تفسير المراغي - ج ١٣

أحمد مصطفى المراغي

(٤) إن حال يوسف معهم كان حال القادر بل المالك القاهر مع مسىء ضعيف لديه ، عظم جرمه عليه ، فلم يشأ أن يكون الغفران بشفاعته ودعائه ، فآمنهم من خوف الانتقام تعجيلا للسرور بالنعمة الجديدة التي جعل الله أمرها بين يديه ، وليروا ويرى الناس فضل العفو عند القدرة ، وليكون لهم فى ذلك أحسن الأسوة ، وفى هذا من ضروب التربية أكبر العظة ، ولو أخر المغفرة لكانوا فى وجل مما سيحلّ بهم ، ولخافوا شر الانتقام ، فكانوا فى قلق دائم وتبلبل بال واضطراب نفس ، فكان توجسهم له عذابا فوق العذاب الذي هم فيه ، ولكن شاءت رحمته بهم أن يجعل السرور عاما والحياة الجديدة حافلة بالاطمئنان وقرة العين ، وهكذا شاءت الأقدار وشاء الله أن يكون ذلك وهو العليم الحكيم.

تأويل رؤيا يوسف من قبل

(فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ (٩٩) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (١٠٠))

تفسير المفردات

آوى إليه أبويه : أي ضمهما إليه واعتنقهما ، ورفع أبويه : أي أصعدهما ، والعرش : كرسى تدبير الملك لا كل سرير يجلس عليه الملك ، وخروا له سجدا : أي أهوى أبواه

٤١

وإخوته إلى الأرض وخروا له سجدا ، تأويل رؤياى : أي مآلها وعاقبتها ، وأصل النزغ : نخس الرائض الفرس بالمهماز لإزعاجه للجرى ، ثم قيل نزغه الشيطان كأنه نخسه ليحثّه على المعاصي ، ونزغ بين الناس : أفسد بينهم بالحث على الشر.

المعنى الجملي

بعد أن أخبر فيما سلف أن يوسف قال لإخوته ائتوني بأهلكم أجمعين ـ أخبر هنا أنهم رحلوا من بلاد كنعان قاصدين بلاد مصر ، فلما أخبر يوسف بقرب مجيئهم خرج للقائهم ، وأمر الملك أمراءه وأكابر دولته بالخروج معه للقاء نبى الله يعقوب عليه السلام.

الإيضاح

(فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ) فى العبارة حذف وإيجاز يفهم من سياق الكلام والمعنى ـ تفصيله بعد أن ذهب إخوة يوسف إلى أبيهم وأخبروه بمكانة يوسف فى مصر وأنه الحاكم المفوّض المستقل فى أمرها ـ أبلغوه أنه يدعوهم كلّهم للإقامة معه فيها والتمتع بحضارتها فرحلوا حتى بلغوها ـ ولما دخلوا على يوسف وكان قد استقبلهم فى الطريق فى جمع حافل احتفاء بهم ضم إليه أبويه واعتنقهما.

وظاهر الآية يدل على أن أمه كانت لا تزال حية ورجحه ابن جرير ، وقال جمع من المفسرين إن المراد بأبويه أبوه وخالته ، لأن أمه قد ماتت قبل ذلك فتزوج أبوه خالته.

(وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ) أي وقال لهم ادخلوا بلاد مصر إن شاء الله آمنين على أنفسكم وأنعامكم من الجوع والهلاك ، فإن سنى القحط كانت لا تزال باقية ، وذكر المشيئة فى كلامه للتبرؤ من مشيئته وحوله وقوته إلى مشيئة الله الذي سخر ذلك لهم وسخر ملك مصر وأهلها له ثم لهم ، وهذا من شأن المؤمنين ولا سيما الأنبياء والصديقون.

٤٢

وفى سفر التكوين من التوراة أن يوسف عليه السلام عرّف نفسه إلى إخوته عقب مجيئهم ببنيامين شقيقه وأرسلهم لاستحضار أبويه وأهلهم ، فجاءوا فأقطعهم أرض جاسان (إقليم الشرقية الآن) وأرسل إليهم العربات لتحملهم ، وأحمال الغذاء والثياب على الحمير ، فلما وصلوا إليها شد يوسف على مركبته وصعد ليلاقى إسرائيل أباه فى جاسان ، فلما ظهر له ألقى بنفسه على عنقه وبكى طويلا ، ثم استأذنهم ليذهب إلى فرعون ويخبره بمجيئهم ومكانهم ليقرّهم عليه ، لأنهم رعاة وأرض جاسان خصبة ففعل ، ثم أخذ وفدا منهم لمقابلة فرعون وأدخل أباه عليه فبارك فرعون.

ومن هذا يتبين أن هذا اللقاء كان هو الأول لهم ، وبعد لقاء فرعون قال لهم ادخلوا مصر ثم عاد بهم إلى قصره الخاص.

(وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ) أي أصعد أبويه إلى السرير الذي كان يجلس عليه لتدبير أمر الملك تكرمة لهما فوق ما فعله بالإخوة.

(وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً) أي أهوى أبواه وإخوته وخروا له سجودا ، وكان ذلك تحية الملوك والعظماء فى عهدهم ، ومن ثم سجد يعقوب لأخيه عيسو حين تلاقيا بعد تفرق.

والسجود ليس عبادة بذاته ، وإنما يكون كذلك بالنية والتزام الصفة الشرعية فيه.

(وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ) أي هذا السجود منكما ومن إخوتى الأحد عشر هو المآل والعاقبة التي آلت إليها رؤياى التي رأيتها من قبل فى صغرى «إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ».

(قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا) أي قد جعلها ربى حقيقة واقعة واستبان أنها لم تكن أضغاث أحلام ، فالكواكب الأحد عشر مثال إخوتى الأحد عشر ، وأنت وأمي مثال الشمس والقمر ، ولا بدع فى ذلك فهذه الأسرة هى التي حفظ الله بها ذرية إسحاق بن إبراهيم لتنشر دين التوحيد بين العالمين فكانت خير أسر البشر جميعا.

٤٣

(وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ) أي وقد أحسن بي ربى إذ أخرجنى من السجن وسما بي إلى عرش الملك ، وجاء بكم من البادية حيث كنتم تعيشون فى شظف العيش وخشونته ، ونقلكم إلى الحضر حيث تعيشون فى نعم الاجتماع ونشر الدين الحق ، وتتعاونون على ترقى العلوم والصناعات. ولم يذكر له إخراجه من الجب لوجوه :

(١) إنه ذكر آخر المحن المتصلة بنهاية النعم.

(٢) إنه لو ذكر حادث الجب لكان فى ذلك تثريب لإخوته وقد قال (لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ).

(٣) إنه بعد خروجه منه صار عبدا لا ملكا.

(٤) إنه بعد خروجه منه وقع فى مضارّة تهمة المرأة التي بسببها دخل السجن.

وعلى الجملة فالنعم الكاملة إنما حصلت بعد خروجه من السجن.

(مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي) أي من بعد أن أفسد الشيطان ما بينى وبين إخوتى من عاطفة الأخوّة ، وقطع ما بيننا من وشيجة الرحم ، وهيج الحسد والشر.

(إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ) أي إن ربى عالم بدقائق الأمور رفيق بعباده ، فينفذ ما يشاء فى خلقه بحكمته البالغة ، فمن ذا الذي كان يدور بخلده أن الإلقاء فى الجب يعقبه الرق ، ويتلو الرق فتنة العشق ، ومن أجله يزجّ فى غيابات السجن ، ومن ذا إلى السيادة والملك.

(إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) أي إنه هو العليم بمصالح عباده ، فلا تخفى عليه مبادئ الأمور وغايتها ، الحكيم الذي يفعل الأمور على وجه الحكمة والمصلحة ، فيجازى الذين أحسنوا بالحسنى ، ويجعل العاقبة للمتقين.

وبعد أن حمد يوسف ربه على لطفه فى مشيئته وعلمه وحكمته ـ تلا ذلك بالدعاء فقال :

٤٤

طلب يوسف من ربه حسن الخاتمة

(رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (١٠١))

الإيضاح

(رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ) أي قال يوسف بعد ما جمع الله له أبويه وإخوته ، وبسط له من الدنيا ما بسط من الكرامة ، ومكن له فى الأرض : رب قد آتيتني ملك مصر وجعلتنى متصرفا فيها بالفعل وإن كان لغيرى بالاسم ، ولم يكن لى فيها حاسد ولا باغ إذ أجريت الأمور على سنن العدل ووفق الحكمة والسداد.

(وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) أي وعلمتنى ما أعبر به عن مآل الحوادث ومصداق الرؤيا الصحيحة فتقع كما قلت وأخبرت.

(فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي مبدعهما وخالقهما.

(أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) أي أنت متولى أمورى ومتكفّل بها ، أو أنت موال لى وناصرى على من عادانى وأرادنى بسوء ، وإن نعمك لتغمرنى فى الدنيا ، وسأتمتع بها بفضلك ورحمتك فى الآخرة ، ولا حول لى فى شىء منهما ولا قوة.

(تَوَفَّنِي مُسْلِماً) أي اقبضنى إليك مسلما ، وأتم لى وصية آبائي وأجدادى.

«وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ : يا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ».

(وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) أي وألحقنى بصالح آبائي إبراهيم وإسحاق ومن قبلهم من أنبيائك ورسلك ، واحشرني فى زمرتهم ، وهذا الدعاء بمعنى ما جاء فى سورة الفاتحة

٤٥

«اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ. صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ» أي من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.

