تفسير المراغي - ج ١٣

أحمد مصطفى المراغي

الخيال الذي يظهر للجرم ، والغدو : واحدها غداة كقنىّ وقناة وهى أول النهار ، والآصال ، واحدها أصيل : ما بين العصر والمغرب.

المعنى الجملي

بعد أن خوّف سبحانه عباده بأنه إذا أراد السوء بقوم فلا يدفعه أحد ـ أتبعه بذكر آيات تشبه النعم والإحسان حينا وتشبه العذاب والنقم حينا آخر.

روى «أن عامر بن الطّفيل وأربد بن ربيعة أخا لبيد وفدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالمدينة وسألاه أن يجعل لهما نصف الأمر فأبى عليهما ذلك ، فقال له عامر لعنه الله : أما والله لأملأنّها عليك خيلا جردا ورجالا مردا ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلّم : يأبى الله عليك ذلك وابنا قيلة (الأنصار من الأوس والخزرج) ثم إنهما همّا بالفتك برسول الله صلى الله عليه وسلّم ، فجعل أحدهما يخاطبه والآخر يستلّ سيفه ليقتله من ورائه ، فحماه الله تعالى منهما وعصمه ، فخرجا من المدينة وانطلقا فى أحياء العرب يجمعان لحربه ، فأرسل الله على أربد سحابة فيها صاعقة فأحرقته ، وأرسل الطاعون على عامر فخرجت فيه غدّة كغدّة البكر ، فآوى إلى بيت سلوليّة وجعل يقول : (غدّة كغدّة البكر وموت فى بيت سلولية ، حتى مات) وأنزل الله فى مثل ذلك «ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء وهم يجادلون فى الله».

الإيضاح

(هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً) أي إنه سبحانه يسخّر البرق فيخاف منه بعض عباده كالمسافر ومن فى جرينه التمر والزبيب للتجفيف ، ويطمع فيه من له فيه النفع كمن يرجو المطر لسقى زرعه ، وهكذا حال كل شىء فى الدنيا هو خير بالنظر إلى من يحتاج إليه فى أوانه ، وشر بالنظر إلى من يضره بحسب مكانه أو زمانه.

(وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ) أي ويوجد السحب منشأة جديدة ممتلئة ماء فتكون ثقيلة قريبة من الأرض.

(وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ) أي إن فى صوت الرعد لدلالة على خضوعه وتنزيهه

٨١

عن الشريك والعجز ، كما يدل صوت المسبّح وتحميده على انقياده لقدرة ذلك الحكيم الخبير.

ونحو الآية قوله سبحانه : «وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ».

أخرج أحمد والبخاري والترمذي والنسائي وغيرهم عن ابن عمر «كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا سمع صوت الرعد والصواعق يقول : اللهم لا تقتلنا بغضبك ، ولا تهلكنا بعذابك ، وعافنا قبل ذلك».

وأخرج ابن مردويه عن أبى هريرة : «أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان إذا هبّت الريح أو سمع صوت الرعد تغيّر لونه حتى يعرف ذلك فى وجهه ، ثم يقول للرعد : سبحان من سبّحت له ، وللريح : اللهم اجعلها رحمة ولا تجعلها عذابا».

(وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ) أي ويسبح الملائكة الكرام من هيبته وجلاله ، وينزهونه عن اتخاذ الصاحبة والولد.

(وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ) إصابته بها فيهلكه.

(وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللهِ) أي يجادلون فى شأنه تعالى ، وفيما وصفه به الرسول الكريم ، من كمال العلم والقدرة والتفرد بالألوهية وإعادة الناس للجزاء على أعمالهم يوم العرض والحساب.

وفى هذا تسلية لرسوله صلى الله عليه وسلّم فإنه لما نعى على كفار قريش عنادهم فى اقتراحهم الآيات الحسية كآيات موسى وعيسى عليهما السلام ، وإنكارهم كون الذي جاء به عليه السلام آية ـ سلّاه بما ذكر كأنه قال له : إن هؤلاء لم يقصروا جحدهم وإنكارهم على النبوّة بل تخطّوه إلى الألوهية ، ألا تراهم مع ظهور الآيات البينات على التوحيد يجادلون فى الله باتخاذ الشركاء وإثبات الأولاد له ، ومع إحاطة علمه وشمول قدرته ينكرون البعث والجزاء والعرض للحساب ، ومع شديد بطشه وعظيم سلطانه يقدمون على المكايدة والعناد فهوّن عليك ، ولا تذهب نفسك عليهم حسرات.

٨٢

(وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ) أي وهو سبحانه لا يغالب ، فهو شديد البطش والكيد لأعدائه ، يأتيهم من حيث لا يحتسبون ولا يترقبون ، وهو القادر على أن ينزل عليهم عذابا من عنده لا يستطيعون حيلة لدفعه ولا قوة على ردّه ، لكنه يمهلهم لأجل معلوم بحسب ما تقتضيه الحكمة كما صح فى الحديث : «إن ربك لا يهمل ولكن يمهل».

