تفسير المراغي - ج ١٣

أحمد مصطفى المراغي

فالمؤمنون إذا ذكروا عقاب الله ولم يأمنوا من وقوعهم فى المعاصي وجلت قلوبهم كما قال : «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ» وإذا ذكروا وعده بالثواب والرحمة سكنت نفوسهم واطمأنت إلى ذلك الوعد وزال منها القلق والوحشة.

وفى الآية إيماء إلى أن الكفار أفئدتهم هواء ، إذ لم تسكن نفوسهم إلى ذكره ، بل سكنت إلى الدنيا وركنت إلى لذاتها.

ثم بين سبحانه جزاء المطمئنين وثوابهم فقال :

(الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ) أي إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم الفرح وقرّة العين عند ربهم ، وحسن المآب والمرجع.

وفى هذا من الترغيب فى طاعته ، والتحذير من معصيته ، ومن شديد عقابه ، ما لا خفاء فيه.

وخلاصة ذلك ـ أن أهل الجنة منعمون بكل ما يشتهون كما جاء فى الحديث :

«فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر».

محمد صلى الله عليه وسلّم ليس بدعا من الرسل

(كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتابِ (٣٠) وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (٣١) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ

١٠١

لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (٣٢) أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٣٣) لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ (٣٤))

تفسير المفردات

خلت : مضت ، متاب : مرجعى ، قطعت : شققت ، ييأس : يعلم وهو لغة هوازن قارعة رزية تقرع القلوب ، أمليت : أي أمهلت مدة طويلة فى أمن ودعة ، قائم :

رقيب ومتولّ للأمور ، تنبئونه : تخبرونه ، بظاهر من القول : أي بباطل منه لا حقيقة له فى الواقع. والسبيل : هو سبيل الحق وطريقه ، والواقي : الحافظ.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه طلبهم من رسوله صلى الله عليه وسلّم الآيات كما أنزل على الرسل السالفين كموسى وعيسى وغيرهم من النبيين والمرسلين ، وبين أن الهدى هدى الله ، فلو أوتوا من الآيات ما أوتوا ولم يرد الله هدايتهم فلا يجديهم ذلك فتيلا ولا قطميرا ذكر هنا أن محمدا ليس ببدع من الرسل وأن قومه سبقهم أقوام كثيرون ، وطلبوا الآيات من أنبيائهم ، وأجابوهم إلى ما طلبوا ، ولم تغنهم الآيات والنذر ، فكانت عاقبتهم البوار والنكال ، فأنزل على كل قوم من العذاب ما أتى عليهم جميعا ، وأصبحوا معه كأمس الدابر ؛ ولو أن كتابا تسيّر به الجبال عن أماكنها ، أو تشقّق به الأرض فتجعل أنهارا وعيونا ، لكان هذا القرآن الذي أنزلناه عليه ، ثم أبان أن الله تعالى قادر على الإتيان بما اقترحوه ، لكنه لم يرد ذلك ، لأنه لا ينتج المقصود من إيمانهم.

١٠٢

ثم أتبع ذلك بالتيئيس منه وبالتهديد بقارعة تحل بهم ، وبتسلية النبي صلى الله عليه وسلم على استهزائهم به.

أخرج ابن أبى شيبة وابن المنذر وغيرهما عن الشعبي قال : قالت قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إن كنت نبيا كما تزعم فباعد جبلى مكة أخشبيها (اسمى الجبلين) هذين مسيرة أربعة أيام أو خمسة ، فإنها ضيقة حتى نزرع فيها ونرعى ، وابعث لنا آباءنا من الموتى حتى يكلمونا ويخبرونا أنك نبى ، أو احملنا إلى الشام أو اليمين أو إلى الحيرة حتى نذهب ونجىء فى ليلة كما زعمت أنك فعلته فنزلت هذه الآية.

وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن ابن عباس أنهم قالوا : سيّر بالقرآن الجبال ، قطّع بالقرآن الأرض ، أخرج به موتانا ، فنزلت.

الإيضاح

(كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) أي كما أرسلنا إلى الأمم الماضية رسلا فكذبوهم ، كذلك أرسلناك فى هذه الأمة ، لتبليغهم رسالة الله إليهم ، وكما أوقعنا بأسنا ونقمتنا بأولئك ، فليحذر هؤلاء من حلول النقم بهم.

وخلاصة ذلك ـ إننا كما أرسلنا إلى أمم من قبلك وأعطيناهم كتبا تتلى عليهم ، أرسلناك وأعطيناك هذا الكتاب لتتلوه عليهم ، فلما ذا يقترحون غيره؟.

(وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ) أي وحالهم أنهم كفروا بمن أحاطت بهم نعمه ، ووسعت كلّ شىء رحمته ، ولم يشكروا نعمه وفضله عليهم ، ولا سيما إحسانه إليهم بإرسالك وإنزال القرآن عليك. ، وهو الكفيل بمصالح الدنيا والآخرة كما قال تعالى : «وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ».

