تفسير المراغي - ج ١٣

أحمد مصطفى المراغي

الإيضاح

(المر) قلنا فيما سلف إن هذه الحروف فى أوائل السور حروف تنبيه كألا ونحوها وتقرأ بأسمائها ساكنة فيقال «ألف ، لام ، ميم ، را» ؛ كما قلنا إن كل سورة بدئت بهذه الحروف ففيها انتصار للقرآن ، وتبيان أن نزوله من عند الله حق لا شك فيه.

(تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ) أي آيات هذه السورة آيات القرآن البالغ حد الكمال المستغنى عن الوصف بين الكتب السماوية ، الجدير بأن يختص باسم «الكتاب».

(وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ) أي وكل القرآن الذي أنزله إليك ربك حق لا شك فيه ، وهذا كالإجمال بعد التفصيل لما تقدم من وصف السورة بالكمال فكأنه سبحانه بعد أن أثبت لهذه السورة الرفعة والكمال عمم هذا الحكم فأثبته للقرآن جميعه ، فلا تختص به سورة دون أخرى.

وهذا الأسلوب جار على سنن العرب فى تخاطبهم فقد قالت فاطمة الأنمارية وقد سئلت عن بنيها ، أىّ بنيك أفضل؟ (ربيعة ، بل عمارة ، بل قيس ، بل أنس ، ثكلتهم إن كنت أعلم أيّهم أفضل ، هم كالحلقة المفرغة لا يدرى أين طرفاها) فبعد أن أثبتت الفضل لكل منهم على سبيل التعيين ، أجملت القول وأثبتت لهم الفضل جميعا.

(وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) أي ولكن أكثر الناس لا يصدقون بما أنزل عليك من ربك ، ولا يقرون بهذا القرآن وما فيه من بديع الأمثال والحكم والأحكام التي تناسب مختلف العصور والأزمان والتي لو سار الناس على سننها لسعدوا فى الدنيا والآخرة ؛ وقد سلك المسلمون سبيلها فى عصورهم الأولى فكانوا خير أمة أخرجت للناس ، وامتلكوا أكثر المعمور فى ذلك الحين وثلّوا عروش كسرى والروم ودانت لهم الرقاب ، وساسوا الملك سياسة شهد لهم أعداؤهم بأنها كانت سياسة عدل ورفق ، وأخذ على يد الظالم لإنصاف المظلوم ، فلله دين رفع من قدر أهله حتى أوصلهم

٦١

إلى السماكين ، ولكن خلف من بعدهم خلف أضاعوا معالمه ، وألقوها وراءهم ظهريا فحاق بهم ما كانوا يكسبون ، وصاروا أذلة بعد أن كانوا أعزة ، ومستعبدين بعد أن كانوا سادة ، تابعين بعد أن كانوا متبوعين «إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ» والآية بمعنى قوله : «وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ».

دلائل الوحدانية والقدرة

(اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (٢) وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٣) وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٤))

تفسير المفردات

العمد : السواري واحدها عمود كأدم وأديم ، والتسخير : التذليل والطاعة ، والتدبير : التصريف للأمور على وجه الحكمة ، والتفصيل : التبيين ، والآيات : هى الأدلة التي تقدم ذكرها من الشمس والقمر ، واليقين : العلم الثابت الذي لاشك فيه ، والمد : البسط ، والرواسي : الثوابت المستقرة التي لا تتحرك ولا تنتقل واحدها راسية ، والأنهار

٦٢

واحدها نهر : وهو المجرى الواسع من الماء ، زوجين اثنين : أي ذكر وأنثى ، والعرب تسمى الاثنين زوجين والواحد من الذكور زوجا لأنثاه ، والأنثى زوجا وزوجة لذكرها ، يغشى يغطى ، قطع : أي بقاع ، متجاورات : أي متقاربات ، جنات أي بساتين ، صنوان : هى النخلات يجمعها أصل واحد وتتشعب فروعها واحدها صنو ، وفى الحديث «عم الرجل صنو أبيه» والأكل (بضمتين وبتسكين الثاني) : ما يؤكل والمراد به التمر والحب.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه فى الآية السالفة أن أكثر الناس لا يؤمنون ، أعقبه بذكر البراهين على التوحيد والمعاد فاستدل بأحوال السموات وأحوال الشمس والقمر وأحوال الأرض جبالها وأنهارها وأزهارها ونخيلها وأعنابها واختلاف ثمراتها وتنوّع غلاتها على وجود الإله القادر القاهر الذي بيده الخلق والأمر ، وبيده الضر والنفع ، وبيده الإحياء والإماتة ، وهو على كل شىء قدير.

الإيضاح

ذكر سبحانه أدلة على وجوده ووحدانيته وقدرته ، بعضها سماوى وبعضها أرضى ، وذكر من الأولى جملة أمور :

(١) (اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها) أي إنه تعالى خلق السموات مرفوعات عن الأرض بغير عمد ، بل بأمره وتسخيره ، على أبعاد لا يدرك مداها ، وأنتم ترونها كذلك بلا عمد من تحتها تسندها ، ولا علاقة من فوقها تمسكها ، وقد تقدم هذا بإيضاح فى سورة البقرة.