ومثل الآية قوله : «وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ» وقوله : «وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ، فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ».

قال : ابن جرير فى تفسير ذلك : والله شديد فى عقوبة من طغى عليه وعتا وتمادى فى كفره.

(لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ) أي له تعالى الدعاء والتضرع الواقع حيث ينبغى أن يكون ، والمجاب حين وقوعه ، أي إن إجابة ذلك له تعالى دون غيره.

وفى هذا وما قبله وعيد للكفار على مجادلتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلّم بحلول محاله بهم ، وتهديدهم بإجابة دعائه عليه السلام إن دعا عليهم. وقيل دعوة الحق كلمة التوحيد : أي لله من خلقه أن يوحّدوه ويخلصوا له ، وإنه شرعها وأمر بها.

(وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ) أي والأصنام الذين يدعوهم المشركون وبتضرعون إليهم ويتجاوزون الله لا يجيبونهم بشىء مما يريدونه من نفع أو ضر إلا كما يجيب الماء لمن بسط كفيه إليه يطلب منه أن يبلغ فاه ، والماء جماد لا شعور له ببسط الكفين ولا قبضهما ، فكيف يجيب دعاءه ، وهكذا أصنامهم لا تحير جوابا.

وخلاصة ذلك ـ إنه شبه آلهتهم حين استكفوا بهم ما أهمهم ، وهم لا يشعرون بشىء فضلا عن أن يجيبوا أحد بماء بمرأى من عطشان باسط كفيه إليه يناديه هلمّ أقبل إلىّ وهو لا يستطيع ردا ولا جوابا.

٨٣

(وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) أي فى ضياع وخسار ، فإن دعوا الله لم يجبهم ، وإن دعوا الأصنام لم تستطع إجابتهم.

ثم بين عظيم قدرته تعالى فقال :

(وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً) أي وينقاد لعظمته كل شىء ، فيخضع له الملائكة والمؤمنون من الثقلين طوعا فى الشدة والرخاء ، والكفار كرها فى حال الشدة كما جاء فى آيات كثيرة كقوله : «وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ» وقوله : «فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ. فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ» وقوله : «لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ».

(وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ) أي وتسجد أيضا ظلال من له ظل منهما بالغدوات والعشايا تبعا لانقياد الأجسام التي تشرق عليها الشمس ، ثم يصرفه الله تعالى بالمد والتقلص ، وتخصيص هذين الوقتين بالذكر لظهور الامتداد والتقلص فيهما ، أو المراد بهما الدوام كما جاء ذلك كثيرا فى استعمالاتهم.

إعادة الكلام فى الوحدانية

(قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (١٦))

٨٤

المعنى الجملي

بعد أن بين سبحانه أن كل من فى السموات والأرض خاضع لقدرته ، منقاد لإرادته بالغدو والآصال ، وفى كل وقت وحين ، طوعا أو كرها بحسب ما يريد ـ أعاد الكلام مع المشركين ليلزمهم الحجة ويقنعهم بالدليل ويضيق عليهم باب الحوار حتى لا يستطيعوا الفرار من الاعتراف بوحدانيته وشمول قدرته وإرادته وأنه لا معبود سواه ولا رب غيره.

الإيضاح

(قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي قل أيها الرسول الكريم لهؤلاء الذين اتخذوا من دونه أولياء : من رب هذه الأجرام العلوية والسفلية التي تبهر العقول بجميل صنعها ، وكامل ترتيبها ووضعها؟.

(قُلِ اللهُ) أي قل لهم : الذي خلقها وأنشأها وسواها على أتم موضع وأحكم بناء هو الله ، وقد أمر عليه السلام ليجيب بذلك ، للاشارة إلى أنه هو وهم سواء فى ذلك الجواب الذي لا محيص منه ، وهم لا ينكرونه البتة كما قال تعالى : «وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ».

(قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا؟) أي قل لهم بعد أن ثبت هذا لدينكم : فلم اتخذتم لأنفسكم من دون الله معبودات هى جمادات ، لا تملك لأنفسها نفعا ولا ضرا؟ فكيف تنفع غيرها أو تضر؟ وإذا لم يكن لها القدرة على شىء من ذلك فعبادتها محض السفه الذي لا يرضاه لنفسه رشيد ، يزن أعماله بميزان الحكمة والمصلحة.

