تفسير المراغي - ج ١٣

أحمد مصطفى المراغي

(قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ) أي جزاؤه أخذ من وجد فى رحله وظهر أنه هو السارق له وجعله عبدا لصاحبه ، وقوله :

(فَهُوَ جَزاؤُهُ) تقرير للحكم السابق وتأكيد له بإعادته ، كما تقول حق الضيف أن يكرم ، فهو حقه ، والقصد من الأول إفادة الحكم ، ومن الثاني إفادة أن ذلك هو الحق الواجب فى مثل هذا ، وقد كان الحكم فى شرع يعقوب أن يسترقّ السارق سنة.

(كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) أي مثل هذا الجزاء الأوفى نجزى الظالمين للناس بسرقة أمتعتهم وأموالهم فى شريعتنا ، فنحن أشد الناس عقابا للسراق.

وهذا تأكيد منهم بعد تأكيد لثقتهم ببراءة أنفسهم.

(فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ) أي فبدأ يوسف بتفتيش أوعيتهم التي تشتمل عليها رحالهم ابتعادا عن الشبهة وظن التهمة بطريق الحيلة.

(ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ) أي ثم إنه بعد أن فرغ من تفتيش أوعيتهم فتش وعاء أخيه فأخرج السقاية منه.

(كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ) أي مثل هذا الكيد والتدبير الخفىّ كدنا ليوسف ، وألهمناه إياه ، وأوحينا إليه أن يفعله.

ذلك أن الحكمة الإلهية اقتضت تربية إخوة يوسف وعقابهم بما فرطوا فى يوسف واستحقاقهم إتمام النعمة عليهم يتوقف على أخذه بطريق لا جبر فيه ولا تقتضيه شريعة الملك ، وبه يذوقون ألم فراق بنيامين ومرارته ، فيما لا لوم فيه على أحد غير أنفسهم ، ولن يكون هذا الحكم منهم إلا بوقوع شبهة السرقة على بنيامين من حيث لا يؤذيه ذلك ولا يؤلمه ، وقد أعلمه أخوه يوسف به وبغايته. وفى هذا إيماء إلى جواز التوصل إلى الأغراض الصحيحة بما ظاهره الحيلة والمكيدة إذا لم يخالف شرعا ثابتا.

ثم علل ما صنعه الله من الكيد ليوسف بقوله :

(ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ) أي وما كان له ولا مما تبيحه أمانته لملك مصر أن يخالف شرعه الذي فوض له الحكم به وهو لا يبيح استرقاق السارق ، فما كان

٢١

بالميسور له أخذ أخيه من إخوته ومنعه من الرحيل معهم إلا بحكمهم على أنفسهم بشريعة يعقوب التي تبيح ذلك.

ولما كانت هذه الوسيلة إلى تلك الغاية الشريفة منكرة بحسب الظاهر ، لأنها تهمة باطلة ، وكان من شأن يوسف أن يتباعد عنها ويتحاماها إلا بوحي من الله ـ بين أنه فعل ذلك بإذن الله ومشيئته فقال :

(إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) أي إنه فعل ذلك بإذن الله ووحيه ، لا أنه هو الذي اخترع هذه المكيدة.

(نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ) أي نرفع من نشاء درجات كثيرة فى العلم والإيمان ونريه وجوه الصواب فى بلوغ المراد ، كما رفعنا درجات يوسف على إخوته فى كل شىء.

وفى هذا إيماء إلى أن العلم أشرف المقامات ، وأعلى الدرجات.

(وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) أي وفوق كل عالم من هو أوسع إحاطة منه وأرفع درجة ، إلى أن يصل الأمر إلى من أحاط بكل شىء علما وهو فوق كل ذى علم.

وخلاصة ذلك ـ إن إخوة يوسف كانوا علماء إلا أن يوسف كان أعلم منهم.

(قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً وَاللهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ (٧٧) قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٧٨) قالَ مَعاذَ اللهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلاَّ مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ (٧٩))

الإيضاح

(قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ) أي قال إخوة يوسف ، إن

٢٢

يسرق بنيامين فقد سرق أخوه يوسف من قبل ، فالسرقة جاءت وراثة من أمهما إذ هما لا ينفردان منا إلا بها. وفى قولهم هذا إيماء إلى أن الحسد لا يزال كامنا فى قلوبهم ، لاختلاف الأمهات ، ولمزيد محبة الأب لهما.

وأصح ما قيل فى سرقة يوسف مارواه ابن مردويه عن ابن عباس مرفوعا قال :

سرق يوسف عليه السلام صنما لجده أبى أمه من ذهب وفضة فكسره وألقاه فى الطريق فعيره بذلك إخوته.

وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد قال : كان أول ما دخل على يوسف عليه السلام من البلاء فيما بلغني أن عمته وكانت أكبر ولد إسحاق عليه السلام وكانت إليها منطقة إسحاق إذ كانوا يتوارثونها بالكبر ، وكان يعقوب حين ولد له يوسف عليه السلام قد حضنته عمته فكان معها ، فلم يحب أحد شيئا من الأشياء كحبها إياه حتى إذا ترعرع ووقعت نفس يعقوب عليه السلام عليه فأتاها فقال يا أخية سلمى إلىّ يوسف ، فو الله ما أقدر على أن يغيب عنى ساعة قالت : فو الله ما أنا بتاركته فدعه عندى أياما أنظر إليه ، لعل ذلك يسلينى عنه ، فلما خرج يعقوب من عندها عمدت إلى منطقة إسحاق عليه السلام فحزمتها على يوسف عليه السلام من تحت ثيابه ، ثم قالت فقدت منطقة إسحاق فانظروا من أخذها ومن أصابها؟ فالتمست ثم قالت :

اكشفوا أهل البيت فكشفوهم فوجدوها مع يوسف عليه السلام ، فقالت والله إنه لسلم لى أصنع فيه ما شئت ، فأتاها يعقوب فأخبرته الخبر فقال لها : أنت وذاك إن كان فعل فهو سلم لك ما أستطيع غير ذلك ، فأمسكته فما قدر عليه حتى ماتت.

وهذا هو الذي عناه إخوته بقولهم (إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ) وهذه الروايات لا يوثق بها كما لا يدل شيء منها على سرقة حقيقية.

(فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ) أي فأضمر مقالتهم فى نفسه ولم يجبهم عنها.

(وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ) أي ولم يؤاخذهم بها لا قولا ولا فعلا صفحا عنهم وحلما.

٢٣

ثم فسر ما أسره بقوله :

(قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً) أي قال فى نفسه أنتم شر فى مكانتكم ومنزلتكم ممن تعرضون به أو تفترون عليه ، إذ أنكم سرقتم من أبيكم أحب أولاده إليه وعرضتموه للهلاك ، والرق ، وقلتم لأبيكم قد أكله الذئب إلخ.

(وَاللهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ) أي والله أعلم منكم بما تصفونه به ، لأنه سبحانه هو العليم بحقائق الأشياء ، فيعلم كيف كانت سرقة الذي أحلتم سرقته عليه.

ثم أرادوا أن يستعطفوه ليطلق لهم أخاه بنيامين فيرجعوا به إلى أبيهم ، لأنه قد أخذ عليهم الميثاق بأن يردوه إليه.

(قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً) طاعنا فى السن لا يكاد يستطيع فراقه وهو علالته التي يتعلل بها عن شقيقه الهالك ، أو هو كبير القدر جدير بالرعاية كما علمت مما سلف من قصصه ومن تعلقه به.

(فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ) أي بدله فلسنا عنده بمنزلته فى المحبة والشفقة عنده.

ثم عللوا رجاءهم فى إجابته بقولهم :

(إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) إلينا فى ميرتنا وضيافتنا وتجهيزنا ، فأتم إحسانك ، فما الإنعام إلا بالإتمام ، أو المعنى إن من عادتك الإحسان مطلقا ، فاجر على عادتك ولا تغيرها ، فنحن أحق الناس بذلك.

فأجابهم عن مقالتهم :

(قالَ مَعاذَ اللهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ) أي حاش لله أن نأخذ إلا من وجدنا الصواع عنده ، لأنا قد أخذناه بفتواكم (مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ) فلا يسوغ لنا أن نخلّ بموجبها.

ولم يقل إلا من سرق متاعنا اتقاء للكذب ، لأنه يعلم أنه ليس بسارق.

(إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ) أي إنا إذا أخذنا غيره لظالمون من وجهين : مخالفة شرعكم ونص فتواكم ، ومخالفة شريعة الملك.

٢٤

(فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (٨٠) ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَما شَهِدْنا إِلاَّ بِما عَلِمْنا وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ (٨١) وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وَإِنَّا لَصادِقُونَ (٨٢) قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٨٣) وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (٨٤))

تفسير المفردات

استيأسوا : أي يئسوا يأسا كاملا ، خلصوا : انفردوا عن الناس ، نجيا : أي متناجين متشاورين فيما يقولون لأبيهم ، كبيرهم : أي فى الرأى والعقل وهو يهوذا ، وموثقا : أي عهدا يوثق به وهو حلفكم بالله ، فرطتم : قصرتم فى شأنه ولم تحفظوا عهد أبيكم فيه ، أبرح : أفارق ، أمرا : أي كيدا آخر ، تولى : أعرض ، والأسف :

أشد الحزن والحسرة على ما فات ، كظيم : أي مملوء غيظا على أولاده ممسك له فى قلبه ، القرية : اسم للموضع الذي يجتمع فيه الناس وللناس جميعا ، ويستعمل فى كل واحد منهما قاله الراغب.

الإيضاح

(فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا) أي فلما استحكم اليأس فى أنفسهم من قبول العزيز لشفاعتهم واستعطافهم بعد أن أقام الحجة عليهم بشرعهم وفتواهم وأنه إن فعل

٢٥

غيره يكون ظالما بمقتضى شريعتهم وشريعة ملك مصر ـ اعتزلوا الناس ولم يخالطوا أحدا ، وانفردوا للمناجاة والتشاور فى أمرهم.

وخلاصة ذلك ـ أن أولئك الإخوة العشرة بعد أن انتهى كبيرهم من استعطاف العزيز وعدم جدوى ما فعل ، غادر كل منهم رحله وانضم بعضهم إلى بعض وأدنى رأسه من رأسه وأرهفوا آذانهم للنجوى.

(قالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ) أي قال كبيرهم عقلا ورأيا وهو يهوذا ، ألم تعلموا أيها القوم أن أباكم يعقوب قد أخذ عليكم عهد الله وميثاق لتردّنّه إليه إلا أن يحاط بكم ، وقد رأيتم كيف تعذر ذلك عليكم.

(وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ) أي ومن قبل هذا قد قصرتم فى حفظ يوسف بعد وعدكم المؤكد بحفظه ، وكيف أن أباكم قد قاسى من أجله من الحزن ما قاسى.

(فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللهُ لِي) أي فلن أفارق أرض مصر حتى يأذن لى أبى بتركها والرجوع إليه وبنيامين فيها ، أو يحكم الله لى بامر من عنده مما هو غيب فى علمه ، كأن يترك العزيز لى أخى بإلهام منه تعالى أو بسبب آخر.

(وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ) لأنه لا يحكم إلا بما هو الحق والعدل ، وهو المسخر للأسباب والمقدر للاقدار.

ثم أمرهم أن يقولوا لأبيهم ما يزيلون به التّهمة عن أنفسهم قال :

(ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ) صواع الملك فاسترقه وزيره العزيز القائم بالأمر فى مصر عملا بشريعتنا ، إذ نحن أنبأناه بها بعد أن استنبأنا إياها.

(وَما شَهِدْنا إِلَّا بِما عَلِمْنا) أي وما شهدنا عليه بالسرقة بسماع أو إشاعة أو تهمة بل ما شهدنا إلا بما علمنا ، إذ رأينا الصواع قد استخرج من متاعه.

(وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ) فنعلم أنه سيسرق حين أعليناك المواثيق ، ولو كنا نعلم ذلك لما آتيناك العهد الموثق علينا.

٢٦

(وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها) أي واسأل أهل القرية التي كنا نمتار فيها وهى مصر ، فقد اشتهر فيهم أمر هذه السرقة حتى لو سئلوا لشهدوا.

(وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها) أي واسأل أصحاب العير الذين كانوا يمتارون معنا.

ثم أكدوا صدق مقالهم بقولهم :

(وَإِنَّا لَصادِقُونَ) فيما أخبرناك به ، سواء أسألت غيرنا أم لم تسأل ، إذ أن من عادتنا الصدق فلا نخبرك إلا به ولا نظنك فى مرية من هذا :

وبعد أن انتهى تعالى من سرد مقال كبيرهم عاد إلى ذكر مقال أبيهم فقال :

(قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً) أي فرجع الإخوة إلى أبيهم وقالوا له مالقنهم كبيرهم فلم يصدقهم فيما قالوا ، بل قال لهم بل زينت لكم أنفسكم كيدا آخر فنبذتموه ، ومما يقوّى ذلك عندى أنكم لقنتم هذا الرجل حكم شريعتنا وأفتيتموه به ، وليس ذلك من شريعته.

(فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) أي فحالى على ما نالنى من فقده صبر جميل لا جزع فيه ولا شكاية لأحد ، بل أشكو إلى الله وحده وأعلق رجائى به.

(عَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً) أي أطلب من الله أن يرجع إلىّ يوسف وبنيامين والأخ الثالث الباقي بمصر ، وقد كان لديه إلهام بأن يوسف لم يمت وإن غاب عنه خبره.

(إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) أي إنه العليم بوحدتى وفقدهم والحزن عليهم ، وله فينا حكمة بالغة ، وهو الحكيم فى أفعاله فيبتلى ويرفع البلاء على مقتضى سننه وحكمته فى تدبير خلقه ، وقد جرت سنته أن الشدة إذا تناهت جعل وراءها فرجا ، والمصيبة إذا عظمت جعل بعدها المخلص منها ؛ كما قال «فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً».

(وَتَوَلَّى عَنْهُمْ) أي أعرض عنهم كراهة لما جاءوا به.

(وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ) أي يا حزنى ويا حسرتى عليه أقبلى فهذا وقتك والحال

٢٧

مقتضية لك ، فقد كنت أنتظر أن يأتونى من مصر ببشرى لقاء يوسف ، فخاب أملى وحل محله ذهاب ابني المسلّى عنه ، ولم يشرك معه بنيامين بالأسف عليه ، لأن مكان حب يوسف والرجاء فيه قد ملأ سويداء القلب وزواياه ، ومحل غيره دون ذلك.

(وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ) أي أصابتهما غشاوة بيضاء غطت على البصر مع بقاء العصب الذي يدرك المبصرات سليما معافى ، قال الدكتور عبد العزيز إسماعيل باشا :

البياض المصحوب بضياع البصر غالبا معناه (الجلوكوما) والمعروف عند الاختصاصيين فى أمراض العيون أن أهم سبب لها هو التغيرات فى الأوعية الشعرية نتيجة لأسباب كثيرة ، من أهمها الانفعالات العصبية (كما يحدث فى زيادة ضغط الدم) لا سيما الحزن (الدكتور مار) اه.