وكفرهم به أنهم جحدوه بتاتا أو أثبتوا له الشركاء.

١٠٣

(قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) أي قل لهم : إن الرحمن الذي كفرتم به هو خالقى ومتولّى أمرى ومبلغى مراتب الكمال. لا رب غيره ولا معبود سواه ، فهو الواحد الأحد الفرد الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد.

وعن قتادة قال : «ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم زمن الحديبية حين صالح قريشا كتب فى الكتاب : بسم الله الرحمن الرحيم. فقالت قريش : أما الرحمن فلا نعرفه ، وكان أهل الجاهلية يكتبون باسمك اللهم ، فقال أصحابه : دعنا نقاتلهم ، قال لا ، اكتبوا كما يريدون» اه.

(عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) أي عليه لا على غيره توكلت فى جميع أمورى ، ولا سيما فى نصرتى عليكم.

(وَإِلَيْهِ مَتابِ) أي وإليه وحده توبتى ، وهو بمعنى قوله : «وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ» وفى هذا بيان لفضل التوبة ومقدار عظمها عند الله ، وبعث للكفار على الرجوع عما هم عليه بأبلغ وجه وألطف سبيل ، إذ أمر بها عليه السلام وهو منزّه عن اقتراف الذنوب ، فتوبتهم وهم عاكفون على أنواع الكفر والمعاصي أحق وأجدر.

(وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ) أي ولو ثبت أن كتابا سيّرت بتلاوته الجبال وزعزعت من أماكنها كما فعل بالطور لموسى عليه السلام.

(أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ) أي شققت وجعلت أنهارا وعيونا كما حدث للحجر حين ضربه موسى بعصاة.

(أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى) أي أو كلم أحد به الموتى فى قبورهم بأن أحياهم بقراءته فتكلم معهم بعد كما وقع لعيسى عليه السلام ـ لو ثبت هذا الشيء من الكتب لثبت لهذا الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، لما انطوى عليه من الآيات الكونية الدالة على بديع صنع الله فى الأنفس والآفاق ، واشتمل عليه من الحكم والأحكام التي فيها صلاح البشر وسعادتهم فى الدار الفانية والدار الباقية ، ومن قوانين العمران التي تكون خيرا لمتبعيها وفوزا لسالكيها ، ويجعل منهم خير أمة أخرجت

١٠٤

للناس ، وهذا بمعنى قوله : «لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ».

خلاصة ذلك ـ لو أن ظهور أمثال ما اقترحوه مما تقتضيه الحكمة وتستدعيه المصلحة ، لكان مظهر ذلك هو القرآن الذي لم يعدّوه آية واقترحوا غيره.

ولا يخفى ما فى هذا من تعظيم شأنه الكريم ، ووصفهم بسخف العقل ، وسوء التدبير والرأى ، وبيان أن تلك المقترحات لا ينبغى أن يؤبه لها ، ولا يلتفت إليها ، لأنها صادرة عن التشهّى والهوى ، والتمادي فى الضلال والمكابرة والعناد ، لا عن تقدير للأمور على وجهها الصحيح ، وتأمل فى حقائقها ، وما يجب أن يكون لها من الاعتبار.

ويجوز أن يكون المعنى ـ لو أن كتابا فعلت بوساطته هذه الأفاعيل العجيبة لما آمنوا به ، لفرط عنادهم وغلوهم فى مكابرتهم ، وهذا بمعنى قوله : «وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ».

(بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً) أي بل مرجع الأمور كلها بيد الله ، ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ، ومن يضلل فلا هادى له ، ومن يهد فما له من مضل.

وخلاصة ذلك ـ إن الله قادر على الإتيان بما اقترحوه من الآيات ، لكن الإرادة لم تتعلق بذلك ، لعلمه أن قلوبهم لا تلين ، ولا يجدى هذا فائدة فى إيمانهم.

(أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً) أي ألم يعلم الذين آمنوا أن الله تعالى لو شاء هداية الناس أجمعين لهداهم ، فإنه ليس ثمة حجة ولا معجزة أنجع فى العقول من هذا القرآن الذي لو أنزل على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله ، لكنه لم يشأ ذلك.

روى البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال : «ما من نبى إلا وقد أوتى ما آمن على مثله البشر ، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلىّ فأرجو أن أكون

١٠٥

أكثرهم تابعا يوم القيامة» يريد أن كل نبى انقرضت معجزته بموته ، وهذا القرآن حجة باقية على وجه الدهر ، لا تنقضى عجائبه ، ولا يخلق على كثرة الردّ ، ولا يشبع منه العلماء.

(وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ) أي ولا يزال الكافرون تصيبهم البلايا والرزايا ، من القتل والأسر ، والسلب والنهب ، بسبب تماديهم فى الكفر وتكذيبهم لك وإخراجك من بين أظهرهم.

(أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ) أي أو تحل تلك القارعة قريبا من دارهم فيفزعون منها ويتطاير شررها إليهم.

(حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللهِ) أي حتى ينجز الله وعده الذي وعدك فيهم ، بظهورك عليهم ، وفتحك أرضهم ، وقهرك إياهم بالسيف.

(إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ) أي إن الله منجزك ما وعدك من النصر عليهم ، لأنه لا يخلف وعده كما قال : «فَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ ، إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ».

ولما كان الكفار يسألون النبي صلى الله عليه وسلّم هذه الآيات على سبيل الاستهزاء والسخرية ، وكان ذلك يشق عليه ، ويتأذى منه ، أنزل الله تسلية له على سفاهة قومه قوله :

(وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ) أي إن يستهزئ بك هؤلاء المشركون من قومك ويطلبوا منك الآيات تكذيبا لما جئتهم به فاصبر على أذاهم وامض لأمر ربك ، فلقد استهزأت أمم من قبلك برسلهم.

ثم بين سبحانه شأنه مع المكذبين فقال :

(فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) أي فتركتهم ملاوة أي مدة من الزمان فى أمن ودعة كما يملى للبهيمة فى المرعى.

١٠٦

(ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ) أي ثم أحللت بهم عذابى ونقمتى حين تمادوا فى غيهم وضلالهم ، فانظر كيف كان عقابى إياهم حين عاقبتهم ـ ألم أذقهم أليم العذاب وأجعلهم عبرة لأولى الألباب؟.

وقد صدق الله وعده ، ونصر رسوله على عدوه ، فدخل فى دين الله من دخل ، ومن أبى قتل ، ودانت العرب كلها له ، وانضوت تحت لوائه ، وحقت عليهم كلمة ربك وفى هذا تعجيب مما حل بهم ، ودلالة على شدته وفظاعة أمره كما لا يخفى.

ثم ذكر سبحانه ما يجرى مجرى الحجاج عليهم ، وما فيه توبيخ لهم وتعجيب من عقولهم ، وكيف إنها وصلت إلى حد لا ينبغى لعاقل أن يقبله ولا يرضى به فقال :

(أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) أي أفمن هو قائم بحفظ أرزاق الخلق ومتولى أمورهم وعالم بهم وبما يكسبونه من الأعمال من خير أو شر ولا يعزب عنه شىء كمن ليس بهذه الصفة من معبوداتكم التي لا تسمع ولا تبصر ، ولا تدفع عن نفسها ولا عمن يعبدها ضرا ، ولا تجلب لهم نفعا.

وخلاصة ذلك ـ أنه لا عجب من إنكارهم لآياتك الباهرة مع ظهورها ، وإنما العجب كل العجب من جعلهم القادر على إنزالها المجازى لهم على إعراضهم عن تدبر معانيها ـ بقوارع تترى واحدة بعد أخرى يشاهدونها رأى العين ـ كمن لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا فضلا عن اتخاذه ربا يرجى نفعه ، أو يخشى ضره.

ونحو الآية قوله : «وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها» وقوله : «وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ» وقوله : «وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ».

ثم أكد هذا بقوله :

(وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ) عبدوها معه من أصنام وأوثان وأنداد.

ثم أعقب ذلك بتوبيخ إثر توبيخ فقال :

١٠٧

(قُلْ سَمُّوهُمْ) أي صفوهم ، فهل لهم ما يستحقون به العبادة ويستأهلون الشركة ، وقد يكون المعنى ، سموهم من هم وما أسماؤهم؟ فإنهم ليسوا ممن يذكر ويسمّى ، فإنما يسمى من ينفع ويضر.

(أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ) أي بل أتخبرونه بشركاء يستحقون العبادة لا يعلمهم ، أو تخبرونه بصفات لهم يستحقون لأجلها العبادة وهو لا يعلمها ، وفى هذا نفى لوجودها ، لأنها لو كانت موجودة لعلمها ، لأنه لا تخفى عليه خافية ، ولا يعزب عنه مثقال ذرة فى الأرض ولا فى السماء.

(أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ) أي بل أتسمونهم شركاء ظنا منكم أنهم ينفعون ويضرون كما تسمونهم آلهة كما قال : «إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ ، إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى».

وخلاصة حجاجه على المشركين ـ نفى الدليل العقلي والدليل النقلى على أحقية عبادتها ـ فبعد أن هدم قاعدة الإشراك بقوله : «أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ» زاد ذلك إيضاحا فقال : وليتهم إذ أشركوا بربهم الذي لا ينبغى أن يشرك به ـ أشركوا به من له حقيقة واعتبار ومن ينفع ويضر ، لا من لا اسم له فضلا عن المسمى ، بل من لا يعرف له وجود فى الأرض ولا فى السماء ، ويريدون أن ينبئوا عالم السر والنجوى بما لا يعلمه ، ثم زاد على ذلك فقال : وما تلك التسمية إلا بظاهر من القول من غير أن يكون تحتها طائل وما هى إلا أصوات جوفاء كثيرة المبانى خالية من المعاني.

(بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ) أي دع هذا الحجاج وألق به جانبا ، فإنه لا فائدة فيه ، لأنه زيّن لهم كيدهم ، لاستسلامهم للشرك ، وتماديهم فى الضلال.

(وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ) أي وصرفوا عن سبيل الحق ، بما زين لهم من صحة ما هم عليه.

١٠٨

(وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) أي ومن يخذله الله لسوء اعتقاده وفساد أعماله واجتراحه للآثام والمعاصي فلا هادى له يوفقه إلى النجاة ويوصله إلى طرق السعادة.

ونحو الآية قوله : «وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئاً» وقوله : «إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ».

ثم بين عاقبة أمرهم فقال :

(لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) أي لهم عذاب شاق فى هذه الحياة بالقتل والأسر وسائر الآفات التي يصيبهم بها.

(وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ) أي ولتعذيب الله إياهم فى الدار الآخرة أشد من تعذيبه إياهم فى الدنيا وأشق لشدته ودوامه.

ثم أيأسهم من صرف العذاب عنهم فقال :

(وَما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ) أي وما لهم حافظ يعصمهم من عذاب الله ، إذ لا يشفع أحد عنده إلا بإذنه ، ولا يأذن لأحد فى الشفاعة لمن كفر به ومات على كفره.

(مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ (٣٥) وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ (٣٦) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ (٣٧) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ

١٠٩

اللهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ (٣٨) يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ (٣٩))

تفسير المفردات

المثل : الصفة والنعت ، والأكل : ما يؤكل ، والظل : واحد الظلال والظلول والأظلال ، والأحزاب : واحدهم حزب ، وهو الطائفة المتحزّبة : أي المجتمعة لشأن من الشئون كحرب أو عداوة أو نحو ذلك ، والمآب : المرجع ، والواقي. الحافظ ، والأجل : الوقت والمدة ، والكتاب : الحكم المعين الذي يكتب على العباد بحسب ما تقتضيه الحكمة ، والمحو : ذهاب أثر الكتابة ، وأمّ الكتاب : أصله وهو علم الله تعالى.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه ما أعده للكافرين من العذاب والنكال فى الدنيا والآخرة ـ أتبعه بذكر ثواب المتقين فى جنات تجرى من تحتها الأنهار ، ثم أردفه ذكر فرح المؤمنين من أهل الكتاب بما أنزل عليه من ربه ، وإنكار بعض منهم لذلك ، ثم حث الرسول صلى الله عليه وسلّم على القيام بحق الرسالة وتحذيره من مخالفة أوامره ، ثم ختم هذا بذكر الجواب عن شبهات كانوا يوردونها لإبطال نبوته صلى الله عليه وسلّم كقولهم : إنه كثير الزوجات ، ولو كان رسولا من عند الله لما اشتغل بأمر النساء.

وخلاصة الجواب ـ إن محمدا ليس ببدع من الرسل ، فكثير منهم كان له أزواج وذرية ولم يقدح ذلك فى رسالاتهم ، وكقولهم : إنه لو كان رسولا من عند الله لم يتوقف فيما يطلب منه من المعجزات ، فأجيبوا بأن أمر المعجزات مفوّض إلى الله إن شاء أظهرها وإن شاء لم يظهرها ، ولا اعتراض لأحد عليه ، وقولهم : إن ما يخوفنا به من العذاب وظهور النصرة له ولقومه لم يتحقق بعد فليس بنبي ولا صادق فيما يقول ،

١١٠

فأجيبوا عن ذلك بقوله : لكل أجل كتاب : أي لكل حادث وقتا معينا لا يتقدم عنه ولا يتأخر ، فتأخر المواعيد لا يدل على ما تدّعون.

الإيضاح

(مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) أي فيما نقصّه عليك صفة الجنة التي وعد الله المتقين وأعطاهم إياها كفاء إخباتهم له وإنابتهم إليه ودعائهم إياه مخلصين له الدين لا شريك له (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) سارحة فى أرجائها وجوانبها يصرّفونها كيف شاءوا وأين أرادوا.

(أُكُلُها دائِمٌ) أي فيها الفواكه والمطاعم والمشارب التي لا تنقطع عنهم ولا تبيد.

(وَظِلُّها) كذلك ، فليس هناك حر ولا برد ، ولا شمس ولا قمر ولا ظلمة كما قال تعالى : «لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً».