فى ذكر هذا القصص إثبات لنبوة محمد عليه السلام

(ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (١٠٢) وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (١٠٣) وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (١٠٤))

الإيضاح

(ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ) أي إن نبأ يوسف ووالده يعقوب وإخوته وكيف مكن ليوسف فى الأرض وجعل له العاقبة والنصر ، وآتاه الملك والحكمة ، فساس ملكا عظيما وأحسن إدارته وتنظيمه وكان خير قدوة للناس فى جميع ما دخل فيه من أطوار الحياة ، بعد أن أرادوا به السوء والهلاك حين عزموا أن يجعلوه فى غيابة الجب كل ذلك من أخبار الغيب الذي لم تشاهده ولم تره ، ولكنا نوحيه إليك لنثبّت به فؤادك ، فتصبر على ما نالك من الأذى من قومك ، ولتعلم أن من قبلك من الرسل لما صبروا على ما نالهم فى سبيل الله ، وأعرضوا عن الجاهلين فازوا بالظفر وأيّدوا بالنصر وغلبوا أعداءهم.

ثم أقام الدليل على كونه من الغيب بقوله :

(وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ) أي وما كنت حاضرا عندهم ولا مشاهدا حين صحت عزائمهم على أن يلقوا يوسف فى غيابة الجب ، يبغون بذلك هلاكه والخلاص منه ، وهذا كقوله تعالى بعد سياق موسى : «وَما كُنْتَ بِجانِبِ

٤٦

الطُّورِ إِذْ نادَيْنا» الآية ، وقوله فى هذه القصة «وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا» الآية.

وخلاصة هذا ـ إن الله أطلع رسوله على أنباء ما سبق ، ليكون فيها عبرة للناس فى دينهم ودنياهم ، ومع هذا ما آمن أكثرهم ، ومن ثم قال :

(وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) أي وما أكثر مشركى قومك ولو حرصت على أن يؤمنوا بك ويتّبعوا ما جئتهم به من عند ربك بمصدقيك ولا متّبعيك.

قال الرازي : إن كفار قريش وجماعة من اليهود طلبوا ذكر هذه القصة من رسول الله صلى الله عليه وسلّم على سبيل التعنت ، فلما ذكرها أصروا على كفرهم فنزلت هذه الآية ، وكأنه إشارة إلى ما ذكر الله تعالى فى قوله «إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ».

(وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ) أي وما تسأل هؤلاء الذين ينكرون نبوتك على ما تدعوهم إليه من إخلاص العبادة لربك وطاعته وترك عبادة الأصنام والأوثان من أجر وجزاء منهم ، بل ثوابك وأجر عملك على الله.

والخلاصة ـ إنك لا تسألهم على ذلك ما لا ولا منفعة فيقولوا إنما تريد بدعائك إيانا إلى اتباعك أن ننزل لك عن أموالنا إذا سألتنا عن ذلك ، فحالك حال من سبقك من الرسل ، فهم لم يسألوا أقوامهم أجرا على التبليغ والهدى ، والقرآن ملىء بنحو هذا كما فى سورتى هود والشعراء وغيرهما.

وإذا كنت لا تسألهم على ذلك أجرا فقد كان حقا عليهم أن يعلموا أنك إنما تدعوهم إليه اتباعا لأمر ربك ونصيحة منك لهم.

(إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) أي هذا الذي أرسلك به ربك تذكير وموعظة لإرشاد العالمين كافة لالهم خاصة ، وبه يهتدون وينجون فى الدنيا والآخرة.

وفى الآية إيماء إلى عموم رسالته صلى الله عليه وسلّم.

٤٧

غفلتهم عن التأمل فى الآيات

(وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ (١٠٥) وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ (١٠٦) أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١٠٧))

تفسير المفردات

وكأين : بمعنى كثير ، والآية هنا : الدليل الذي يرشد إلى وجود الصانع ووحدته وكمال علمه وقدرته ، يمرون عليها : يشاهدونها ، معرضون : أي لا يعتبرون بها ، والغاشية : العقوبة تغشاهم وتعمّهم ، بغتة : فجأة.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه أن أكثر الناس لا يؤمنون مهما حرصت على إيمانهم ولا يتأملون فى الدلائل الدالة على نبوتك ـ ذكر هنا أن هذا ليس ببدع منهم ، فأكثرهم فى غفلة عن التفكر فى آيات الله ودلائل توحيده بما خلقه فى السموات من كواكب ثوابت وسيارات ، وأفلاك دائرات ، وفى الأرض من حدائق وجنات ، وجبال راسيات ، وبحار زاخرات ، وقفار شاسعات ، وحيوان ونبات :

وفى كل شىء له آية

تدل على أنه واحد

الإيضاح

(وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ) أي وكم فى السموات والأرض من آيات دالة على توحيد الله وكمال علمه وقدرته من شمس وقمر ونجوم وجبال وبحار ونباتات وأشجار ، يمر عليها أكثر الناس وهم غافلون عما فيها

٤٨

من عبرة ودلالة على توحيد ربها ، وأن الألوهية لا تكون إلا للواحد القهار الذي خلقها وخلق كل شىء فأحسن تدبيره.

