تفسير المراغي - ج ١٣

أحمد مصطفى المراغي

(١٤) إن جميع الرسل صلوات الله عليهم كان لهم أزواج وذرية.

(١٥) إن المعجزات ليست بمشيئة الرسل يأتون بها كلما أرادوا ، وإنما هى بإذن الله وإرادته.

(١٦) بيان أن هذه الحياة الدنيا إنما هى محو وإثبات ، وموت وحياة ، فيزيل الله قوما ويوجد آخرين ، وكل ذلك محفوظ فى علم الذي لا تغيير فيه ولا تبديل.

(١٧) إن مهمة الرسل إنما هى التبليغ ، أما الجزاء على مخالفة الأوامر فأمر ذلك إلى الله ، ولا يعنى الرسول أن يحصل فى زمنه أو بعد وفاته.

(١٨) إن انتقام الله من المكذبين قد بدأ فى حياة الرسول بقتل أعدائه وأسرهم وتشريدهم فى البلاد.

(١٩) إن مكر أولئك الكافرين بالرسول ليس ببدع جديد ، فكثير من الأمم السابقة مكروا بأنبيائهم ، وكان النصر حليف المتقين ، ونكّل الله بالقوم الظالمين.

(٢٠) إلحاف الكافرين فى إنكار رسالته صلى الله عليه وسلّم ، مع بيان أن الله شهيد على ذلك بما أقام من الأدلة على صدقه ، وكذلك شهادة من آمن من أهل الكتاب بوجود أمارات رسالته صلى الله عليه وسلّم فى كتبهم وتبشيرها بها.

١٢١

سورة إبراهيم

هى مكية وعدد آياتها ثنتان وخمسون.

وارتباطها بالسورة قبلها من وجوه :

(١) إنه قد ذكر سبحانه فى السورة السابقة أنه أنزل القرآن حكما عربيا ولم يصرح بحكمة ذلك وصرح بها هنا.

(٢) إنه ذكر فى السورة السالفة قوله : «وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ» وهنا ذكر أن الرسل قالوا : «ما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ».

(٣) ذكر هناك أمره عليه السلام بالتوكل على الله ، وهنا حكى عن إخوانه المرسلين أمرهم بالتوكل عليه جل شأنه.

(٤) اشتملت تلك على تمثيل الحق والباطل ، واشتملت هذه على ذلك أيضا.

(٥) ذكر هناك رفع السماء بغير عمد ومدّ الأرض وتسخير الشمس والقمر ، وذكر هنا نحو ذلك.

(٦) ذكر هناك مكر الكفار وذكر مثله هنا ، وذكر من وصفه ما لم يذكر هناك.

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (١) اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ (٢) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً أُولئِكَ

١٢٢

فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (٣) وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٤))

تفسير المفردات

الظلمات : الضلالات ، والنور : الهدى ، وإذن ربهم : تيسيره وتوفيقه ، والعزيز :

الغالب ، والحميد : المحمود المثنى عليه بحمده لنفسه أزلا وبحمد عباده له أبدا ، ويل :

هلاك ، يستحبون : يختارون ، سبيل الله : هو دينه الذي ارتضاه ، يبغونها : يطلبون لها ، عوجا : زيغا واعوجاجا ، واللسان : اللغة.

الإيضاح

(الر) تقدم أن بينا فى سورتى يونس وهود طريق قراءته والمعنى المراد منه بما أغنى عن إعادته هنا.

(كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ) أي هذا كتاب أنزلناه إليك أيها الرسول.

(لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) أي لتنقذ الناس من ظلمات الضلالة والكفر إلى نور الإيمان وضيائه ، وتبصّر به أهل الجهل والعمى ، سبل الرشاد والهدى ، بما اشتمل عليه من واضح الآيات البينات ، المرشدة إلى النظر فى حقائق الكون ، الدالة على وحدانية الله تعالى ، وأنه لا شريك له وأن الواجب عبادته وحده ، ثم دعاؤه لجلب النفع ، وكشف الضر ، وفيها أيضا سعادة البشر وصلاحهم فى الدنيا والآخرة.

(بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) أي بتوفيقه ولطفه بهم ، بإرسال نور الهدى إلى قلوبهم ، فيسلكون طرق الفلاح والصلاح.

(إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) أي إلى الصراط المستقيم ، وهو الطريق الذي ارتضاه الله لخلقه وشرعه لهم ، وهو العزيز الذي لا يغالب ، المحمود فى جميع أفعاله وأقواله وأمره ونهيه.

١٢٣

ونحو الآية قوله : «اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ» الآية ، وقوله : «هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ» الآية.