وبعد أن وصف الجنة بهذه الصفات الثلاث ـ بين أنها مآل المتقين ومنتهى أمرهم فقال :

(تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا) أي هذه الجنة عاقبة من اتّقوا ربهم فأقلعوا عن الكفر والمعاصي واجتراح السيئات ، وعنت وجوههم للحى القيوم ، وخافوا يوما تشيب من هوله الولدان ، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد.

ثم بين عاقبة الكافرين بعد ما بين عاقبة المتقين فقال :

(وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ) أي وعاقبة الكافرين بالله النار ، بما اقترفوا من الذنوب ودنسوا به أنفسهم من الآثام.

وفى الآية فتح باب الطمع على مصراعيه للمتقين ، وإقفاله بالرّتاج على الكافرين.

ثم بين أن أهل الكتاب انقسموا فئتين : فئة فرحت بنزول القرآن ، وفرقة أنكرته وكفرت ببعضه فقال :

١١١

(وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) من القرآن لما فى كتبهم من الشواهد على صدقه والبشارة به كما قال تعالى : «الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ» وهم جماعة ممن آمن من اليهود كعبد الله ابن سلام وأصحابه ، ومن النصارى وهم ثمانون رجلا من الحبشة واليمن ونجران.

(وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ) أي ومن جماعتهم الذين تحزّبوا وتألبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالعداوة ككعب بن الأشرف والسيد والعاقب أسقفّى نجران وأشياعهم ـ من أنكر بعض القرآن وهو مالم يوافق ما حرفوه من كتابهم وشرائعهم.

ولما ذكر سبحانه اختلاف أهل الكتاب فى شأنه صلى الله عليه وسلّم ـ بين بإيجاز ما يحتاج إليه المرء ليفوز بالسعادتين فقال :

(قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ) أي قل لهم صادعا بالحق ولا تكترث بمن ينكره إنى أمرت فيما أنزل إلىّ بأن أعبد الله وحده ولا أشرك به شيئا سواه ، وذلك ما لا سبيل إلى إنكاره وأطبقت عليه الشرائع والكتب كما قال : «يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً» وذلك ما دلت الدلائل التي فى الآفاق والأنفس على وجوب الإذعان له والاعتراف به.

وفى كل شىء له آية

تدل على أنه واحد

(إِلَيْهِ أَدْعُوا) أي إلى طاعته وإخلاص العبادة له وحده أدعو الناس.

(وَإِلَيْهِ مَآبِ) أي وإليه وحده مرجعى ومصيرى ومصيركم للجزاء ، ولا خلاف بيننا فى هذا ، فالعجب لكم أن تنكروا المتفق عليه ، وتختلفوا فيما لا محل للخلاف فيه.

وهذه الآية جامعة لشئون النشأة الأولى والآخرة ، فقوله : «قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ» توحى إلى ما جاء به التكليف ، وقوله «إِلَيْهِ أَدْعُوا» تشير إلى مهامّ الرسالة ، وقوله : (وَإِلَيْهِ مَآبِ) تشير إلى البعث والجزاء للحساب يوم القيامة.

١١٢

ثم بين سبحانه أنه أرسل رسوله بلغة قومه كما أرسل من قبله رسلا بلغات أقوامهم فقال :

(وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا) أي وكما أرسلنا قبلك المرسلين وأنزلنا عليهم الكتب ، أنزلنا عليك القرآن حكما عربيا بلسانك ولسان قومك ليسهل عليهم تفهم معناه واستظهاره. وسمى القرآن حكما : أي فصلا للأمر على وجه الحق ـ لأن فيه بيان الحلال والحرام وجميع ما يحتاج إليه المكلفون ليصلوا إلى السعادة فى الدنيا والآخرة.

وقد جاء بمعنى الآية قوله : «وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ».

ثم إن أهل مكة دعوه إلى أمور يشاركهم فيها فقال :

(وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) أي ولئن اتبعت أهواء هؤلاء الأحزاب ابتغاء رضاهم ، كالتوجه إلى قبلتهم وعدم مخالفتهم فى شىء مما يعتقدونه.

(ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ) أي ليس لك من دون الله ولىّ ولا ناصر ينصرك ، فينقذك منه إن هو أراد عقابك ، ولا واق يقيك عذابه إن شاء عذابك ، فاحذر أن تتبع أهواءهم وتنهج نهجهم.

وقد تقدم أن مثل هذا من وادي قولهم : (إياك أعنى واسمعي يا جاره) فهو إنما جاء لقطع أطماع الكافرين وتهييج المؤمنين على الثبات فى الدين لا للنبى صلى الله عليه وسلّم فهو بمكان لا يحتاج فيه إلى باعث ولا مهيّج.

ونزل : لما عابت اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلّم بكثرة النساء ، فقالوا لو كان نبيا كما زعم لشغله أمر النبوة عن النساء.

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً) أي وكما أرسلناك رسولا بشريا ، كذلك بعثنا المرسلين قبلك بشرا يأكلون الطعام ويمشون فى الأسواق ويأتون الزوجات ويولد لهم.