(٢) (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) أي ثم استوى على عرشه الذي جعله مركز هذا التدبير العظيم استواء يليق بعظمته وجلاله ، يدبر أمر ملكه بما اقتضاه علمه من

٦٣

النظام ، وإرادته وحكمته من إحكام وإتقان ، وقد سبق تفصيل هذا فى سورتى الأعراف ويونس.

(٣) (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى) أي وذلل الشمس والقمر وجعلهما طائعين لما أريد منهما لمنافع خلقه ، فكل منهما يسير فى منازله لوقت معين ؛ فالشمس تقطع فلكها فى سنة ، والقمر فى شهر لا يختلف جرى كل منهما عن النظام الذي قدر له ، وإليه الإشارة بقوله «وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها» وقوله «وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ» وإيضاح هذا ذكر فى سورتى يونس وهود ، وبعد أن ذكر هذه الدلائل قال :

(يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) أي إنه تعالى يتصرف فى ملكه على أتم الحالات وأكمل الوجوه ؛ فهو يميت ويحيى ، ويوجد ويعدم ، ويغنى ويفقر ، وينزل الوحى على من يشاء من عباده ، وفى ذلك برهان ساطع على القدرة والرحمة ، فإن اختصاص كل شىء بوضع خاص وصفة معينة لا يكون إلا من مدبر اقتضت حكمته أن يكون كذلك ، فتدبيره لعالم الأجسام كتدبيره لعالم الأرواح ، وتدبيره للكبير كتدبيره للصغير ، لا يشغله شأن عن شأن ، ولا يمنعه تدبير شىء عن تدبير آخر كما هو شأن المخلوقات فى هذه الدنيا ، وكذلك هو دليل أيضا على أنه تعالى متعال فى ذاته وصفاته وعلمه وقدرته لا يشبه شيئا من مخلوقاته.

(يُفَصِّلُ الْآياتِ) أي يلبس الموجودات ثوب الوجود بنظام محكم دقيق ، ويوجد بينها ارتباطات تجعلها كأنها سلسلة متصلة الحلقات لا انفصام لبعضها عن بعض ؛ فالمجموعة الشمسية من الشمس والقمر والكواكب مرتبطة فى حركاتها بنظام خاص بوساطة الجاذبية لا تحيد عن سننه ولا تجد معدلا عن السير فيه بحسب النهج الذي قدر لها ، ولا تزال كذلك حتى ينتهى العالم ، فيحدث حينئذ تغيير لأوضاعها ، واختلال لحركاتها : «إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ. وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ».

٦٤

وهكذا الموجودات الأرضية لها أسباب تعقبها مسببات بإذن الواحد الأحد ، فالزارع يحرث أرضه ويلقى فيها الحب ثم يسقيها ويضع فيها السّماد ويوإلى سقيها حتى تؤتى أكلها ، فإذا فقدت حلقة من تلك السلسلة باء صاحب الزرع بالخسران فلم يحصل على شىء أو حصل على القليل التافه الذي لا يعدل التعب والنّصب الذي فعله.

ثم أبان سبحانه أن هذا التدبير للأمور والتفصيل للآيات الدالين على القدرة الكاملة والحكمة الشاملة ، جاءا لحكمة اقتضتهما وهى الإيقان بالبعث لفضل القضاء ومجازاة كل عامل بما عمل : «يوم تبيضّ وجوه وتسودّ وجوه» فإما نعيم مقيم وإما عذاب أليم ، وإلى ذلك أشار بقوله :

(لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ) أي رجاء أن تتحققوا أن من قدر على رفع السموات بغير عمد ودبر الأمر بإحكام ونظام ـ قادر على البعث والنشور وإحياء الموتى من القبور لفصل القضاء ثم ثواب كل عامل على ما عمل ، إن خيرا فخير وإن شرا فشر ؛ فإما سعادة لا شقاء بعدها ، وإما نكال وعذاب تتبدل من هوله الجلود «كلّما نضجت جلودهم بدّلناهم جلودا غيرها».

وخلاصة هذه العبرة ـ إنه تعالى كما قدر على إبقاء الأجرام الفلكية العظيمة من الشمس والقمر وسائر الكواكب فى الجو بلا عمد ودبّر الأمور بغاية الإحكام والدقة ولم يشغله شأن عن شأن ـ ليس بالبعيد عليه أن يرد الأرواح إلى الأجساد ويعيد العالم إلى حياة أخرى حياة استقرار وبقاء لافناء بعدها ، وإذا أيقنتم بذلك ولّيتم معرضين عن عبادة الأصنام والأوثان ، وأخلصتم العبادة للواحد الديان ، وائتمرتم بوعده ووعيده ، وصدقتم برسله ، وبادرتم إلى اتباع أوامره وتركتم ما نهى عنه ، ففزتم بسعادة الدارين.