(فَهُوَ كَظِيمٌ) أي مملوء غيظا على أولاده ، يردد حزنه فى جوفه ولا يتكلم بسوء ؛ والحزن عرض طبيعى للنفس ولا يذم شرعا إلا إذا بلغ بصاحبه أن يقول أو يفعل ما لا يرضى الله تعالى ، ومن ثم قال النبي صلى الله عليه وسلّم عند موت ولده إبراهيم وقد جعلت عيناه تذر فان فقال له عبد الرحمن بن عوف وأنت يا رسول الله : «يا ابن عوف إنها رحمة» ثم أتبعها بأخرى فقال : «إن العين ، تدمع وإن القلب ليخشع ، ولا نقول إلا ما يرضى ربنا ، وإنا بفراقك يا إبراهيم محزون» رواه الشيخان وغيرهما.

وفى التفسير بالمأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «إن داود عليه السلام قال : يا رب إن بنى إسرائيل يسألونك بإبراهيم وإسحاق ويعقوب ، فاجعلنى لهم رابعا ، فأوحى الله إليه أن : يا داود إن إبراهيم ألقى فى النار بسببى فصبر ، وتلك بلية لم تنلك ، وإن إسحاق بذل مهجة دمه بسببى فصبر ، وتلك بلية لم تنلك ، وإن يعقوب أخذ منه حبيبه فابيضّت عيناه من الحزن ، وتلك بلية لم تنلك» قال الحافظ ابن كثير : وهذا حديث مرسل وفيه نكارة ، فإن الصحيح أن إسماعيل هو الذبيح اه

٢٨

(قالُوا تَاللهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ (٨٥) قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٨٦) يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكافِرُونَ (٨٧))

تفسير المفردات

تفتأ : أي لا تفتأ بمعنى لا تزال. والحرض : المرض المشفى على الهلاك ، من الهالكين : أي الميتين ، البث فى الأصل : إثارة الشيء وتفريقه كبث الريح التراب ، ثم استعمل فى إظهار ما انطوت عليه النفس من الغم أو السر ، وتحسسوا : أي تعرفوا أخبار يوسف بحواسكم من سمع وبصر ، والرّوح : التنفس ، يقال أراح الإنسان إذا تنفس ، ثم استعمل للفرج والتنفيس من الكرب.

الإيضاح

(قالُوا تَاللهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ) أي قال ولد يعقوب الذين جاءوا من مصر حين قال يا أسفا على يوسف : تالله لا تزال تذكر يوسف وتلهج به حتى تصير بذلك إلى مرض لا تنتفع بنفسك معه أو تموت من الغم.

وخلاصة ذلك ـ إنك الآن فى بلاء شديد ، ونخاف أن يحصل لك ماهو أكثر وأقوى منه ، وهم يريدون بذلك منعه من البكاء والأسف.

فأجابهم والتمس لنفسه معذرة على الحزن :

(قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ) أي لا تلومونى وأنا لم أشك إليكم ولا إلى

٢٩

أخذ من الخلق حزنى الذي أمضّني كتمانه ، فأفشيته بهذه الكلمة (يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ) بل شكوت ذلك إلى الله وحده.

(وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) أي وأنا أعلم فى ابتلائى بفراقه مع حسن عاقبته ما لا تعلمون ، فأعلم أنه حى يرزق ، وأن الله يجتبيه ويتم نعمته عليه وعلى آل يعقوب ، وأنتم تظنون أن يوسف قد هلك ، وأن بنيامين قد سرق فاسترقّ ، وتحسبون أنى بحزني ساخط على قضاء الله فى شىء أمضاه ولا مرد له ، وأنا أعلم أن لهذا أجلا هو بالغه ، وإنى لأرى البلاء ينزل عليكم من كل جانب بذنوبكم وبتفريطكم فى يوسف من قبل ، وبأخيه الذي كان يسلينى عنه من بعده.

وعن ابن عباس فى تفسير الآية : أنا أعلم أن رؤيا يوسف حق وأننى سأسجد له.

(يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ) أي اذهبوا إلى مصر وتعرفوا أخبارهما بحواسكم من سمع وبصر حتى تكونوا على يقين من أمرهما.

(وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ) أي لا تقنطوا من فرجه سبحانه وتنفيسه عن النفس هذا الكرب ، بما ترتاح إليه الروح ، ويطمئن به القلب.

(إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ) بقدرته وسعة رحمته ويجهلون مالله فى عباده من حكم بالغة ولطف خفى ، فإذا لم يصلوا إلى ما يبتغون من كشف ضر أو جلب خير بخعوا أنفسهم (انتحروا) همّا وحزنا.

أما المؤمن حقا فلا تقنطه المصايب ولا الشدائد من رحمة ربه وتفريجه لكربه ، ومن ثم قال ابن عباس : إن المؤمن من الله تعالى على خير يرجوه فى البلاء ويحمده فى الرخاء.

(فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (٨٨)

٣٠

قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ (٨٩) قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (٩٠) قالُوا تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ (٩١) قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٩٢) اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (٩٣))

تفسير المفردات

الضر : أي ضر المجاعة من الهزال والضعف ، والمزجاة : الرديئة التي يدفعها التجار من أزجى الشيء وزجاه : إذا دفعه برفق كما قال : «أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي سَحاباً» وآثرك : أي اختارك وفضلك ، والخاطئ : هو الذي يأتى بالخطيئة عمدا ، والمخطئ :

من إذا أراد الصواب صار إلى غيره ، والخطء : الذنب ، وخطّأته : قلت له أخطأت ، ولا تثريب : أي لا لوم ولا تأنيب وثرّب فلان على فلان إذا عدد عليه ذنوبه ، ويأت بصيرا أي يصر بصيرا فى الحال ، أو يأت إلىّ وهو بصير.

الإيضاح

(فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ) أي بعد أن قبلوا وصية أبيهم حين قال لهم اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ، وعادوا إلى مصر ـ دخلوا على يوسف عليه السلام فقالوا له يا أيها العزيز أصابنا الهزال والضعف لما نحن فيه من المجاعة وكثرة العيال وقلة الطعام وقد شكوا إليه رقة الحال وقلة المال وشدة الحاجة وغير ذلك مما يرقق القلب مع أن مقصدهم التحسس من يوسف وأخيه ـ ليروا تأثير الشكوى فيه ،

٣١

فإن رق قلبه لهم ذكروا ما يريدون وإلا سكتوا ، وقد كان أبوهم يرجّح أنه هو يوسف فأرادوا أن يروا تأثير هذا الاستعطاف فيه.

(وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ) أي ببضاعة رديئة يحتقرها التجار ويدفعونها احتقارا لها.

(فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ) أي فأتمه كما تعودنا من جميل رعايتك وإحسانك.

(وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا) بما تزيده على حقنا ببضاعتنا بعد أن تغمض عن رداءتها.

(إِنَّ اللهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ) فيخلف ما ينفقون ويضاعف الأجر لهم.

وقد بالغوا فى الضراعة والتذلل ، لما كانوا يرون من تأثير ذلك فى ملامح وجهه ، وجرس صوته ، ومعالبة دمعه.

ثم بعد أن ذكر طريق تحسسهم ذكر ردّ يوسف عليهم.

(قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ) أي قال ما أعظم ما فعلتم بيوسف من قبل وبأخيه بنيامين من بعد على قرب العهد ، وما أقبح ما أقدمتم عليه ، كما يقال للمذنب هل تدرى من عصيت ، وهل تعرف من خالفت.

(إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ) قبح ما فعلتموه فى حكم شرعكم ، وحقوق بر الوالدين وما يجب من رحمة القرابة والرحم.

وخلاصة ذلك ـ إنكم كنتم فى حال يغلب عليكم فيها الجهل بهذه الحقوق ، وبعاقبة البغي والعقوق.

وقد يكون المراد من الجهل الطيش والنّزق واتباع الهوى وطاعة الحسد والأثرة.

وقد قال لهم هذه المقالة تمهيدا لتعريفهم بنفسه ، إذ آن أن يصارحهم به بعد أن بلغ الكتاب أجله ، وبلغت به وبهم الأقدار غايتها ، ولم يبق بعد هذا إلا التصريح ، وتأويل رؤياه التي كانت السبب فى كل ما حدث من تلك الأفاعيل.

وقد ذكّر يوسف إخوته بذنوبهم تذكيرا مجملا قبل أن يتعرف إليهم بذكر

٣٢

العذر وهو الجهل بقبح الذنب فى ذاته وبسوء عاقبته لتمكن نزغ الشيطان من أنفسهم الأمارة بالسوء ، وقد ذكرهم بطريق سؤال العارف المتجاهل على طريق التقرير لا التقريع والتوبيخ كما يدل عليه نفى التثريب والدعاء بالمغفرة.

قال صاحب الكشاف فى تفسير الآية : أتاهم من جهة الدين وكان حليما موفقا ، فكلمهم مستفهما عن معرفة وجه القبح الذي يجب أن يراعيه التائب «فقال هل علمتم» قبح «ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون» لا تعلمون قبحه ، فلذلك أقدمتم عليه يعنى هل علمتم قبحه فتبتم إلى الله منه؟ لأن علم القبح يدعو إلى الاستقباح ، والاستقباح يجر إلى التوبة ، فكان كلامه شفقة عليهم وتنصحا لهم فى الدين لا معاتبة وتثريبا ، إيثارا لحق الله على حق نفسه فى ذلك المقال الذي يتنفس فيه المكروب ، وينفث المصدور ، ويتشفى المغيظ المحنق ، ويدرك ثأره الموتور ؛ فلله أخلاق الأنبياء ما أوطأها وأسجحها ، ولله حصا عقولهم ما أوزنها وأرجحها اه.

وكان سؤاله إياهم عما فعلوا بيوسف وأخيه وهو سؤال العارف بأمرهم فيه من البداءة إلى النهاية ـ مصدقا لما أوحاه الله إليه حين ألقوه فى غيابة الجب من قوله : «وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ» إذ يبعد أن يعرف هذا سواه ، فأرادوا أن يتثبتوا من ذلك ويستيقنوا به ، فوجهوا إليه سؤالا هو سؤال المتعجب المستغرب لما يسمع.

(قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ؟) أي قالوا من المؤكد قطعا أنك أنت يوسف ـ وقد عجبوا من أنهم يترددون عليه مدى سنتين أو أكثر وهم لا يعرفونه وهو يعرفهم ويكتم نفسه.

(قالَ أَنَا يُوسُفُ) الذي ظلمتمونى غاية الظلم ، وقد نصرنى الله فأكرمنى وأوصلنى إلى أسمى المراتب ، أنا ذلك العاجز الذي أردتم قتله بإلقائه فى غيابة الجب ، ثم صرت إلى ما ترون.

(وَهذا أَخِي) الذي فرّقتم بينى وبينه وظلمتموه ، ثم أنعم الله عليه بما تبصرون.

٣٣

(قَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا) فجمع بيننا بعد الفرقة ، وأعزنا بعد الذلة ، وآنسنا بعد الوحشة ، وخلّصنا مما ابتلينا به.

وفيه إيماء إلى أنه لا وجه لطلبكم بنيامين ، لأنه أخى لا أخوكم.

تنبيه

فإن قيل لم لم يعرّف يوسف إخوته بنفسه فى أول مرة ليبشروا أباهم به وبما هو عليه من حسن حال وبسطة جاه فيكون فى ذلك السرور كل السرور له؟ فالجواب عن ذلك ما أجاب به ابن القيّم فى كتابه [الإغاثة الكبرى] قال رحمه الله : لو عرّفهم بنفسه فى أول مرة لم يقع الاجتماع بهم وبأبيه ذلك الموقع العظيم ولم يحلّ ذلك المحلّ وهذه عادة الله فى الغايات العظيمة الحميدة ، إذا أراد أن يوصّل عبده إليها هيأ له أسبابا.

من المحن والبلايا والمشاقّ ، فيكون وصوله إلى تلك الغايات بعدها كوصول أهل الجنة إليها بعد الموت وأهوال البرزخ والبعث والنشور والموقف والحساب والصراط ومقاساة تلك الأهوال والشدائد ، وكما أدخل رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى مكة ذلك المدخل العظيم بعد أن أخرجه الكفار ذلك المخرج ، ونصره ذلك النصر العزيز بعد أن قاسى مع أعداء الله ما قاساه. وكذلك ما فعل برسله كنوح وإبراهيم وموسى وهود وصالح وشعيب عليهم السلام.

فهو سبحانه يوصّل إلى الغايات الحميدة بالأسباب التي تكرهها النفوس وتشق عليها كما قال «كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ ، وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ، وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ ، وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ» وربما كان مكروه النفوس إلى محبوبها سببا ما مثله سبب.

وبالجملة فالغايات الحميدة فى خبايا الأسباب المكروهة الشاقة ، كما أن الغايات المكروهة فى خبايا الأسباب المشتهاة المستلذة ، وهذا من حين خلق الله سبحانه الجنة وحفها بالمكاره والنار وحفها بالشهوات اه.

٣٤

(إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) أي إن الحق الذي نطقت به الشرائع وأرشدت إليه التجارب هو : من يتق الله فيما به أمر وعنه نهى ، ويصبر على ما أصابه من المحن وفتن الشهوات والأهواء ، فلا يستعجل الأقدار بشىء قبل أوانه ، فإن الله لا يضيع أجره فى الدنيا ثم يؤتيه أجره فى الآخرة.

وفى الآية شهادة له من ربه بأنه من المحسنين المتقين الله ، وبأن من كان مطيعا لنفسه الأمارة بالسوء ومتبعا لنزغات الشيطان فإن عاقبته الخزي فى الدنيا والنكال فى الآخرة ، إلا من تاب وعمل صالحا ثم اهتدى.

(قالُوا تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنا) أي قال إخوة يوسف له : لقد فضلك الله علينا وآثرك بالعلم والحلم والفضل.

(وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ) أي وما كنا في صنيعنا بك وتفريقنا بينك وبين أخيك إلا متعمدين للخطيئة ، ولا عذر لنا فيها عند الله ولا عند الناس.

وبعد أن قدّموا له المعذرة أجابهم بالصفح عما فعلوا.

(قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ) أي لا لوم ولا تعنيف عليكم فى هذا اليوم الذي هو مظنّته ، ولكن لكم عندى الصفح والعفو. وهو إذا لم يثرّب أول لقائه واشتعال ناره ، فبعده أولى.

وقال السيد المرتضى : إن كلمة (اليوم) موضوعة موضع الزمان كله كقوله :

اليوم يرحمنا من كان يغبطنا

واليوم نتبع من كانوا لنا تبعا

كأنه أريد بعد اليوم اه.

(يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) أي يعفو الله لكم عن ذنبكم وظلمكم ويستره عليكم ، وهو أرحم الراحمين لمن أقلع عن ذنبه وأناب إلى طاعته بالتوبة من معصيته.

وقد تمثل النبي صلى الله عليه وسلّم بالآية يوم فتح مكة حين طاف بالبيت وصلى ركعتين ، ثم أتى الكعبة فأخذ بعضادتي الباب وقال : «ما ذا تظنون أنى فاعل بكم؟

٣٥

قالوا نظن خيرا ، أخ كريم وابن كريم ، فقال : وأنا أقول كما قال أخى يوسف (لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ) ، فخرجوا كأنما نشروا من القبور». أخرجه ابن مردويه عن ابن عباس والبيهقي عن أبى هريرة.