وخلاصة ذلك ـ أفبعد أن علمتم أنه هو الخالق لهذا الخلق العظيم ، تتخذون من دونه أولياء هم غاية فى العجز؟ وجعلتم ما كان يجب أن يكون سببا فى الاعتراف بالوحدانية وهو علمكم بذلك ـ سببا فى إشراككم به سواه من أضعف خلقه ، وهو بمعنى قوله : «إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ»

٨٥

ثم ضرب مثلا للمشركين الذين يعبدون الأصنام والمؤمنين الذين يعترفون بأن لارب غيره ولا معبود سواه ، فقال :

(قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ) أي قل لهم مصوّرا سخيف آرائهم مفنّدا قبيح معتقداتهم : هل يستوى الأعمى الذي لا يبصر شيئا ولا يهتدى لمحجة يسلكها إلا بأن يهدى بدليل والبصير الذي يهدى الأعمى لسلوك الطريق؟ لا شك أن الجواب أنهما غير متساويين ، فكذلك المؤمن الذي يبصر الحق فيتّبعه ، ويعرف الهدى فيسلكه ، لا يستوى وإياكم؟ وأنتم لا تعرفون حقا ، ولا تبصرون رشدا.

ثم ضرب مثلا للكفر والإيمان بقوله :

(أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ) أي بل هل تستوى الظلمات التي لا ترى فيها الطريق فتسلك ، والنور الذي يبصر به الأشياء ، ويجلو ضوؤه الظلام ـ لا شك أن الجواب عن ذلك أنهما لا يستويان ، فكذلك الكفر بالله صاحبه منه فى حيرة ، يضرب أبدا فى غمرة لا يهتدى إلى حقيقة ولا يصل إلى صواب ، والإيمان بالله صاحبه منه فى ضياء ، فهو يعمل على علم بربه ومعرفة منه بأنه يثيبه على إحسانه ، ويعاقبه على إساءته ، ويرزقه من حيث لا يحتسب ، ويكلؤه بعنايته فى كل وقت وحين ، فهو يفوّض أمره إليه إذا أظلمت الخطوب ، وتعقدت فى نظره مدلهمّات الحوادث.

(أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ) أي بل أخلق أوثانكم التي اتخذتموها معبودات من دون الله ، خلقا كخلقه ، فاشتبه عليكم أمرها فيما خلقت وخلق الله ، فجعلتموها له شركاء من أجل ذلك ـ أم إنما بكم الجهل والبعد عن الصواب ، إذ لا يخفى على من له مسكة من العقل ، أن عبادة ما لا يضر ولا ينفع ، من الجهل بحقيقة المعبود ، ومن يجب له التذلل والخضوع ، والإنابة والزلفى والإخبات إليه ، وإنما الواجب عبادة من يرجى نفعه ويخشى عقابه وضرّه ، وهو الذي يرزقه ويمونه آناء الليل وأطراف النهار.

ثم ذكر فذلكة لما تقدم ، ونتيجة لما سبق من الأدلة والأمثال التي ضربت لها فقال :

٨٦

(قُلِ اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) أي قل مبينا لهم وجه الحق : الله خالقكم وخالق أوثانكم وخالق كل شىء ، وهو الفرد الذي لا ثانى له ، الغالب على كل شىء سواه ، فكيف تعبدون غيره وتشركون به ما لا يضر ولا ينفع؟.

(أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ (١٧) لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (١٨) أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (١٩))

تفسير المفردات

الأودية : واحدها واد ، وهو الموضع الذي يسيل فيه الماء والفرجة بين الجبلين وقد يراد به الماء الجاري فيه ، بقدرها : أي بمقدارها المتفاوت قلة وكثرة بحسب تفاوت أمكنتها صغرا وكبرا ، واحتمل : أي حمل ، والزبد : ما يعلو وجه الماء حين الزيادة كالجب ، وما يعلو القدر عند غليانها ، والرابى : العالي المرتفع فوق الماء الطافي عليه ، والجفاء : ما رمى به الوادي من الزبد إلى جوانبه.

المعنى الجملي

بعد أن ضرب الله مثل البصير والأعمى للمؤمن والكافر ، ومثل النور والظلمات للإيمان والكفر ـ ضرب مثلين للحق فى ثباته وبقائه ، وللباطل فى اضمحلاله وفنائه

٨٧

ثم بين مآل كل من السعداء والأشقياء وما أعدّ لكل منهما يوم القيامة ، وبين أن حاليهما لا يستويان عنده ، وأن الذي يعى تلك الأمثال ويعتبر بها إنما هو ذو اللب السليم ، والعقل الراجع ، والفكر الثاقب.

الإيضاح

(أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً) أي أنزل من السحاب مطرا فسالت مياه الأودية بحسب مقدارها فى الصغر والكبر ، فحمل السيل الذي حدث من ذلك الماء زبدا عاليا مرتفعا فوقه طافيا عليه ـ وهذا هو المثل الأول الذي ضربه الله للحق والباطل والإيمان والكفر.

(وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ) أي ومن الذي يطرحه الناس فى النار من ذهب أو فضة وكذلك من سائر الفلزّات كالحديد والنحاس والرّصاص ـ زبد راب كما يطفو على الماء فى الأودية زبد مثله ، ويتّخذ من الذهب والفضة حلىّ ، ومن الحديد والرصاص والنحاس وما أشبه ذلك متاع وهو ما يتمتع به الناس كالأوانى والقدور وغيرها من آلات الحرث والحصد وأدوات المصانع وأدوات القتال والنزال ، وهذا هو المثل الثاني.

(كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ) أي وما مثل الحق والباطل إذا اجتمعا إلا مثل السيل والزبد ، فكما أن الزبد لا يثبت مع الماء ولا مع الذهب والفضة ونحوهما مما يسبك فى النار بل يذهب ويضمحل ، فالباطل لاثبات له ولا دوام أمام الحق.

ثم فصل هذا بقوله.

(فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ) أي فأما الزبد الذي يعلو السيل فيذهب فى جانبى الوادي ويعلق بالشجر وتنسفه الرياح ، وكذلك خبث الذهب والفضة والحديد والنحاس يذهب ولا يرجع منه شىء ، وأما ما ينفع الناس من الماء والذهب والفضة فيمكث فى الأرض ، فالماء نشر به ونسقى به الأرض فينبت

٨٨

جيد الزرع الذي ينتفع به الناس والحيوان ، والذهب والفضة نستعملها فى الحلي وصكّ النقود ، والحديد والنحاس ونحوهما نستعملها فى متاعنا من الحرث والحصد وفى المعامل والمصانع ووسائل الدفاع ونحو ذلك.

وخلاصة المثلين ـ أنه تعالى مثل نزول الحق وهو القرآن الكريم من حضرة القدس ، على القلوب الخالية منه ، المتفاوتة الاستعداد فى ملاحظته وحفظه ، وفى استذكاره وتلاوته ، وهو وسيلة الحياة الروحية والفضائل النفسية والآداب المرضية ـ بماء نزل من السماء فى أودية قاحلة لم يكن لها سابق عهد به ، وسال بمقدار اقتضت الحكمة أن يكون نافعا فى إحياء الأرض وما عليها ، جالبا لسعادة الإنسان والحيوان ، وكذلك جعله حلية تتحلى بها النفوس ، وتصل بها إلى السعادة الأبدية ، ومتاعا يتمتع به فى المعاش والمعاد ، ومثله بالذهب والفضة وسائر الفلزات التي يتخذ منها أنواع الآلات والأدوات ، وتبقى منتفعا بها ردحا طويلا من الزمن.

ومثّل الباطل الذي ابتلى به الكفرة لفقد استعدادهم لعمل الخير بما ران على قلوبهم من شرور المعاصي واجتراح الآثام ـ بالزبد الرابى الذي يطفو على الماء ، أو يخرج من خبث الحديد والنحاس والفضة والذهب ونحوها ويضمحل سريعا ويزول.

وقال الزجاج : مثل المؤمن واعتقاده ونفع الإيمان له كمثل الماء المنتفع به فى نبات الأرض وحياة كل شىء ، وكمثل نفع الفضة والذهب وسائر الجواهر ، لأنها كلها تبقى منتفعا بها ، ومثل الكافر وكفره كمثل الزبد الذي يذهب جفاء ، وكمثل خبث الحديد وما تخرجه النار من وسخ الفضة والذهب الذي لا ينتفع به اه.

(كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ) أي ومثل ضربنا لهذه الأمثال البديعة التي توضح للناس ما أشكل عليهم من أمور دينهم وتظهر الفوارق بين الحق والباطل والإيمان والكفر ـ نضرب لهم الأمثال فى كل باب حتى تستبين لهم طريق الهدى فيسلكوها وطرق الباطل فينحرفوا عنها ، وتتم لهم سعادة المعاش والمعاد ، ويكونوا المثل العليا

٨٩

بين الناس : «كنتم خير أمّة أخرجت للنّاس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر».

وفى الصحيحين عن أبى موسى الأشعري رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «إن مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضا فكان منها طائفة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب ، وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا ورعوا وسقوا وزرعوا ، وأصابت طائفة منها أخرى إنما هى قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ ـ فذلك مثل من فقه فى دين الله ونفعه الله بما بعثني به ونفع به الناس فعلم وعلّم ، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به».

وروى أحمد عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال : «مثلى ومثلكم كمثل رجل استوقد نارا فلما أضاءت ما حولها جعل الفراش وهذه الدواب التي يقعن فى النار يقعن فيها وجعل يحجزهن ويغلبنه فيقتحمن فيها ـ فذلك مثلى ومثلكم أنا آخذ بحجزكم عن النار ، هلّم عن النار فتغلبونى فتقتحمون فيها».