وعلى الجملة فما فى السموات والأرض من عجائب وأسرار وإتقان وإبداع ـ ليدلّ أتم الدلالة على العلم المحيط والحكمة البالغة والقدرة التامة.

والذين يشتغلون بعلم ما فى السموات والأرض وهم غافلون عن خالقهما ، ذاهلون عن ذكره ـ يمتّعون عقولهم لذة العلم ، ولكن أرواحهم تبقى محرومة من لذة الذكر ومعرفة الله عزّ وجلّ ، إذ الفكر وحده إن كان مفيدا لا تكون فائدته نافعة فى الآخرة إلا بالذكر ، والذكر وإن أفاد فى الدنيا والآخرة لا تكمل فائدته إلا بالفكر ، فطوبى لمن جمع بين الأمرين فكان من الذين أوتوا فى الدنيا حسنة وفى الآخرة حسنة ونجوا من عذاب النار فى الآخرة.

(وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) أي وما يقر هؤلاء بأن الله هو الخالق كما قال «وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ» إلا وهم مشركون به فى عبادتهم سواه من الأوثان والأصنام ومن زعمهم أن له ولدا ، تعالى عما يقولون.

قال ابن عباس هم أهل مكة آمنوا وأشركوا وكانوا يقولون فى تلبيتهم : لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك ، إلا شريكا هو لك ، تملكه وما ملك ، وهذا هو الشرك الأعظم ، إذ يعبد مع الله غيره ، وفى صحيح مسلم أنهم كانوا إذا قالوا لبيك لا شريك لك قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم (قد ، قد) أي حسب حسب لا تزيدوا على هذا ، وفى الصحيحين عن ابن مسعود «قلت يا رسول الله : أىّ الذنب أعظم؟ قال : أن تجعل لله ندّا وهو خلقك».

ومن درس تاريخ الأمم الماضية والحاضرة عرف كيف طرأ الشرك على الأمم ، وسرى فى عبادتهم سريان السّم فى الدّسم.

قال ابن القيم فى إغاثة اللهفان : وما زال الشيطان يوحى إلى عبّاد القبور منهم.

٤٩

أن الدعاء عندها مستجاب ، ثم ينقلهم من هذه المرتبة إلى الدعاء لها والإقسام على الله بها مع أن شأن الله أعظم من أن يقسم عليه أو يسأل بأحد من خلقه ـ فإذا تقرر ذلك عندهم ، نقلهم منه إلى دعائه وعبادته وسؤاله الشفاعة من دون الله ، واتخاذ قبره وثنا تعلق عليه القناديل والستور ، ويطاف به ويستلم ويقبّل ويحجّ إليه ويذبح عنده ، فإذا تقرر هذا عندهم نقلهم منه إلى دعاء الناس إلى عبادته واتخاذه عيدا ومنسكا ، ورأوا أن ذلك أنفع لهم فى دنياهم وأخراهم ، وكل هذا مما علم بالاضطرار من دين الإسلام أنه مضاد لما بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم من تجديد التوحيد وألا بعبد إلا الله اه.

أما التوسل إلى الله بصالحى عباده كقولهم اللهم بجاه فلان عندك أو بحق فلان أو بحرمته أسألك أن تفعل كذا فلم ينقل عن أحد من سلف الأمة أنهم كانوا يدعون بمثل هذا الدعاء ، وما أخرجه الطبراني من حديث فاطمة بنت أسد من قوله (بحق نبيك والأنبياء من قبلى) فقد طعن فيه رجال الحديث ، على أنه ليس فيه إلا الدعاء بحق النبيين فحسب ، وهو ما فضّلهم الله به على غيرهم من النبوة والرسالة وما وعدهم به من التمكين والنصر ، على أن حقوق الرسل وصلاح الصالحين ليست من أعمال السائل التي يستحق عليها الجزاء ولا رابطة تربطها بإجابة سؤاله.

(أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ؟) أي أفأمن هؤلاء الذين يؤمنون بالله ربهم ويشركون به فى عبادته غيره ، أن تأتيهم عقوبة تغشاهم وتغمرهم ، أو تأتيهم الساعة فجأة حيث لا يتوقعون ، وهم مقيمون على شركهم ، وكفرهم بربهم ، فيخلدهم فى نار جهنم.

والآية كقوله «أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللهُ بِهِمُ الْأَرْضَ؟ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ ، أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ؟ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ؟ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ».

٥٠

وقوله «أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ؟ أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ؟ أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ؟ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ».