وبعد أن ذكر سبحانه الدلائل السماوية على وحدانيته وكمال قدرته أردفها بالأدلة الأرضية فقال :

٦٥

(١) (وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ) أي جعلها متسعة ممتدة فى الطول والعرض ، لتثبت عليها الأقدام ، ويتقلب عليها الحيوان ، وينتفع الناس بخيراتها زرعها وضرعها ، وبما فى باطنها من معادن جامدة وسائلة ، ويسيرون فى أكنافها يبتعون رزق ربهم منها.

ولا شك أن الأرض لعظم سطحها هى فى رأى العين كذلك ، وهذا لا يمنع كرويتها التي قد قامت عليها الأدلة لدى علماء الفلك ولم يبق لديهم فيها ريب.

(٢) (وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ) أي وأرساها بجبال راسيات شامخات لا تنتقل ولا تتحرك حتى لا تميد وتضطرب.

(٣) (وَأَنْهاراً) أي وجعل فيها أنهارا جارية لمنافع الإنسان والحيوان ، فيسقى الإنسان ما جعل الله فيها من الثمرات المختلفة الألوان والأشكال ويجعلها لنفسه طعاما وفاكهة ، ويكون منها مادة حياته فى طعامه وشرابه وغذائه.

(٤) (وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ ، جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) أي وجعل فيها من كل أصناف الثمرات زوجين اثنين ذكرا وأنثى حين تكوّنها ، فقد أثبت العلم حديثا أن الشجر والزرع لا يولدان التمر والحب إلا من اثنين ذكر وأنثى ، وعضو التذكير قد يكون مع عضو التأنيث فى شجرة واحدة كأغلب الأشجار ، وقد يكون عضو التذكير فى شجرة وعضو التأنيث فى شجرة أخرى كالنخل ، وما كان العضوان فيه فى شجرة واحدة إما أن يكونا معا في زهرة واحدة كالقطن ، وإما أن يكون كل منهما فى زهرة كالقرع مثلا.

(٥) (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ) أي يلبس النهار ظلمة الليل ، فيصير الجو مظلما بعد أن كان مضيئا ، فكأنه وضع عليه لباسا من الظلمة ، وكذلك يلبس الليل ضياء النهار فيصير الجو مضيئا ، وكل هذا لتتم المنافع للناس بالسكون والاستقرار أو بالبحث على المعايش والأرزاق كما قال : «أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً» وقال : «وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ».

٦٦

وبعد أن ذكر هذه الأدلة التي تشاهد رأى العين فى كل صباح ومساء وفى كل حين ووقت ، ذكر أن هذه الأدلة لا يلتفت إليها ولا يعتبر بها إلا من له فكر يتدبر به وعقل يهتدى به إلى وجه الصواب وينتقل من النظر فى الأسباب إلى مسبباتها فقال :

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) أي إن فيما ذكر من عجائب خلق الله وعظيم قدرته التي خلق بها هذه الأشياء العظيمة ـ لدلائل وحججا لمن يتفكر فيها ويعتبر فيعلم أن الخالق لذلك هو القاهر فوق العباد ، وهو ذو الإرادة المطلقة والقدرة الشاملة ، فلا يعجزه إحياء من هلك من خلقه ، ولا إعادة من فنى منهم ، ولا ابتداع ما شاء ابتداعه ، ومن ثم لا تجوز العبادة إلا له ، ولا التذلل والخضوع إلا لسلطانه ، ولا ينبغى أن تكون لصنم أو وثن أو حجر أو شجر أو ملك أو نبى أو غير أولئك ممن سلب النفع والضر ، بل لا يستطيع صرف الأذى عن نفسه : «إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ. وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ».

وقد روى «تفكروا فى آلاء الله ولا تتفكروا فى الله».

(٦) (وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ) أي وفى الأرض بقاع متجاورات متدانيات ، يقرب بعضها من بعض ، وتختلف بالتفاضل مع تجاورها ، فمن سبخة لا تنبت شيئا إلى أرض جيدة التربة تجاورها وتنبت أفضل الثمرات ومختلف النبات ، ومن صالحة للزرع دون الشجر ، إلى أخرى مجاورة لها تصلح للشجر دون الزرع ، إلى متدانية لهما تصلح لجميع ذلك ، ومنها الرّخوة التي لا تكاد تتماسك وهى تجاور الصّلبة التي لا تفتّتها المعاول وأدوات. التدمير من المفرقعات (الديناميت والقنابل) وكلها من صنع الله وعظيم تدبيره فى خلقه.

(وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ) أي وفيها بساتين من أشجار الكرم.

(وَزَرْعٌ) أي وفيها زرع من كل نوع وصنف من الحبوب المختلفة التي تكون فذاء للإنسان والحيوان.

٦٧

(وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ) أي وفيها نخيل صنوان يجمعها أصل واحد وتتشعب فروعها ، وغير صنوان أي متفرقات مختلفة الأصول.

(يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ) أي يسقى كل ما ذكر من القطع والجنات والزرع والنخيل بماء واحد لا اختلاف فى طبعه ، ومع وجود أسباب التشابه نفضّل بمحض القدرة بعضا منها على بعض فى الثمرات شكلا وقدرا ، ورائحة وطعما ، وحلاوة وحموضة.