ثم بين ما سلف بقوله :

(اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) أي هو الله المتصف بملك ما فيهما خلقا وتصرفا وتدبيرا.

وهذه الجملة الدالة على عظمة خالق الأكوان ، المنفرد بالعظمة والسلطان ، قد كرّرت فى كثير من سور الكتاب الكريم ، للتنبيه إلى أن من أهم مقاصد هذا الدين أن يكون فى المسلمين حكماء ربانيون ، يتفهمون حقائق هذا الكون ، ويدركون أسرار بدائعه ، ويستخرجون للناس ما فى باطن الأرض ، وينتفعون بما فى ظاهرها ، ويتأملون فيما فى السموات من بديع الصنع ، وما تقدمه لنا من الخير العميم الذي ينتفع منه الإنسان والحيوان ، فى مأكلهما ومشربهما ومسكنهما وسائر حاجاتهما ومرافقهما.

وجاء فى سورة يوسف قوله تعالى توبيخا للغافلين ، وحثا لهمم المستبصرين : «وكأيّن من آية فى السّموات والأرض يمرّون عليها وهم عنها معرضون».

ومع كل هذا فوا أسفا ، رأينا كثيرا من المسلمين الذين تتلى عليهم هذه الآية صباح مساء ـ يكتفون بمجرد تلاوتها والإيمان بها دون بحث ولا تفهم لمغزاها ولا المراد منها ، ولا استبصار بما تنطوى عليه من المقاصد والمرامى ، ولو كان ذلك كافيا لكان ذكر الخبز حين الجوع كافيا فى الشّبع ، والنظر إلى الماء كافيا فى الرّى.

ثم توعد الذين جحدوا آياته ، وكفروا بوحدانيته ، فقال :

(وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ) أي وهلاك بشديد العذاب يوم القيامة لمن كفر بك ، ولم يستجب دعوتك ، بإخلاص التوحيد لخالق السموات والأرض ،

١٢٤

وترك عبادة من لا يملك لنفسه شيئا ، بل هو مملوك له تعالى لأنه بعض ما فى السموات والأرض.

ثم وصف سبحانه أولئك الكافرين بصفات ثلاث.

(١) (الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ) أي إن أولئك الكافرين يطلبون الدنيا ، ويعملون لها ويتمتعون بلذاتها ، ويقترفون الآثام ، ويرتكبون الموبقات ، ويؤثرون ذلك على أعمال الآخرة التي تقرّبهم إلى الله زلفى ، وينسون يوما تجازى فيه كل نفس بما عملت ، يوم يفرّ المرء من أخيه ، وأمه وأبيه ، وصاحبته وبنيه ، وفصيلته التي تؤويه ، ومن فى الأرض جميعا.

(٢) (وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي ويمنعون من تتجه عزأ : بالله واتباع رسوله فيما جاء به من عند ربه ، أن يؤمنوا به ويتبعوه ، لما رين لهم الشيطان من سلوك سبيل الطغيان ، وران على قلوبهم من الفجور والعصيان ، والبعد عند كل ما يقرّب إلى الرحمن.

(٣) (وَيَبْغُونَها عِوَجاً) أي ويطلبون لها الزيغ والعوج وهى أبعد ما تكون من ذلك ، فيقولون لمن يريدون صدهم وإضلالهم عن سبيل الله ودينه ، إن ذلك الدين ناء عن الصراط المستقيم ، وزائغ عن الحق واليقين ، وإنك لتسمع كثيرا من الملحدين يقول إن القوانين الإسلامية فى الحدود والجنايات شديدة غاية الشدة وإنها تصلح للأمم العربية فى البادية ، لا للأمم التي أخذت قسطا عظيما من الحضارة : «كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلّا كذبا» فتلك شريعة دانت لها أمة غيّرت وجه البسيطة ، وملكت ناصية العالم ردحا من الزمان ، وكانت مضرب الأمثال فى العدل وترك الجور ، وثلّت عروش الأكاسرة والقياصرة ، وامتلكت بلادهم وأزالت عزهم وسلطانهم ، إلى أن غيّر أهلها معالمها فأركسهم الله بما كسبوا فبدّل عزهم ذلا ، وسعادتهم شقاء ، وتلك سنة الله ، أن الأرض يرثها عباده الصالحون لاستعمارها ، ثم حكم عليهم بما يستحقون فقال :

١٢٥

(أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) أي فهم باختيارهم لأنفسهم حب العاجلة ، وصدهم عن الدين ، وابتغائهم له الزيغ والعوج ـ فى ضلال بعيد عن الحق لا يرجى لهم فلاح ، وأنى لهم ذلك وقد كبّوا على وجوههم وزيّن لهم الفساد والغىّ ، فيرون حسنا ما ليس بالحسن ، وقبيحا ما ليس بالقبيح؟.