١١٣

وفى الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال : «أما أنا فأصوم وأفطر ، وأقوم وأنام ، وآكل اللحم ، وأتزوج النساء ، فمن رغب عن سنتى فليس منى» :

وقد كان من حكمة تعدد زوجاته أمهات المؤمنين أن اطلعن منه على الأحوال الخفيّة التي تكون بين الرجل والمرأة وعلمهن منه أحكامها ونشرنها بين المؤمنين ، وناهيك بأم المؤمنين عائشة وفيها يقول رسول الله صلى الله عليه وسلّم «خذوا نصف دينكم عن هذه الحميراء» ومن ثم كانت أكثر من حدّث عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم بعد أبى هريرة ، وأكثر من حدث عن شمائله وأحلاقه فى السر والعلن ، ومنها علم المسلمون كثيرا من أحكام دينهم ، وقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يختلفون إليها للحديث والفتيا وكانت تحاجهم وتجادلهم ، وتلزمهم الحجة ولا يجدون معدلا عن التسليم برأيها.

وروى أن المشركين طعنوا فى نبوته لعدم إتيانه بما يقترحونه من الآيات فنزل قوله :

(وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) أي وما كان فى وسع رسول من الرسل أن يأتى من أرسل إليهم بمعجزة يقترحونها إلا متى شاء الله وعلم أن فى الإتيان بها حكما ومصالح لعباده ، وقد جاء من الآيات بما فيه عبرة لمن اعتبر ، وغناء لمن تفكر وتدبر ، ولكنهم أبوا إلا التمادي فى الغواية والضلال كما تقدم من مقال عبد الله بن أبى أمية.

والآيات المقترحة لا تأتى إلا على مقتضى الحكمة فى أزمان يعلمها الله ، وقد جعل لكل زمن من الأحكام ما فيه الصلاح والخير للناس ، ولا صلاح فيما اقترحوه ، وهل من الصلاح أن يرضع المراهق اللبن من ظئره ، وأن يجعل له مهد ينام فيه؟ كذلك لا حكمة فى إنزال الآيات التي اقترحوها ، وهذا إيضاح قوله :

(لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ) أي لكل كتاب أجل أي لكل أمر كتبه الله أجل معين ووقت معلوم ، فلا آية من المقترحات بنازلة قبل أوانها ، ولا عذاب مما خوّفوا به بحاصل فى غير وقته ، ولا نبوة بحاصلة فى غير الزمان المقدر لها ، فموسى وعيسى

١١٤

ومحمد عليهم السلام جاءوا فى أزمنة رأى الله الصلاح فى وجودهم فيها لا يتقدمون عنها ولا يتأخرون ، وهكذا انقضاء أعمار الناس ووقوع أعمالهم وآجالهم ، كلها كتبت فى آجال ومدد معينة لا تقديم فيها ولا تأخير.

ونحو الآية قوله (لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ).

فما مثل الدنيا من كواكبها وشمسها وأرضها وزرعها إلا مثل مصنع رتّبت أعماله ، ووضعت عماله. فى حجر معينة ، ووزع بينهم العمل على نظم خاصة ، فى أوقات معينة ، ولهم مناهج يتبعونها ، فتراهم كل يوم يعملون وينصرفون من أماكنهم ثم يعودون إليها على نهج لا يتغير ولا يتبدل ، فالدنيا قد جعل الله لها نظاما على مقتضى الحقائق الثابتة التي تعلّق بها علمه ، وعلى هذا النظام جرت الشمس والقمر والكواكب وظهر النبات والحيوان وتعاقب الموت والحياة ، وظهرت نجوم وفنيت أخرى ، ونبت زرع وحصد آخر ومات نبى وقام آخر ، وامتد دين وانتشر ، وتقلّص دين ونسخ.

وكل كوكب من الكواكب التي تصلح للحياة كأرضنا كأنه صحيفة يكتب فيها ويمحى ، وذلك تابع لما فى المنهج الأصلى ، ومن ثم تتعاقب الأمم والأجيال والدول والنظم على قطر كمصر ، فيتعاقب عليه قدماء المصريين واليونان والرومان ، ولا شك أن كل هذا محو وإثبات على مقتضى المنهج المرسوم ، وهكذا تنسخ آية من القرآن ويؤتى بغيرها ، كما ينسخ زرع بزرع ، وليل بنهار ، وقوم بقوم ، ودين نبى بآخر فى ميقاته المعين فى علمه تعالى ، وهذا ما عناه سبحانه بقوله :

(يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ) وقد أثر عن أئمة السلف فيها أقوال لا تناقض فيها بل هى داخلة فيما سلف :

(١) قال الحسن : يمحو الله من جاء أجله ويثبت من بقي أجله.

(٢) وقال عكرمة : يمحو الله القمر ويثبت الشمس.