ثم بين أن مثل هذا لا يفكر فيه إلا من أوتى العقل الذي يفكر فى المقدمات والنتائج ، والأسباب والمسببات فقال :

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) أي إن فيما فصّل من الأحوال السالفة لآيات باهرة لقوم يعملون على قضية العقل ، فمن ير خروج الثمار المختلفة الأشكال والألوان والطعوم والروائح فى تلك البقاع المتلاصقة ، مع أنها تسقى بماء واحد وتتشابه وسائل نموها ـ يجزم حتما بأن لذلك صانعا حكيما قادرا مدبرا لا يعجزه شىء ، وكذلك يعتقد بأن من قدر على إنشاء ذلك ، فهو قادر على إعادة ما بدأه أول مرة ، بل هو أهون منه لدى النظر والاعتبار.

إنكار المشركين للبعث والنبوة

(وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٥) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ

٦٨

وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ (٦) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ (٧))

تفسير المفردات

العجب : تغير النفس حين رؤية ما يستبعد فى مجرى العادة ، والأغلال : واحدها غلّ ، وهو طوق من الحديد طرفاه فى اليدين ويحيط بالعنق ، والمثلات (بفتح فضم) واحدها مثلة (بفتح فضم) كسرة وهى العقوبة التي تترك فى المعاقب أثرا قبيحا كصلم أذن أو جدع أنف أو سمل عين ، والغفر : الستر بالإمهال وتأخير العقاب إلى الآخرة ، والمراد بالآية هنا الآيات الحسية كقلب عصا موسى حية وناقة صالح ، والإنذار : التخويف ، والهادي : القائد الذي يقود الناس إلى الخير كالأنبياء والحكماء والمجتهدين.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر إنكارهم لوحدانيته تعالى مع وضوح الأدلة على ذلك ، من خلق السموات بلا عمد وتسخير الشمس والقمر يجريان إلى أجل مسمى ومن مد الأرض وإلقاء الجبال الرواسي فيها إلى آخر ما ذكر من الآيات الدالة على عظيم قدرته وبديع صنعه لمن يتأمل ويتفكر فى ذلك الملكوت العظيم ـ ذكر هنا إنكارهم للبعث والنشور على وضوح طريقه وسطوع دليله قياسا على ما يرون ويشاهدون ، فإن من قدر على خلق السموات والأرض وسائر العوالم على هذا النحو الذي يحار الإنسان فى الوصول إلى معرفة كنهه لا يعجز عن إعادته فى خلق جديد كما قال تعالى : أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى؟».

٦٩

الإيضاح

(وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ؟) أي وإن تعجب من عبادتهم ما لا يضر ولا ينفع من الأصنام والأوثان بعد أن قامت الأدلة على التوحيد ، فأعجب منه تكذيبهم بالبعث واستبعادهم إياه بقولهم :

(أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ؟) أي أئذا فنينا وبلينا نعاد بعد العدم ، مع أنهم لا ينكرون قدرته تعالى على إيجادهم بداءة ذى بدء وتصويرهم فى الأرحام وتدبير شئونهم حالا بعد حال.

وقد تكرر هذا الاستفهام فى أحد عشر موضعا فى تسع سور من القرآن : فى الرعد ، والإسراء ، والمؤمنون ، والنحل ، والعنكبوت ، والسجدة ، والصافات ، والواقعة ، والنازعات! وكلها تتضمن كمال الإنكار وعظيم الاستبعاد.

ثم وصف أولئك المنكرين للبعث فقال :

(أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ) أي أولئك الذين جحدوا قدرة ربهم وكذبوا رسوله على ما عاينوا من آياته الكبرى التي ترشدهم إلى الإيمان وتهديهم سبيل الرشاد لو كانوا يبصرون ـ هم الذين تمادوا فى عنادهم وكفرهم ، فإن إنكار قدرته تعالى إنكار له لأن الإله لا يكون عاجزا.

(وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ) أي وأولئك مقيدون بسلاسل وأغلال من الضلال تصدهم عن النظر فى الحق واتباع طريق الهدى والبعد عن الهوى كما قال :

كيف الرشاد وقد خلّفت فى نفر

لهم عن الرشد أغلال وأقياد

وقد يكون المعنى ـ إنهم يوم القيامة عند العرض للحساب توضع الأغلال فى أعناقهم كما يقاد الأسير الذليل بالغل ، ويؤيده قوله تعالى : «إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ».

(وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) أي وأولئك هم الماكثون فى النار دار

٧٠

الذل والهوان لا يتحولون عنها ولا يبرحونها كفاء ما سولت لهم أنفسهم من سىء الأعمال وما اجترحوا من الموبقات والشرور والآثام : «كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ».