ثم بين سبحانه كمال نعمته وإحسانه إلى عباده ، فذكر أنه يرسل رسله إلى أقوامهم بلغاتهم ، كى لا يشق عليهم فهم الدين وحفظه فقال :

(وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ) أي وما أرسلنا رسولا إلى أمة من الأمم من قبلك وقبل قومك إلا بلغة قومه الذين أرسلناه إليهم ، ليفهمهم ما أرسل به إليهم من أمره ونهيه بسهولة ويسر ، ولتقوم عليهم الحجة وينقطع العذر ، وقد جاء هذا الكتاب بلغتهم وهو يتلى عليهم ، فأى عذر لهم فى ألا يفقهوه ، وما الذي صدهم عن أن يدرسوه ، ليعلموا ما فيه من حكم وأحكام ، وحلال وحرام ، وإصلاح لنظم المجتمع ، ليسعدوا فى حياتيهم الدنيا والآخرة؟.

والنبي صلى الله عليه وسلّم وإن أرسل إلى الناس جميعا ، ولغاتهم متباينة ، وألسنتهم مختلفة ، فإرساله بلسان قومه أولى من إرساله بلسان غيرهم ، لأنهم يبينونه لمن كان على غير لسانهم ويوضحونه لهم ، حتى يصير مفهوما لهم كما فهمره ، ولو نزل بلغات من أرسل إليهم وبيّنه ولكل قوم بلسانهم لكان ذلك مظنة للاختلاف ، وفتحا لباب التنازع ، لأن كل أمة قد تدّعى من المعاني فى لسانها ما لا يعرفه غيرها ، وقد يفضى ذلك إلى التحريف والتصحيف ، بسبب الدعاوى الباطلة التي يقع فيها المتعصبون وبعد أن بين سبحانه أنه لم يكن للناس من عذر فى عدم فهم شرائعه ـ ذكر أن الهداية والإضلال بيده ومشيئته فقال :

(فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) أي إن الناس فريقان ، فريق هداه الله وأضاء نور قلبه وشرح صدره للإسلام فاتبع سبيل الرشاد ؛ وفريق رانت على قلبه

١٢٦

الغواية والضلالة ، بما اجترح من الآثام ، وأوغل فيه من المعاصي والذنوب ، وذلك كله بتقديره تعالى ومشيئته ، لا رادّ لقضائه ولا دافع لحكمه.

(وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي وهو العزيز فلا يغلب مشيئته غالب ، الحكيم فى صنعه ، فلا يفعل إلا ما تقتضيه السنن العامة فى خلقه ، والنواميس التي وضعها لصلاح حال عباده وضلالهم : «سنّة الله الّتى قد خلت من قبل ولن تجد لسنّة الله تبديلا».

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٥) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (٦) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ (٧) وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (٨))

تفسير المفردات

الآيات : هى الآيات التسع التي أجراها الله على يده عليه السلام ، والظلمات :

الكفر والجهالات ، والنور : الإيمان بالله وتوحيده وجميع ما أمروا به ، وذكرهم : أي عظهم ، وأيام الله : وقائعه فى الأمم السابقة ويقال فلان عالم بأيام العرب : أي بحروبها وملاحمها كيوم ذى قار ويوم الفجار قال عمرو بن كلثوم :

وأيام لنا غرّ طوال

عصينا الملك فيها أن ندينا

١٢٧

والصبار. كثير الصبر ، والشكور كثير الكشر ، يسومونكم. يكلفونكم بلاء. أي ابتلاء واختبار ، وتأذن : أي آذن وأعلم ، وحميد مستوجب للحمد لذاته وإن لم يحمده أحد.

المعنى الجملي

بعد أن بين سبحانه أنه أرسل نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم إلى الناس ليخرجهم من الظلمات إلى النور ، وأن فى هذا الإرسال نعمة له ولقومه ـ أتبع ذلك بذكر قصص بعض الأنبياء وتفصيل مالاقوه من أقوامهم من شديد الأذى والتمرد والعناد ، لما فى ذلك من التسلية له وجميل التأسي بهم ، وبيان أن المقصود من بعثة الرسل واحد وهو إخراج الخلق من ظلمات الضلالات إلى أنوار الهدايات.