(٣) وقال الربيع : يقبض الله الأرواح حين النوم ، فيميت من يشاء ويمحوه ويرجع من يشاء فيثبته

(٤) وقال السدى : يمحو الله القمر ويثبت الشمس.

١١٥

(٥) وقال آخرون : يمحو الله ما يشاء من الشرائع بالنسخ ، ويثبت ما يشاء.

فلا ينسخه ولا يبدله.

(٦) وقال آخر : يمحو الله المحن والمصايب بالدعاء.

(وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) هو علم الله ، وجميع ما يكتب فى صحف الملائكة لا يقع حيثما يقع إلا موافقا لما يثبت فيه فهو أمّ لذلك ، فكأنه قيل يمحو ما يشاء محوه ويثبت ما يشاء وهو ثابت عنده فى علمه الأزلى الذي لا يكون شىء إلا وفق ما فيه.

(وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ (٤٠) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها وَاللهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٤١) وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (٤٢) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ (٤٣))

تفسير المفردات

الأطراف : الجوانب ، المعقب : الذي يكرّ على الشيء فيبطله ، ويقال لصاحب الحق معقّب ، لأنه يقفو غريمه بالاقتضاء والطلب ، والمكر : إرادة المكروه فى خفية ، وعقبى الدار : أي العاقبة الحميدة ، والأم : أصل الشيء وما يجرى مجراه ، كأم الرأس للدماغ ، وأم القرى لمكة.

المعنى الجملي

سبق أن ذكر أنهم اقترحوا عليه الآيات استهزاء به وطلبوا استعجال السيئة التي توعدهم بها ، وكان صلى الله عليه وسلّم يتمنى وقوع بعض ما توعّدوا به ليكون زاجرا

١١٦

لغيرهم ، ذكر هنا لرسوله أن وظيفته التبليغ ، ولا يهمه ما سينالهم من الجزاء فعلينا حسابهم ، وهل هم فى شك من حصول ما توعدناهم به وهم يرون بلادهم تنقص من جوانبها بفتح المسلمين لها وقتل أهلها وأسرهم وتشريدهم ، والله يحكم فى خلقه كما يريد ، وقد حكم للمسلمين بالعز والإقبال ، وعلى أعدائهم بالقهر والإذلال ـ ثم بين أن قومه ليسوا ببدع فى الأمم فقد مكر من قبلهم بأنبيائهم ولم يكن مكرهم ليضيرهم شيئا فكانت العاقبة للمتقين ، وأهلك الله القوم الظالمين ، وسيعلم الكافرون حين يحل بهم العذاب ، لمن حسن العاقبة؟ ثم ذكر إنكار اليهود لرسالته وأمره بالجواب عن ذلك بأن الله شهد له بأنه صادق فيها ، فأيده بالأدلة والحجج ، وفى شهادته غنى عن شهادة أىّ شاهد آخر ، وكذلك شهد من آمن من أهل الكتاب بأنهم يجدون وصفه فى كتبهم.

الإيضاح

(وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ) أي إن أريناك أيها الرسول فى حياتك بعض الذي نعد هؤلاء المشركين بالله من العقاب على كفرهم ، أو توفيناك قبل أن نريك ذلك ، فما عليك إلا تبليغ رسالة ربك ، لا طلب صلاحهم ولا فسادهم ، وعلينا محاسبتهم ومجازاتهم بأعمالهم ، إن خيرا فخير وإن شرا فشر ، ونحو الآية قوله تعالى : «فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ. لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ. إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ. فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ. إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ. ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ».

(أَوَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها؟) أي أشكّ أولئك المشركون من أهل مكة الذين يسألونك الآيات ، ولم يروا أنا نأتى الأرض فنفتحها لك أرضا بعد أرض ، ونلحقها بدار الإسلام ، ونذهب منها أهلها بالقتل والأسر والإجلاء؟ أليس هذا مقدمة لما أوعدناهم بحصوله ، ونذيرا بما سيحل بهم من النكال والوبال فى الدنيا والآخرة لو تدبروا ، فما لهم عن التذكرة معرضين؟.

١١٧

ونحو الآية قوله : «أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أَفَهُمُ الْغالِبُونَ؟».

(وَاللهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ) أي والله يحكم وحكمه النافذ الذي لا يردّ ، ولا يستطيع أحد أن يبطله ، وقد جرت سنته أن الأرض يستعمرها عباده الصالحون بالعدل فيها والسير على نهج المساواة وترك الظلم. وقد حكم للمسلمين بالعز والإقبال على ما وضع من السنن العامة ، وعلى أعدائهم بالإدبار وركود ريحهم ، لما سلكوه من الظلم والفساد فى الأرض (وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ) فعمّا قريب سيحاسبهم فى الآخرة كفاء ما دنّسوا به أنفسهم ، وران على قلوبهم بارتكاب الآثام بعد أن يعذبهم فى الدنيا بالقتل والأسر ، فلا تستبطئ عقابهم ، فإنه آت لا محالة ، وكل آت قريب.