وبعد أن ذكر تكذيبهم للرسول صلى الله عليه وسلّم فى إنكار عذاب يوم القيامة ذكر جحودهم لعذاب الدنيا الذي أوعدهم به ، وكانوا كلما هددهم بالعذاب قالوا له جئنا به وطلبوا منه إنزاله ، وهذا ما أشار إليه بقوله :

(وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ) أي ويستعجلونك بالعقوبة التي هددوا بها إذا هم أصروا على الكفر استهزاء وتكذيبا كما حكى الله عنهم فى قوله : «وَإِذْ قالُوا اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ» وفى قوله «وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ» وفى قوله «سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ».

(قَبْلَ الْحَسَنَةِ) أي قبل الثواب والسلامة من العقوبة ، وكان صلى الله عليه وسلّم يعدهم على الإيمان بالثواب فى الآخرة وحصول النصر والظفر فى الدنيا.

(وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ) أي ويستعجلونك بذلك مستهزئين بإنذارك منكرين وقوع ما تنذرهم به ، والحال أنه قد مضت العقوبات الفاضحة النازلة على أمثالهم من المكذبين المستهزئين ، فمن أمة مسخت قردة ، وأخرى أهلكت بالرجفة ، وثالثة أهلكت بالخسف إلى نحو أولئك.

(وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ) أي وإن ربك لذو عفو وصفح عن ذنوب من تاب من عباده فتارك فضيحته بها فى يوم القيامة ، ولو لا حلمه وعفوه لعاجلهم بالعقوبة حين اكتسابها كما قال «وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ».

(وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ) لمن يجترح السيئات وهو متماد فى غوايته سادر

٧١

فى آثامه ، وقد يعجل له قسطا منه فى الدنيا ويكون جزاء له على ما سولت له نفسه كما يشاهد لدى المدمنين على الخمور من اعتلال وضعف ومرض مزمن وفقر مدقع وذل وهوان بين الناس ، وفى المقامرين من خراب عاجل وإفلاس فى المال والذل بعد العز ، وربما اقتضت حكمته أن يؤجل له ذلك إلى يوم مشهود يوم يقوم الناس لرب العالمين فيستوفى قطّه هناك نارا تكوى بها الجباه والجنوب ، وتبدل الجلود غير الجلود ، وقد قرن المغفرة بالعقاب فى مواضع كثيرة من الكتاب الكريم ليعتدل الرجاء والخوف كقوله «إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ ، وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ» وقوله «نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ» إلى أمثال ذلك من الآيات التي تجمع الخوف والرجاء.

روى ابن أبى حاتم عن سعيد بن المسيّب قال : لما نزلت هذه الآية (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ) إلخ قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «لو لا عفو الله وتجاوزه ما هنأ أحدا العيش ، ولولا وعيده وعقابه لا تكل كل واحد».

وبعد أن ذكر طعنهم فى نبوة محمد صلى الله عليه وسلّم لقوله بالحشر والمعاد ، ثم طعنهم فيه لأنه أنذرهم بحلول عذاب الاستئصال ذكر أنهم طعنوا فيه ، لأنه لم يأت لهم بمعجزة مبيّنة كما فعل الرسل من قبله فقال :

(وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) أي ويقول الذين كفروا تعنتا وجحودا : هلا يأتينا بآية من ربه كعصا موسى وناقة صالح ، فيجعل لنا الصفا ذهبا ويزيح عنا الجبال ويجعل مكانها مروجا وأنهارا ، وقد طلبوا ذلك ظنا منهم أن القرآن كتاب كسائر الكتب لا يدخل فى باب المعجزات التي أتى بها الرسل السالفون.

وقد رد الله عليهم الشبهة بقوله فى آية أخرى «وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ» أي إن سنتنا أن الآيات إن لم يؤمن بها من طلبوها أهلكناهم بذنوبهم ، ولم نشأ أن يحل بكم عذاب الاستئصال.

٧٢

ولما كان النبي صلى الله عليه وسلّم راغبا فى إجابة مقترحاتهم حبا فى إيمانهم بيّن له وظيفته التي أرسل لأجلها فقال :

(إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ) أي إن مهمتك التي بعثت لها هى الإنذار من سوء مغبّة ما نهى الله عنه كدأب من قبلك من الرسل ، وليس عليك الإتيان بالآيات التي يقترحونها ابتغاء هدايتهم ، فأمر ذلك إلى خالقهم وهاديهم «ليس عليك هداهم ولكنّ الله يهدى من يشاء» ، «فلعلّك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا».

(وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) أي ولكل أمة قائد يدعوهم إلى سبل الخير ، فطره الله على سلوك طريقه بما أودع فيه من الاستعداد له بسائر وسائله ، وقد شاء أن يبعث هؤلاء الهداة فى كل زمان كى لا يترك الناس سدى. وأولئك هم الأنبياء الذين يرسلهم لهداية عباده ، فإن لم يكونوا فالحكماء والمجتهدون الذين يسيرون على سننهم ويقتدون بما خلفوا من الشرائع وفضائل الأخلاق وحميد الشمائل ، ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلّم «أصحابى كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم».