الإيضاح

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) أي كما أرسلناك أيها الرسول وأنزلنا عليك الكتاب لتخرج الناس من الظلمات إلى النور ، أرسلنا موسى إلى بنى إسرائيل وأيدناه بالآيات التسع التي سلف ذكرها فى سورة الأعراف وأمرناه بأن يدعوهم إلى الإيمان بالله وتوحيده ليخرجوا من ظلمات الجهل والضلال إلى نور الهدى والإيمان.

(وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ) أي عظهم مرغّبا لهم بتذكيرهم بنعم الله عليهم وعلى من قبلهم ممن آمن بالرسل فى الأمم السابقة ، ليكون فى ذلك حافز لهم على العمل ويكون لهم بمن سلف أسوة ـ ومخوّفا موعدا بتذكيرهم بأس الله وعذابه وانتقامه ممن كذب الرسل من الأمم الغابرة كعاد وثمود ، ليكون لهم فى ذلك مزدجر وليحذروا أن يحل بهم مثل ما حل بغيرهم.

وأيام الله فى جانب موسى عليه السلام منها ما كان محنة وبلاء وهى الأيام التي كان فيها بنو إسرائيل تحت قهر فرعون واستعباده ، ومنها ما كانت نعمة كإنجائهم من عدوهم وفلق البحر لهم وإنزاله المنّ والسلوى عليهم.

١٢٨

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) أي إن فى ذلك التنبيه والتذكير لدلائل على وحدانية الله وقدرته لكل صبار فى المحنة والبلية ، شكور فى المنحة والعطية.

قال قتادة : نعم العبد عبد إذا ابتلى صبر ، وإذا أعطى شكر ، وفى الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «إن أمر المؤمن كله عجب ، لا يقضى الله له قضاء إلا كان خيرا ، إن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له ، وإن أصابته سراء شكر فكان خيرا له».

وفى هذا إيماء إلى أن الإنسان فى هذه الحياة يجب أن يكون بين صبر وشكر أبدا ، لأنه إما فى مكروه يصبر عليه وإما فى محبوب يشكر عليه ، والوقت فى هذه الحياة ذهب ، فمتى ضاع من حياتنا زمن دون عمل نسدى فيه خدمة لأنفسنا ولديننا ووطننا فقد كفرنا النعمة ، وأضعنا الفرصة ، ولم نعتبر بما حل بمن قبلنا من الأمم الغابرة ، فليحذر كل امرئ أن يضيع حياته بلا عمل ، وليخف على وقت يضيع ، ثم بعده عذاب سريع.

ولما سمع موسى أمر ربه امتثله وأخذ يذّكر قومه بأيام الله كما حكى الله عنه فقال :

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ) أي واذكر لقومك حين قول موسى لقومه : يا قوم تذكروا إنعام الله عليكم إذ أنجاكم من فرعون وآله ، حين كانوا يذيقونكم العذاب ويكلفونكم من الأعمال ما لا يطاق مع القهر والإذلال ، ويذبحون أبناءكم ويبقون نساءكم على قيد الحياة ذليلات مستضعفات ، وهذا رز من أشد الأرزاء ، وأعظم ألوان البلاء ، قال شاعرهم :

ومن أعظم الرزء فيما أرى

بقاء البنات وموت البنينا

وفى ذلك التذكير عبرة لهم لو يعتبرون.

(وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ) أي وفيما ذكر ابتلاء واختبار عظيم من ربكم

١٢٩

لما فيه من نقمة التعذيب والإذلال وقتل الأولاد واستحياء البنات ، ثم نعمة الإنجاء من كل ذلك العسف والقهر ، فالابتلاء كما يكون بالنقمة يكون بالنعمة كما قال «وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ» وقال : «وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً».

(وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ) أي واذكروا يا بنى إسرائيل حين آذنكم ربكم وأعلمكم بوعده فقال :

(لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ) أي لئن شكرتم ما خوّلتكم من نعمة الإنجاء وغيرها بطاعتي فيما آمركم به وأنهاكم عنه لأزيدنكم من نعمى عليكم ، وقد دلت التجارب أن العضو الذي يناط به عمل كلما مرن عليه ازداد قوة ، وإذا عطل عن العمل ضمر وضعف ، وهكذا النعم إن استعملت فيما خلقت له بقيت ، وإن أهملت ذهبت.

أخرج البخاري فى تاريخه والضياء فى المختارة عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «من ألهم خمسة لم يحرم خمسة ـ وفيها من ألهم الشكر لم يحرم الزيادة».