ثم بين أن قومه ليسوا ببدع فى الأمم ، فقد مكر كثير ممن قبلهم بأنبيائهم فأخذ الله أخذ عزيز مقتدر فقال :

(وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي وقد مكر كثير من كفار الأمم الماضية بأنبيائهم كما فعل نمرود بإبراهيم ، وفرعون بموسى ، واليهود بعيسى ، ثم دارت الدائرة على الظالمين ، وأهلك الله المفسدين.

وفى هذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلّم ، وتصبير بأن العاقبة له لا محالة.

(فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً) أي إن مكر الماكرين لا يضر إلا بإذنه تعالى ، ولا يؤثر إلا بتقديره ، فيجب ألا يكون الخوف إلا منه تعالى.

وفى هذا أمان له صلى الله عليه وسلّم من مكرهم.

(يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ) فيعصم أولياءه ويعاقب الماكرين بهم ، ليوفى كل نفس جزاء ما كسبت.

وفى هذا ما لا يخفى من شديد الوعيد والتهديد للكافرين الماكرين.

ثم أكد هذا التهديد بقوله.

١١٨

(وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ) أي وسيعلم الكفار إذا قدموا إلى ربهم يوم لقيامة حين يدخل الرسول والمؤمنون الجنة ويدخلون النار ، لمن العاقبة المحمودة إذ ذاك ، وإن جهلوا ذلك من قبل؟.

أخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلّم أسقف من اليمن فقال له عليه السلام : هل تجدنى فى الإنجيل رسولا؟ قال لا فأنزل الله تعالى :

(وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً) أي ويقول الجاحدون لنبوتك ، الكافرون برسالتك ، لست رسولا من عند الله أرسلك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور وتدعوهم إلى عبادة إله واحد لا شريك له ، وتنقذهم من عبادة الأصنام والأوثان ، وتصلح حال المجتمع البشرى ، وتمنع عنه الظلم والفساد.

(قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) أي قل حسبى الله شاهدا بتأييد رسالتى ، وصدق مقالتى ، إذ أنزل علىّ هذا الكتاب الذي أعجز البشر قاطبة أن يأتوا بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا.

(وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) وهم من أسلم من أهل الكتابين التوراة والإنجيل كعبد الله بن سلام وأضرابه فإنهم يشهدون بنعته فى كتابهم.

أخرج ابن جرير وابن المنذر عن قتادة قال : كان من أهل الكتاب قوم يشهدون بالحق ويعرفونه ، منهم عبد الله بن سلام والجارود وتميم الداري وسلمان الفارسي رضى الله عنهم.

خلاصة هذه السورة

ترى مما تقدم فى تفسير هذه السورة أنها اشتملت على الأمور الآتية :

(١) إقامة الأدلة على التوحيد بما يرى من خلق السموات والأرض والجبال والأنهار والزرع والنبات على اختلاف ألوانه وأشكاله ، وهذا تفصيل لما أجمله فى السورة

١١٩

قبلها من قوله : «وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ».

(٢) إثبات البعث ويوم القيامة ، والتعجب من إنكارهم له.

(٣) استعجالهم العذاب من الرسول صلى الله عليه وسلّم ، وبيان أنه واقع بهم لا محالة كما وقع لمن قبلهم من الأمم الغابرة.

(٤) بيان أن للإنسان ملائكة تحفظه وتحرسه وتكتب عليه ما يكتسبه من الحسنات والسيئات بأمر الله.

(٥) ضرب الأمثال لمن يعبد الله وحده ولمن يعبد الأصنام بالسيل والزبد الرابى.

(٦) بيان حال المتقين الذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب وأقاموا الصلاة وأنفقوا فى السر والعلن ، وبيان مآلهم يوم القيامة.

(٧) بيان حال الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويفسدون فى الأرض وبيان مآلهم.

(٨) إنكار الشركاء مع إقامة الأدلة على أن لا شريك لله.

(٩) وصف الجنة التي وعد بها المتقون وبيان أنها مآل المتقين ومآل الكافرين النار وبئس القرار.

(١٠) بيان أن كثيرا ممن أسلموا من أهل الكتاب يفرحون بما ينزل من القرآن ، إذ يرون فيه تصديقا لما بين أيديهم من الكتاب.

(١١) بيان مهمة الرسول وأن خلاصة ما جاء به ـ عبادة الله وحده ، وعدم الشرك به ، ودعاؤه لجلب النفع ودفع الضر وأن إليه المرجع والمآب.

(١٢) بيان أن كل رسول أرسل بلغة قومه ليسهل عليهم قبول دعوته وفهمها.

(١٣) تحذير الرسول صلى الله عليه وسلّم وأمته من قبول دعوة المشركين من بعد ما جاءهم من العلم.

١٢٠