الله عليم بكل شىء

(اللهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ (٨) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ (٩) سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ (١٠) لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذا أَرادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ (١١))

٧٣

تفسير المفردات

الغيض : النقصان ؛ يقال غاض الماء وغضته كما قال «وَغِيضَ الْماءُ» بمقدار ، أي بأجل لا يتجاوزه ولا ينقص عنه ، والغائب : ما غاب عن الحس ، والشاهد : الحاضر المشاهد ، الكبير : العظيم الشأن ، والمتعالي : المستعلى على كل شىء ، وأسر الشيء : أخفاه فى نفسه ، والمستخفى : المبالغ فى الاختفاء ، والسارب : الظاهر ، من قولهم سرب : إذا ذهب فى سربه (طريقه) معقبات ، أي ملائكة تعتقب فى حفظه وكلاءته واحدها معقبة ، من عقّبه : أي جاء عقبه ، من بين يديه ، أي قدّامه ، ومن خلفه ، أي من ورائه ، من أمر الله ، أي بأمره وإعانته ، وال ، أي ناصر.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه إنكار المشركين للبعث واستبعادهم له كما حكى عنهم بقوله «أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ» ، إذ رأوا أن أجزاء الحيوان حين تفتّها وتفرقها يختلط بعضها ببعض ، وقد تتنائر فى بقاع شتى ونواح عدة ، وربما أكل بعض الجسم سبع وبعضه الآخر حدأة أو نسر ، وحينا يأكل السمك قطعة منه وأخرى يجرى بها الماء وتدفن فى بلد آخر ، أزال هذا الاستبعاد بأن الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة فى الأرض ولا فى السماء ، والذي يعلم الأجنّة فى بطون أمهاتها ، ويعلم ما هو مشاهد لنا أو غائب عنا يعلم تلك الأجزاء المتناثرة ومواضعها مهما نأى بعضها عن بعض ويضم متفرقاتها ويعيدها سيرتها الأولى :

الإيضاح

(اللهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى) من ذكر أو أنثى ، واحد أو متعدد ، طويل العمر أو قصيره كما قال «هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ» ، وقال «وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ».

٧٤

(وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ) أي وما تنقصه الأرحام وما تزداده من عدد فى الولد ، فقد يكون واحدا وقد يكون اثنين أو ثلاثة أو أربعة أو خمسة ، ومن جسده فقد يكون تامّا وقد يكون ناقص الخلق وهو المخدج ، ومن مدة الحمل فقد تكون أقل من تسعة أشهر وقد تكون تسعة إلى عشرة أشهر تقريبا ، فقد دل الإحصاء والبحث الذي عمل فى مستشفيات لندن على أن الجنين لا يستقر فى البطن وهو حى أكثر من ٣٠٥ أيام ، وفى مستشفيات برلين على أنه لا يستقر أكثر من ٣٠٨ ومن ثم جرت المحاكم الشرعية الآن على أن عدة المطلقة لا تكون أكثر من سنة بيضاء أي سنة قمرية أي ٣٥٤ يوما ، وهو رأى فى مذهب مالك.

(وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ) أي ولكل شىء ميقات معيّن لا يعدوه زيادة ولا نقصا «فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون».

وفى معنى الآية قوله تعالى «إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ» وفى الحديث «إن إحدى بنات النبي صلى الله عليه وسلّم بعثت إليه رسولا : إن ابنا لها فى الموت ، وأنها تحب أن تحضره ، فبعث إليها يقول : «إن لله ما أخذ ، وله ما أعطى ، وكل شىء عنده بأجل مسمى ، فمرها فلتصبر ولتحتسب».

(عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) أي عالم ما هو غائب عنكم لا تدركه أبصاركم من عوالم لا نهاية لها ، فقد أثبت العلم حديثا أن هناك عوالم لا تراها العين المجردة بل ترى بالمنظار المعظم (التليسكوب) ومنها الجراثيم (المكروبات) التي تولد كثيرا من الأمراض التي قد يعسر شفاؤها أو يتعذر فى كثير من الأحوال كجراثيم السرطان والسل والزهري ، أو تشفى بعد حين كجراثيم الجدرىّ و (الدفتيريا) والحصبة ونحوها وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى «وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ» ، وما تشاهدونه وترونه بأعينكم «وما يعزب عن ربّك من مثقال ذرّة فى الأرض ولا فى السّماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلّا فى كتاب مبين».

(الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ) أي هو العظيم الشأن الذي يجلّ عما وصفه به الخلق من صفات

٧٥

المخلوقين ، المستعلى على كل شىء بقدرته وجبروته وهو وحده الذي له التصرف فى ملكوته.

وفى هذا إيماء إلى أنه تعالى قادر على البعث الذي أنكروه ، والآيات التي اقترحوها ، والعذاب الذي استعجلوه ، وإنما يؤخر ذلك لمصلحة لا يدركها البشر فيخفى عليه سرها.

وفى معنى الآية قوله «سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ».