والخلاصة ـ إن من شكر الله على ما رزقه وسّع عليه فى رزقه ، ومن شكره على ما أقدره عليه من طاعته زاد فى طاعته ، ومن شكره على ما أنعم عليه من صحة زاده الله صحة ، إلى نحو أولئك من النعم.

(وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ) النعم وجحدتموها فلم تقوموا بواجب حقها عليكم من شكر المنعم بها.

(إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ) بحرمانكم منها ، وسلبكم ثمراتها ، فى الدنيا والآخرة ، فتعذبون فى الدنيا بزوالها ، وفى الآخرة بعذاب لا قبل لكم به ، وفى الحديث : «إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصبه».

ثم بين سبحانه أن منافع الشكران ومضار الكفران لا تعود إلا إلى الشاكر أو الكافر بتلك النعم ، أما المعبود المشكور فهو متعال عن أن ينتفع بالشكر أو يضره الكفر ، فلا جرم قال :

١٣٠

(وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ) أي إن تجحدوا نعمة الله التي أنعمها عليكم ، ويفعل مثل فعلكم من فى الأرض جميعا ، فما أضررتم بالكفر إلا أنفسكم ، إذ حرمتموها من مزيد الإنعام ، وعرّضتموها للعذاب ، الشديد ، وإن الله غنى عن شكركم وشكر غيركم ، وهو المحمود وإن كفر به من كفر ، وهذا كقوله : «إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ» الآية ، وقوله : «فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللهُ وَاللهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ».

وقد يكون موسى قال هذه المقالة حين عاين منهم دلائل العناد ، ومخايل الإصرار على الكفر والفساد ، وتيقن أنه لا ينفعهم الترغيب ، ولا التعريض بالترهيب.

(أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللهُ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (٩) قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (١٠) قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١١) وَما لَنا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (١٢))

١٣١

تفسير المفردات

الريبة : اضطراب النفس وعدم اطمئنانها بالأمر ، وفاطر السموات والأرض أي موجدهما على نظام بديع ، والسلطان. الحجة والبرهان.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه ما ذكّر به موسى قومه بما أولاهم به من نعمة ، ورفع عنهم من نقمة ، ثم ذكر وعده تعالى بالزيادة لمن شكر ، ووعيده بالعذاب لمن كفر ، ثم حذرهم بأن الكفران لا يضير ربهم ، وأنه غنى عن حمدهم وحمد من فى الأرض جميعا يذكّرهم بأيام الله فيمن قبلهم ، من الأمم السالفة والأجيال البائدة ، بأسلوب طلىّ ومقال جلىّ ، فذكر القول أوّلا على سبيل الإجمال ، ثم أتبعه بمحاورة بين الرسل وأقوامهم ، أقام فيها الرسل الحجة على أممهم ، ودحض ما تمسكوا به من الترّهات والأباطيل.

الإيضاح

(أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللهُ) أي ألم يأتكم خبر قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم من الأمم المكذبة للرسل التي غاب عن الناس علمها ، وعند الله إحصاؤها.

ثم فصل هذا النبأ وفسره بقوله :

(جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) أي جاءتهم رسلهم بالمعجزات الظاهرة ، والبينات الباهرة ، وبين كل رسول لأمته طريق الحق ، ودعاهم إليه ، ليخرجهم من الظلمات إلى النور.

١٣٢

(فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ) أي عضّوا بنان الندم غيظا لما جاءهم به الرسل ، وضجر لنفرتهم من استماع كلامهم ، إذ سفّهوا أحلامهم ، وشتموا أصنامهم ، وقد فعلت العرب مثل ذلك مع النبي صلى الله عليه وسلّم كما قال سبحانه : «عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ».

وقال أبو عبيدة والأخفش ونعمّا قالا هو مثل ، والمراد أنهم لم يؤمنوا ولم يجيبوا ، والعرب تقول للرجل إذا أمسك عن الجواب وسكت ، قد ردّ يده فى فيه.

(وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ) أي إنا كفرنا بما زعمتم أن الله أرسلكم به ، من البينات التي أظهرتموها حجة على صحة رسالتكم ، وإنما يقصدون من الكفر بها الكفر بدلالتها على صدق رسالتهم.

(وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ) أي وإنا لفى شك مما تدعوننا إليه من الإيمان بالله ووحدانيته ، وجملة ما جئتم به من الشرائع.