روى أن يوسف عليه السلام لما عرف نفسه إخوته سألهم عن أبيهم فقالوا ذهب بصره فعند ذلك أعطاهم قميصه وقال :

(اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا) الذي على بدني أو بيدي.

(فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً) أي ألقوه على وجهه حين وصولكم إليه دون تأخير يصر بصيرا ، وقد علم هذا إما بوحي من الله ، وإما لأنه علم أن أباه ما أصابه ما أصابه إلا من كثرة البكاء وضيق النفس فإذا ألقى عليه قميصه شرح صدره وسر أعظم السرور ، وقوى بصره وزالت منه هذه الغشاوة التي رانت عليه ، والقوانين الطبية تؤيد هذا كما سيأتى بعد.

(وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ) من الرجال والنساء والذراري وغيرهم ، وقد روى أن أهله كانوا سبعين رجلا وامرأة وولدا.

(وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ (٩٤) قالُوا تَاللهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ (٩٥) فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٩٦) قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ (٩٧) قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٩٨))

تفسير المفردات

يقال فصل عن البلد : إذ انفصل وجاوز حيطانه ، وتفندون : أي تنسبونى إلى

٣٦

الفند ؛ وهو فساد الرأى وضعف العقل والخرف من الكبر ، فى ضلالك : أي فى خطئك أو فى إفراطك فى حبه والإصرار على اللهج به ، وارتد : أي رجع.

الإيضاح

(وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ) أي ولما انفصلت عير بنى يعقوب عن حدود مصر قافلة إلى أرض الشام ، قال أبو هم لمن حضره من حفدته ومن غيرهم : إنى لأشمّ رائحة يوسف كما عرفتها فى صغره ، لو لا أن تنسبونى إلى ضعف الرأى وفساد العقل وخرف الكبر ، لصدقتمونى فى أنى أجد رائحته حقيقة ، وأنه حى قد قرب موعد لقائه وبالتمتع برؤيته.

وروى عن ابن عباس أنه لما خرجت العير هاجت ريح فجاءت يعقوب بريح قميص يوسف ، قال «إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ» فوجد ريحه من ثمانية أيام ، وفى رواية من ثمانين فرسخا ، والمراد من مسافات بعيدة جدا.

(قالُوا تَاللهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ) أي قال حاضرو مجلسه : تالله إنك لفى خطئك الذي طال أمده باعتقادك أن يوسف حى يرحى لقاؤه وقد قرب.

ولا غرو فللخلىّ أن يقول فى الشجىّ ما شاء ، فأذنه عن العذل صماء :

سلوتى عنكم احتمال بعيد

وافتضاحى بكم ضلال قديم

كل من يدّعى المحبة فيكم

ثم يخشى الملام فهو مليم

قال قتادة فى تفسيرها : «تَاللهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ» أي من حب يوسف لا تنساه ولا تسلوه اه ، قالوا لوالدهم كلمة غليظة لم يكن ينبغى لهم أن يقولوها له.

(فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً) أي فلما جاء البشير وهو ابنه يهوذا الذي يحمل القميص من يوسف ـ وهو الذي حمل إليه قميصه الملطّخ بالدم الكذب ليمحو السيئة بالحسنة ـ ألقاه على وجه يعقوب فعاد من فوره بصيرا كما كان ، بل قد قيل إنه عادت إليه سائر قواه ، وليس ذلك بعجيب ولا منكر ، فكثيرا ما شفى

٣٧

السرور من الأمراض وجدد قوى الأبدان والأرواح ، والتجارب وقوانين الطب شاهد صدق على صحة ذلك. قال الدكتور عبد العزيز إسماعيل باشا : لا تتحسن أعراض مرض (الجولكوما) أو شدة توتر العين أو تقف شدته إلا بالعلاج ، ومنه العمليات الجراحية ولكن شفاء سيدنا يعقوب بوضع القميص على وجهه هو معجزة من المعجزات الخارجة عن قدرة الإنسان ، وليس المهم هو القميص أو وضعه على وجهه ، فقد كان ذلك لتسهيل وقع المعجزة على الحاضرين فحسب ، ولكن المهم هو طريقة الشفاء وهى إرادة الله المنحصرة فى (كن فيكون) وهى خارجة عن كل السنن الطبيعية التي أمر الإنسان أن يتعلمها ، فعظمة المعجزة ليست فى النتيجة فحسب ولكن فى طريق الشفاء ـ وما أعظم إعجاز القرآن الذي وصف حالة مرضية خاصة وبين سببها ، ولم يكن يعلم العالم شيئا عن هذا المرض فى ذلك الوقت ولا بعده بزمن طويل اه.

وقد أجاب يعقوب من لاموه بما كان عليه من علم قطعى من ربه بصدق ما يقول :

(قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ؟) أي قال لهم ألم أقل لكم حين أرسلتكم إلى مصر وأمرتكم بالتحسس ونهيتكم عن اليأس من روح الله : إنى أعلم بوحي الله لا من خطرات الأوهام ما لا تعلمون من حياة يوسف عليه السلام ـ وقد ذكرهم الآن إذ عاد بصيرا بما كان قد قاله لهم حين ابيضت عيناه من الحزن وهو كظيم.