ثم بين أن علمه تعالى شامل لجميع الأشياء فقال :

(سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ) أي من أسر قوله وأخفاه ولم يتلفّظ به ، أو جهر به وأظهره فهو سواء عند الله يسمعه ولا يخفى عليه شىء منه كما قال «وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى» وقال «وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ» قالت عائشة : سبحان الذي وسع سمعه الأصوات ، والله لقد جاءت المجادلة تشتكى زوجها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأنا فى جنب البيت وإنه ليخفى علىّ بعض كلامها فأنزل الله «قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ ، وَاللهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما ، إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ».

(وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ) أي مختف فى عقر داره فى ظلام الليل.

(وَسارِبٌ بِالنَّهارِ) أي ظاهر ماش فى بياض النهار ، فكلاهما عند الله سواء ، وروى عن ابن عباس فى تفسير ذلك : هو صاحب ريبة مستخف بالليل ، وإذا خرج بالنهار أرى الناس أنه برىء من الإثم.

(لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ) أي للإنسان ملائكة يتعاقبون عليه :

حرس بالليل وحرس بالنهار يحفظونه من المضارّ ويراقبون أحواله ، كما يتعاقب ملائكة آخرون لحفظ أعماله من خير أو شر ، ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ، فاثنان عن اليمين والشمال يكتبان الأعمال ، صاحب اليمين يكتب الحسنات وصاحب الشمال يكتب

٧٦

السيئات ، وملكان آخران يحفظانه ويحرسانه ، واحد من ورائه وآخر من قدامه ، فهو بين أربعة أملاك بالنهار وأربعة آخرين بالليل بدلا ، حافظان وكاتبان كما جاء فى الحديث الصحيح «يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ، ويجتمعون فى صلاة الصبح وصلاة العصر ، فيصعد إليه الذين باتوا فيكم فيسألهم وهو أعلم بكم كيف تركتم عبادى؟ فيقولون أتيناهم وهم يصلون وتركناهم وهم يصلون».

وإذا علم الإنسان أن هناك ملائكة تحصى عليه أعماله كان حذرا من وقوعه فى المعاصي خيفة أن يطلع عليه الكرام الكاتبون ويزجره الحياء عن الإقدام على فعل الموبقات كما يحذر من الوقوع فيها إذا حضر من يستحى منه من البشر ، وهو أيضا إذا علم أن كل عمل له فى كتاب مدّخر يكون ذلك رادعا له داعيا إلى تركه.

وليس أمر الحفظة بالبعيد عن العقل بعد أن أثبته الدين وبعد أن كشف العلم أن كثيرا من الأعمال العامة يمكن إحصاؤها بآلات دقيقة لا تدع منها شيئا إلا تحصيه ، فقد أصبحت المياه والكهرباء فى المدن تعدّ بالآلات (العدادات) فالمياه التي يشربونها ، والكهرباء التي يضيئون بها منازلهم تحصى وتعدّ كما يعدّ الدرهم والدينار ، وكذلك هناك آلات تحصى المسافات التي تقطعها السيارات فى سيرها ، وأخرى تحصى تيارات الأنهار ومساقط المياه إلى غير ذلك من دقيق الآلات التي لا تترك صغيرة ولا كبيرة من الأعمال إلا تكتبها وتحصيها.

وكلما تقدمت العلوم وكشفت ما كان غائبا عنا كان فى ذلك تصديق أيّما تصديق لنظريات الدين ، ووسيلة حافزة إلى الاعتراف بما جاء فيه مما يخفى على بعض الماديين الذين لا يقرّون إلا بما يرونه رأى العين ، ولا يذعنون إلا بما يقع تحت حسهم ، وبهذا يصدق قول القائل (الدين والعقل فى الإسلام صنوان لا يفترقان ، وصديقان لا يختلفان).

(يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ) أي هم يحفظونه بأمر الله وإذنه وجميل رعايته وكلاءته ، فكما جعل سبحانه للمحسوسات أسبابا محسوسة ربط بها مسبباتها بحسب ما اقتضته

٧٧

حكمته ، فجعل الجفن سببا لحفظ العين مما يدخل فيها ، فيؤذيها ، كذلك جعل لغير المحسوسات أسبابا ، فجعل الملائكة أسبابا للحفظ ، وأفعاله تعالى لا تخلو من الحكم والمصالح.

وكذلك جعل لحفظ أعمالنا كراما كاتبين وإن كنا لا ندرى ما قلمهم وما مدادهم؟

وكيف كتابتهم؟ وأين محلهم؟ وما حكمة ذلك؟ مع أن علمه تعالى بأعمال الإنسان كاف فى الثواب والعقاب عليها ، وقد يكون من حكمة ذلك أنه إذا علم الإنسان أن أعماله محفوظة لدى الحفظة الكرام كان أجدر بالإذعان لما يلقاه من ثواب وعقاب يوم العرض والحساب.