وخلاصة مقالهم ـ إنهم جاحدون نبوتهم ، قاطعون بعدم صحتها ، لأن ما جاءوا به من التعاليم والشرائع مما يشكّ فى صدقه ، وأن الله سبحانه يدعو إلى مثله. فرد الرسل عليهم منكرين متعجبين من تلك المقالة الحمقاء كما أشار إلى ذلك عز اسمه بقوله :

(قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللهِ شَكٌّ؟) أي أفي وجود الله شك ، وكيف ذلك والفطرة شاهدة بوجوده ومجبولة على الإقرار به ؛ فالاعتراف به ضرورى لدى كل ذى رأى حصيف كما جاء فى الحديث : «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه».

ولكن قد يعرض لبعضها شك واضطراب ، فتحتاج إلى النظر فى الأدلة الموصلة ، إلى ذلك ، ومن ثمّ وجه الرسل أنظار أممهم إلى هذه الأدلة فقالوا :

(فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي هو الذي خلقهما وأبدعهما على غير مثال سابق ، ودلائل الحدوث ظاهرة عليهما ، فلا بد لهما من صانع وهو الله الذي لا إله إلا هو ، خالق

١٣٣

كل شىء وإلهه ومليكه ، وقد جاء هذا الوصف فى محاورات الأنبياء جميعا ، وهو نفس الوصف الذي جاء فى أول السورة على لسان نبينا صلى الله عليه وسلّم ، ومن هذا يعلم أن كل نبى جعل مطمح نظره توجه النفوس إلى علوم السموات والأرض.

ولما أقاموا الدليل على وجوده وصفوه بكمال الرحمة بقولهم :

(يَدْعُوكُمْ) إلى الإيمان به بإرساله إيانا ، لنخرجكم من ظلمات الوثنية ، إلى نور الوحدانية ، وإخلاص العبادة له ، وهو الواحد القهار.

(لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) أي يدعوكم لمغفرة بعض ذنوبكم ، وهى الذنوب التي بينكم وبين ربكم ، لا المظالم وحقوق العباد.

والمتتبع لأسلوب الكتاب الكريم يرى أن كل موضع ذكر فيه مغفرة الذنوب للكافرين جاء بلفظ (من) كقوله : «وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ» وقوله : «يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ» لأنه يخاطبهم فى أمر الإيمان وحده.

وفى المواضع التي يذكر فيها مغفرة الذنوب للمؤمنين تجىء بدون ذكر (من) كقوله : «ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ» لأن المغفرة منصرفة إلى المعاصي ومتوجهة إليها.

(وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) أي إلى وقت سماء الله ، وجعله منتهى أعماركم إن أنتم آمنتم به ، وإلا عاجلكم بالهلاك وعذاب الاستئصال ، جزاء كفرانكم بدعوة الرسل إلى التوحيد ، وإخلاص العبادة للواحد القهار.

ثم حكى سبحانه رد الأمم على مقالة الرسل ، وهو يتضمن ثلاثة أشياء :

(١) (قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا) فلا فضل لكم علينا ، فلم خصصتم بالنبوة ، أطلعكم الله على الغيب ، وجعلكم مخالطين لزمرة الملائكة دوننا ؛ إلى أنه لو كان الأمر

١٣٤

كما تدّعون لوجب أن تخالفونا فى الحاجة إلى الأكل والشرب وقربان النساء وما شاكل ذلك.

(٢) (تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا) ولا حجة لكم على ما تدّعون ، وليس من حصافة العقل أن نترك أمرا قبل أن يقوم الدليل على خطئه.

(٣) (فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) أي بحجة ظاهرة تدل على صحة ما تدّعون من النبوة ، أما ذكر السموات والأرض وعجائبهما فلسنا نحفل بهما ، والعجائب الأرضية والسماوية لا نعقلها ، والبشر لا يخضعون إلا لمن يأتى لهم بما هو خارج عن طور معتادهم ، وحينئذ يعظّمونه ويبجّلونه ، وهذه المشاهدات لا نرى فيها شيئا خارقا للعادة ، وإذا فلا إيمان ولا تسليم إلا بما هو فوق طاقتنا ، كقلب العصا حية ونقل الجبال وما إلى ذلك.

وبعد أن حكى عن الكفار شبهاتهم فى الطعن فى النبوة حكى عن الأنبياء جوابهم عنها فأجابوا عن الأولى والثانية بالتسليم ، لكن التماثل لا يمنع من اختصاص بعض البشر بمنصب النبوة ، لأن هذا منصب يمن الله به على من يشاء من عباده ، كما لا يمتنع من أن يخص بعض عباده بالتمييز بين الحق والباطل والصدق والكذب ، وأن يحرم الجمع العظيم منه ، وهذا ما أشار إليه بقوله :

(قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) وأجابوا عن الشبهة الثالثة بأن ما جئنا به حجة قاطعة وبينة ظاهرة على صدق رسالتنا ، وما اقترحتموه من الآيات فأمره إلى الله إن شاء أظهره وهو زائد على قدر الكفاية ، وذلك ما أومئوا إليه بقولهم :

(وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) أي بمشيئته وإرادته ، وليس ذلك فى قدرتنا.