وبعد أن بين سبحانه شأن كل من الحق والباطل فى الحال والمآل وأتم البيان ، شرع يبين حال أهلهما مآلا ترغيبا فيهما وترهيبا ، وتكملة لوسائل الدعوة إلى الحق والخير وتنفيرا عن سلوك طرق الباطل والشر فقال :

(١) (لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى) أي للذين أطاعوا الله ورسوله وانقادوا لأوامره وصدّقوا ما أخبر به فيما نزل عليه من عند ربه ـ المثوبة الحسنى الخالصة من الكدر والنّصب ، الدائمة المقترنة بالتعظيم والإجلال.

والآية بمعنى قوله : «لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ» وقوله : «وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً».

(ب) (وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ

٩٠

أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ ، وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ) أي والذين لم يطيعوا الله ولم يمتثلوا أوامره ولم ينتهوا عما نهى عنه لهم ألوان وأنواع من العذاب منها :

(١) إنهم من شدة ما يرون من هول العذاب لو استطاعوا أن يجعلوا ما فى الأرض جميعا ومثله معه فدية لأنفسهم لفعلوا ، فإن المحبوب أولا لكل إنسان هوذاته ، وما سواها فيحبّ لكونه وسيلة إلى مصالحها ، فإذا كان مالكا لهذا العالم كله ولما يساويه جعله فداء لنفسه.

وفى هذا من التهويل الشديد ومن سوء ما يلقاهم فى ذلك اليوم ، ما لا يخفى على من اعتبر وتذكر.

(٢) سوء الحساب ، فيناقشون على الجليل والحقير ، وفى الحديث «من نوقش الحساب عذب» ذاك أن كفرهم أحبط أعمالهم ، وارتكابهم للشرور والآثام ران على قلوبهم وجعلها تستمرئ الغواية والضلالة ، وحبهم للدنيا جعلهم يعرضون عما يقربهم إلى الله زلفى فباءوا بالخسران والهوان والنكال.

(٣) إن مأواهم جهنم وبئس المسكن مسكنهم يوم القيامة ، إذ أنهم غفلوا عما يقربهم إلى ربهم وينيلهم كرامته ورضوانه ، واتبعوا أهواءهم وانغمسوا فى لذاتهم فحقت عليهم كلمته (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ).

ونزل فى حمزة رضى الله عنه وأبى جهل كما روى عن ابن عباس رضى الله عنهما قوله تعالى :

(أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى) أي لا يستوى من يعلم أن الذي أنزله الله عليك من ربك هو الحق الذي لا شك فيه ولا امتراء. ومن لا يعلم فهو أعمى ، لا يهتدى إلى خير يفهمه ، ولو فهمه ما انقاد إليه ولا صدقه ، فيبقى حائرا فى ظلمات الجهل وغياهب الضلالة.

قال قتادة : هؤلاء قوم انتفعوا بما سمعوا من كتاب الله وعقلوه ووعوه ، وهؤلاء كمن هو أعمى عن الحق ، فلا يبصره ولا يعقله اه.

٩١

(إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ) أي إنما يعتبر بهذه الأمثال ويتعظ بها ، ويصل إلى لبّها وسرها ، إلا أولوا العقول السليمة ، والأفكار الرجيحة.

الجامع لصفات الخير كتبت له حسنى العقبى

(الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ (٢٠) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ (٢١) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (٢٢) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ (٢٣) سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (٢٤))

تفسير المفردات

يدرءون : أي يدفعون ، والعدن : الإقامة ، يقال عدن بمكان كذا : إذا استقر ، ومنه المعدن لمستقر الجواهر ، والدار : هى دار الآخرة.

المعنى الجملي

بعد أن ضرب الله الأمثال لمن اتبع الحق وسلك سبيل الرشاد ، ولمن ركب رأسه ، وسار فى سبل الضلالة لا يلوى على شىء ولا يقف لدى غاية ـ بيّن أن من جمع صفات الخير الآتية يكون ممن اتبعوا الحق ، وملكوا نواحى الإيمان ، وأقاموا دعائمه ، وهؤلاء قد كتب لهم حسنى العقبى والسعادة فى الدنيا والآخرة.

٩٢

الإيضاح

(الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ) أي الذين يوفون بما عقدوه على أنفسهم فيما بينهم وبين ربهم وفيما بينهم وبين العباد ، وشهدت فطرهم فى هذه الحياة بصحته ، وأنزل عليهم فى الكتاب إيجابه.

قال قتادة : إن الله ذكر الوفاء بالعهد والميثاق فى بضع وعشرين موضعا من القرآن عناية بأمره واهتماما بشأنه.

(وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ) أي الميثاق الذي وثقوه بينهم وبين ربهم من الإيمان به ، وبينهم وبين الناس من العقود كالبيع والشراء وسائر المعاملات والعهود التي تعاهدوا على الوفاء بها إلى أجل ، وفى الحديث : «آية المنافق ثلاث : إذا عاهد غدر ، وإذا خاصم فجر ، وإذا حدّث كذب».

(وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) أي والذين يصلون الرحم التي أمرهم الله بوصلها ، فيعاملون الأقارب بالمودة والحسنى ، ويحسنون إلى المحاويج وذوى الخلة منهم بإيصال الخير إليهم ودفع الأذى عنهم بقدر الاستطاعة ، وعن أبى هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال : «من سره أن يبسط له فى رزقه ، وأن ينسأ له فى أجله فليصل رحمه» وإنساء الأجل : تأخيره ، وذلك بالبركة له فيه فكأنه قد زاد.

ويدخل فى ذلك جميع حقوق الله وحقوق عباده ؛ كالإيمان بالكتب والرسل ، ووصل قرابة المؤمنين بسبب الإيمان ؛ كالإحسان إليهم ، ونصرتهم ، والشفقة عليهم ، وإفشاء السلام ، وعيادة المرضى ، ومراعاة حق الأصحاب والخدم والجيران والرفقة فى السفر إلى غير ذلك.

أخرج الخطيب وابن عساكر عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «إن البر والصلة ليخفّفان سوء الحساب يوم القيامة ثم تلا : «وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ».

٩٣

(وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ) الخشية : خوف مقرون بالتعظيم والعلم بمن تخشاه ، ومن ثم خص الله بها العلماء بدينه وشرائعه والعالمين بجلاله وجبروته فى قوله : «إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ» والمراد أنهم يخشون ربهم ويخافونه خوف مهابة وإجلال.

(وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ) أي ويحذرون مناقشته إياهم الحساب ، وعدم الصفح لهم عن ذنوبهم ، فهم لرهبتهم جادون فى طاعته ، محافظون على اتباع أوامره وترك نواهيه.

(وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ) الصبر : حبس النفس عن نيل ما تحب ، أي والذين صبروا على ما تكرهه النفس ويثقل عليها من فعل الطاعات وترك الشهوات ، طلبا لرضا ربهم من غير أن ينظروا إلى جانب الخلق رياء وسمعة ، ولا إلى جانب أنفسهم زينة وعجبا.

(وَأَقامُوا الصَّلاةَ) أي أدّوها على ما رسمه الدين من خشوع القلب واجتناب الرياء والخشية لله ، مع تمام أركانها وهيئآتها احتسابا لوجهه.

(وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً) أي وأنفقوا بعض ما رزقناهم سرا فيما بينهم وبين ربهم ، وعلانية بحيث يراهم الناس ، سواء كان الإنفاق واجبا كالإنفاق على الزوجة والولد والأقارب الفقراء ، أم مندوبا كالإنفاق على الفقراء والمحاويج من الأجانب.

(وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ) أي ويدفعون الشر بالخير ويجازون الإساءة بالإحسان فهو كقوله : «وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً» ومن ثم قال ابن عباس : أي يدفعون بالحسن من الكلام ما يرد عليهم من سوء غيرهم.

(أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ) أي أولئك الذين وصفناهم بتلك المحاسن والكمالات التي بلغت الغاية فى الشرف والكمال ـ هم الذين لهم العقبى الحسنة فى الدار الآخرة.

ثم بين هذه العقبى فقال :

٩٤

(جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها) أي تلك العقبى هى جنات إقامة ، يخلّدون فيها لا يخرجون منها أبدا.

ثم ذكر ما يكون فيها من الأنس باجتماع الأهل والمحبين الصالحين فقال :

(وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ) أي ويجمع فيها بينهم وبين أحبابهم من الآباء والأزواج والأبناء ممن عمل صالحا لتقربهم أعينهم ، ويزدادوا سرورا برؤيتهم ، حتى لقد ورد أنهم يتذاكرون أحوالهم فى الدنيا فيشكرون الله على الخلاص منها.

وفى الآية إيماء إلى أنه فى ذلك اليوم لا تجدى الأنساب إذا لم يسعفها العمل الصالح ، فالآباء والأزواج والذرية لا يدخلون الجنة إلا بعملهم ، وقد أشار إلى ذلك الكتاب الكريم : «يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ».

وفى الحديث : أن النبي صلى الله عليه وسلّم وهو فى مرض موته قال لفاطمة : «يا فاطمة بنت محمد ، سلينى من مالى ما شئت ، لا أغنى عنك من الله شيئا».

ثم ذكر ما لهم من الكرامة فيها بتسليم الملائكة عليهم فقال :

(وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ) أي وتدخل عليهم الملائكة من هاهنا وهنا للتسليم عليهم ، والتهنئة بدخول الجنة ، والإقامة فى دار السلام ، فى جوار الصدّيقين والأنبياء والرسل الكرام.

(سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ) أي قائلين لهم : أمان عليكم من المكاره والمخاوف التي تحيق بغيركم ، بما احتملتم من مشاقّ الصبر ومتاعبه والآلام التي لا قيتموها فى دار الحياة الدنيا.

(فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) أي فنعم عاقبة الدنيا الجنة.

أخرج ابن جرير «أن النبي صلى الله عليه وسلّم كان يأتى قبور الشهداء على رأس كل حول فيقول : «سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار» ، وكذا كان يفعل «أبو بكر وعمر وعثمان رضى الله عنهم».

٩٥

(وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (٢٥))

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه أوصاف المتقين ، وما أعدّ لهم عنده فى دار الكرامة ، بما كان لهم من كريم الصفات وفاضل الأخلاق ـ بين حال الأشقياء وما ينتظرهم من العذاب والنكال ، وأتبع الوعد بالوعيد والثواب بالعقاب على سنة القرآن الدائبة فى مثل هذا «نبّى عبادى أنّى أنا الغفور الرّحيم. وأنّ عذابى هو العذاب الأليم».

الإيضاح

وصف سبحانه الأشقياء بصفات هى السبب فى خسرانهم :

(١) (وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ) أي والذين ينقضون عهد الله الذي ألزمه عباده بما أقام عليه من الأدلة العقلية كالتوحيد والقدرة والإرادة والإيمان بالأنبياء والوحى ونحوها.

ونقضه إما بألا ينظروا فيه فلا يمكنهم العمل بموجبه ، وإما بأن ينظروا فيه ويعلموا صحته ثم هم بعد يعاندون فيه ولا يعملون بما علموه واعتقدوا صحته.

وقوله : من بعد ميثاقه أي من بعد اعترافهم به وإقرارهم بصحته.

(٢) (وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) من الإيمان به وبجميع أنبيائه الذين جاءوا بالحق ، فآمنوا ببعض الرسل وكفروا ببعض ، وقطعوا الرحم وكانوا حربا على المؤمنين وعونا للكافرين ، ومنعوا المساعدات العامة التي توجب التآلف والمودة بين المؤمنين كما جاء فى الحديث : «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا» وجاء أيضا «المؤمنون كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو اشتكى باقى الأعضاء بالسهر والحمى».

٩٦

(٣) (وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ) بظلمهم لأنفسهم وظلمهم لغيرهم بابتزاز أموالهم واغتصابها بلا حق ، وتهييج الفتن بين المسلمين وإثارة الحرب عليهم ، وإظهار العدوان لهم.

ثم حكم عليهم بما يستحقون بما دسّوا به أنفسهم فقال :

(أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ) أي أولئك الذين اتصفوا بهذه المخازي وسىء الصفات ، لهم بسبب ذلك الطرد من رحمته ورضوانه ، والبعد من خيرى الدنيا والآخرة.

(وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) أي ولهم سوء العاقبة وهو عذاب جهنم ، جزاء وفاقا لما اجترحوه من السيئات ، وأتوا به من الشرور والآثام.

يبسط الله الرزق لبعض عباده ويقدر على آخرين لحكمة هو بها عليم

(اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ مَتاعٌ (٢٦) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ (٢٧) الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (٢٨) الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (٢٩))

تفسير المفردات

يقدر : يضيّق كقوله «وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ» أي ضيّق ، والمراد أنه يعطيه بقدر كفايته لا يفضل عنه شىء ، متاع : أي متعة قليلة لا دوام لها ولا بقاء ، وأناب : أي رجع عن العناد ، وأقبل على الحق ، وتطمئن : أي تسكن وتخشع ، وطوبى لهم : أي لهم العيش الطيب وقرة العين والغبطة والسرور ، والمآب : المرجع والمنقلب.

٩٧

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه أن من نقض عهد الله من بعد ميثاقه ولم يقرّ بوحدانيته وأنكر نبوة محمد صلى الله عليه وسلّم فهو ملعون فى الدنيا ومعذب فى الآخرة ـ بين هنا أنه تعالى يبسط الرزق لبعض عباده ويضيقه على بعض آخر على ما اقتضته حكمته وسابق علمه بعباده ، ولا تعلق لذلك بإيمان ولا كفر ، فربما وسع على الكافر استدراجا له وضيّق على المؤمن زيادة فى أجره ، ثم ذكر مقالة لهم كثر فى القرآن تردادها وهى طلبهم منه آية تدل على نبوته لإنكارهم أن يكون القرآن آية دالة على ذلك ، ثم ذكر حال المؤمنين المتقين ومآلهم عند ربهم فى جنات تجرى من تحتها الأنهار.

الإيضاح

(اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ) أي الله يوسع الرزق لمن يشاء من عباده ممن هو حاذق فى جمع المال ، وله من الحيلة فى الحصول على كسبه واستنباطه بشتى الوسائل ما يخفى على غيره ، ولا علاقة لهذا بإيمان وكفر ولا صلاح ومعصية.