٣٨

نبذة فى تعليل شم يعقوب رائحة يوسف

أثبت العلم حديثا أن الريح تحمل الغبار وما فيه من قارة إلى أخرى ، فتحمله من إفريقية مثلا إلى أوروبا وهى مسافة أبعد مما بين مصر وأرض كنعان من بلاد الشام وهى بلا شك تحمل رائحة ماله منها رائحة ، ولكن الغريب شم البشر لها من المسافات البعيدة ، والإنسان إذا قيس بغيره من الوحوش والحشرات كان أضعف منها شما ، فالكلب ذو حاسة قوية فى الشم حتى ليدرّبه الآن رجال الشرطة ويستخدمونه فى حوادث الإجرام من قتل وسرقة لإثبات التهمة على المجرمين ، فيأتون بالكلب المعلّم فيشمّ المجرم ويخرجه من بين أشخاص كثيرين ، ويرى ذلك رجال القانون دليلا قويا على إثبات الجريمة على من يرشد إليه ، بل دليلا قاطعا فى بعض الدول.

والروائح منها القوى والضعيف ، ومن أضعفها رائحة جسم الإنسان وعرقه وما يصيب ثوبه منها ، ولكن ما نحن فيه من خوارق العادات ومن خواصّ عالم الغيب لا من السنن العادية والحوادث التي تتكرر من البشر.

وقد دلت الآية على أن يعقوب عليه السلام أخبر أنه وجد رائحة يوسف لما فصلت العير من أرض مصر ، فعلينا أن نؤمن به لأنه معصوم من الكذب ، وقد تبين صدقه بعد وليس بالواجب علينا أن نعرف كنهه أو نصل إلى معرفة سببه ، ولكن إذا نحن قلنا إنه لشدة تفكره فى أمر ولده وتذكره لرائحته حين كان يضمّه ويشمّه ـ شعر بتلك الرائحة قد عادت له سيرتها الأولى ـ لم يكن ذلك مجانبا للصواب ولا معارضا للعقل ولا ناقضا لما يثبته العلم ، أو قلنا بأنا نتقبل هذا بدون تعليل ولا تصوير لكيفية ذلك ـ لم نبعد ، عن العقل ولا عن العلم ، إذ لا خلاف بين العلماء فى أن ما يجهله الباحثون أضعاف ما يعرفونه.

وعلى الجملة فعلينا التسليم بما أخبر به دون حاجة للبحث فى كنهه أو صفته مادام ذلك داخلا فى حيز الإمكان.

٣٩

(قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ) أي قال أولاده وكانوا قد وصلوا إثر البشير : يا أبانا اسأل الله أن يغفر لنا ذنوبنا التي اجترحناها من عقوقك وإيذاء أخوينا ، إنا كنا متعمدين لهذه الخطيئة ، عاصين لله ، ظانين أن نكون بعدها قوما صالحين.

الآن اعترفوا بذنوبهم كما اعترفوا ليوسف من قبل ، لكن يوسف بادر إلى الاستغفار لهم وهم لم يطلبوه منه ، وعليك أن تسمع جواب أبيهم الآتي :

(قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) وعدهم بالاستغفار لهم فى مستأنف الزمان ، وعلل هذا بأن ربه واسع المغفرة والرحمة ، لا ينقطع رجاء المؤمن فيها وإن ظلم وأساء.

والفارق بين جواب يعقوب وجواب يوسف من وجوه كثيرة اقتضتها الحكمة :

(١) إن حال أبيهم معهم حال المربّى المرشد للمذنب ، لا حال المنتقم الذي يخشى أذاه وليس من حسن التربية ولا من طرق التهذيب أن يريهم أن ذنبهم هيّن لديه حتى يعجّل بإجابة مطلبهم بالاستغفار لهم.

(٢) إن ذنبهم لم يكن موجها إليه مباشرة ، بل موجه إلى يوسف وأخيه ، ثم إليه بالتبع واللزوم ، إلى أنه ليس من العدل أن يستغفر لهم إلا بعد أن يعلم حالهم مع يوسف وأخيه ، ولم يكن يعقوب قد علم بعفو يوسف عنهم واستغفاره لهم.

(٣) إن هذا ذنب كبير وإثم عظيم طال عليه الأمد ، وحدثت منه أضرار نفسية وخلقية وأعمال كان لها خطرها ، فلا يمّحى إلا بتوبة نصوح تجتث الجذور التي علقت بالأنفس ، والأرجاس التي باضت وأفرخت فيها.

فلا يحسن بعدئذ من المربى الحكيم أن يسارع إلى الاستغفار لمقترفها عقب طلبه حتى كأنها من هينات الأمور التي تغفر ببادرة من الندم ، ومن ثم تلبّث فى الاستغفار لهم إلى أجل ، ليعلمهم عظيم جرمهم ، ويعلمهم بأنه سوف يتوجه إلى ربه ويطلب لهم الغفران منه بفضله ورحمته.

٤٠