وبعد أن أجابهم الأنبياء عن شبهاتهم أخذ المشركون يخوفونهم ويتوعدونهم بالانتقام منهم وإيذائهم قدر ما يستطيعون ، فقال لهم الأنبياء إنا لا نخاف تهديدكم

١٣٥

ولا وعيدكم ، بل نتوكل على الله ونعتمد عليه ، ولا نقيم لما تقولون وزنا ولا نأبه به ، وهذا ما أشار إليه سبحانه بقوله حكاية عنهم :

(وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) فى دفع شرور أعدائهم عنهم ، وفى الصبر على معاداتهم.

ثم زادوا أمر التوكل توثيقا وتوكيدا فقالوا :

(وَما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا) أي وكيف لا نتوكل على الله وقد هدانا إلى سبل المعرفة ، وأوجب علينا سلوك طريقها ، وأرشدنا إلى طريق النجاة ، ومن أنعم الله عليه بنعمة فليشكره عليها بالعمل بها.

(وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا) أي ولنصبرنّ على إيذائكم بالعناد واقتراح الآيات ونحو ذلك مما لا خير فيه ، وندعوكم لعبادة الله وحده ، ليكون ذلك منا شكرا على نعمة الهداية.

ثم ختموا كلامهم بمدح التوكل وبيان أن إيذاءهم لا يثنيهم عن تبليغ رسالة ربهم فقالوا :

(وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) أي وعلى الله وحده فليثبت المتوكلون على توكلهم وليحتملوا كل أذى فى جهادهم ، ولا يبالوا بما يصيبهم من أذى ولا بما يلاقون من صعاب وعقبات.

ومن عنده مال أو علم فلينفع به الناس وليكن كالنهر يسقى الزرع والشمس تضىء العباد ، وليصبر على أذى الناس كما صبر الأنبياء وأوذوا ، فالهداة ما خلقوا إلا ليعملوا فهم هداة بطباعهم ، ولذاتهم فى قلوبهم ومنهم تنتقل إلى الناس.

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (١٣) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ

١٣٦

الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ (١٤) وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (١٥) مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ (١٦) يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ (١٧))

تفسير المفردات

لتعودنّ : لتصيرن ، والملة : الدين والشريعة ، والمقام : موقف الحساب ، واستفتحوا :

أي طلبوا الفتح بالنصرة على الأعداء ، وخاب : هلك ، والجبار : العاتي المتكبر على طاعة الله ، والعنيد : المعاند للحق المخالف له ، ومن ورائه : أي من بعد ذلك ينتظره ، والصديد ما يسيل من جلود أهل النار ، يسيغه : أي يستطيبه يقال ساغ الشراب :

إذا جاز الحلق بسهولة ، يأتيه الموت : أي تأتيه أسبابه وتحيط به من كل جهة ، عذاب غليظ : أي شديد غير منقطع.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر مادار من الحوار والجدل بين الرسل وأقوامهم ، وذكر الحجج التي أدلى بها الرسل ، وقد كان فيها المقنع لمن أراد الله له الهداية والتوفيق ، ومن كان له قلب يعى به الحكمة وفصل الخطاب ـ ذكر هنا أنهم بعد أن أفحموا لم يجدوا وسيلة إلا استعمال القوة مع أنبيائهم كما هو دأب المحجوج المغلوب فى الخصومة ، فخيروا رسلهم بين أحد أمرين إما الخروج من الديار : وإما العودة إلى الملة التي عليها الآباء والأجداد ، فأوحى الله إلى أنبيائه أن العاقبة لكم ، وستدور عليهم الدائرة ، وستحلّون محلهم فى ديارهم وسيعذبون فى الآخرة بنار جهنم ، ويرون ألوانا من العذاب لا قبل لهم بها.

١٣٧

الإيضاح

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا) أي وقال الذين كفروا بالله لرسلهم حين دعوهم إلى توحيده تعالى وترك عبادة الأصنام والأوثان : لنخرجنكم من بلادنا مطرودين منها ، إلا أن تعودوا فى ديننا الذي نحن عليه ، من عبادة الأصنام كما قال قوم شعيب له ولمن آمن به : «لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا» الآية ، وكما قال قوم لوط : «أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ» الآية ، وقال إخبارا عن مشركى قريش : «وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها ، وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلاً».