وجاء فى الصحيحين عن أبى هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال : «ولتقومنّ الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما فلا يتبايعانه ولا يطويانه ، ولتقومن الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لقحته (الناقة ذات الدّر) فلا يطعمه ، ولتقومنّ الساعة وقد رفع أحدكم أكلته (لقمته) إلى فيه فلا يطعمها» والمراد من كل هذا أنها تبغت الناس وهم منهمكون فى أمور معايشهم فلا يشعرون إلا وقد أتتهم.

والحكمة فى إبهام وقتها أن الفائدة لاتتم إلا بذلك ، ليخشى أهل كل زمان إتيانها فى هذا الوقت ، فيحملهم الخوف على مراقبة الله تعالى فى أعمالهم فيلتزموا الحق ويتحرّوا الخير ويتقوا الشرور والمعاصي.

طريق النبي صلى الله عليه وسلّم الدعوة إلى التوحيد

(قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحانَ اللهِ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٠٨) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٠٩))

المعنى الجملي

بعد أن أبان سبحانه أن أكثر الناس لا يفكرون فيما فى السموات والأرض من آيات ، ولا يعتبرون بما فيها من علامات ، تدل على أن الله هو الواحد الأحد ، الفرد

٥١

الصمد أمر رسوله أن يخبر الناس أن طريقه هى الدعوة إلى توحيد الله وإخلاص العبادة له وحده يدعوبها هو ومن اتبعه على بصيرة وبرهان.

الإيضاح

(قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي) أي قل أيها الرسول :

هذه الدعوة التي أدعو إليها ، والطريقة التي أنا عليها ، من توحيد الله وإخلاص العبادة له دون الأوثان والأصنام هى سنتى ومنهاجى ، وأنا على يقين مما أدعو إليه ولدىّ الحجة والبرهان على ما أقول ، وكذلك يدعو إليها أيضا من اتبعنى وآمن بي وصدقنى.

والآية كقوله : «ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ».

(وَسُبْحانَ اللهِ) أي وأنزه الله وأعظمه من أن يكون له شريك فى ملكه ، أو أن يكون هناك معبود سواه ، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا : «تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً».

(وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) أي وأنا برىء من أهل الشرك به ، لست منهم ولا هم منى وفى قوله : (عَلى بَصِيرَةٍ) إيماء إلى أن هذا الدين الحنيف لا يطلب التسليم بنظرياته ومعتقداته بحكايتها فحسب ، ولكنه دين حجة وبرهان ، فقد ذكر مذاهب المخالفين وكرّ عليها بالحجة ، وخاطب العقل ، واستنهض الفكر ، وعرض نظام الأكوان ، وما فيها من الإحكام والإتقان ، على أنظار العقول وطالبها بالإمعان فيها ، لتصل بذلك إلى اليقين بصحة ما ادعاه ودعا إليه.

نقل البغوي عن ابن عباس فى تفسير قوله : «وَمَنِ اتَّبَعَنِي» يعنى أصحاب محمد صلى الله عليه وسلّم كانوا على أحسن طريقة ، وأقصد هداية ، معدن العلم ، وكنز الإيمان وجند الرحمن ، وعن ابن مسعود : أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلّم ، كانوا أفضل

٥٢

هذه الأمة ، وأبرّها قلوبا ، وأعمقها علما ، وأقلها تكلفا ، اختارهم الله لصحبة نبيه ، ولإقامة دينه ، فاعرفوا لهم فضلهم ، واتبعوهم على إثرهم ، وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم وسيرهم ، فإنهم كانوا على الصراط المستقيم.

وقد كان من شبه منكرى نبوة محمد صلى الله عليه وسلّم أن الله لو أراد إرسال رسول لبعث ملكا كما حكى عنهم سبحانه : «لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً» فرد سبحانه عليهم بقوله :

(وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى) فكيف عجبوا منك ولم يعجبوا ممن قبلك من الرسل.

ونظير هذا قوله : «وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ» وقوله : «وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ» وقوله : «قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ» الآية.

وهذه الشبهة ذكرت فى كثير من السور كالأعراف وإبراهيم والنحل والكهف والأنبياء والشعراء.

وقال الحافظ ابن كثير : يخبر تعالى أنه إنما أرسل رسله من الرجال لا من النساء ، وهذا قول الجمهور كما دل عليه سياق هذه الآية الكريمة ، فالله لم يوح إلى امرأة من بنات بنى آدم وحي تشريع اه.

وفى قوله : (مِنْ أَهْلِ الْقُرى) أي من أهل الأمصار دون البوادي إيماء إلى أن سائر البلدان تتبعهم إذا آمنوا ، ولأن أهل البادية أهل جفاء ، يرشد إلى ذلك قوله عليه السلام «من بدا جفا ، ومن اتبع الصيد غفل».

