس سكتوا ، فلم يقولوا شيئا. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الجنّ كانوا أحسن جوابا منكم ، لمّا قرأت عليهم : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) قالوا : لا ولا بشيء من آلائك ربّنا نكذّب».

ثمّ بيّن سبحانه تمام خبر الجنّ ، فقال حاكيا عنهم : (قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى) يعنون القرآن. عن عطاء : إنّما قالوا ذلك لأنّهم كانوا يهودا. وعن ابن عبّاس : لأنّهم ما سمعوا بأمر عيسى (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) لما تقدّمه من الكتب (يَهْدِي إِلَى الْحَقِ) من أصول العقائد الحقّة (وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ) من فروع الشرائع.

__________________

(١) الاستثفار : أن يدخل إزاره بين فخذيه ملويا ، كما يفعل الكلب بذنبه.

٣٣٩

(يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ) يعنون محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إذ دعاهم إلى توحيده وخلع الأنداد دونه (وَآمِنُوا بِهِ) بالله (يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) بعض ذنوبكم ، وهو ما يكون في خالص حقّ الله ، فإنّ المظالم لا تغفر بالإيمان. ونحوه قوله تعالى : (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) (١). (وَيُجِرْكُمْ) ويخلّصكم (مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) هو معدّ للكفّار.

(وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ) فلا يعجز الله ، إذ لا ينجى منه مهرب ، ولا يسبق قضاءه سابق. ونحوه قوله تعالى : (وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً) (٢). (وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ) أنصار يمنعونه من الله ، ويدفعون عنه العذاب (أُولئِكَ) يعني : الّذين لا يجيبون داعي الله (فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) حيث أعرضوا عن إجابة من هذا شأنه.

واعلم أنّه اختلف في أنّه هل للجنّ ثواب كالإنس؟ فقال أبو حنيفة : لا ثواب لهم إلّا النجاة من النار ، لقوله : (وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) (٣). والصحيح : أنّهم في حكم بني آدم ، لأنّهم مكلّفون مثلهم.

وعن عليّ بن إبراهيم قال : «فجاؤا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وآمنوا به ، وعلّمهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شرائع الإسلام ، فأنزل الله تعالى : (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِ) (٤) إلى آخر السورة ، وكانوا يعودون إلى رسول الله في كلّ وقت» (٥).

وفي هذا دلالة على أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان مبعوثا إلى الجنّ ، كما كان مبعوثا إلى

__________________

(١) نوح : ٣ ـ ٤.

(٢) الجنّ : ١٢.

(٣) الأحقاف : ٣١.

(٤) الجنّ : ١.

(٥) تفسير عليّ بن إبراهيم ٢ : ٢٩٩ ـ ٣٠٠.

٣٤٠