وخلاصة هذا ـ ليكونن أحد الأمرين لا محالة : إما إخراجكم ، وإما صيرورتكم فى ملتنا ملة الآباء والأجداد ، وهى عبادة الآلهة والأوثان ، وقد مكّن لهم فى ذلك أنهم كانوا كثرة وكان أهل الحق قلة ، كما جرت بذلك العادة فى كل زمان ومكان ، فإن الظّلمة يكونون متعاونين متعاضدين ، ومن ثم استطاعوا أن يبرموا هذا الحكم بلا هوادة ولا رفق ، كما هو شأن المعتزّ بقوته ، الذي لا يخشى اعتراضا ولا خلافا.

والأنبياء صلوات الله عليهم لم يكونوا فى ملتهم ولم يعبدوا الأصنام طيلة حياتهم ، لكنهم لما نشئوا بين ظهرانيهم ، وكانوا من أهل تلك البلاد ، ولم يظهروا فى أول أمرهم مخالفة لهم ـ ظنوا أنهم كانوا على دينهم.

ولما تمادت الأمم فى الكفر وتوعدوا الرسل بأخذهم بالشدة والإيقاع بهم ـ أوحى الله إليهم بإهلاك من كفربهم ، ووعدهم بالنصر والغلب على أعدائهم كما أشار إلى ذلك بقوله :

(فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ. وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ) أي فأوحى الله إلى رسله قائلا لهم : لنهلكن من تناهى فى الظلم من المشركين ، ولنسكننكم أرضهم وديارهم بعد إهلاكهم عقوبة لهم على قولهم : (لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا).

١٣٨

وفى ذلك وعيد وتهديد للمشركين من قريش على كفرهم وجراءتهم على نبيه ، وتثبيت وأمر له بالصبر على ما يلقى من المكروه كما صبر من كان قبله من الرسل ، وبيان لأن عاقبة من كفر به الهلاك وعاقبته النصر عليهم كما قال : «سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ» وقال : «وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ ، إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ ، وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ» وقال : «كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي».

ثم ذكر السبب فى نصرهم عليهم فقال :

(ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ) أي هكذا أفعل بمن خاف مقامه بين يدىّ يوم القيامة ، وخاف وعيدي فاتقانى بطاعتي وتجنب سخطى ـ أنصره على من أراد به سوءا وبغى به مكروها من أعدائى ، وأورثه أرضه ودياره.

ثم بين أن كلا من الفريقين الأمم والرسل طلبوا المعونة والتأييد من ربهم وإلى ذلك أشار بقوله :

(وَاسْتَفْتَحُوا) أي واستفتحت الرسل على أممها أي استنصرت الله عليها ، واستفتحت الأمم على أنفسها كما قالوا : «اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ».

ثم ذكر مآل المشركين وبيّن أن النصر للمتقين فقال :

(وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ) أي وهلك كل متكبر مجانب للحق منحرف عنه.

(مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ) أي ومن وراء الجبار العنيد جهنم أي هى له بالمرصاد تنتظره ، ليسكنها مخلدا فيها أبدا ، ويعرض عليها فى الدنيا غدوّا وعشيا إلى يوم التناد.

ثم بين شرابه فيها فقال :

(وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ) أي ليس له فى النار شراب إلا ماء يخرج من جوفه وقد خالطه القيح والدم ، وخص بالذكر لأنه آلم أنواع العذاب.

١٣٩

ثم ذكر ألمه من ذلك الشراب فقال :

(يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ) أي يتحساه جرعة بعد جرعة ، ولا يكاد يزدرده ، من شدة كراهته ، ورداءة طعمه ولونه ، وريحه وحرارته كما قال : «وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ» وقال : «وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ».

ثم ذكر ما يحيط به من الأهوال فقال :

(وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ) أي وتحيط به أسبابه من الشدائد وأنواع العذاب من كل جهة من الجهات من قدامه ومن خلفه ومن فوقه ومن تحته وعن يمينه وعن شماله فى نار جهنم ، ليس منها نوع إلا يأتيه الموت منه لو كان يموت ، لكنه لا يموت كما قال تعالى : «لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها».

ثم أكد شدائدها وعظيم أهوالها فقال :

(وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ) أي وله من بعد هذه الحال عذاب آخر غليظ أي مؤلم أغلظ من الذي قبله وأمرّ كما قال تعالى : «وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ. وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ. لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ» وقال : «وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ. جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمِهادُ. هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ. وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ».

(مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (١٨) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (١٩) وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ (٢٠))

١٤٠