(وَيَقْدِرُ) على من يشاء ممن هو ضعيف الحيلة فى كسبه ، وليس بالحوّل القلّب فى استنباط أسبابه ووسائله ؛ وما الغنى والفقر إلا حالان يمران على البرّ والفاجر كما يمر عليهما الليل والنهار والصباح والمساء.

ثم ذكر أن مشركى مكة بطروا بغناهم فقال :

(وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا) أي وفرح الذين نقضوا العهد والميثاق ببسط الرزق فى الحياة الدنيا ، وعدّوه أكبر متاع لهم وأعظم حظوة عند الناس.

ثم بين لهم خطأهم فقال :

(وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتاعٌ) أي وما نعيم الدنيا إذا قيس على نعيم

٩٨

الآخرة إلا نزر يسير سريع الزوال فهو كعجالة الراكب وزاد الراعي ، فلا حق لهم فى البطر والأشر بما أوتوا من حظوظها ، وانتفعوا به من خيراتها ، فهم قد اعتزوا بالقليل السريع الزوال.

أخرج الترمذي عن المستورد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «ما الدنيا فى الآخرة إلا كمثل ما يجعل أحدكم إصبعه هذه فى اليمّ فلينظر بم يرجع ، وأشار بالسبابة»

وأخرج الترمذي وصححه عن ابن مسعود قال : «نام رسول الله صلى الله عليه وسلّم على حصير فقام وقد أثّر فى جنبه ، فقلنا يا رسول الله لو اتخذنا لك ، فقال مالى وللدنيا ، ما أنا فى الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها».

ولما أبان أنهم قد انخدعوا بالسراب ، واكتفوا بالحباب ، ذكر ما ترتب على ذلك الغرور من اقتراحهم على رسوله صلى الله عليه وسلّم الآيات فقال :

(وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) أي ويقول الذين كفروا من أهل مكة كعبد الله بن أبىّ وأصحابه ، هلا أنزل على محمد آية كما أرسل على الأنبياء والرسل السابقين كسقوط السماء عليهم كسفا ، أو تحويل الصفا ذهبا ، أو إزاحة الجبال من حول مكة حتى يصير مكانها مروجا وبساتين إلى نحو أولئك من الاقتراحات التي حكاها القرآن عنهم كقولهم : «فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ» وكأنهم لفرط عنادهم وعظيم مكابراتهم قد ادّعوا أن ما أتى به من باهر الآيات كالقرآن وغيره ليس عندهم من الآيات التي توجب الإذعان والإيمان أو التي لا تقبل شكا ولا جدلا.

ثم أمر رسوله أن يبين لهم أن إنزال الآيات لا دخل له فى هداية ولا ضلال بل الأمر كله بيده.

(قُلْ إِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ) أي إنه لا فائدة لكم فى نزول الآيات إن لم يرد الله هدايتكم فلا تشغلوا أنفسكم بها ، ولكن تضرّعوا إليه واطلبوا منه الهداية ، فإن الضلال والهداية بيده وإليه مقاليدها ، وادعوه أن يهيئ

٩٩

لكم من أمره رشدا ، وأن يمهد لكم وسائل النجاة والسعادة ، ويدفع عنكم نزعات الشيطان ووساوسه ، لتظفروا بالحسنى فى الدارين.

والخلاصة ـ أن فى القرآن وحده غنى عن كل آية ، فلو أراد الله هدايتكم لصرف اختياركم إلى تحصيل أسبابها وكان لكم فيه مرشدا أيّما مرشد ، ولكن الله جعلكم سادرين فى الضلالة لا تلوون على شىء ، ولا ينفعكم إرشاد ولا نصح ، لسوء استعدادكم ، وكثرة لجاجكم وعنادكم ، ومن كانت هذه حاله فأنى له أن يهتدى ولو جاءته كل آية؟ كما قال : «وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ» وقال : «إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ» وقال : «وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ».

أما من أقبلوا إلى الله وتأملوا فى دلائله الواضحة ، وسلكوا طرقه المعبدة ، فالله ينير بصائرهم ويشرح صدورهم ، وهم لا بد واصلون إلى الفوز بالحسنى ، وحاصلون على السعادة فى الدنيا والآخرة ، وهم من أشار إليهم بقوله :

(الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ) أي هم الذين آمنوا وركنت قلوبهم إلى جانب الله وسكنت حين ذكره ، وإذا عرض لهم الشك فى وجوده ظهرت لهم دلائل وحدانيته فى الآيات ، وعجائب الكائنات ، فرضى به مولى ورضى به نصيرا ، ومن ثم قال :

(أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) أي ألا بذكر الله وحده تطمئن قلوب المؤمنين ، ويزول القلق والاضطراب من خشيته ، بما يفيضه عليها من نور الإيمان الذي يذهب الهلع والوحشة ، وهى بمعنى قوله فى الآية الأخرى : «ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ».

١٠٠