ثم أتبع ذلك بتأنيهم وتهديدهم على تكذيبهم بالرسول صلى الله عليه وسلّم فقال :

(أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ؟) أي أفلم يسر هؤلاء المشركون من كفار قريش ممن يكذبونك ويجحدون نبوتك وينكرون ما جئتهم به من توحيد الله وإخلاص العبادة له ، فينظروا فيما وطئوا من البلاد من أوقعنا بهم

٥٣

من الأمم قبلهم كقوم لوط وصالح وسائر من عذبهم الله من الأمم ، وما أحللنا بهم من بأسنا بتكذيبهم رسلنا ، وجحودهم بآياتنا ، ويعتبروا بما حل بهم.

ثم رغّب فى العمل للآخرة فقال :

(وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا) أي إن الدار الآخرة للذين آمنوا بالله ورسله واتقوا الشرك به وارتكاب الآثام والمعاصي ـ خير من هذه الدار المشركين المنكرين للبعث المكذبين بالرسل والذين لا حظ لهم من هذه الحياة إلا التمتع بلذاتها.

فإن نعيمها البدني أكمل من نعيم الدنيا ، لدوامه وثباته ولخلوه عن المنغّصات والآلام ، فما بالك بنعيمها الروحي من لقاء الله ورضوانه وكمال معرفته.

(أَفَلا تَعْقِلُونَ؟) هذا الفرق أيها المكذبون بالآخرة ، أما إنكم لو عقلتم ذلك لآمنتم.

ثم ذكر سبحانه تثبيتا لفؤاده عليه السلام أن العاقبة لرسله ، وأن نصره تعالى ينزل عليهم حين ضيق الحال وانتظار الفرج كما قال : «كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي» وقال : «إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا» وأن نصره يأتيهم إذا تمادى المبطلون فى تكذيبهم فقال :

الفرج بعد الشدة

(حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (١١٠) لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (١١١))

٥٤

تفسير المفردات

الظن هنا : إما بمعنى اليقين وإما بمعنى الحسبان والتقدير ، والبأس : العقاب ، والألباب : العقول واحدها لب ، وسمى بذلك لكونه خالص ما فى الإنسان من قواه ، والعبرة : الحال التي يتوصل بها من قياس ما ليس بمشاهد بما هو بمشاهد.

الإيضاح

(حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا) أي وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحى إليهم من أهل القرى فدعوا من أرسلوا إليهم إلى توحيد الله وإخلاص العبادة له فكذبوا بما جاءوهم به ، وردوا ما أتوا به من عند ربهم ، حتى إذا يئس الرسل من إيمانهم ، لانهما كهم فى الكفر وتماديهم فى الطغيان من غير وازع ، وظنّت الأمم أن الرسل الذين أرسلوا إليهم قد كذبوهم فيما كانوا أخبروهم عن الله من وعده لهم النصر عليهم ـ جاءهم نصرنا.

وهذه سنة الله فى الأمم ، يرسل إليهم الرسل بالبينات ، ويؤيدهم بالمعجزات ، حتى إذا أعرضوا عن الهداية ، وعاندوا رسل ربهم ، وامتدّت مدة كيدهم وعدوانهم ، واشتد البلاء على الرسل واستشعروا بالقنوط من تمادى التكذيب وتراخى النصر ـ جاءهم نصر الله فجأة ، وأخذ المكذبين العذاب بغتة ، كالطوفان الذي أغرق قوم نوح ، والريح التي أهلكت عادا قوم هود ، والصيحة التي أخذت ثمود ، والخسف الذي نزل بقرى قوم لوط وهم فيها كما قال : «أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ وَأَصْحابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكاتِ ، أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ».

وفى هذا تذكير لكفار قريش بأن سنته تعالى فى عباده واحدة لا ظلم فيها ولا محاباة وأنهم إن لم ينيبوا إلى ربهم حل بهم من العذاب ما حل بأمثالهم من أقوام الرسل كما قال فى سورة القمر : «أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ؟» وقد نصر الله نبيه صلى الله عليه وسلّم فى غزوة بدر وما بعدها من الغزوات ، وأهلك الجاحدين المعاندين من قومه.

٥٥

روى البخاري بسنده عن عائشة رضى الله عنها قالت لابن أختها عروة بن الزبير وهو يسألها عن قول الله تعالى : (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ) الآية ، هم أتباع الرسل الذين آمنوا بربهم وصدقوهم ، فطال عليهم البلاء واستأخر عليهم النصر ، حتى إذا استيأس الرسل ممن كذبهم من قومهم ، وظنت الرسل أن أتباعهم قد كذبوهم ـ جاءهم نصر الله عند ذلك.

وعن عائشة «أن النبي صلى الله عليه وسلّم قرأ وظنوا أنهم قد كذبوا» (مخففة) أخرجه ابن مردويه من طريق عكرمة ، ونحوه عن ابن عباس قال : «يئس الرسل أن يستجيبوا لهم وظن قومهم أن الرسل كذبوهم بما جاءوهم به جاءهم نصرنا» ونحوه «عن ابن مسعود قال «حفظت عن رسول الله فى سورة يوسف أنهم قد كذبوا مخففة» اه.

(فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ) أي فنجى الرسل ومن آمن بهم من أقوامهم ، لأنهم بحسب ما وضع الله من تأثير الأعمال فى طهارة النفوس وزكائها ـ هم الذين يستحقون النجاة دون غيرهم كما قال : «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها ، وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها».

(وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) أي ولا يمنع عقابنا وبطشنا عن القوم الذين أجرموا فكفروا بالله وكذبوا رسله ، وما أتوهم به من عند ربهم.

وقد جرت سنة الله أن يبلّغ الرسل أقوامهم ويقيموا عليهم الحجة ويندروهم سوء عاقبة الكفر والتكذيب ، فيؤمن المهتدون ، ويصرّ المعاندون ، فينجى الله الرسل ومن آمن من أقوامهم ويهلك المكذبين.

ولا يخفى ما فى الآية من التهديد والوعيد لكفار قريش ومن على شاكلتهم من المعاصرين للنبى صلى الله عليه وسلم.

(لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ) قص الخبر : حدّث به على أصح الوجوه وأصدقها ، من قولهم قص الأثر واقتصه إذا تتبّعه وأحاط به خبرا ، أي لقد كان فى قصص يوسف عليه السلام مع أبيه وإخوته عبرة لذوى العقول الراجحة والأفكار الثاقبة ، لأنهم هم الذين يعتبرون بعواقب الأمور التي تدلّ عليها أوائلها ومقدماتها ، أما الأغرار الغافلون فلا يستعملون عقولهم فى النظر والاستدلالات ، ومن ثم لا يفيدهم النصح.

٥٦

وجهة الاعتبار بهذه القصة أن الذي قدر على إنجاء يوسف بعد إلقائه فى غيابة الجب ، وإعلاء أمره بعد وضعه فى السجن ، وتمليكه مصر بعد أن بيع بالثمن البخس ، والتمكين له فى الأرض من بعد الإسار والحبس الطويل ، وإعزازه على من قصده بالسوء من إخوته ، وجمع شمله بأبويه وبهم بعد المدة الطويلة المدى ، والمجيء بهم من الشقة البعيدة النائية ـ إن الذي قدر على ذلك كله لقادر على إعزاز محمد صلى الله عليه وسلّم وإعلاء كلمته ، وإظهار دينه ، فيخرجه من بين أظهركم ، ثم يظهره عليكم ، ويمكن له فى البلاد ، ويؤيده بالجند والرجال ، والأتباع والأعوان ، وإن مرّت به الشدائد ، وأتت دونه الأيام والحوادث.

(ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) أي ما كان هذا القصص حديثا يختلق ويفترى ، لأنه نوع أعجز حملة الأحاديث ورواة الأخبار ـ ممن لم يطالع الكتب ولم يخالط العلماء ، فهو دليل ظاهر ، وبرهان قاهر ، على أنه جاء بطريق الوحى والتنزيل. ومن ثم قال ولكن تصديق الذي بين يديه أي من الكتب السماوية التي أنزلها الله قبله على أنبيائه كالتوراة والإنجيل والزبور ، أي تصديق ما عندهم من الحق فيها ، لا كل الذي عندهم ، فهو ليس بمصدّق لما عندهم من خرافات فاسدة ، وأوهام باطلة ، لأنه جاء لمحوها وإزالتها ، لا لإثباتها وتصديقها.

(وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ) من أمر الله ونهيه ، ووعده ووعيده ، وبيان ما يجب له تعالى من صفات الكمال وتنزهه عن صفات النقص ، وفيه قصص الأنبياء مع أقوامهم ، لما فيها من عبر وعظات وسائر ما بالعباد إليه حاجة.

وعلى الجملة ففى القرآن تفصيل كل شىء يحتاج إليه فى أمر الدين ، وقد أسهب فى موضع الإسهاب ، وأوجز حيث يكفى الإيجاز ، ففصّل الحق فى العقائد بالحجج والدلائل ، وفى الفضائل والآداب وأصول الشريعة وأمهات الأحكام ، بما به تصلح أمور البشر ، وشئون الاجتماع (وَهُدىً) أي وهو هدى لمن تدبّره ، وأمعن فى النظر فيه ، وتلاه حق تلاوته ، فهو مرشد إلى الحق وهاد إلى سبيل الرشاد وعمل الخير والصلاح ، فى الدين والدنيا.

٥٧

(وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) أي وهو رحمة عامة للمؤمنين الذين تنفّذ فيهم شرائعه فى دينهم ودنياهم.

والخاضعون لها من غير المؤمنين يكونون فى ظلها آمنين على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم ، أحرارا فى عقائدهم وعباداتهم ، مساوين للمؤمنين فى حقوقهم ومعاملاتهم ، يعيشون فى بيئة خالية من الفواحش والمنكرات التي تفسد الأخلاق وتعبث بالفضائل.