ولمفسرى السلف أقوال فى الآية. قال ابن عباس : هم الملائكة تعقّب بالليل ، تكتب على ابن آدم ، ويحفظونه من بين يديه ومن خلفه ، وذلك الحفظ من أمر الله وبإذن الله ، لأنه لا قدرة للملائكة ولا لأحد من الخلق أن يحفظ أحدا من أمر الله وبما قضاه عليه إلا بأمره وإذنه ، فإذا جاء قدر الله خلّوا عنه. وقال علىّ : ليس من عبد إلا ومعه ملائكة يحفظونه من أن يقع عليه حائط أو يتردى فى بئر أو يأكله سبع أو يغرق أو يحرق ، فإذا جاء القدر خلوّا بينه وبين القدر اه.

(إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) أي إن الله لا يغير ما بقوم من نعمة وعافية فيزيلها عنهم ويذهبها ، حتى يغيروا ما بأنفسهم من ذلك بظلم بعضهم بعضا واعتداء بعضهم على بعض ، وارتكابهم للشرور والموبقات التي تقوّض نظم المجتمع ، وتفتك بالأمم كما تفتك الجراثيم بالأفراد.

روى أن أبا بكر قال : قال صلى الله عليه وسلّم «إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه يوشك أن يعمهم الله تعالى بعقاب» ويرشد إلى صحة هذا قوله تعالى : «وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً» وقد بسطنا هذا فيما سلف فى مواضع متعددة ، وأشار إليه المحقق المؤرخ ابن خلدون فى مقدمة التاريخ وعقد له بابا جعل عنوانه [فصل فى أن الظلم مؤذن بخراب العمران] واسترسل فيه على

٧٨

المنهج المعروف عنه ، وضرب له الأمثلة بما حدث فى كثير من الأمم قبل الإسلام وبعده ، وبين أن الظلم قد ثلّ عروشها ، وأذل أهلها ، وجعلها طعمة للآكلين ، ومثلا للآخرين.

وفى حال الأمم الإسلامية اليوم وقد اجتثت من أطرافها وتحكم فيها أهل الغرب وأذلوها بعد أن استعمروها ، عبرة لمن تدبر وألقى السمع وهو شهيد ، والقرآن شاهد على صدق هذه النظرية ، كما قال : «إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ» وقوله «أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ» أي الصالحون لاستعمارها والانتفاع بخيراتها ، ما ظهر منها وما بطن.

(وَإِذا أَرادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ) أي وإذا أراد الله بقوم سوءا من مرض وفقر ونحوهما من أنواع البلاء بما كسبت أيديهم حين أخذوا فى الأسباب التي تصل بهم إلى هذه الغاية ، فلا يستطيع أحد أن يدفع ذلك عنهم ولا يردّ ما قدّره لهم.

وفى هذا إيماء إلى أنه لا ينبغى الاستعجال بطلب السيئة قبل الحسنة ، وطلب العقاب قبل الثواب ، فإنه متى أراد الله ذلك وأوقعه بهم فلا دافع له.

والخلاصة ـ إنه ليس من الحكمة فى شىء أن يستعجلوا ذلك.

(وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ) أي ومالهم من دون الله سبحانه من يلى أمورهم ، فيجلب لهم النفع ويدفع عنهم الضر ، فالآلهة التي اتخذوها لا تستطيع أن تفعل شيئا من ذلك ، ولا تقدر على دفع الأذى عن نفسها فضلا عن دفعه عن غيرها.

والله در الأعرابى الذي رأى صنما يبول عليه الثعلب فثارت به حميّته فأمسكه وكسره إربا إربا وقال :

أربّ يبول الثّعلبان برأسه

لقد ذلّ من بالت عليه الثعالب

وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى : «إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ».

٧٩

نعم الله على عباده

(هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ (١٢) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ (١٣) لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلاَّ كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (١٤) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (١٥))

تفسير المفردات

البرق : ما يرى من النور لا معا خلال السحاب ، والرعد : هو الصوت المسموع خلال السحاب. وسببهما على ما بيّن فى العلوم الطبيعية ـ أن البرق يحدث من تقارب سحابتين مختلفى الكهربائية ، حتى يصير ميل إحداهما للاقتراب من الأخرى أشد من قوة الهواء على فصلهما فتهجم كل منهما على الأخرى بنور زاهر وصوت قوىّ شديد ، فذلك النور هو البرق. والصوت هو الرعد الذي نشأ من تصادم دقائق الهواء الذي تطرده كهربائية البرق أمامها ، والصواعق : واحدها صاعقة. وسببها أن السحب قد تمتلىء بكهربائية ، والأرض بكهربائية أخرى والهواء يفصل بينهما ، فإذا قاربت السحب وجه الأرض تنقص الشرارة الكهربائية منها فتنزل صاعقة تهلك الحرث والنسل ، والمجادلة : من الجدل وهو شدة الخصومة ، وأصله من جدلت الحبل إذا أحكمت فتله ، كأن المجادلين يفتل كل منهما الآخر عن رأيه ، والمحال : أي أفتله المماحلة والمكايدة لأعدائه ، يقال محل فلان بفلان إذا كايده وعرّضه للهلاك ، وتمحل إذا تكلف فى استعمال الحيلة ، فى ضلال أي ضياع وخسار ، والظلال : واحدها ظل وهو

٨٠