نسأل الله العظيم أن يجعلنا منهم فى الدنيا والآخرة ، وأن يحشرنا فى زمرة الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. يوم تسودّ وجوه وتبيضّ وجوه وأن يجعل خواتيمنا خير الخواتيم فى الدنيا والآخرة كما جعل خاتمة يوسف مع أبويه وإخوته كذلك.

إجمال ما جاء فى سورة يوسف

(١) قصص يوسف رؤياه على أبيه يعقوب.

(٢) نهى يعقوب لولده عن قصّه قصصه على إخوته.

(٣) تدبيرهم المكيدة ليوسف وإلقائه فى غيابة الجب.

(٤) ادعاؤهم أن الذئب قدأ كله.

(٥) عثور قافلة ذاهبة إلى مصر عليه والتقاطها له.

(٦) بيعها إياه فى مصر بثمن بخس لعزيز مصر.

(٧) وصية العزيز لامرأته بإكرام مثواه.

(٨) مراودة المرأة له عن نفسها وإعداد الوسائل لذلك.

(٩) تمنّعه من ذلك إكراما لسيده الذي أكرم مثواه.

(١٠) قدّها لقميصه وادعاؤها عليه أنه هو الذي أراد بها الفاحشة.

(١١) شهادة شاهد من أهلها بما يحلى الحقيقة.

(١٢) افتضاح أمرها فى المدينة لدى النسوة.

(١٣) تدبيرها المكيدة لأولئك النسوة وإحكام أمرها.

(١٤) إدخاله السجن اتباعا لمشيئتها.

٥٨

(١٥) تعبيره رؤيا فتيبن دخلا معه السجن

(١٦) رؤيا الملك وطلبه تعبيرها

(١٧) إرشاد أحد الفتيين للملك عن يوسف وأنه نعم المعبّر لها

(١٨) طلب الملك إحضاره من السجن واستخلاصه لنفسه

(١٩) توليته رئيسا للحكومة ومهيمنا على ماليتها

(٢٠) مجىء إخوة يوسف إليه وطلبه منهم أن يحضروا أخاهم لأبيهم

(٢١) إرجاع البضاعة التي جاءوا بها.

(٢٢) إحضارهم أخاه إليه بعد إعطائهم الموثق لأبيهم.

(٢٣) طلب أبيهم أن يدخلوا المدينة من أبواب متعددة.

(٢٤) إخبار يوسف لأخيه عن ذات نفسه.

(٢٥) أذان المؤذن أن العير قد سرقوا.

(٢٦) قول الإخوة إن أخاه قد سرق من قبل بعد حجزه عنده.

(٢٧) طلب الإخوة من يوسف أن يأخذ أحدهم مكانه.

(٢٨) وجود غشاوة على عينى يعقوب من الحزن.

(٢٩) تعريف يوسف بنفسه لإخوته.

(٣٠) حين جاء البشير بقميص يوسف ارتد يعقوب بصيرا.

(٣١) طلب الإخوة من أبيهم أن يستغفر لهم.

(٣٢) رفع يوسف أبويه على العرش.

(٣٣) قول يوسف لأبيه هذا تأويل رؤياى من قبل.

(٣٤) دعاؤه بحسن الخاتمة.

(٣٥) فى هذا القصص إثبات لنبوة محمد صلى الله عليه وسلّم.

(٣٦) تحذير المشركين من نزول العذاب بهم كما حدث لمن قبلهم.

(٣٧) لم يرسل الله إلا رجالا وما أرسل ملائكة.

(٣٨) نصر الرسل بعد الاستيئاس.

(٣٩) فى قصص الرسل عبرة لأولى الألباب.

٥٩

سورة الرعد

هى مدنية وآيها ثلاث وأربعون ، نزلت بعد سورة محمد ، ومناسبتها لما قبلها من وجوه :

(١) إنه سبحانه أجمل فى السورة السابقة الآيات السماوية والأرضية فى قوله :

«وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ» ثم فصلها هنا أتم تفصيل فى مواضع منها :

(٢) إنه أشار فى سورة يوسف إلى أدلة التوحيد بقوله «أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ؟» ثم فصل الأدلة هنا بإسهاب لم يذكر فى سالفتها.

(٣) إنه ذكر فى كلتا السورتين أخبار الماضين مع رسلهم ، وأنهم لاقوا منهم ما لاقوا ، وأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر ، وكتب الخزي على الكافرين ، والنصر لرسله والمؤمنين ، وفى ذلك تسلية لرسوله صلى الله عليه وسلّم وتثبيت لقلبه.

(٤) جاء فى آخر السورة السابقة وصف القرآن بقوله : «ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» وفى أول هذه وهو قوله : «تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ».

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

صفات القرآن

(المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (١))

٦٠